أهمية الخشوع


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنس والجن لعبادته، وجعلهم متفاوتين في أداء هذا الحق الذي من أجله خلقوا، فمنهم من يوفق بتوفيق الله سبحانه وتعالى إلى استغلال ما أنعم الله به عليه من العمر والوقت فيما خلق من أجله، وأولئك هم الشاكرون، وقليل ما هم كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13] .

ومنهم من يستغل ما أنعم الله به عليه من النعم في عداوته ومعصيته، وأولئك هم المخذولون الذين لا يباليهم الله باله، ولا يضرون الله سبحانه وتعالى شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم، ومنهم من يستغل نعم الله عليه في اللغو المباح فهذه النعم لا له ولا عليه منها، ولكن أولئك قد خسروا وفاتتهم الصفقات المربحة، وكثير من الذين يظهرون في صورة العابدين تكون عباداتهم جثثاً ميتة ليس فيها روح، وذلك أن روح العبادة هو الخشوع لله سبحانه وتعالى، والتأدب بأدبه، والخضوع بين يديه، والمذلة لوجهه العظيم الذي تعنو له الوجوه يوم القيامة كما قال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا[طه:111] .

فيحتاج المؤمن إلى التخلق بهذا الأدب العظيم مع الله سبحانه وتعالى، وأن يكون من الخاشعين لله، وأولئك الخاشعون هم المخبتون الذين بشرهم الله بالبشارة العظيمة في كتابه، فقد قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[الحج:34-35] ، فأولئك قد اتصفوا بهذا الأدب مع الله سبحانه وتعالى فعرفوه ولذلك أحسنوا عبادته، وعرفوا أن مدة بقائهم في هذه الحياة مدة محصورة يسيرة، وأن فائدتها القرب منه سبحانه وتعالى، فتنافسوا في التقرب إليه، وبادروا قبل أن تفجأهم الملهيات والشواغل التي تحول بينهم وبين ذلك، فقد علموا أن لهم أوقاتاً لا يستطيعون فيها عبادة الله، وعرفوا أن شواغل هذه الدنيا كثيرة، وأن الأوقات التي تخلص للإنسان ليعبد الله فيها ويصدق معه يسيرة، فبادروا فقطعوا المراحل، وسبقوا الشيطان، فلم يبق له على آثارهم إلا الندم، وأولئك قد عرفوا هذا الطريق فلزموه، فهم في سباق مع الزمن، وأيامهم ولياليهم مشغولة بالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وقطع المسافات الشاسعة في القرب إليه، والله سبحانه وتعالى يتقرب إليهم بأبلغ من ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب ألي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فسبحان ربنا ما أحلمه وما أكرمه!.

إن الله سبحانه وتعالى غني عن العبادات التي يؤديها أصحابها بقلوب غافلة لاهية، وإنه سبحانه وتعالى إذا أقبل عليه العبد بخشوع أقبل عليه الباري سبحانه وتعالى، ويكفي ذلك شرفاً ومكانة، ولذلك جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد -وهو في صلاته- ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).

إن عمل القلب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: النية

القسم الأول: النية: والنية هي توجه القلب إلى الشيء وقصده، وهي التي يمتاز بها الفعل عن غيره مما يشابهه ويحاكيه، فتتميز بها العبادة عن العادة، ويتميز بها الفرض عن النفل، فلا يقع ذلك إلا بالنية، ولذلك كانت شرطاً لأداء العبادة وصحتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وبهذه النية يتفاوت العمل تفاوتاً عظيماً؛ فهي تفسير الأعمال، ويضاعف العمل اليسير بهذه النية إذا صدق فيها صاحبها وأخلص، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قاتل فقتل: (لقد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً).

وهذه النية يكتب في ميزان حسنات الإنسان بها ما لم يعمله إذا نواه، فمن نوى الخير متى ما قدر عليه كتب له ولو لم يفعله؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان فيمن قبلنا مر على كثيب أهيل من رمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرضت عليه صحائف أعماله فإذا فيها كثيب أهيل من سويق، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط قال: أتذكر يوم كذا عند أن مررت على كثيب أهيل من رمل فقلت: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله؛ فقد تقبلته منك).

ولذلك فنية المؤمن هي من عمله، فيثاب الإنسان إذا نوى صيام رمضان ولو مات قبل أن يبلغ رمضان، ويثاب بأجر الشهادة في سبيل الله إذا سأل الشهادة صادقاً ولو مات على فراشه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الله الشهادة في سبيله صادقاً بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه)، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100] .

وكذلك ينال الإنسان ثواب شيء لم يقع أصلاً ولم يخلق، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين أحوال الناس في الدنيا فذكر أربعة أحوال فقال: (إنما الدنيا لأربعة:

رجل آتاه الله فقهاً ومالاً فهو ينفق ماله فيما يقرب إلى الله، فهو بأعلى المنازل.

ورجل أتاه الله فقهاً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه ما فعل هذا، فهما في الأجر سواء.

ورجل أتاه الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يضرب فيه يميناً وشمالاً في معصية الله، فهو بشر المنازل.

