المسؤولية في الإسلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد فإن ربنا جل جلاله قد أنعم علينا بأنواع النعم؛ فخلق أبانا آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وشرفه على الملائكة بالعلم، وعلمه ما لم يكن يعلم، ثم بعد ذلك كرمنا بأنواع التكريم فجعل منا الرسل، وأقام علينا الحجة، وأنزل إلينا الكتب، ثم أنعم علينا نحن بالخصوص بأن جعلنا من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهي خير أمة أخرجت للناس، أرسل الله إليها أفضل الرسل، وشرع لها أفضل شرائع الدين، وأنزل عليها خير الكتب، وجعل فضلها زائداً على فضل سائر الأمم، وأجرها زائداً على أجر سائر الأمم، وقال في تكريمه لبني آدم: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[الإسراء:70]، وهذا التشريف لا شك أن في مقابله يكون التكليف؛ لأن الإنسان إذا أنعم عليه بكل هذه النعم، لا يمكن في مقابل ذلك أن يترك سدى لا له ولا عليه؛ بل لا بد -وقد قامت عليه الحجة- أن يؤدي الحق الذي عليه، وهذا الحق الذي عليه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: يشترك فيه الجنس البشري مع الجن وهو تحقيق العبادة لله، كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56].

القسم الثاني: تحقيق الاستخلاف في الأرض، وهذا مختص بالجنس البشري، وبه تشريفه على غيره، والاستخلاف في الأرض يقتضي المسئولية عن هذا الدين؛ فهذا الدين اختاره الله سبحانه وتعالى لنا، وبين لنا فيه ما يكفل علاقتنا بربنا جل جلاله وما ينظم علاقاتنا فيما بيننا، وما يحقق لنا مصالحنا الدنيوية ومصالحنا الأخروية، ولا يمكن أن يأتي أحد بأعظم منه ولا بأقوم؛ ولذلك لا استقامة لشيء من أمور الدنيا ولا من أمور الآخرة إلا باتباع هذا الدين والقيام بحقه، وهذا الدين الكريم الذي به شرفنا إذا أراد الإنسان أن يدرك قيمته فلينظر إلى عاقبته ونهايته، فهو سر دخول الإنسان الجنة، هو الذي يدخل الجنة ويباعد الإنسان من النار، وكل من قصر فيه كان آيلاً إلى النار؛ فلذلك لا بد أن نعلم أن هذا الدين هو مستقبلنا، وهو ضمان سلامتنا من عذاب الله.

وهذا يقتضي حرصنا عليه وعملنا به وأخذنا به، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتعلمه والعمل به وأدائه على وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، والسعي لنصره ونشره بين الناس حتى تقام الحجة على أهل الأرض جميعاً، وحتى يكونوا جميعاً على وفق مراد ربهم جل جلاله، وعلى وفق مراد نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فمن حق البشرية أن تنال حظها من عدل الله، وعدل الله في الأرض هو هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن حق البشرية علينا أن نسعى لإنقاذها من النار؛ فهي وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه في الصحيحين أنه قال: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار ).

فهذا يقتضي أن نقوم نحن بعمل النبي صلى الله عليه وسلم ووظيفته، وأن نحسن خلافته، فإنه صلى الله عليه وسلم أدى إلينا هذا الدين كما أنزله الله عليه، ونحن نشهد جميعاً أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، ولا يستطيع أحد منا أن يطعن في ذلك؛ فقد زكاه الله وشهد له بالتبليغ، فقال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ[الذاريات:54]، وقال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ[النور:54]، هكذا شهد الله له أنه أدى الذي عليه، وبقي ما علينا نحن وقد أدى إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدين كما أتاه من عند الله، ثم قال: ( ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع )، وقال: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )؛ وقال: ( بلغوا عني ولو آية )، فيجب على كل إنسان منا أن يتحمل أعباء هذا الدين، وأن يقوم بواجب نصرة الله سبحانه وتعالى ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك كثير من الحوافز التي تدعونا إليه، ومن أهمها خمس حوافز:

علاقتنا بربنا سبحانه وتعالى

الحافز الأول: علاقتنا بهذا الرب جل جلاله، فنحن جميعاً نبوء له بنعمته علينا، ونقر له بأنه خلقنا ورزقنا وهدانا للإسلام، وأنعم علينا بأنواع النعم التي لا نحصيها قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وقال: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53]، فحقه علينا أن نشكر نعمته بنصره ونصر دينه، وذلك هو مقتضى بيعة قائمة في أعناقنا جميعاً؛ بيننا وبين ربنا جل جلاله، قد أكدها الله في التوراة والإنجيل والقرآن؛ فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111].

