الثورات العربية: تجلياتها السياسية والثقافية
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
في محاولة لكشف مختلف العناصر التي تتفاعل داخل الثورات العربية اليوم، وفي تأثر مباشر بالتطور الإنساني العربي، يمكننا الحديث عن دينامية جلية في الفكر العربي على المستوى القيمي والحضاري.
وفي مقارنة بين الحركية السياسية العربية وبين نفس الحركية عند باقي المجتمعات في العالم، نجد أن هناك تطور ملحوظ في العالم العربي، خاصة وأننا نعيش حالة جديدة في التعاطي مع العديد من الاحتجاجات على المستوى الرسمي العربي رغم تواجد بعض الانفلاتات الأمنية وبعض الخروقات الحقوقية ضد المحتجين- الذي أبدى ويبدي بعض المرونة، في حالة مصر وتونس على الأقل.
إن القدرة الفائقة للسيطرة على السلطة داخل العديد من البلدان العربية، والتي كانت سببا في استمرارية الحكم المستبد لعقود كثيرة، لم تستطع الصمود أمام إرادة الشعوب التواقة إلى الحرية والكرامة الإنسانية التي حرمت منها لمدة طويلة فرضت عليها أنظمة قمعية قوانين الطوارئ والصمت والرضا بالأمر الواقع والعيش على الفتات الذي يفضل على النظام الحاكم وزبانيته.
ولم تستطع هذه السيطرة المستبدة أن تصمد أمام جحافل الشعوب المقهورة التي خرجت إلى الشوارع للانتفاضة ضد أنظمتها الحاكمة بطريقة سلمية وحضارية أظهرت بالملموس قيم الشعوب العربية الثابتة والتي تدين العنف وتستبعده في كل مناسبة إلا إذا فرض عليها.
من الملاحظ أن الطابع التركيبي لكل الثورات، على مستوى التأطير وعلى مستوى المشاركة الشعبية، هو ذلك التنوع العرقي والسياسي والديني والفكري...
انطلاقا من تحديد الأهداف مرورا بالاتفاق على وسائل تحقيقها، ووصولا إلى مرحلة التوافق على قيادة البلاد إلى الانتقال السياسي البعيد عن التقسيم والتشتت.
وهكذا تبدو هذه الثورات التي حققت أهدافها وتمكنت من إزاحة نظام مستبد وفاسد أو من تغيير الواجهة السوداء التي لونت العديد من البلدان العربية في ظل أنظمة شمولية أنها ضمنت مستقبلا مغايرا ومختلفا عن ماضيها الأسود المليء بالإهانة والظلم والاستبداد والفقر والأمية...
واستطاعت أن تخلق دينامية سياسية ونقاشا فكريا وثقافيا كان مغيبا في ظل النظام الشمولي الذي كان يحظر كل شيء حتى الحلم بالتغيير أو مجرد التفكير فيه مع الذات.
وبذلك أصبحت بعض البلدان العربية التي تعرضت لثورات أو لإصلاحات سياسية جذرية مجالا للإبداع الفكري والثقافي والحوار والنقاش من أجل بناء مستقبل مختلف.
ارتكزت كل الثورات العربية التي نجحت على الأقل في إزاحة هاجس الخوف والإقرار بالواقع، على تركيب متنوع في تصوير الأحداث المتعاقبة، وتقديم الشعب كبديل لنظام اعتمد على القبضة الأمنية والقمع، بل اعتمدت كذلك على تكريس قيم التسامح والانصهار داخل الجماعة مع أطراف مختلفة الشوارب والأفكار والإيديولوجيات، وبالتالي قوضت تلك الصيغة الوثوقية التي كان يرسمها كل نظام عن شعبه.
هذه العناصر والمرتكزات المتمثلة في الحفاظ على الالتحام والوحدة الشعبية والوطنية ساهمت في بناء تصور معين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أسس لبديل سياسي ونظام للحكم قادر على تجاوز سقطات الماضي وتصرفات النظام السابق.
ومن تجليات الوحدة الوطنية التي حافظت عليها أغلب الثورات التي نجحت في تحقيق أهدافها ذلك النمط من التعاطي مع النظام السائد، بحيث استطاعت أن تتناول الآثار السلبية لتصرفات النظام العنفية والقمعية بطريقة خاصة، تميزت بالقدرة على التحمل والصبر على الأذى ومواجهة كل الأعمال الإجرامية التي مارسها عليها بالالتحام الشعبي ومواصلة الضغط السلمي لتحقيق الأهداف المرسومة...
وهذا يدعو إلى القول بأن الشعوب العربية لم تمت أبدا كما كان يروج لذلك دعاة الخنوع ومفكري الأنظمة ومأجوريها.
وهكذا يتداخل الواقعي بالغرائبي تعكسه قدرة الشعوب العربية على التغيير ضمن منظومة فكرية وسياسية مبنية على السلم والحفاظ على وحدة الشعب والوطن.
ومن جهة أخرى إذا ما اعتبرنا أن الوعي السائد عند أغلب الشعوب العربية التي انتفضت على أنظمتها الحاكمة مركزا من الدوائر المتداخلة بحيث تكون أصغرها هي الدائرة الثقافية التي حضرت بشكل محتشم في أثناء التنظيم للاحتجاجات أو في أثناء الإعداد للشعارات المرفوعة، فإنه لابد من القول بأن البعد الثقافي في كل ثورة لم يكن مغيبا بحكم أن الثقافة هي مجال شامل لكل المعارف ولكل المجالات الحياتية شريطة استحضار تلك العلاقة الرابطة بين الثقافة وبين الممارسة الحياتية.