ورجل لم يؤته الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثلما فعل هذا، فهما في الوزر سوا).

فلذلك يثاب الإنسان على أمر لم يخلق إذا أحسن النية فيه لله سبحانه وتعالى، وقد كان كثير من سلفنا الصالح يستعد لرمضان قبله، وللعبادات كلها بنيته، فيحاول مع نفسه حتى يخلص النية ويصدق، ويتأهب بذلك للعبادة قبل أن يأتي وقت أدائها؛ فإن مات قبلها مات في طريقها؛ وهو في صلاة منذ خروجه إليها، وإن بلغ إليها جاءها مستعداً قد تخلص من كل الشواغل والملهيات، وأقبل عليها بقلب سليم.

القسم الثاني: حضور القلب في العبادة

القسم الثاني من أعمال القلب هو الحضور:

وهو أن يحضر الإنسان ما يفعل وما يقول، فإن قلب الإنسان عرضة لأن يذهب به الشيطان، فإذا فعل كثيراً من أنواع العبادات ولم يكن حاضراً لها كانت جوارحه خيراً من قلبه؛ فكان معكوساً منكوس الفطرة، فالأصل أن القلب إذا صلح صلحت الجوارح، وإذا فسد فسدت، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

ولذلك جاء النهي عن خشوع النفاق، قيل: وما هو؟ قال: أن ترى الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع، فإذا كانت الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع فهذا هو خشوع النفاق، ولا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضر، فقد يؤدي الإنسان الصلاة وما كتب له نصفها ..ثلثها ..ربعها.. حتى انتهى إلى العشر، فلا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضره، وذلك أن الإنسان إذا كبَّر وهو لا ينوي التكبير أو لا يقصده وإنما جرى على لسانه فهو بمثابة النائم الذي يهذي، والعقل مناط التكليف، وإذا ذهب العقل فاشتغل بأمر آخر كانت العبادة مؤداة في غير موقعها، كالذي يحلم في النوم أنه يفعل فعلاً ولم يفعله، فلذلك نجد أن كثيراً من المصلين والعابدين في غير الصلاة من أنواع العبادة يشتغلون بقلوبهم بأمر وتنشغل جوارحهم بأمر آخر!

ولذلك قال العلامة محمد المودودي رحمه الله: إن من دواهي شيطان الصلاة أنه يشغل الإنسان بشيء مهم من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة عن صلاته، فلا هو أدى ذلك الأمر، ولا هو أدى صلاته! قال:

من أربى مثلث الوترين تذكيره أمراً من الدارين

عند دخولك الصلاة فاشتغل به فلا تصلحه ولا تصل

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ما يشغل عن الحضور في الصلاة، فقال: (لا صلاة بحضرة الطعام)، وذلك أن قلوب كثير من الناس تشتغل بالطعام، وبالأخص عند الحاجة إليه، فلا تحضر في الصلاة، فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بحضرة الطعام، فقال: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء قبل العِشاء)، فلذلك يبدأ الإنسان بالطعام قبل أداء صلاة العشاء، ليخلص لصلاته، ويتأهب لها.

وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء حاقناً وهو يدافع الأخبثين، بل قال: (لا صلاة للمرء وهو يدافع الأخبثين)، فإذا كان الإنسان حاقناً يحس بغلبة البول فإنه لا يصلي في ذلك الوقت، بل يبدأ بالاستفراغ، ثم بعد ذلك يتأهب للصلاة ويتهيأ لها؛ لأن كل ما يشغله عن الصلاة سيذهب ببعض حضوره، فلا يؤديها كما شرعت.

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عن المرور بين يدي المصلي لما فيه من شغله عن الصلاة، فاللحظة التي يمر فيها المار بين يدي المصلي يقطع نور صلاته؛ لانشغاله بالمار بين يديه؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم : (إذا كان أحدكم في صلاته فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل، وليدن منها، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان).

وكذلك جاء من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم في المسجد فجاءت شاة تريد المرور بين يديه فزجرها -معناه: أشار إليها فلم تزدجر- فتقدم حتى ألصق بطنه بالجدار؛ حتى يمنع تلك الشاة من المرور بين يديه.

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب له أعلام -والأعلام هي الخطوط الحمر- فلما سلم خلعه وقال: (احملوا هذه إلى أبي الجهم، وائتوني بإنبجانيته، فإنني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي).

فلذلك لابد أن يتأهب الإنسان للانشغال بالصلاة، وعدم الانشغال بأي شيء سواها، حتى النظر إلى الخطوط في ثياب تشغل الإنسان عن صلاته؛ ولذلك خلع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الثوب، وأمر أن يحمل إلى أبي الجهم ، وأن يؤتى بإنبجانية كان يلبسها أبو الجهم ، فجمع بذلك بين الحسنيين ؛ فـأبو الجهم من فقراء المسلمين فتصدق عليه بهذا الثوب الجميل، والنبي صلى الله عليه وسلم زينته في ذاته؛ فلا تزيده الثياب زينة ولا رفعة، كما قال السموءل :

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل

ولذلك أراد أن يلبس إنبجانية هذا الفقير من فقراء المسلمين، فيلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزدان الإنبجانية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتخلص من كل ما يشغل عن الصلاة ويلهي عنها.