وهذه البيعة هي حق في عنق كل واحد منا، ولو أن إنساناً منا صاحب دين ومروءة تحمل ديناً لإنسان مثله لا يملك له حياة ولا موتاً ولا نشوراً، لكان من العار والعيب عليه ألا يفكر في قضاء هذا الدين، وهذه البيعة دين في عنقه، فهل فكرت يوماً من الأيام في الوفاء بها لله تعالى والقيام في حق الله فيها. إنها بيعة ثابتة لا تستطيع التخلص منها ولا تستطيع إنكارها، فأنت قد أقررت بها بشهادتك أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد أصبحت من المؤمنين الذين لزمتهم هذه البيعة.

وهذا يقتضي منك يا أخي أن تحرص على الوفاء لله بحقه وبيعتك، فمن المؤسف أن يعيش أحدنا عشر سنوات أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة، حتى يشتعل الرأس شيباً ولم يفكر في الوفاء لله في بيعته، لو كان عليه التزام آخر أو لديه أي مشروع أو يفكر في أية مصلحة من مصالح الدنيا؛ لكان ذلك قد أخذ حيزاً في تفكيره وبذل جهوده في سبيل الوصول إليه؛ فلذلك لا بد أن نفكر في هذه البيعة التي بيننا وبين ربنا، ونحن لا ننكرها ولا نستطيع التخلص منها، ماذا نعمل في سبيلها؟ ماذا علينا أن نقوم به؟ لا بد أن يشغل هذا حيزاً في تفكيرنا واهتمامنا.

علاقتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم

الحافز الثاني: هو علاقتنا بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فهو أمن الناس علينا؛ هدانا الله به من الضلالة وأنقذنا به من النار، وعلمنا به ما لم نكن نعلم، وجعلنا به خير أمة أخرجت للناس، وقد أخرجه الله لنا مثلاً يؤتسى به ويقتدى فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21]؛ فهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو أحب الناس إلينا وأمنّهم علينا؛ فإذا لم ننصره فإننا لم نؤدِ حقه، ونحن نعلم أن الله بعثه للفرقان بين الحق والباطل، وأن الناس قد اختلفوا فيه ما بين مصدق له ومكذب، وأنهم لم يزالوا كذلك ولن يزالوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ فأهل كل قرن ينقسمون إلى مصدق له ومكذب، فالحرب إذاً دائرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأعدائه، وكل يوم من أيامنا هو مثل يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين ويوم الأحزاب ويوم خيبر، وأنتم جميعاً تتمنون لو شهدتم يوم بدر فقاتلتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتمنون لو شهدتم يوم أحد فدافعتم عنه كما دافع عنه طلحة بن عبيد الله ونسيبة الأنصارية ، وتتمنون لو شهدتم معه بيعة الرضوان فكانت أيديكم تسبق إلي يديه الشريفة الكريمة، وتبايعونه على الموت في سبيل الله، وتتمنون لو شهدتم معه النصر المبين والفتح الكبير في فتح مكة، تتمنون الشهادة في مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، ولا يسر أحداً منكم أن يتخلف عن رسول الله ولا أن يرغب بنفسه عن نفسه.

لا أحد منكم يرضى بذلك؛ لأنه يعلم أن الذين تخلفوا عنه من المؤمنين الصادقين أرزأ أمرهم خمسين يوماً لا يرد عليهما أحد السلام، ولا يعاملهم بأية معاملة؛ حتى أنزل الله توبته عليهم فقال في ذلك: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:117-118].

وتعلمون أن الذين تخلفوا عنه من المنافقين أنزل الله فيهم أسوأ الأوصاف فقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ[التوبة:81-84]، فلذلك لا يسر أحداً منكم أن يرغب بنفسه عن رسول الله، ولا أن يتخلف عنه في أية غزاة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل يوم من أيامنا هذه هي غزوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهد من مشاهد الإسلام، والله تعالى يناديكم لنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[التوبة:38-41].

هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تشهدون أنه رسول الله في شهادة الإسلام ودخوله، وفي التشهد في الصلاة، وتسألون عنه في قبوركم: ( ما كنت تقول في هذا الرجل )؟ وتدعون باسمه يوم القيامة: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً[الإسراء:71-72].

وتريدون جميعاً الشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم الذي لا يظمأ من شرب منه أبداً، ولا يرضى أحد منكم أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم يسقي الناس على الحوض من يده الشريفة وهو يطرد دونه كما تطرد غرائب الإبل.

