خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/239"> الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/239?sub=62913"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
فاطمة الزهراء
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، أكرمنا بالإيمان وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، والصلاة والسلام على نبي الإسلام خير الأنام، أفضل من صلى وصام، وعلى آله وصحابته الذين عرفوا بسلامة القلوب وصحة الأفهام، واشتهروا بالنجدة والإقدام، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
هذا موضوع نفتتح به سلسلة مواضيع، وعنوان هذه السلسلة (شباب كانوا أئمة الهدى)، وفاتحتها الخيرة -إن شاء الله- هذا الموضوع: (فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة).
ولا شك أن الحديث في سير الأعلام له فوائد عظيمة، وهذه مقدمتنا الوجيزة تختصر هذه الفوائد في ثلاثة جوانب:
الأول: إبراز القدوات السامية الصحيحة التي يجدر بنا أن نجعلها خطوات نتأسى بها، ونترسم خطاها بدلاً من القدوات الزائفة الزائغة.
ثانياً: شحذ الهمم العالية؛ فإن في السير سبقاً عظيماً، وتنافساً شريفاً، وقدوات بلغت مراتب عالية، فمتى ما قرأنا هذه السير، ووقفنا عندها؛ شحذت منا هممنا الضعيفة، ورفعت معنوياتنا التي يعتريها كثير من الوهن أو الخلل.
الثالث: الإلمام بالمعارف المتنوعة؛ فإن السير تتضمن علوماً مختلفة، فقد تمر فيها ومضات من الحكمة، وقد يمر فيها صور من الجرأة، وقد تتجلى فيها ملامح من الحياء، وقد تمر فيها فوائد من تفسير أو فقه أو أصول أو غير ذلك، فهذه فوائد عظيمة جدير بنا أن نعنى حينئذ بمطالعة السير، وليس أعظم ولا أنفع من سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حديثنا عن فاطمة رضي الله عنها حديث عذب، يرقق القلوب، ويذكر بالمعاني الإيمانية اللازمة لنا، ونحن نمر هاهنا مروراً وجيزاً بقدر ما يتسع له المقام، ونبدأ بمحطات مختلفة:
أولها: الحسيبة النسيبة.
وثانيها: الوليدة الجديدة.
وثالثها: الزوجة الأثيرة.
ورابعها: الشبيهة الحبيبة.
وخامسها: الصابرة العظيمة.
ثم نقف وقفات لابد منها مع الأفهام الخاطئة والأفكار الزائغة التي تفسد علينا كثيراً من هذه المعاني الفاضلة والآثار الحميدة.
حسب فاطمة ونسبها
عمن نتحدث؟ من هذه الشخصية التي نتجاسر على أن نذكرها، ونمر على سيرتها، ونشنف الآذان بذكرها، ونعطر الأنوف بعبق ريحها الطيب الأخاذ، ونملأ القلوب بمعاني الإيمان في مواقفها العظيمة ومآثرها الجليلة؟! من هذه الشخصية والناس يبحثون عن الأحساب والأنساب؟!
فهل ثمة حسب أو نسب يمكن أن يضاهي ما لـفاطمة رضي الله عنها؟ فمن أبوها؟!
إنه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، حسب الشرف، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله نظر إلى بقايا العرب والعجم فمقتهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فاصطفى العرب، واصطفى كنانة من العرب، ثم اصطفى قريشاً من كنانة، ثم اصطفى بني هاشم من قريش، ثم اصطفاني من قريش، فأنا خيار من خيار من خيار) ذلك هو صلى الله عليه وسلم.
وأما حسب الدين فمن مثله عليه الصلاة والسلام؟ قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
وأما حسب الخلق فحسبك قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فمن مثل أبيها صلى الله عليه وسلم؟!
وإن جنحنا إلى أمها فـخديجة بنت خويلد ، وما أدراك ما خديجة بنت خويلد ؟!