إن كثيراً من الناس إذا دخل الصلاة اشتغل بأمور مضت كان فيها، فكأنه لم ينقطع عما مضى، ولم يقبل على الله، ولم يدخل في الصلاة أصلاً، فما زال منشغلاً فيما كان منشغلاً به قبل الصلاة، وهؤلاء لم تنفعهم صلاتهم شيئاً، فلا هي تنهاهم عن الفحشاء ولا المنكر، ولا هي تقطع أعمالهم التي كانوا فيها، ومنهم من يبدأ الصلاة خاشعاً حاضراً، لكنه سرعان ما ينصرف وراء الأهواء والملهيات، فيدبر شئون حياته وأموره، ومع ذلك لا يقضي منها شيئاً.

وقد ذكر بعض الفضلاء أنه كان يصلي مع الشيخ الحسن فلما سلم تردد الشيخ في الصلاة، هل نقصت أو هي تمام، فقال له الرجل: بل نقصت فقال: وما يدريك؟ فقال: كنت إذا دخلت الصلاة اشتغلت بقافلة من هنا إلى مكان كذا، وإلى مكان الزرع، فلا تسلم حتى آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها، والآن سلمت وأنا في مكان كذا قبل أن آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها!!

فأصبح يعرف قدر الصلاة بقدر انشغاله، وما تتجارى به نفسه فيه من الأمور.

القسم الثالث: الخشوع في العبادة

القسم الثالث من أعمال القلب: الخشوع، وقد عرفه ابن أسد بأنه الخوف باستشعار الوقوف بين يدي الخالق، والخوف أي: ما يعتري الإنسان من الخوف والمذلة عندما يستشعر الوقوف بين يدي الخالق، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وأن الله يجيبه في كلامه، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] تذكر أن الله يجيبه فيقول: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3] تذكر أن الله يجيبه فيقول: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] تذكر أن الله يجيبه فيقول: مجدني عبدي، وفي رواية: فوض إلي عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل.

وهكذا حتى تنتهي الصلاة، فكل لفظ يعلم أن الله سبحانه وتعالى يسمعه، وكل خطرة تخطر في القلب يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليها، وهو: أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16] ، وأنه:يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[طه:7] ، ومن هنا فهو يخاف الخوف الشديد بهيبة هذا المقام، فأنتم تعلمون أن أحدكم لو كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسلم عليه ويكلمه، فلا شك أنه سيحضر ويخاف، كما وصف ذلك كعب بن زهير رضي الله عنه عندما وضع يمينه في كف النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

وقال كل خليل كـنت آملـه لا ألهينك إني عنك مشغـول

فقلت خلوا سبيلي لا أبـا لكم فكل ما قدر الرحمن مفعـول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمـول

نبئت أن رسـول الله أوعـدني والعفو عند رسول الله مأمول

وقد أتيت رسـول الله معتـذراً والعذر عند رسول الله مقبول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلـة القرآن فيها مواعيظ وتفصيـل

لا تأخذني بأقوال الوشـاة فلم أذنب وإن كثرت فيَّ الأقاويـل

إلى أن يقول:

حتى وضعت يمينـي لا أنازعـه في كف ذي نقمات قيله القيل

لذاك أهيب عنـدي إذ أكلمـه وقيل إنك مأخوذ ومسئـول

من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه من بطن عثر غيل دونه غيـل

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهمـا لحم من القوم معفور الخراديل

فهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من هيبة الإنسان لأسد يقابله، وقد عرف مكانه من قبل، وعرف أنه لا يجرؤ أحد أن يدخل مكانه، وتخاف منه السباع، فكيف بمن دونها؟!

منه وتظل سباع الجو ضامدة ولا تمشى بواديه الأراجيـل

فإذا كان الإنسان هكذا بهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف ستكون هيبته لديان السماوات والأرض الذي خلق النبي صلى الله عليه وسلم وشرفه وكرمه، وهو الذي أرسله؟!

فلابد أن يحضر في بال الإنسان أنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وما يعتريه حينئذ من قشعريرة الجسم والارتعاشة في البدن، وسيلان الدموع، وحركة في القلب، هو الذي يمثل بالخشوع، فالخشوع إذاً يعرف بهذه الأمور كلها، فيظهر على البدن بقشعريرته وانتفاضته وبالدموع، وكذلك بالخوف الشديد، وبارتعاش القلب، فكل هذه آثار من آثار الخشوع، وإنما يحصل ذلك للإنسان عند تمام إيمانه، فمن لم يكن مؤمناً بأنه يكلم الله كفاحاً، وأنه معه، وأن الله سبحانه وتعالى ينظر إليه وهو في صلاته، لم يكن لينال هذه المنزلة، ولم يكن ليحضر هذا التشريف، بل هو محجوب حينئذ مطرود عن جناب الله سبحانه وتعالى، فإنما ينظر الله سبحانه وتعالى إلى من كان متحلياً بما أمره به، متخلياً عما نهاه عنه، فأولئك هم الذين يستحقون هذا المكان الرفيع.