وبالتالي، يمكن أن نجد تلك التعددية الثقافية من خلال تنوع المشارب والأعراق والمذاهب الفكرية الحاضرة بميادين الثورة.
أما الجلوس من أجل التعمق في الحقائق الفلسفية العليا لكل ثورة على حدة نجد أن التفاؤل الذي كان يعم الناس من خلال أنه صفة للوجود والاستمرارية والنصر والحكمة التي هي ضالة المؤمن بقضيته العادلة.
فالنصر والتفاؤل من أجل الاستمرار شيء أشبه بالأسطورة في ظل نظام مستبد وحكم ديكتاتوري لا يحتمل النقد أو التهديد بإسقاطه.
إنه مذهب غير ذي قيمة مادام أنه لا يستطيع الاستمرار غداة انتفاضة الشعب أو التظاهر ضده، فهو يعتمد على القمع والاستبداد من أجل بقائه في الوجود، ولذلك فحقيقته تكمن في أنه نظام مهترئ ولا أخلاقي.
لقد وقفت حياة النظام الاستبدادي على التخويف والقمع، ألقاهما في قلوب الناس بواسطة شتى الوسائل التي يسيطر عليها، دون أن يسمع للشعب ولمعاناته ومشاكله ويحاول حلها.
وهو من أجل غض الطرف عن ذلك، استغل انشغال الشعب بهذه المشاكل والمعاناة، فانشغل بدوره في تسمين موارده المالية وزيادتها من ثروات الشعب وشراء الأصوات الداخلية والخارجية لدعمه التي تخلت عنه عند أول امتحان في مواجهة الثورة-، وهذه الأخيرة (أي الأصوات المدعمة له) تتميز بالضعف والانتهازية والنفاق الذي يدفعها دفعا إلى الانحياز إلى الجهة الغالبة والقوية.
إن مشهد الشعب وهو يجوب الشوارع أو يعتصم بميادين الحرية يجعل كل ذي عقل سليم وقلب خاشع يؤمن بمسلمة أن الشعوب لا تموت ولا تفنى إلى الأبد، وأنها بعد سكونها وخنوعها لابد أن يأتي اليوم الذي تنتفض فيه وتسترجع عنفوانها وحياتها من جديد.
هذا المشهد العظيم يدعو إلى التأمل وإلى التعمق في تلك الصور التي تؤثثه بكل ألوان الطيف الثقافية والسياسية والدينية.
إنه ليس طرف بل هو صورة صادقة تدعو إلى الحياة والحركة، وتفرض على المحلل العمل على تفكيكها فكريا وسياسيا من خلال أحداثها وشخصياتها القائدة والرائدة التي ساهمت في تأطير الثوار والتفكير معهم في وضع أجندة الأعمال يوميا حتى تحقيق الأهداف المرفوعة والمسطرة.
لقد مضى قطار الثورة بسرعة في بعض البلدان العربية بينما عرف عدة عراقيل في أقطار أخرى، لكنه لم يلق انتكاسة تحد من مروره إلى محطته الأخيرة.
ولم يفكر الشعب في المسافة التي تربط بين الواقع الذي كان يعيشه في ظل نظام مستبد وبين واقع جديد وقدر جديد يصنعه بنفسه وبنضاله المستمر، ولذلك كان يؤمن بأن الوقت دائما في صالحه وليس في صالح النظام، وكلما طال الزمن زادت معاناة النظام وضاقت الدائرة المحيطة به التي تسانده وتدعمه.
إن الشعب لا يقهر ولا يمكن معاندته بأي وسيلة كانت، فرغبته لابد أن تحصل وإلا كانت النتائج كارثية على أعدائه ومعانديه، ولنا في النظام المصري السابق خير مثال.
إن وعينا حادٌ بكون النصر المعنوي والملموس الذي حققته الشعوب الثائرة، والذي نعتز به ونعمل على الترحيب به في كل مناسبة وندعمه بالكلمة والمشاعر، لا يمكن صيانته إلا بالحفاظ على تلك الوتيرة التي بدأت به كل ثورة على حدة، والتي وجدت أول تعبيراتها في مصداقية الشعارات المرفوعة والأهداف المعبر عنها والوسائل المشروعة الحضارية التي استعملت فيها.
إن اعتقادنا بأن التعامل مع احتجاجات الشعوب وانتفاضتها بالقمع والعنف لا يزيد الطين إلا بلة، ولا يقود إلا إلى نتائج كارثية، بل يرفع من سقف المطالب الشعبية ويجعل التراجع عنها صعبا والتخلي عن الشعار الثوري المرفوع مستحيلا.
ولذلك يجب أن يقوم هذا التعامل بالأساس مع الناس بطرق حضارية وبالتعاطي السلمي والإيجابي للوصول إلى حل سلمي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
إن عسر التواصل بين النظام الحاكم وبين الشعب يساهم في تأجيج الصراع، وفي خلق هوة سحيقة بينهما في جميع الاتجاهات.
وهذا ما يفسر تلك المواجهات السلبية بينهما تدفع نحو خلق جو من التوتر الدائم الذي تساهم فيه سياسات متسرعة وقمعية تحتاج إلى كثير من الجهد لمنعه وإيقافه.
فالواجب هو شيء من الحكمة في التعاطي مع المطالب الشعبية المختلفة لكي لا يصل الأمر إلى ما لا يحمد عقباه..
عزيز العرباوي