أم المؤمنين، وأول أزواج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يجمع معها غيرها، ولم يتزوج إلا بعد وفاتها، ومن هي في حسبها وشرفها ديناً وخلقاً ونسباً؟
هي الشريفة المعروفة في حسبها ونسبها رضي الله عنها، وأما حسب الدين فهي أول من آمن بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، هي أول من تلقى خبر الوحي، هي أول من كان المثبت المعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جاء يرجف فؤاده فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
جاء جبريل عليه السلام إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول له: (إذا أتتك
هي واحدة من قلائل النساء الكمّل في هذه الدنيا؛ لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا
وفضائلها كثيرة جداً، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها
وروى البزار والطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت
ولننظر إلى زوج فاطمة فارس الفرسان، أول المسلمين من الفتيان، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب الفارس المغوار الشجاع البطل الهمام الكمي رضي الله عنه وأرضاه، قال أبو رافع (أول من أسلم من الرجال
قال الذهبي رحمه الله في مقدمة ترجمة فاطمة رضي الله عنها: سيدة نساء العالمين في زمانها، البضعة النبوية، والجهة المصطفوية، بنت سيد الخلق رسول الله أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشية الهاشمية، أم الحسنين رضي الله عنها وأرضاها.
ونعيش هذه المعاني وقد خفق بها قلب إقبال الشاعر الكبير فقال:
نسب المسيح بنى لمريم سيرة بقيت على طول المدى ذكراها
والمجد يشرق من ثلاث مطالع في مهد فاطمة فما أعلاها
هي بنت من هي زوج من هي أم من من ذا يداني في الفخار أباها
هي ومضة من نور عين المصطفى هادي الشعوب إذا تروم هداها
ولزوج فاطمة بسورة هل أتى تاج يفوق الشمس عند ضحاها
أسد بحصن الله يرمي المشكلات بصيقل يمحو سطور دجاها
في روض فاطمة نما غصنان لم ينجبهما في النيرات سواها
فأمير قافلة الجهاد وقطب دائرة الوئام والاتحاد ابناها
هي أسوة للأمهات وقدوة يترسم الفجر المنير خطاها
لما شكا المحتاج خلف رحابها رقت لتلك النفس في شكواها
جادت لتنقذه برهن خمارها يا سحب أين نداك من جدواها
فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها
رضي الله عنه وأرضاها.
ولادتها ولقبها
ولدت رضي الله عنها -كما ذكر ابن سعد في الطبقات- وقريش تبني البيت، وذلك قبل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار في ترتيب بنات النبي صلى الله عليه وسلم أن زينب الأولى، ثم الثانية رقية ، ثم الثالثة أم كلثوم ، ثم الرابعة فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
وقال ابن حجر في الإصابة: ولدت فاطمة والكعبة تبنى، والنبي ابن خمس وثلاثين سنة، وبهذا جزم المدائني . قال ابن حجر : وهي أسن من عائشة بخمس سنين.
وأما الزهراء فهو وصف لم يذكر في شيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكنه ذكر في تراجمها غلبة لهذا المعنى الذي هي أشبه به رضي الله عنها، قال صاحب التاج: والزهراء: المرأة المشرقة الوجه، والبيضاء المستنيرة المشربة بحمرة، والزهراء: البقرة الوحشية. ومعلوم أنهم يضربون بها المثل في الجمال، كما قال قيس بن الحظيم:
تمشي كمشي الزهراء في دمث الـ ـرمل إلى السهل دونه الجرف
قال: الزهراء كذلك السحابة البيضاء التي تبرق وتستنير بذلك البرق. فهذه ولادتها رضي الله عنها، فهي أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه كما سيأتي ذكره.
خطبتها رضي الله عنها
أما خطبتها فقد كانت -على ما رواه ابن سعد في الطبقات- بتدرج وببيان لمكانها ومقامها رضي الله عنها، فقد روي أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا
وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن حجر بن عنبس قال: (خطب
والنبي صلى الله عليه وسلم شاورها واختار لها علياً ربيبه الذي تربى في حجره وعلى نظره، وكان علي يقول: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع سنين لا أصلي إلا أنا وهو. يعني: قبل أن يفشو الإسلام، وقبل أن تظهر الجماعة، وقبل أن يكون دار الأرقم وغير ذلك.