فإذا كان الحال كذلك فلا بد أن تحرصوا على نصرته، وأن تقوموا بحقه، وأن تعلموا أن كل يوم من أيام الدنيا تشن فيه حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالناس لم يقاتلوه على أساس نسبه فهو خير الناس نسباً، ولا على أساس خلقه فهو خير الناس خلقاً، ولا على أساس أنه منعهم شيئاً من الدنيا، فقد قال للأعراب يوم أوطاس: ( فلو كان عندي مثل شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم لم تجدوني جباناً ولا بخيلاً ولا كذاباً )، فما قاتلوه إلا على أساس الدين الذي جاء به والدعوة التي دعا بها؛ فلذلك نحن لم نفقد إلا شخص النبي صلى الله عليه وسلم أما ما جاء به من عند الله وهو سر المعركة فهو باقٍ بين أظهرنا، لم يبدل ولم يغير، ولا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ولذلك تجدون في كل يوم من أيام الدنيا هجوماً شرساً عليه صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به، فلا بد أن تحرصوا على أن تدفعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تقوموا بهذا الحق الواجب عليكم، وقد دعاكم الله إلى أن تتخذوه أسوة حسنة، ومعنى ذلك أن يفكر كل إنسان منكم لو أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج الليلة هنا في كيفية ماذا سيعمل؟ توقنون جميعاً أنه لا يغلق عليه غرفته ولن يأخذ سبحته؛ لأن هذا لن يغير شيئاً من حال الناس، وتعلمون أنه قطعاً لن يغرق مع الناس في ما هم فيه من جمع الدنانير والدراهم ومن أجل الدنيا؛ فهو معصوم.

وتعلمون أنه لن يقدم ملفاً للوظيفة العمومية يريد التوظيف، فقد عرض عليه ملك مكة فامتنع من أن يغير شيئاً من أمر الله جل جلاله، ماذا سيصنع؟ تعلمون أنه لن يخرج على أهل السوق أو على الناس بسيفه في مغامرة محسومة فيقتل دون فائدة، ماذا سيعمل إذاً؟ قطعاً سيقول: من أنصاري إلى الله؟ لأن الله أمره بذلك وأمر من قبله من الأنبياء به كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ[الصف:14].

سيقول النبي صلى الله عليه وسلم لو خرج الليلة قطعاً ما قال في مكة حين خرج فيها، قال: من أنصاري إلى الله؟ مكث ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، ثم أعلن الدعوة للناس عندما أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ[الحجر:94]، فدعا الناس إلى ما جاء به من عند الله تعالى وبينه؛ فحينئذٍ التحق به من أراد الله به الخير وصدقوه واتبعوه، فهداهم الله لخير صراط، وأنعم عليهم بنعمة الإسلام، وشرفهم على من سبقهم ومن يأتي بعدهم، وجعلهم خير قرون الدنيا، تربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا عنه القرآن والسنة، ورأوا عبادته وجهاده فعملوا بذلك، وبادروا وسارعوا إلى الخيرات، وكانوا فعلاً أهلاً لها، كانوا أهلها ومستحقيها؛ فلذلك شرفهم الله بهذه المنزلة التي لا تدرك، وأحل الله عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، فكانوا يمشون على وجه الأرض لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، فقد سبقت المغفرة ذنوبهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً[الفتح:18-19].

ثم بعد ذلك إذا أيقنت أنت يا أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان بين أظهرنا الليلة لدعا بهذه الدعوة، وقال: من أنصاري إلى الله؟ وربى الذين يلتحقون به هذه التربية المخالفة لتربية المجتمع؛ فلم تفعل ذلك ولم تهتم به فقد رغبت بنفسك عن رسول الله، والله تعالى يقول: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[التوبة:120-121].

فلذلك حق رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا أن ننصره وأن نبذل جهودنا في سبيل ذلك، فما نراه اليوم من الاعتداء على دينه ودعوته وما جاء به، هو مثل ما لو كان يخرج في الشارع والناس يرمونه بالحجارة وأنتم جالسون متفرجون، لا ينتصر له أحد منكم، هل يمكن أن يقع هذا؟ لا يمكن أن يقع من مؤمن؛ فلذلك لا بد أن تبادروا لنصرته كما لو وجدتم أنفسكم في ذلك الموقف.

فضل العمل قبل التمكين

الحافز الثالث: أن هذا الوقت الذي أنتم فيه هو وقت قبل الفتح؛ فالإسلام الآن لم يمكن له، ليست له دولة ترعاه وليس مسيطراً على الأرض، لا تقام حدود الله على أرض الله، ولا يقام عدل الله بين عباد الله، فهذا الوقت إذاً وقت قبل الفتح، والوقت الذي قبل الفتح الأجر فيه مضاعف، كما قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا[الحديد:10].

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، وكل ليلة من ليالي الدنيا يمكن أن يأتي فيها الفتح؛ لأن الله وعد بهذا الفتح وهو لا يخلف الميعاد؛ فقد قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ[النور:55].

فلا بد أن يحقق الله هذا الوعد طال الزمان أو قصر، فالليلة يمكن أن تكون ليلة الفتح، والليلة الآتية يمكن أن تكون ليلة الفتح، والفرصة الآن لا يمكن أن تعوض؛ فلذلك علينا أن نبادر قبل أن يأتي الفتح؛ لأنه إذا أتى فسيفوتنا هذا الربح الطائل.

مثال ذلك: لو أن قوماً عندنا أرادوا بناء خيمة الإسلام وهي ساقطة؛ فجلسنا ننتظر إقامتها ولم نساعد بأي شيء حتى قامت فابتدرنا ظلالها ندخل فيها، هل هذا من المروءة والنخوة والكرم؟ لا؛ لذلك لا بد أن نبادر إلى المشاركة في بناء خيمة الإسلام الساقطة، وأن نعلم أن من شارك الآن في هذا الوقت، فإن المد من الشعير يقدمه هو أفضل من مما لو قدم مثل جبل أحد من الذهب بعد الفتح، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في هذا الحديث.