القسم الأول: النية: والنية هي توجه القلب إلى الشيء وقصده، وهي التي يمتاز بها الفعل عن غيره مما يشابهه ويحاكيه، فتتميز بها العبادة عن العادة، ويتميز بها الفرض عن النفل، فلا يقع ذلك إلا بالنية، ولذلك كانت شرطاً لأداء العبادة وصحتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وبهذه النية يتفاوت العمل تفاوتاً عظيماً؛ فهي تفسير الأعمال، ويضاعف العمل اليسير بهذه النية إذا صدق فيها صاحبها وأخلص، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قاتل فقتل: (لقد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً).

وهذه النية يكتب في ميزان حسنات الإنسان بها ما لم يعمله إذا نواه، فمن نوى الخير متى ما قدر عليه كتب له ولو لم يفعله؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان فيمن قبلنا مر على كثيب أهيل من رمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرضت عليه صحائف أعماله فإذا فيها كثيب أهيل من سويق، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط قال: أتذكر يوم كذا عند أن مررت على كثيب أهيل من رمل فقلت: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله؛ فقد تقبلته منك).

ولذلك فنية المؤمن هي من عمله، فيثاب الإنسان إذا نوى صيام رمضان ولو مات قبل أن يبلغ رمضان، ويثاب بأجر الشهادة في سبيل الله إذا سأل الشهادة صادقاً ولو مات على فراشه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الله الشهادة في سبيله صادقاً بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه)، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100] .

وكذلك ينال الإنسان ثواب شيء لم يقع أصلاً ولم يخلق، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين أحوال الناس في الدنيا فذكر أربعة أحوال فقال: (إنما الدنيا لأربعة:

رجل آتاه الله فقهاً ومالاً فهو ينفق ماله فيما يقرب إلى الله، فهو بأعلى المنازل.

ورجل أتاه الله فقهاً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه ما فعل هذا، فهما في الأجر سواء.

ورجل أتاه الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يضرب فيه يميناً وشمالاً في معصية الله، فهو بشر المنازل.

ورجل لم يؤته الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثلما فعل هذا، فهما في الوزر سوا).

فلذلك يثاب الإنسان على أمر لم يخلق إذا أحسن النية فيه لله سبحانه وتعالى، وقد كان كثير من سلفنا الصالح يستعد لرمضان قبله، وللعبادات كلها بنيته، فيحاول مع نفسه حتى يخلص النية ويصدق، ويتأهب بذلك للعبادة قبل أن يأتي وقت أدائها؛ فإن مات قبلها مات في طريقها؛ وهو في صلاة منذ خروجه إليها، وإن بلغ إليها جاءها مستعداً قد تخلص من كل الشواغل والملهيات، وأقبل عليها بقلب سليم.

القسم الثاني من أعمال القلب هو الحضور:

وهو أن يحضر الإنسان ما يفعل وما يقول، فإن قلب الإنسان عرضة لأن يذهب به الشيطان، فإذا فعل كثيراً من أنواع العبادات ولم يكن حاضراً لها كانت جوارحه خيراً من قلبه؛ فكان معكوساً منكوس الفطرة، فالأصل أن القلب إذا صلح صلحت الجوارح، وإذا فسد فسدت، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

ولذلك جاء النهي عن خشوع النفاق، قيل: وما هو؟ قال: أن ترى الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع، فإذا كانت الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع فهذا هو خشوع النفاق، ولا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضر، فقد يؤدي الإنسان الصلاة وما كتب له نصفها ..ثلثها ..ربعها.. حتى انتهى إلى العشر، فلا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضره، وذلك أن الإنسان إذا كبَّر وهو لا ينوي التكبير أو لا يقصده وإنما جرى على لسانه فهو بمثابة النائم الذي يهذي، والعقل مناط التكليف، وإذا ذهب العقل فاشتغل بأمر آخر كانت العبادة مؤداة في غير موقعها، كالذي يحلم في النوم أنه يفعل فعلاً ولم يفعله، فلذلك نجد أن كثيراً من المصلين والعابدين في غير الصلاة من أنواع العبادة يشتغلون بقلوبهم بأمر وتنشغل جوارحهم بأمر آخر!

ولذلك قال العلامة محمد المودودي رحمه الله: إن من دواهي شيطان الصلاة أنه يشغل الإنسان بشيء مهم من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة عن صلاته، فلا هو أدى ذلك الأمر، ولا هو أدى صلاته! قال:

من أربى مثلث الوترين تذكيره أمراً من الدارين

عند دخولك الصلاة فاشتغل به فلا تصلحه ولا تصل

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ما يشغل عن الحضور في الصلاة، فقال: (لا صلاة بحضرة الطعام)، وذلك أن قلوب كثير من الناس تشتغل بالطعام، وبالأخص عند الحاجة إليه، فلا تحضر في الصلاة، فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بحضرة الطعام، فقال: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء قبل العِشاء)، فلذلك يبدأ الإنسان بالطعام قبل أداء صلاة العشاء، ليخلص لصلاته، ويتأهب لها.

وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء حاقناً وهو يدافع الأخبثين، بل قال: (لا صلاة للمرء وهو يدافع الأخبثين)، فإذا كان الإنسان حاقناً يحس بغلبة البول فإنه لا يصلي في ذلك الوقت، بل يبدأ بالاستفراغ، ثم بعد ذلك يتأهب للصلاة ويتهيأ لها؛ لأن كل ما يشغله عن الصلاة سيذهب ببعض حضوره، فلا يؤديها كما شرعت.

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عن المرور بين يدي المصلي لما فيه من شغله عن الصلاة، فاللحظة التي يمر فيها المار بين يدي المصلي يقطع نور صلاته؛ لانشغاله بالمار بين يديه؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم : (إذا كان أحدكم في صلاته فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل، وليدن منها، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان).

وكذلك جاء من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم في المسجد فجاءت شاة تريد المرور بين يديه فزجرها -معناه: أشار إليها فلم تزدجر- فتقدم حتى ألصق بطنه بالجدار؛ حتى يمنع تلك الشاة من المرور بين يديه.

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب له أعلام -والأعلام هي الخطوط الحمر- فلما سلم خلعه وقال: (احملوا هذه إلى أبي الجهم، وائتوني بإنبجانيته، فإنني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي).

فلذلك لابد أن يتأهب الإنسان للانشغال بالصلاة، وعدم الانشغال بأي شيء سواها، حتى النظر إلى الخطوط في ثياب تشغل الإنسان عن صلاته؛ ولذلك خلع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الثوب، وأمر أن يحمل إلى أبي الجهم ، وأن يؤتى بإنبجانية كان يلبسها أبو الجهم ، فجمع بذلك بين الحسنيين ؛ فـأبو الجهم من فقراء المسلمين فتصدق عليه بهذا الثوب الجميل، والنبي صلى الله عليه وسلم زينته في ذاته؛ فلا تزيده الثياب زينة ولا رفعة، كما قال السموءل :

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل

ولذلك أراد أن يلبس إنبجانية هذا الفقير من فقراء المسلمين، فيلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزدان الإنبجانية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتخلص من كل ما يشغل عن الصلاة ويلهي عنها.

إن كثيراً من الناس إذا دخل الصلاة اشتغل بأمور مضت كان فيها، فكأنه لم ينقطع عما مضى، ولم يقبل على الله، ولم يدخل في الصلاة أصلاً، فما زال منشغلاً فيما كان منشغلاً به قبل الصلاة، وهؤلاء لم تنفعهم صلاتهم شيئاً، فلا هي تنهاهم عن الفحشاء ولا المنكر، ولا هي تقطع أعمالهم التي كانوا فيها، ومنهم من يبدأ الصلاة خاشعاً حاضراً، لكنه سرعان ما ينصرف وراء الأهواء والملهيات، فيدبر شئون حياته وأموره، ومع ذلك لا يقضي منها شيئاً.

وقد ذكر بعض الفضلاء أنه كان يصلي مع الشيخ الحسن فلما سلم تردد الشيخ في الصلاة، هل نقصت أو هي تمام، فقال له الرجل: بل نقصت فقال: وما يدريك؟ فقال: كنت إذا دخلت الصلاة اشتغلت بقافلة من هنا إلى مكان كذا، وإلى مكان الزرع، فلا تسلم حتى آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها، والآن سلمت وأنا في مكان كذا قبل أن آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها!!

فأصبح يعرف قدر الصلاة بقدر انشغاله، وما تتجارى به نفسه فيه من الأمور.

القسم الثالث من أعمال القلب: الخشوع، وقد عرفه ابن أسد بأنه الخوف باستشعار الوقوف بين يدي الخالق، والخوف أي: ما يعتري الإنسان من الخوف والمذلة عندما يستشعر الوقوف بين يدي الخالق، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وأن الله يجيبه في كلامه، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] تذكر أن الله يجيبه فيقول: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3] تذكر أن الله يجيبه فيقول: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] تذكر أن الله يجيبه فيقول: مجدني عبدي، وفي رواية: فوض إلي عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل.

وهكذا حتى تنتهي الصلاة، فكل لفظ يعلم أن الله سبحانه وتعالى يسمعه، وكل خطرة تخطر في القلب يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليها، وهو: أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16] ، وأنه:يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[طه:7] ، ومن هنا فهو يخاف الخوف الشديد بهيبة هذا المقام، فأنتم تعلمون أن أحدكم لو كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسلم عليه ويكلمه، فلا شك أنه سيحضر ويخاف، كما وصف ذلك كعب بن زهير رضي الله عنه عندما وضع يمينه في كف النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

وقال كل خليل كـنت آملـه لا ألهينك إني عنك مشغـول

فقلت خلوا سبيلي لا أبـا لكم فكل ما قدر الرحمن مفعـول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمـول

نبئت أن رسـول الله أوعـدني والعفو عند رسول الله مأمول

وقد أتيت رسـول الله معتـذراً والعذر عند رسول الله مقبول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلـة القرآن فيها مواعيظ وتفصيـل

لا تأخذني بأقوال الوشـاة فلم أذنب وإن كثرت فيَّ الأقاويـل

إلى أن يقول:

حتى وضعت يمينـي لا أنازعـه في كف ذي نقمات قيله القيل

لذاك أهيب عنـدي إذ أكلمـه وقيل إنك مأخوذ ومسئـول

من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه من بطن عثر غيل دونه غيـل

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهمـا لحم من القوم معفور الخراديل

فهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من هيبة الإنسان لأسد يقابله، وقد عرف مكانه من قبل، وعرف أنه لا يجرؤ أحد أن يدخل مكانه، وتخاف منه السباع، فكيف بمن دونها؟!