يقول ابن سعد في الطبقات: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـفاطمة : (إن
وفيما جاء أيضاً في خطبة علي رضي الله عنه ما رواه بريدة أن نفراً من الأنصار قالوا لـعلي رضي الله عنه: اذكر فاطمة واخطبها، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرضه نفر من الأنصار، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما حاجة
زواجها رضي الله عنها وأرضاها
فهذه قصة زواج فاطمة رضي الله عنها، فكيف جهزت؟ وما كان مهرها؟ وكيف كانت وليمتها؟ وكيف كان بيتها وجهازها؟ ثم كيف كانت عيشتها ومسيرتها في حياتها؟
أما المهر فالروايات متكاثرة في أنه عندما خطب علي رضي الله عنه وتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والله ما لي من شيء. فقال: وكيف؟ قال: فذكرت صلته وعائدته علي -يعني: فضل النبي عليه الصلاة والسلام عليه- فتجرأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصدقها؟) أي: ما تعطيها من المهر؟ فمن هذه الممهورة؟ ومن هذه المخطوبة؟ هي بنت محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما عندي ما أصدقها) ليس عند علي مهر، قال: (ولم يكن يومئذ صفراء ولا بيضاء)، لا ذهب ولا فضة عند علي ولا عند غيره إذ ذاك في أول الهجرة وفي مطلع الشدة حين كان المسلمون في شدة كبيرة.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أين درعك الحطمية؟)، وهي درع أعطاها له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر، و(الحطمية): نسبة إلى بطن حطم بن محارب كانوا مشتهرين بصناعة الدروع، وقيل: الحطمية التي تحطم السيوف، وقيل: الثقيلة الحصينة.
قال: (أين درعك الحطمية؟ قال: هي عندي يا رسول الله، قال: أصدقها إياها، فباعها بأربعة وثمانين درهماً فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها
وقد توليت عقد نكاح فذهبت أكتب هذا العقد لأصحابه، فرأيت عقداً قبله والمهر مسطور فيه بمائة ألف، فقلت: يا للعجب! وما ينفع ذلك أو يفيد؟! ونرى أننا بهذا نسد كثيراً من أبواب الحلال ونفتح أبواباً ونيسر طرقاً للحرام، وقد نكون بذلك آثمين، وقد يكون الآباء في هذا ممن يعضلون بناتهم، وممن يكون عليهم وزر في هذا إذا فاتها قطارها، وتأخر عنها حظها من بعد، فهذه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مهرها.
جهازها وأثاث بيتها رضي الله عنها
وقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، وقد جاءوا بهذا التراب والحصى ليفرش في هذا البيت كأنما هو توطئة، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث مع فاطمة بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحائين وسقاء وجرتين، فكم هي هذه الثروة عظيمة؟ وكم هي موجودة في هذا البيت الذي كأنما هو قصر عامر؟ وهو كذلك عامر بالإيمان والتقوى، وما كان حشو فراشهما ووسائدهما إلا الليف، بل قد ورد في صداقها أنه كان لهم جلد لخروف، إذا ناموا جعلوه على جهة الصوف، وإذا احتاجوه لفوه من جهة الجلد، وهذا يدلنا على البساطة. ورواية أم أيمن المذكورة رواها الطبراني وإسناده رجال الصحيح.
لننظر إلى هذه المعاني، فمن كانت هذه مقدمتها في خطبتها وفي مهرها وفي جهازها فأي شيء تكون عيشتها؟ وعلى أي صورة تكون حياتها؟ هل فيها مثلما عند نسائنا حيث لابد أن يكون المسكن فيه كذا من الغرف، ولابد أن يكون فيه غرفة للنوم، وأخرى للطعام، وثالثة للجلوس، ورابعة لكذا وكذا، وخامسة لكذا؟ وكأنما يريد أن يسكن في جنة قبل جنة الآخرة، ولا نقول هذا -ونحن نعرف أوضاع الحياة الاجتماعية- تحريماً له، لكن إذا وجد ما يقتضي التنازل عنه مما هو خير في جمع بين زوجين صالحين فالعاقل من يصنع ذلك، ويتأسى بخير خلق الله عليه الصلاة والسلام، ولتكن ابنته في شرفها وفخرها أنها كان لها أثر من فاطمة أو غير فاطمة من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأين كان سكنها وكيف عاشت؟
في رواية ابن سعد في الطبقات عن أبي جعفر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل منزلاً، فطلب علي منزلاً حتى يسكن فاطمة فيه، فأصابه مستأخراً عن النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً عنه، والنبي لم يكن يحب بعد فاطمة عنه أبداً، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت فاطمة فقال: (إني أريد أن أحولك إلي تكونين قريبة مني. فقالت: كلم
فاطمة وعلي رضي الله عنهما ومكابدة الحياة
فماذا قال القدوة العظمى صلى الله عليه وسلم؟ قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانها)، فهناك أولويات، فهذان يريدان خادماً، وفي المسلمين من أهل الصفوة من لا يجد طعاماً، قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم).