كذلك لا بد أن نتذكر في هذه النقطة أن الذين يتأخرون عن المبادرة إلى نصرة الله ورسوله وإعلاء كلمته، وإعزاز دينه، ولا يلتحقون بالركب ولا يسيرون في القافلة، إنما هم محرومون، فاتهم الخير الكثير؛ لأن الليلة الواحدة من السبق لا يمكن أن نتدارك بها، ليلة واحدة يسبقهم بها الداعون إلى الله والناصرون لدينه لا يستطيعون تعويضها أبداً؛ ولذلك قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100].

كذلك فإن الذين يتأخرون ويتربصون وينتظرون يوشك أن يحول ذلك بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة، فإن المنافقين يوم القيامة يحال بينهم وبين أهل الإيمان؛ فيضرب: بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ[الحديد:13-14]، كانوا معهم في هذه الحياة وأسماؤهم موحدة وأشخاصهم متفقة: ((أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ))، أي: عرضتم أنفسكم للفتنة، ((وَتَرَبَّصْتُمْ)) أي: انتظرتم، قلتم: حتى نعرف من الغالب في هذه المعركة، ((وَارْتَبْتُمْ)) أي: شككتم في وعد الله هل ينجز الله وعده للمؤمنين أو لا ينجزه، ((وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ)) كثير من الناس الآن يقولون: نحن الحمد لله من حزب الله، وسنكون من أهل الفردوس الأعلى من الجنة، وسنجاور النبي صلى الله عليه وسلم ونشرب من حوضه، وسيبيض الله وجوهنا يوم تبيض وتسود وجوه، وسيعطينا كتبنا بأيماننا، وسيظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وسننجو على الصراط ... إلى آخره، لكن هذه الأماني لا فائدة فيها إذا لم يصحبها عمل، قال تعالى: ((وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ))، وأمر الله هو الموت، ((وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)) وهو الشيطان.

فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ[الحديد:15]، يعني: لو بذلتم كل أموالكم وأرواحكم وأهليكم لأن تنجو من عذاب الله في هذا الوقت من يوم القيامة ما قبل الله ذلك منكم؛ ((وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا))، فهم ليسوا من الذين كفروا؛ بل هم من المنافقين؛ ولذلك قال: ((وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)).

ثم بعد هذا لا بد أن نعلم أن المتخلفين والمتخاذلين والمتأخرين عن نصرة هذا الدين يوشك أن يقال لهم ما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله في المنافقين: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ[التوبة:83].

لا يرتضي الله فتنتهم في الدين فيقتلهم ويطردهم عنه.

ما يبذله المنافقون ومرضى القلوب في نصرة باطلهم

الحافز الرابع: ما يبذله المنافقون ومرضى القلوب في نصرة باطلهم.

فنحن نشهد من بين جلدتنا، والذين يتكلمون بألسنتنا، ومن بني عمنا وأقاربنا كثيراً من الأشخاص الذين يبذلون أرواحهم وأموالهم وجاههم وعقولهم وتدبيرهم في سبيل نصرة بعض الأيدلوجيات التي لم يأتِ بها النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولا نزل بها الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتكفل الله لأصحابها بالجنة، يبذلون أنفسهم وأرواحهم، ويسهرون الليالي ذوات العدد ويضحون تضحيات جساماً من أجل الأيدولوجيات، هذه أيدلوجية أنتجها كارل ماركس ، وهذه أنتجها ميشيل عفلق وهذه أنتجها جمال عبد الناصر ، وهذه أنتجها فلان وهذه أنتجها علان، وهم يبذلون قصارى جهودهم في سبيل هذه الأيدولوجيات.

إذا كان هؤلاء وهم من بني جلدتنا يبذلون قصارى جهدهم في سبيل نصرة الباطل، ويضحون في سبيله بأنواع التضحيات، ويتحملون في سبيله كل الأذى والسجون وغيرها؛ فلماذا يا إخواني لا نبذل نحن جزءاً من الجهود في سبيل نصرة هذا الرسول الكريم الذي نصره الله، وأيده بالمعجزات الظاهرة الباهرة، ومنها هذا القرآن الذي نحفظه في صدورنا، ونتلوه في مصاحفنا، وهو حجة الله القائمة علينا، لماذا لا ننصر هذا الدين الذي شرفنا الله به، وأنقذنا به من الضلالة وهدانا به؟ لماذا لا ننصر أولياء الله الذين يسعون لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه؟ لماذا لا نلتحق بالركب ونسير في القافلة ولو كنا في مؤخرتها، فإن من سلك الطريق لا بد أن يصل.