منه وتظل سباع الجو ضامدة ولا تمشى بواديه الأراجيـل

فإذا كان الإنسان هكذا بهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف ستكون هيبته لديان السماوات والأرض الذي خلق النبي صلى الله عليه وسلم وشرفه وكرمه، وهو الذي أرسله؟!

فلابد أن يحضر في بال الإنسان أنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وما يعتريه حينئذ من قشعريرة الجسم والارتعاشة في البدن، وسيلان الدموع، وحركة في القلب، هو الذي يمثل بالخشوع، فالخشوع إذاً يعرف بهذه الأمور كلها، فيظهر على البدن بقشعريرته وانتفاضته وبالدموع، وكذلك بالخوف الشديد، وبارتعاش القلب، فكل هذه آثار من آثار الخشوع، وإنما يحصل ذلك للإنسان عند تمام إيمانه، فمن لم يكن مؤمناً بأنه يكلم الله كفاحاً، وأنه معه، وأن الله سبحانه وتعالى ينظر إليه وهو في صلاته، لم يكن لينال هذه المنزلة، ولم يكن ليحضر هذا التشريف، بل هو محجوب حينئذ مطرود عن جناب الله سبحانه وتعالى، فإنما ينظر الله سبحانه وتعالى إلى من كان متحلياً بما أمره به، متخلياً عما نهاه عنه، فأولئك هم الذين يستحقون هذا المكان الرفيع.

وإن الملك الديان سبحانه وتعالى يختار من عباده قوماً للخدمة، فيخلصهم لعبادته سبحانه وتعالى؛ وهم المخلَصون المخلِصون الذين اختيروا قبل خلق السماوات والأرض، وكتبوا في العباد الذين محضهم الله لطاعته، وأخلصهم لنفسه، وأولئك المخلصون هم الذين يستشعرون حلاوة المناجاة، ويستلذون بهذه العبادة؛ فيستريحون بالصلاة من هموم الدنيا ومشاغلها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال !)، وكان يلجأ إليها في شأنه كله.

وكان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وكثير من الساسة إذا حزبهم أمر، وتكاثرت عليهم العساكر، ودخلوا في الحروب أو المشكلات المادية الاقتصادية، أو اجتمع العمال في إضرابات آثارها سيئة، ولم يجدوا ما يدفعون به رواتبهم، فإنما يلجئون إلى المؤسسات والهيئات، والنبي صلى الله عليه وسلم في كل الأزمات إنما كان يلجأ إلى الصلاة، فإذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وهي التي جعلت فيها قرة عينه صلى الله عليه وسلم، كما قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).

وكذلك فإن المؤمن الصادق إذا تذكر هذه المناجاة، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان تذكر هذا المقام العظيم، ونحن جميعاً نغبط موسى بن عمران إذا تذكرنا أن الله اتخذه كليماً وكلمه بكلامه، ولاشك أن كل واحد منا يتذكر أن موسى كان نبي الله، وأنه كلمه مباشرة بكلامه سبحانه وتعالى، وهذا المقام مقال عالٍ جداً يعترف به الأولون والآخرون يوم القيامة في مقام الشفاعة، فيأتون موسى فيقولون: أنت كليم الله اختارك لرسالاته ولكلامه.

فهذا المقام الرفيع يناله الخاشع لله سبحانه وتعالى إذا تذكر أن الله يخاطبه؛ فيقول: (حمدني عبدي.. أثنى علي عبدي.. مجدني عبدي.. هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل.. هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل).

فيشعر الإنسان حينئذ بهذا التقريب العظيم، وأنه صار كليماً لله سبحانه وتعالى حين أعلى منزلته، وخاطبه الرب سبحانه وتعالى الذي لا يشغله شيء عن شيء، ولا كائن عن كائن، ولا تختلط عليه اللغات، ولا تلتبس عليه، فهو سبحانه وتعالى يخاطبك بهذا الجواب، وأنت تقول في رفعك من الركوع: سمع الله لمن حمده، إقراراً بذلك وإيذاناً بهذه المناجاة العظيمة، فكأنما أوتيت صحيفتك بيمينك، فالفرح الذي يحصل عندما تنال صحيفتك بيمينك هو الذي تصيح به في الملأ الأعلى وتقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ[الحاقة:19-20] .