لكن هل قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تغمره الرحمة والشفقة على ابنته وفلذة كبده؟ بلى كان ذلك في نهار ذلك اليوم، وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم في مسائه وليله يأتي إليهما، ويطرق عليهما بابهما، وقد دخلا في كسائهما، وعليهما غطاء إن غطيا الرأس بدت الأقدام، وإن غطيا الأقدام بدا الرأس.
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأرادا أن يقوما فقال: (مكانكما. ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى يا رسول الله! فقال: كلمات علمنيهن جبريل : تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا ثلاثاً وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم).
قال علي : فما تركتها منذ سمعتها، فقال ابن الكواء : ولا ليلة صفين؟! قال: ولا ليلة صفين يا أهل الطرق! أي: أهل الفتن.
فذكر علي ذلك في محافظته على ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى هذه الصورة: علي يشقى، وفاطمة تتعب، والسبي موجود، والأمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يريد لأحب أحبابه وأقرب المقربين إليه ما هو الأفضل والأكمل، لا يريد خادماً في الدنيا، وإنما خداماً في الجنة، يريد عمران الدار الآخرة قبل عمران هذه الدار، ولذلك صرفهما إلى عبادة، لكن في قلبه من الشفقة والرحمة ما جعله لا ينسى طلبهما، ولا ينسى أنما قاله لهما ربما أدخل إلى نفوسهما شيئاً من هم أو غم، فمسح ذلك بقدومه عليهما، وإيناسه لهما، وتقديمه الخير لهما عليه الصلاة والسلام.
وهناك صورة أخرى لنرى ما يدور في بيوتنا من المشكلات بين الزوجات وأمهات الأزواج، حتى أصبح هذا الباب باباً تسطر فيه الأقلام، وتمثل فيه التمثيليات والمشاهد كما نسمع، بل وتضرب فيه الأمثال.
فهذه رواية ابن عبد البر يذكرها في الاستيعاب عن ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال: قال علي لأمه: اكفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخدمة خارجاً وسقاية الماء والحطب، وتكفيك العمل في البيت والعجن والخبز والطحن.
وهذه صورة من بر الأم ورحمة الزوجة وألفة الأسرة الواحدة بعيداً عن الخصومات والنزاعات والمكائد التي تحفل بها كثير من البيوت من خلال ما يتسرب إلينا من الأفكار الدخيلة، والمضامين التي تبث عبر كثير من الوسائل والطرق مكتوبة ومرئية ومسموعة ونحو ذلك.
هذه ومضات من الحياة الزوجية لتلك الزوجة الأثيرة رضي الله عنها وأرضاها، وأحسب أن فيما نذكره من العبرة ما يغني عن كثير من التعليق والتفريع من كلامنا وقولنا، فحسبنا بهذه العظيمة الشريفة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان مهرها درعاً، وأن كان فراشها أدماً حشوه ليف، وأن كان تجهيز بيتها سقاءين ورحائين، وأن كانت معيشتها أن تخدم بنفسها وأن تقوم بحق زوجها رضي الله عنها وأرضاها.
أولاً: الحسيبة النسيبة.
عمن نتحدث؟ من هذه الشخصية التي نتجاسر على أن نذكرها، ونمر على سيرتها، ونشنف الآذان بذكرها، ونعطر الأنوف بعبق ريحها الطيب الأخاذ، ونملأ القلوب بمعاني الإيمان في مواقفها العظيمة ومآثرها الجليلة؟! من هذه الشخصية والناس يبحثون عن الأحساب والأنساب؟!
فهل ثمة حسب أو نسب يمكن أن يضاهي ما لـفاطمة رضي الله عنها؟ فمن أبوها؟!
إنه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، حسب الشرف، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله نظر إلى بقايا العرب والعجم فمقتهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فاصطفى العرب، واصطفى كنانة من العرب، ثم اصطفى قريشاً من كنانة، ثم اصطفى بني هاشم من قريش، ثم اصطفاني من قريش، فأنا خيار من خيار من خيار) ذلك هو صلى الله عليه وسلم.
وأما حسب الدين فمن مثله عليه الصلاة والسلام؟ قال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
وأما حسب الخلق فحسبك قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فمن مثل أبيها صلى الله عليه وسلم؟!
وإن جنحنا إلى أمها فـخديجة بنت خويلد ، وما أدراك ما خديجة بنت خويلد ؟!