ما يبذله الكافرون في نصرة دينهم المحرف

الحافز الخامس: ما يبذله الكافرون في سبيل نصرة دياناتهم المحرفة المبدلة؛ فالنصارى دينهم مبناه على أن الواحد ثلاثة وأن الثلاثة واحد، أي: أن الرب واحد وهو في نفس الوقت ثلاثة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

وأن الرب -كما يزعمون- جل وعلا له ولد واحد، ولما كثرت عليه ذنوب عباده أنزله لهم ليقتلوه ويصلبوه، فيكون ذلك تكفيراً لسيئاتهم، وهذا لا يمكن أن يستوعبه مجنون ولا طفل صغير ولا أبله، لا يمكن أن يسلم به عاقل أبداً، ولا مجنون، فإذا كان الحال كذلك فكيف يبذلون هذه الجهود الطائلة في سبيل نصرة هذه الأباطيل التي ما أنزل الله بها من سلطان، وما جاء بها عيسى من عند الله؛ بل جاء بخلافها؛ ولذلك يقول لهم يوم القيامة عندما يسأله الله تعالى فيقول: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:116-118].

وهم الآن يبذلون من الجهود ما لا يخطر على قلب أحد؛ فالمجلس العالمي للكنائس ميزانيته أكثر من ميزانية دول الخليج مجتمعة، وما من بلد من بلدان العالم الإسلامي -فضلاً عن غيره- إلا ولهم فيه الآثار البارزة، انظروا إلى جمعياتهم ومؤسساتهم هنا في مدينتكم، يبذلون الأموال الطائلة وهم يعلمون أنها لا تنفعهم في الآخرة، ولا يتقربون بها إلى الله.

لماذا يأتون من أمريكا ومن ألمانيا ومن فرنسا إليكم هنا، وإلى البوادي والأرياف وإلى المستضعفين، فيقدمون لهم الأموال الطائلة والخدمات الجليلة؟ كل ذلك في سبيل نصرة باطلهم؛ لأنهم اقتنعوا بهذه القناعة فبذلوا جهودهم في سبيل نصرتها.

واليهود عليهم لعائن الله أصل دينهم وما يدعون إليه مبناه على أن إسرائيل صنع الرب وخلقه حتى مد لسانه؛ فأخذ عليه العهد ألا يعذب أحداً من أولاده إلا أياماً معدودات -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وهم يقولون: نحن أغنياء والله فقير: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181]، ويقولون: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[المائدة:64]، وهذا الذي يقولونه لا يمكن أن يصدقه عاقل أبداً، فرب يصنع ويخلق لماذا يعبد؟! إذا كنت تستطيع أن تصرعه وتخرقه لماذا تعبده؟!

مع ذلك يبذلون هذه الجهود التي ترونها في الشاشات وتسمعونها في الإذاعات، وتسمعون عنها، جهوداً طائلة وبروتوكولات ومؤتمرات وحرب كبيرة، من أجل نصرة هذا الباطل الذي لا يصدقه أحد، حتى أضعف المجانين عقلاً، وأضعف الصبيان عقلاً لا يمكن أن يصدق ترهاتهم، ومع ذلك يبذلون هذه الجهود في سبيل نصرته، فكيف يا إخواني لا ننصر نحن هذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، ونزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وعصمه الله من التحريف والتبديل والتغيير، وتولى حفظه بنفسه، وجعله موافقاً للفطرة ومحققاً للمصلحة؛ لا يخالف عقلاً ولا فطرة سليمة، وهو موافق لكل ما تتطلبه المصالح الدينية أو الدنيوية، لماذا لا نبذل جهوداً مثلما يبذله اليهود على الأقل أو النصارى أو غيرهم من أصحاب الديانات المحرفة، إن كل من اقتنع بقناعة إذا لم يصحبها عمل فلا فائدة فيها.

لو أن أحدكم اقتنع الآن بأن عليه أن يكون عالماً من العلماء، لكنه لم يدرس أي مذهب ولم يحفظ أي كتاب ولم يجلس عند أي شيخ، ولم يسمع إلى أي درس، ما فائدة قناعته هذه؟ ستذهب بها رياح الصيف، ولو أنه اقتنع بأنه سيكون تاجراً من التجار وغنياً من الأغنياء، لكنه لم يبادر ولم يباشر الصفق بالأسواق، واضطجع في بيته عند أهله وعطل العمل؛ ما فائدة هذه القناعة؟ لا فائدة فيها.

أكبر قناعة وأعظمها هي قناعتك بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، هذه القناعة إذا لم يصحبها عمل، فإنها ستذهب ولن يبقى لها أثر في نفسك؛ ولذلك تجدون كثيراً من أولاد المسلمين الذين عاشوا في بيوت إسلامية، ولكن هذا الإيمان الذي يقولونه بألسنتهم -يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله- لا ينهاهم ولا يردعهم عن منكر ولا يأمرهم بالمعروف، ولا يتذوقون طعمه ولا يذوقون حلاوته، ولا يستشعرون نور العبادة، ولا ينالون بها أي أثر، هؤلاء إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وهذا الآن الحال الذي نشهده من بعض إيمان الناس هو ناشئ عن عدم تحقق بهذه القناعة، فالدين ليس مجرد ميراث ولا كلمة تقال، ولا مجرد رياضات يطبقها الإنسان.