فكذلك هنا إذا خشعت بين يدي الله في ركوعك ترفع صارخاً فتقول: سمع الله لمن حمده، فرحاً بهذا اللقاء للملك الديان سبحانه وتعالى، وسروراً بهذه المناجاة التي أخلصت فيها لله، إن كثيراً من الناس لا يتذوق هذا الطعم ولا يناله، فإذا قال: سمع الله لمن حمده لم تؤثر فيه، وإذا سمعها من إمام لم يفهمها أصلاً، وإذا سمع الرفع بالتكبير لم يؤثر ذلك فيه، وأولئك لا يمكن أن يعدوا من الخاشعين، بل وشتان بينهم وبين الخاشعين!

إن حاجة الإنسان إلى هذا الخشوع هي حاجته إلى تغذية قلبه، فهذه القلوب إنما تتغذى بالخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، والأنس به، والقرب إليه، وكلما كان الإنسان أعلى منزلة في الإيمان كلما كان أكثر خشوعاً وإقبالاً على الله سبحانه وتعالى وتأثراً بعبادته ومناجاته له سبحانه وتعالى.

إن الله سبحانه وتعالى أثنى على الخاشعين في الصلاة في قوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ[المؤمنون:1-2] .

ولا يقتضي هذا أن الخشوع مختص بالصلاة، بل الخشوع في كل عبادة لله سبحانه وتعالى، سواء كانت قلبية أو بدنية أو مالية، وسواء كانت فعلية أو تركية؛ إذ لابد فيها من هذا الخشوع؛ فهو روحها، وبه حياتها، وهو معناها، وإذا خلت العبادة من هذا الخشوع كانت روتيناً يفعله الإنسان كما يفعل الطفل إذا رأى مصلياً، فإنه يقوم ويصلي ولا يفهم شيئاً من ذلك، وإنما يركع ويسجد ويقوم كما يفعل في تقاليده للأشخاص جميعاً، والإنسان لا يرضى أن يكون كالطفل الذي لا يفهم شيئاً من تصرفاته، فلذلك لابد أن يفهم معنى القيام، ومعنى الاستقبال، ومعنى رفع اليدين، وأن يجعل الدنيا وراء ظهره، ويفهم معنى التكبير إذا كبر، ويعلم أنه إذا كبر ملأت تكبيرته ما بين السماء والأرض، ويفهم معنى الفاتحة التي يقرؤها، ومعنى القرآن الذي يقرأ بعدها، ومعنى تكبيره للركوع، ومعنى تسبيحه وتعظيمه فيه، وهكذا في كل أجزاء صلاته.

وهكذا في عباداته الأخرى، فالصائم لابد أن يخشع أيضاً، ونحن ننتظر قبل رمضان قدوم هذا الشهر الكريم الذي هو شهر الصيام، فكثير من الناس يؤدي الصيام فيه من غير خشوع، فتجدهم في نهار الصيام وهم يعملون أعمالهم كما كانوا لا يحسون برغبة ولا رهبة، ولا يؤثر فيهم صومهم شيئاً، وتراهم كذلك في ليالي رمضان الفاضلة العظيمة التي يزداد فيها عمر الإنسان بما لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى كما إذا وفق لقيام ليلة القدر، فإنه يزاد على الأقل بأربع وثمانين سنة في ليلة واحدة، ففائدة العمر للعبادة، وهذه الليلة خير من ألف شهر و(خير) أفعل تفضيل؛ ولا يقتضي ذلك حصرها في ألف شهر..

فإذاً: أقل الناس من كانت ليلة القدر في حقه بقدر ألف شهر، وألف شهر أربع وثمانون سنة وزيادة ستة أشهر تقريباً، فهذه المدة التي نحتاج إليها بزيادة أعمارنا، لا يستفيد منها أولئك الذين يشغلون ليالي رمضان بما لا خير فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، وفي رواية: (إني امرؤ صائم)، فلابد أن يستشعر الإنسان أنه في حرمة الصيام.

فإذا كنت في صلاتك فخاطبك إنسان فهل ستجيبه؟ لن تجيبه؛ لأنك مشغول بحرمة الصلاة، فكذلك إذا كنت في حرمة الصيام، فاعلم أنك في حرمة عبادة عظيمة هي مثل الصلاة؛ فلذلك لابد أن تشتغل بصيامك.

(فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، (فليقل) أي: في قلبه، أي: فليتذكر ذلك وليقل: إني صائم؛ لأن هذا الصيام يحجبه ويمنعه عن إجابة ذلك الإنسان بمثل قوله.

وهكذا في العبادات كلها، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[المؤمنون:60] ، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت: (أهو الذي يسرق ويزني ويكذب وهو يخاف الله؟ قال: لا، بل هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف ألا يتقبل الله منه)، فهؤلاء يؤتون ما آتوا، فيقدمون الأعمال الصالحة لأنفسهم وهم يخافون خوفاً شديداً ألا يتقبل الله منهم، ولذا قال سبحانه:وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:60-61] .

إن الإنسان إذا أحس بطعم هذا الخشوع سهل عليه، واستطاع أن يتعود عليه في أموره كلها، فكثير من سلفنا الصالح كانوا خاشعين في كل أوقاتهم، وإذا نظر الإنسان إليهم تذكر الله سبحانه وتعالى؛ فهم دائماً مشتغلون بطاعته وعبادته، وبمجرد النظر إلى أحدهم تتذكر الله سبحانه وتعالى.