أم المؤمنين، وأول أزواج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يجمع معها غيرها، ولم يتزوج إلا بعد وفاتها، ومن هي في حسبها وشرفها ديناً وخلقاً ونسباً؟
هي الشريفة المعروفة في حسبها ونسبها رضي الله عنها، وأما حسب الدين فهي أول من آمن بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، هي أول من تلقى خبر الوحي، هي أول من كان المثبت المعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جاء يرجف فؤاده فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
جاء جبريل عليه السلام إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول له: (إذا أتتك
هي واحدة من قلائل النساء الكمّل في هذه الدنيا؛ لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا
وفضائلها كثيرة جداً، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها
وروى البزار والطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت
ولننظر إلى زوج فاطمة فارس الفرسان، أول المسلمين من الفتيان، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب الفارس المغوار الشجاع البطل الهمام الكمي رضي الله عنه وأرضاه، قال أبو رافع (أول من أسلم من الرجال
قال الذهبي رحمه الله في مقدمة ترجمة فاطمة رضي الله عنها: سيدة نساء العالمين في زمانها، البضعة النبوية، والجهة المصطفوية، بنت سيد الخلق رسول الله أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشية الهاشمية، أم الحسنين رضي الله عنها وأرضاها.
ونعيش هذه المعاني وقد خفق بها قلب إقبال الشاعر الكبير فقال:
نسب المسيح بنى لمريم سيرة بقيت على طول المدى ذكراها
والمجد يشرق من ثلاث مطالع في مهد فاطمة فما أعلاها
هي بنت من هي زوج من هي أم من من ذا يداني في الفخار أباها
هي ومضة من نور عين المصطفى هادي الشعوب إذا تروم هداها
ولزوج فاطمة بسورة هل أتى تاج يفوق الشمس عند ضحاها
أسد بحصن الله يرمي المشكلات بصيقل يمحو سطور دجاها
في روض فاطمة نما غصنان لم ينجبهما في النيرات سواها
فأمير قافلة الجهاد وقطب دائرة الوئام والاتحاد ابناها
هي أسوة للأمهات وقدوة يترسم الفجر المنير خطاها
لما شكا المحتاج خلف رحابها رقت لتلك النفس في شكواها
جادت لتنقذه برهن خمارها يا سحب أين نداك من جدواها
فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها
رضي الله عنه وأرضاها.
ثانياً: الوليدة الجديدة.
ولدت رضي الله عنها -كما ذكر ابن سعد في الطبقات- وقريش تبني البيت، وذلك قبل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار في ترتيب بنات النبي صلى الله عليه وسلم أن زينب الأولى، ثم الثانية رقية ، ثم الثالثة أم كلثوم ، ثم الرابعة فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
وقال ابن حجر في الإصابة: ولدت فاطمة والكعبة تبنى، والنبي ابن خمس وثلاثين سنة، وبهذا جزم المدائني . قال ابن حجر : وهي أسن من عائشة بخمس سنين.
وأما الزهراء فهو وصف لم يذكر في شيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكنه ذكر في تراجمها غلبة لهذا المعنى الذي هي أشبه به رضي الله عنها، قال صاحب التاج: والزهراء: المرأة المشرقة الوجه، والبيضاء المستنيرة المشربة بحمرة، والزهراء: البقرة الوحشية. ومعلوم أنهم يضربون بها المثل في الجمال، كما قال قيس بن الحظيم:
تمشي كمشي الزهراء في دمث الـ ـرمل إلى السهل دونه الجرف
قال: الزهراء كذلك السحابة البيضاء التي تبرق وتستنير بذلك البرق. فهذه ولادتها رضي الله عنها، فهي أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه كما سيأتي ذكره.
ونمضي إلى صورة واسعة هي أوسع الصور فيما ورد من ترجمة فاطمة رضي الله عنها الزوجة الأثيرة ليكون درساً للآباء والأمهات والبنات وللأمة كلها كيف يكون الزواج، وكيف يكون المهر، وكيف تكون الحياة، وكيف يكون تدبير الأمور، ونحن اليوم نعاني ما نعاني من هذه المشكلات التي أورثت خللاً في المجتمعات، والتي ساعدت على شيوع المعاصي وكثرة السيئات، وقللت من الحصانة والعفة وغير ذلك مما نعلمه.