فالصلاة مثلاً إذا كانت مجرد قيام وركوع ورفع وسجود وجلوس وسلام، فهذه الرياضات يمكن أن يمارسها الإنسان في الملعب ولا يأتي بها هنا إلى المسجد.

لكن الصلاة عبادة لله وتقرب إليه ومناجاة له جل جلاله، روحها الخشوع والإقبال على الله جل جلاله، فلا بد من تفهم روحها ومعناها، ولا بد أن تؤثر في الإنسان؛ فإذا كان الإنسان في المسجد يبتغي وجه الله ويعفر وجهه لوجه الكريم، ويتذكر قول عبد الحق الإشبيلي: (الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يده متذللين، ولوجهه متعظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً)، ولكنه إذا خرج برجله اليسرى من المسجد دخل إلى أماكن الفجور وكانت نصرته لغير الله ورسوله، كان ينصر على أساس دريهمات دنيوية، وكانت معاملته مع الناس ليست ناشئة عن دينه وقناعته، فما فائدة صلاته إذاً؟ والله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[العنكبوت:45].

فلذلك لا بد يا إخواني من أن ندرك أن الإسلام معناه قرار يتخذه الإنسان بالاستسلام لله رب العالمين لا شريك له، وأن يقول: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، يقول ذلك بقلبه ويكون هذا مصدقاً بعمله؛ فإذا قال ذلك بلسانه ولم يصدق هذا العمل فما فائدته؟ بل إن هذا هو النفاق بعينه.

فلذلك لا بد أن نحرص على أن يكون لإيماننا وقناعتنا فائدة، وأن يكون متملكاً لجوارحنا، ومتملكاً لأعمالنا، هذه القناعة الكبرى لا بد أن نتأثر بها في سلوكنا في أخلاقنا وقيمنا، وفي معاملتنا وبيعنا وشرائنا، فإذا كان أحدنا لا يبالي، هل هو يعمل في الحلال أو في الحرام، ولا يبالي هل نظره في الحلال أو في الحرام، هل سمعه في الحلال أو في الحرام هل مشيه في الحلال أم في الحرام، لا يسأل عن أي حكم؛ فإن هذا الشخص لم يحسن الإسلام، وحسن الإسلام لا بد منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان زلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه ).

الحافز الأول: علاقتنا بهذا الرب جل جلاله، فنحن جميعاً نبوء له بنعمته علينا، ونقر له بأنه خلقنا ورزقنا وهدانا للإسلام، وأنعم علينا بأنواع النعم التي لا نحصيها قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وقال: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53]، فحقه علينا أن نشكر نعمته بنصره ونصر دينه، وذلك هو مقتضى بيعة قائمة في أعناقنا جميعاً؛ بيننا وبين ربنا جل جلاله، قد أكدها الله في التوراة والإنجيل والقرآن؛ فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111].

وهذه البيعة هي حق في عنق كل واحد منا، ولو أن إنساناً منا صاحب دين ومروءة تحمل ديناً لإنسان مثله لا يملك له حياة ولا موتاً ولا نشوراً، لكان من العار والعيب عليه ألا يفكر في قضاء هذا الدين، وهذه البيعة دين في عنقه، فهل فكرت يوماً من الأيام في الوفاء بها لله تعالى والقيام في حق الله فيها. إنها بيعة ثابتة لا تستطيع التخلص منها ولا تستطيع إنكارها، فأنت قد أقررت بها بشهادتك أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد أصبحت من المؤمنين الذين لزمتهم هذه البيعة.

وهذا يقتضي منك يا أخي أن تحرص على الوفاء لله بحقه وبيعتك، فمن المؤسف أن يعيش أحدنا عشر سنوات أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة، حتى يشتعل الرأس شيباً ولم يفكر في الوفاء لله في بيعته، لو كان عليه التزام آخر أو لديه أي مشروع أو يفكر في أية مصلحة من مصالح الدنيا؛ لكان ذلك قد أخذ حيزاً في تفكيره وبذل جهوده في سبيل الوصول إليه؛ فلذلك لا بد أن نفكر في هذه البيعة التي بيننا وبين ربنا، ونحن لا ننكرها ولا نستطيع التخلص منها، ماذا نعمل في سبيلها؟ ماذا علينا أن نقوم به؟ لا بد أن يشغل هذا حيزاً في تفكيرنا واهتمامنا.

