إسعاف النشاشيبي
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
للأستاذ أحمد لطفي السيد
اختار الله لجواره في الأسبوع الماضي الكاتب الشهير إسعاف النشاشيبي زعيم الأسرة المعروفة في فلسطين منذ القرن التاسع الهجري إلى اليوم.
ارتقى - رحمه الله - إلى أعظم المناصب الحكومية في عهد الحكومتين العثمانية والحاضرة - بجده واجتهاده، فكان المفتش الأول للغة العربية في فلسطين - نظم المدارس وأصلح التعليم في هذا القطر الشقي - ونشر علم العربية عالياً تشهد بذلك مؤلفاته ومقالاته الذائعة الصيت في العالم العربي - وقد كان السيد إسعاف بك شديد الحنين لوطن أسرته الأول مصر - فكان يزورها كلما سنحت الفرصة - وهو فوق ذلك يؤلف فيها الكتب - ويحيي علماءها وشعراءها وزعماءها - ويتعرف إلى أحيائها وأمواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً - وحادثة وقوفه بين يدي المغفور له سعد باشا معروفة مشهورة.
ونحن بهذه المناسبة نكشف لقراء الرسالة الغراء عن أصل هذه الأسرة المصرية الكريمة حتى تقر عين الصديق الراحل بكلمة وفاء صغيرة من أحد أبنائه المعترفين بفضله. يتصل أول هذه الأسرة بالشيخ المعتقد أحمد بن رجب النشاشيبي - سمي بذلك لأن أجداده كانوا يحترفون صناعة النشاب - وكان الشيخ أحمد المذكور من رجال السلطان الملك الظاهر جقمق - كان خازنداره الخاص في أيام إمارته الأولى في فجر القرن التاسع الهجري - وتوفي الشيخ أحمد المذكور على عهد المؤرخ الشهير ابن تغري بردى صاحب كتاب النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة وقد وصفه بقوله: (الشيخ المعتقد أحمد بن النشاشيبي كان خيراً يحب العلماء الصالحين) وترك ابنه الأمير ناصر الدين محمد وهو غرة هذا البيت وواسطة هذا العقد وطراز هذه الحلية ولد في مصر سنة 821هـ وبها نشأ وحفظ القرآن الكريم في صغره وجوده على أشهر علماء عصره ثم اتصل كأبيه بخدمة الملك الظاهر جقمق.
وفي سنة 875 اختاره الملك الأشرف قايتباي لوظيفة ناظر الحرمين الشريفين (القدس والخليل) فدام في هذه الوظيفة ما يقرب من الثمانية عشر عاماً، كانت كلها خيراً وبركة على القدس والخليل وأهلهما.
وقد فصل العليمي في كتابه تاريخ القدس وأخليل حكم هذا الأمير لتلك البلاد فقال كانت أيامه كلها مواسم.
وناهيك بهذه الشهادة من شاهد عيان. وحتى يكون القارئ على بينة من سر حنين المرحوم إسعاف بك لوطن أسرته الأول مصر نفصل له قليلاً من أخبار الأمير ناصر الدين في القدس وكيف استقرت فيها هذه الأسرة المصرية الكريمة منذ خمسة قرون إلى الآن.
قال العليمي في حوادث 873هـ كثرت الفتن في القدس بين نائب السلطنة (حاكم القدس) دمرداش وناظر الحرمين الشريفين (القدس والخليل) برد بك التاجي واشتد الخلاف بينهما وكثر القيل والقال فأدى الحال إلى انفصال الأخير عن نظر الحرمين الشريفين وعين السلطان قايتباي الأمير ناصر الدين بن النشاشيبي أحد الخازندارية بالخدمة الشريفة (أحد رجال الديوان العالي كما هو متعارف اليوم) للكشف عن أوقاف الحرمين الشريفين بالقدس والخليل وتحرير أمرهما وإصلاح ما فسد من نظامهما فحضر إلى القدس وأصلح ما فسد من أيام برد برك التاجي وعصر المسجد الأقصى وصرف المعاليم (المرتبات) واستبشر الناس بالخير وعد ذلك من بركة الأمير ناصر الدين ثم توجه إلى مصر في آخر سنة 874هـ وفي سنة 875 استقر الأمير المذكور في نظر الحرمين الشريفين ودخل إلى القدس في يوم مشهود وشرع في عمارة الأوقاف بهمة وشهامة وحصل للأراضي المقدسة الجمال بوجوده وكان يكثر من مجالسة العلماء والفقهاء ويحسن إليهم بالبشر والقبول.
وفي سنة 877هـ وفي هذه السنة خلع عليه السلطان قايتباي وعلى القاضي شهاب الدين بن عبيسه ووهبهما ألف دينار وحضر الاثنان إلى القدس وعليهما خلعة السلطان فكان يوماً مشهوداً.
وفي سنة 892هـ اشتد الغلاء بالقدس والخليل وساءت سيرة نائب السلطان خضر بك وكان يناصره قاضي المالكية شرف الدين بن يحيى المغربي فكثرت الشكاوى في حقهما فعزل الأمير ناصر الدين القاضي بناء على أمر جاءه من القاهرة فلما كانت سنة 893هـ توجه خضر بك نائب السلطنة والأمير ناصر الدين ناظر الحرمين الشريفين إلى القاهرة ومثل كلاهما بين يدي السلطان فعزز السلطان خضر بك وأمر بعزله والتمس الأمير ناصر من السلطان إعفاءه.
من الخدمة فتوقف السلطان ولكن الأمير ناصر الدين ألح في طلب الاستعفاء فأعفاه السلطان من الخدمة كارهاً لنزاهته وعفته واستقامته. قال شيخ العليمي ودخلت سنة 892 والوظيفتان شاغرتان النيابة والنظر قال ثم عين السلطان دقاق في نظر الحرمين فكان بعكس سلفه ظالماً فاجراً. قال السخاوي في كتابه الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع كان الأمير ناصر الدين بن النشاشيبي من أهل الخير والصلاح حفظ القرآن الكريم وهو صغير وجوده على ابن كوزلبنا والزين طاهر وآخرين وبعد أن ذكر خدماته في القدس والخليل قال وصرفه السلطان قايتباي بدقماق.
والعليمي يؤكد أن النشاشيبي هو الذي استعفى من تلقاء نفسه وأن السلطان ألح عليه في البقاء في نظير الحرمين فرفض الخ وصاحب الدار أدرى. ولم ينس الأمير ناصر الدين تلك البلاد التي صرف فيها زهرة العمر فرجع إلى القدس وتائل الدور والقصور والحقول والبساتين وانتهت الأسرة كلها بالانتقال من مصر إليها منذ القرن التاسع إلى الآن.
وبعد فهذه لمعة صغيرة عن أصل هذا الأمير الشهير والكاتب النحرير والحجة الثبت واللغوي الضليع عظيم القدس والخليل البلد المعلوم وموطن القبر الموهوم الذي من أجله تقاتل الأخوان كأنهما وحشان قروناً وأجيالاً حتى اصطبغت الأراضي المقدسة بالدماء فشربتها شرب الهيم ولم يغن فيها دعاء إبراهيم وهي اليوم كما كانت بالأمس وا أسفا والفرق في الاسم فقط فتلك حروب صليبية وهذه حروب صهيونية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أحمد لطفي السيد