أما خطبتها فقد كانت -على ما رواه ابن سعد في الطبقات- بتدرج وببيان لمكانها ومقامها رضي الله عنها، فقد روي أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا
وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن حجر بن عنبس قال: (خطب
والنبي صلى الله عليه وسلم شاورها واختار لها علياً ربيبه الذي تربى في حجره وعلى نظره، وكان علي يقول: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع سنين لا أصلي إلا أنا وهو. يعني: قبل أن يفشو الإسلام، وقبل أن تظهر الجماعة، وقبل أن يكون دار الأرقم وغير ذلك.
يقول ابن سعد في الطبقات: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـفاطمة : (إن
وفيما جاء أيضاً في خطبة علي رضي الله عنه ما رواه بريدة أن نفراً من الأنصار قالوا لـعلي رضي الله عنه: اذكر فاطمة واخطبها، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرضه نفر من الأنصار، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما حاجة
تلك كانت خطبتها رضي الله عنها وأرضاها، وعندما تزوجها علي -كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب- كان عمرها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وكان عمر علي واحداً وعشرين عاماً على الصحيح في هذه الروايات، وكان هذا الزواج في رجب بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقدمه المدينة بنحو خمسة أشهر، ثم بنى بها -أي: دخل بها- بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من بدر، وأخطأ من قال: إن البناء كان بعد يوم أحد؛ لأن القصة فيها أن حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم نحر شارفين في وليمة عرس علي رضي الله عنهما.
فهذه قصة زواج فاطمة رضي الله عنها، فكيف جهزت؟ وما كان مهرها؟ وكيف كانت وليمتها؟ وكيف كان بيتها وجهازها؟ ثم كيف كانت عيشتها ومسيرتها في حياتها؟
أما المهر فالروايات متكاثرة في أنه عندما خطب علي رضي الله عنه وتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والله ما لي من شيء. فقال: وكيف؟ قال: فذكرت صلته وعائدته علي -يعني: فضل النبي عليه الصلاة والسلام عليه- فتجرأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصدقها؟) أي: ما تعطيها من المهر؟ فمن هذه الممهورة؟ ومن هذه المخطوبة؟ هي بنت محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما عندي ما أصدقها) ليس عند علي مهر، قال: (ولم يكن يومئذ صفراء ولا بيضاء)، لا ذهب ولا فضة عند علي ولا عند غيره إذ ذاك في أول الهجرة وفي مطلع الشدة حين كان المسلمون في شدة كبيرة.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أين درعك الحطمية؟)، وهي درع أعطاها له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر، و(الحطمية): نسبة إلى بطن حطم بن محارب كانوا مشتهرين بصناعة الدروع، وقيل: الحطمية التي تحطم السيوف، وقيل: الثقيلة الحصينة.
قال: (أين درعك الحطمية؟ قال: هي عندي يا رسول الله، قال: أصدقها إياها، فباعها بأربعة وثمانين درهماً فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها
وقد توليت عقد نكاح فذهبت أكتب هذا العقد لأصحابه، فرأيت عقداً قبله والمهر مسطور فيه بمائة ألف، فقلت: يا للعجب! وما ينفع ذلك أو يفيد؟! ونرى أننا بهذا نسد كثيراً من أبواب الحلال ونفتح أبواباً ونيسر طرقاً للحرام، وقد نكون بذلك آثمين، وقد يكون الآباء في هذا ممن يعضلون بناتهم، وممن يكون عليهم وزر في هذا إذا فاتها قطارها، وتأخر عنها حظها من بعد، فهذه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مهرها.
أما جهازها فقالت أم أيمن: وليت جهازها، فكان فيما جهزتها به مرفقة من أدم -من جلد- حشوها ليف، وبطحاء مفروشة في بيتها. هذا هو الفراش الوثير الذي كان في بيت فاطمة رضي الله عنها.
وقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، وقد جاءوا بهذا التراب والحصى ليفرش في هذا البيت كأنما هو توطئة، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث مع فاطمة بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحائين وسقاء وجرتين، فكم هي هذه الثروة عظيمة؟ وكم هي موجودة في هذا البيت الذي كأنما هو قصر عامر؟ وهو كذلك عامر بالإيمان والتقوى، وما كان حشو فراشهما ووسائدهما إلا الليف، بل قد ورد في صداقها أنه كان لهم جلد لخروف، إذا ناموا جعلوه على جهة الصوف، وإذا احتاجوه لفوه من جهة الجلد، وهذا يدلنا على البساطة. ورواية أم أيمن المذكورة رواها الطبراني وإسناده رجال الصحيح.