الحافز الثاني: هو علاقتنا بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فهو أمن الناس علينا؛ هدانا الله به من الضلالة وأنقذنا به من النار، وعلمنا به ما لم نكن نعلم، وجعلنا به خير أمة أخرجت للناس، وقد أخرجه الله لنا مثلاً يؤتسى به ويقتدى فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21]؛ فهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو أحب الناس إلينا وأمنّهم علينا؛ فإذا لم ننصره فإننا لم نؤدِ حقه، ونحن نعلم أن الله بعثه للفرقان بين الحق والباطل، وأن الناس قد اختلفوا فيه ما بين مصدق له ومكذب، وأنهم لم يزالوا كذلك ولن يزالوا حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ فأهل كل قرن ينقسمون إلى مصدق له ومكذب، فالحرب إذاً دائرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأعدائه، وكل يوم من أيامنا هو مثل يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين ويوم الأحزاب ويوم خيبر، وأنتم جميعاً تتمنون لو شهدتم يوم بدر فقاتلتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتمنون لو شهدتم يوم أحد فدافعتم عنه كما دافع عنه طلحة بن عبيد الله ونسيبة الأنصارية ، وتتمنون لو شهدتم معه بيعة الرضوان فكانت أيديكم تسبق إلي يديه الشريفة الكريمة، وتبايعونه على الموت في سبيل الله، وتتمنون لو شهدتم معه النصر المبين والفتح الكبير في فتح مكة، تتمنون الشهادة في مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، ولا يسر أحداً منكم أن يتخلف عن رسول الله ولا أن يرغب بنفسه عن نفسه.

لا أحد منكم يرضى بذلك؛ لأنه يعلم أن الذين تخلفوا عنه من المؤمنين الصادقين أرزأ أمرهم خمسين يوماً لا يرد عليهما أحد السلام، ولا يعاملهم بأية معاملة؛ حتى أنزل الله توبته عليهم فقال في ذلك: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:117-118].

وتعلمون أن الذين تخلفوا عنه من المنافقين أنزل الله فيهم أسوأ الأوصاف فقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ[التوبة:81-84]، فلذلك لا يسر أحداً منكم أن يرغب بنفسه عن رسول الله، ولا أن يتخلف عنه في أية غزاة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل يوم من أيامنا هذه هي غزوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهد من مشاهد الإسلام، والله تعالى يناديكم لنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[التوبة:38-41].

هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تشهدون أنه رسول الله في شهادة الإسلام ودخوله، وفي التشهد في الصلاة، وتسألون عنه في قبوركم: ( ما كنت تقول في هذا الرجل )؟ وتدعون باسمه يوم القيامة: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً[الإسراء:71-72].

وتريدون جميعاً الشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم الذي لا يظمأ من شرب منه أبداً، ولا يرضى أحد منكم أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم يسقي الناس على الحوض من يده الشريفة وهو يطرد دونه كما تطرد غرائب الإبل.

فإذا كان الحال كذلك فلا بد أن تحرصوا على نصرته، وأن تقوموا بحقه، وأن تعلموا أن كل يوم من أيام الدنيا تشن فيه حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالناس لم يقاتلوه على أساس نسبه فهو خير الناس نسباً، ولا على أساس خلقه فهو خير الناس خلقاً، ولا على أساس أنه منعهم شيئاً من الدنيا، فقد قال للأعراب يوم أوطاس: ( فلو كان عندي مثل شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم لم تجدوني جباناً ولا بخيلاً ولا كذاباً )، فما قاتلوه إلا على أساس الدين الذي جاء به والدعوة التي دعا بها؛ فلذلك نحن لم نفقد إلا شخص النبي صلى الله عليه وسلم أما ما جاء به من عند الله وهو سر المعركة فهو باقٍ بين أظهرنا، لم يبدل ولم يغير، ولا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ولذلك تجدون في كل يوم من أيام الدنيا هجوماً شرساً عليه صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به، فلا بد أن تحرصوا على أن تدفعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تقوموا بهذا الحق الواجب عليكم، وقد دعاكم الله إلى أن تتخذوه أسوة حسنة، ومعنى ذلك أن يفكر كل إنسان منكم لو أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج الليلة هنا في كيفية ماذا سيعمل؟ توقنون جميعاً أنه لا يغلق عليه غرفته ولن يأخذ سبحته؛ لأن هذا لن يغير شيئاً من حال الناس، وتعلمون أنه قطعاً لن يغرق مع الناس في ما هم فيه من جمع الدنانير والدراهم ومن أجل الدنيا؛ فهو معصوم.

وتعلمون أنه لن يقدم ملفاً للوظيفة العمومية يريد التوظيف، فقد عرض عليه ملك مكة فامتنع من أن يغير شيئاً من أمر الله جل جلاله، ماذا سيصنع؟ تعلمون أنه لن يخرج على أهل السوق أو على الناس بسيفه في مغامرة محسومة فيقتل دون فائدة، ماذا سيعمل إذاً؟ قطعاً سيقول: من أنصاري إلى الله؟ لأن الله أمره بذلك وأمر من قبله من الأنبياء به كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ[الصف:14].