كان أهل الشام يقولون: إنا لتصدأ قلوبنا فنذهب إلى أبي الدرداء ،فلا نكلمه كلمة واحدة، وإنما ننظر إليه في مصلاه فنرجع وقد تخلصنا من ذلك الصدأ؛ لأن أبا الدرداء كان في عبادته كأنما ينظر إلى الجنة والنار بين يديه.

وكذلك فإن كثيراً من الذين أتوا من بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيضاً- كانوا بهذا الحال في كل أوقاتهم، فقد كان أهل العراق يذهبون إلى الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فإذا رأوه ورآهم بكى هو لرؤيتهم، وبكوا هم لبكائه!

وقد ذكر مالك رحمه الله أمثال ذلك عن أهل المدينة، وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل على تعظيمهم لله عز وجل، فقد قال مالك رحمه الله: (لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً؛ فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته.

هذا هو الرجل الكريم الذي كان ينفق ماله كله على الناس، ويخدم الفقراء بيده، وهو قد جمع أشرف النسب، فأبوه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وأمه عائشة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، فجمع الطرفين، وهو عالم أهل المدينة في ذلك الوقت وعابدهم، وهذا مع حسن خلقه ولباقته، ولكنه كان إذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته.

قال مالك: (وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتقع لونه وتغير، حتى رحمناه، وخرجنا عنه).

فأولئك القوم كانوا بهذا المستوى من الخشوع في كل أوقاتهم، ولم يزل الخشوع يتناقص في الناس عصراً بعد عصر، فاليوم تسمع من يسمع القرآن كاملاً أو يقرؤه كاملاً ولم تتحرك نفسه لآية واحدة منه! ولو نزل القرآن على جبل من الجبال لصار دكاً لجلال الله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21] .

وتجد من يذكر عنده رسول الله صلى الله علي وسلم في المجلس كثيراً، ويسمع كثيراً من أحاديثه الصحيحة عنه، وكثيراً من أحواله، ومع ذلك لا ينتفض قلبه، ولا يتأثر، ولا يتذكر.

إن كثيراً من الذين لا يفهمون حرفاً واحداً من القرآن يتأثرون لسماعه تأثراً بليغاً، وكثيراً من الذين يفهمونه ويتعقلونه ويدرسون تفسيره لا يتأثرون به، وهذا عجب من العجائب! وآية من الآيات، بل هو من معجزات هذا الكتاب العظيم، وقد شاهدنا عدداً من الأعاجم الذين لا يعرفون القرآن، ولا يفهمون منه كلمة واحدة، ومع ذلك لا يسمعون قراءته حتى تسمع النشيج عن يمينك وشمالك، يبكون بكاءً صادقاً بحرقة عظيمة، وذلك أنهم يعرفون أن هذا كلام الله، فقدر مستواهم في العلم أن يعلموا أن هذا الكلام كلام الله، فأحبوه من أجل ذلك، فبكوا تأثراً به.

وقد كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عند موته يقلب المصحف على خديه ويقول: كلام ربي، كتاب ربي! محبة للقرآن، حتى توفي على ذلك رضي الله عنه وأرضاه.

إن الذي يعلم بعض أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سماعه للقرآن وبعض أحواله في عباداته الأخرى، يستشعر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما امتن الله به عليه من البشارة العاجلة، ومع ما ادخر له من المقام المحمود العظيم الذي خصه الله به من بين الخلائق؛ كان يتأثر بهذا القرآن تأثراً عجيباً، ففي حديث ابن مسعود في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ علي القرآن، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود : فقرأت سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا[النساء:41-42] ، قال: حسبك! فنظرت فإذا عيناه تهملان).

(وخرج ذات ليلة في المدينة فمر على باب عجوز من الأنصار، فإذا هي تقرأ القرآن، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع، فقرأت العجوز: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ[الغاشية:1] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أتاني، نعم أتاني، وجلس يبكي عند بابها).

وعندما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة فتح مكة، وقد وعده الله سبحانه وتعالى بفتحها عليه فقال: وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا[الفتح:21] ، مع ذلك يدخلها وهو في حال عجيب من الخشوع، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ألصق ذقنه بصدره حياءً من الله أن يدخل حرمه في السلاح).

فهكذا كان حياؤه من الله، مع أن الله أحلها له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وإنما أحلت لي ساعة من نهار)، كما في حديث أبي شريح رضي الله في صحيح البخاري، ومع ذلك يخشع صلى الله عليه وسلم هذا الخشوع العظيم حياءً من الله سبحانه وتعالى، وأدباً معه، وتوقيراً لحرماته، وتعظيماً لها؛ لأن ذلك من التقوى، كما قال عز وجل: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج:32] .

إن كثيراً من السابقين كانوا يخشعون في حلق العلم كما يخشعون في الصلاة، فهي عبادة لله سبحانه وتعالى؛ فيستعدون لها، ويتأهبون لها كما يتأهبون للصلاة، ويخشعون فيها كخشوعهم في الصلاة.