لننظر إلى هذه المعاني، فمن كانت هذه مقدمتها في خطبتها وفي مهرها وفي جهازها فأي شيء تكون عيشتها؟ وعلى أي صورة تكون حياتها؟ هل فيها مثلما عند نسائنا حيث لابد أن يكون المسكن فيه كذا من الغرف، ولابد أن يكون فيه غرفة للنوم، وأخرى للطعام، وثالثة للجلوس، ورابعة لكذا وكذا، وخامسة لكذا؟ وكأنما يريد أن يسكن في جنة قبل جنة الآخرة، ولا نقول هذا -ونحن نعرف أوضاع الحياة الاجتماعية- تحريماً له، لكن إذا وجد ما يقتضي التنازل عنه مما هو خير في جمع بين زوجين صالحين فالعاقل من يصنع ذلك، ويتأسى بخير خلق الله عليه الصلاة والسلام، ولتكن ابنته في شرفها وفخرها أنها كان لها أثر من فاطمة أو غير فاطمة من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأين كان سكنها وكيف عاشت؟
في رواية ابن سعد في الطبقات عن أبي جعفر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل منزلاً، فطلب علي منزلاً حتى يسكن فاطمة فيه، فأصابه مستأخراً عن النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً عنه، والنبي لم يكن يحب بعد فاطمة عنه أبداً، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت فاطمة فقال: (إني أريد أن أحولك إلي تكونين قريبة مني. فقالت: كلم
خذ هذه اللوحة المعبرة المؤثرة في هذه الحياة الزوجية: أقبل علي ذات يوم على فاطمة ودخل وهو منهك متعب مجهد من طبيعة الحياة وشدتها وكسب العيش وكده، فقال: والله! لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، والسانية: البعير الذي يستقى به الماء، كان علي يسقي الماء عن طريق الناقة وأحياناً بنفسه، قال: قد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه. انتصر المسلمون في معركة، وكان عند الرسول صلى الله عليه وسلم سبي، فقال: اطلبي منه خادماً؛ فأنت ابنته أقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه. فذهبت فاطمة إلى أبيها عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما جاء بك يا بنية؟) قالت: جئت لأسلم عليك. واستحيت أن تذكر حاجتها، وقد قالت عندما قال علي ذلك: وأنا قد طحنت في الرحى حتى مجلت يداي. والمجل: هو ثخن الجلد ووجود البثور فيه، وذلك من كثرة ما كانت تطحن الشعير رضي الله عنها وأرضاها، فلما ذهبت إلى أبيها استحيت أن تذكر حاجتها فرجعت، فقال علي : كلمتيه؟ قالت: لا. فأخذها علي وذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي : والله -يا رسول الله- لقد سنوت حتى اشتكيت صدري. وقالت فاطمة : قد طحنت حتى مجلت يداي، قال: وقد أتى الله بسبي وسعة فأخدمنا.
فماذا قال القدوة العظمى صلى الله عليه وسلم؟ قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانها)، فهناك أولويات، فهذان يريدان خادماً، وفي المسلمين من أهل الصفوة من لا يجد طعاماً، قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم).
لكن هل قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تغمره الرحمة والشفقة على ابنته وفلذة كبده؟ بلى كان ذلك في نهار ذلك اليوم، وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم في مسائه وليله يأتي إليهما، ويطرق عليهما بابهما، وقد دخلا في كسائهما، وعليهما غطاء إن غطيا الرأس بدت الأقدام، وإن غطيا الأقدام بدا الرأس.
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأرادا أن يقوما فقال: (مكانكما. ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى يا رسول الله! فقال: كلمات علمنيهن جبريل : تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا ثلاثاً وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم).
قال علي : فما تركتها منذ سمعتها، فقال ابن الكواء : ولا ليلة صفين؟! قال: ولا ليلة صفين يا أهل الطرق! أي: أهل الفتن.
فذكر علي ذلك في محافظته على ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى هذه الصورة: علي يشقى، وفاطمة تتعب، والسبي موجود، والأمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يريد لأحب أحبابه وأقرب المقربين إليه ما هو الأفضل والأكمل، لا يريد خادماً في الدنيا، وإنما خداماً في الجنة، يريد عمران الدار الآخرة قبل عمران هذه الدار، ولذلك صرفهما إلى عبادة، لكن في قلبه من الشفقة والرحمة ما جعله لا ينسى طلبهما، ولا ينسى أنما قاله لهما ربما أدخل إلى نفوسهما شيئاً من هم أو غم، فمسح ذلك بقدومه عليهما، وإيناسه لهما، وتقديمه الخير لهما عليه الصلاة والسلام.
وهناك صورة أخرى لنرى ما يدور في بيوتنا من المشكلات بين الزوجات وأمهات الأزواج، حتى أصبح هذا الباب باباً تسطر فيه الأقلام، وتمثل فيه التمثيليات والمشاهد كما نسمع، بل وتضرب فيه الأمثال.
فهذه رواية ابن عبد البر يذكرها في الاستيعاب عن ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال: قال علي لأمه: اكفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخدمة خارجاً وسقاية الماء والحطب، وتكفيك العمل في البيت والعجن والخبز والطحن.
وهذه صورة من بر الأم ورحمة الزوجة وألفة الأسرة الواحدة بعيداً عن الخصومات والنزاعات والمكائد التي تحفل بها كثير من البيوت من خلال ما يتسرب إلينا من الأفكار الدخيلة، والمضامين التي تبث عبر كثير من الوسائل والطرق مكتوبة ومرئية ومسموعة ونحو ذلك.
هذه ومضات من الحياة الزوجية لتلك الزوجة الأثيرة رضي الله عنها وأرضاها، وأحسب أن فيما نذكره من العبرة ما يغني عن كثير من التعليق والتفريع من كلامنا وقولنا، فحسبنا بهذه العظيمة الشريفة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان مهرها درعاً، وأن كان فراشها أدماً حشوه ليف، وأن كان تجهيز بيتها سقاءين ورحائين، وأن كانت معيشتها أن تخدم بنفسها وأن تقوم بحق زوجها رضي الله عنها وأرضاها.
كانت فاطمة شبيهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً وهدياً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها) رواه أبو داود في السنن.
وفي رواية عند البخاري في الصحيح تخبر فيها عائشة بما كان من آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: (إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعاً لم تغادر منا واحدة، فأقبلت
وفي حديث مسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
وهذا ابن عباس رضي الله عنه يروي أن المصطفى عليه الصلاة والسلام دخل على علي وفاطمة رضي الله عنهما وهما يضحكان، فلما رأيا النبي عليه الصلاة والسلام سكتا، فقال لهما عليه الصلاة والسلام: (ما لكما كنتما تضحكان فلما رأيتماني سكتما؟! فبادرت
وفي رواية مسور الأخرى: (
وعن عمران بن حصين قال عمران : (إني لجالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت
وهذا يدلنا على مكانتها ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وحسبنا بذلك منقبة وفضيلة وشرفاً وعزاً وكرماً لا يدانيها فيها غيرها كما سيأتي في تعليل ذلك، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني -وقد رواه ابن عبد البر في الاستيعاب- قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من غزو أو سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يأتي
وهذا ابن سعد في الطبقات يروي عن ابن أبي ثابت قال: كان بين علي وفاطمة كلام -أي: شيء من الخلاف- فدخل النبي عليه الصلاة والسلام فألقوا له شيئاً فاضطجع عليه، فجاءت فاطمة فاضطجعت من جنب، جاء وعلي فاضطجع من جنب، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ويدها فوضعها على سرته ثم أصلح بينهما، وخرج عليه الصلاة والسلام، فقيل: دخلت وأنت على حال وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك! قال: (وما يمنعني وقد أصلحت بين أحب اثنين إلي) رضي الله عنهما وأرضاهما.
هكذا كانت فاطمة رضي الله عنها شبيهة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبيبة إلى قلبه، وكانت مضرب مثله، ومضرب المثل لا يكون إلا في العزيز القريب الأثير، ألم يقل عليه الصلاة والسلام: (يا
ألم يقل عليه الصلاة والسلام يوم قصة المخزومية : (لو أن
وذكر ابن حجر في الإصابة عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: كانت فاطمة أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه، سئلت عائشة رضي الله عنها -كما روى الترمذي في سننه بسند حسنه- فقيل لها: (أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة. قيل: فمن الرجال؟ قالت: زوجها. إن كان كما علمت صواماً قواما). وتكلم الذهبي في السير على صحة هذا الحديث، وإن كان قد حسنه الترمذي ورواه الحاكم وصححه.
وفي حديث بريدة: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي . قال إبراهيم النخعي : يعني: من أهل بيته. ورواه الترمذي كذلك.