سيقول النبي صلى الله عليه وسلم لو خرج الليلة قطعاً ما قال في مكة حين خرج فيها، قال: من أنصاري إلى الله؟ مكث ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، ثم أعلن الدعوة للناس عندما أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ[الحجر:94]، فدعا الناس إلى ما جاء به من عند الله تعالى وبينه؛ فحينئذٍ التحق به من أراد الله به الخير وصدقوه واتبعوه، فهداهم الله لخير صراط، وأنعم عليهم بنعمة الإسلام، وشرفهم على من سبقهم ومن يأتي بعدهم، وجعلهم خير قرون الدنيا، تربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا عنه القرآن والسنة، ورأوا عبادته وجهاده فعملوا بذلك، وبادروا وسارعوا إلى الخيرات، وكانوا فعلاً أهلاً لها، كانوا أهلها ومستحقيها؛ فلذلك شرفهم الله بهذه المنزلة التي لا تدرك، وأحل الله عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، فكانوا يمشون على وجه الأرض لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، فقد سبقت المغفرة ذنوبهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً[الفتح:18-19].

ثم بعد ذلك إذا أيقنت أنت يا أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان بين أظهرنا الليلة لدعا بهذه الدعوة، وقال: من أنصاري إلى الله؟ وربى الذين يلتحقون به هذه التربية المخالفة لتربية المجتمع؛ فلم تفعل ذلك ولم تهتم به فقد رغبت بنفسك عن رسول الله، والله تعالى يقول: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[التوبة:120-121].

فلذلك حق رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا أن ننصره وأن نبذل جهودنا في سبيل ذلك، فما نراه اليوم من الاعتداء على دينه ودعوته وما جاء به، هو مثل ما لو كان يخرج في الشارع والناس يرمونه بالحجارة وأنتم جالسون متفرجون، لا ينتصر له أحد منكم، هل يمكن أن يقع هذا؟ لا يمكن أن يقع من مؤمن؛ فلذلك لا بد أن تبادروا لنصرته كما لو وجدتم أنفسكم في ذلك الموقف.

الحافز الثالث: أن هذا الوقت الذي أنتم فيه هو وقت قبل الفتح؛ فالإسلام الآن لم يمكن له، ليست له دولة ترعاه وليس مسيطراً على الأرض، لا تقام حدود الله على أرض الله، ولا يقام عدل الله بين عباد الله، فهذا الوقت إذاً وقت قبل الفتح، والوقت الذي قبل الفتح الأجر فيه مضاعف، كما قال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا[الحديد:10].

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، وكل ليلة من ليالي الدنيا يمكن أن يأتي فيها الفتح؛ لأن الله وعد بهذا الفتح وهو لا يخلف الميعاد؛ فقد قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ[النور:55].

فلا بد أن يحقق الله هذا الوعد طال الزمان أو قصر، فالليلة يمكن أن تكون ليلة الفتح، والليلة الآتية يمكن أن تكون ليلة الفتح، والفرصة الآن لا يمكن أن تعوض؛ فلذلك علينا أن نبادر قبل أن يأتي الفتح؛ لأنه إذا أتى فسيفوتنا هذا الربح الطائل.

مثال ذلك: لو أن قوماً عندنا أرادوا بناء خيمة الإسلام وهي ساقطة؛ فجلسنا ننتظر إقامتها ولم نساعد بأي شيء حتى قامت فابتدرنا ظلالها ندخل فيها، هل هذا من المروءة والنخوة والكرم؟ لا؛ لذلك لا بد أن نبادر إلى المشاركة في بناء خيمة الإسلام الساقطة، وأن نعلم أن من شارك الآن في هذا الوقت، فإن المد من الشعير يقدمه هو أفضل من مما لو قدم مثل جبل أحد من الذهب بعد الفتح، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في هذا الحديث.

كذلك لا بد أن نتذكر في هذه النقطة أن الذين يتأخرون عن المبادرة إلى نصرة الله ورسوله وإعلاء كلمته، وإعزاز دينه، ولا يلتحقون بالركب ولا يسيرون في القافلة، إنما هم محرومون، فاتهم الخير الكثير؛ لأن الليلة الواحدة من السبق لا يمكن أن نتدارك بها، ليلة واحدة يسبقهم بها الداعون إلى الله والناصرون لدينه لا يستطيعون تعويضها أبداً؛ ولذلك قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100].

كذلك فإن الذين يتأخرون ويتربصون وينتظرون يوشك أن يحول ذلك بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة، فإن المنافقين يوم القيامة يحال بينهم وبين أهل الإيمان؛ فيضرب: بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ[الحديد:13-14]، كانوا معهم في هذه الحياة وأسماؤهم موحدة وأشخاصهم متفقة: ((أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ))، أي: عرضتم أنفسكم للفتنة، ((وَتَرَبَّصْتُمْ)) أي: انتظرتم، قلتم: حتى نعرف من الغالب في هذه المعركة، ((وَارْتَبْتُمْ)) أي: شككتم في وعد الله هل ينجز الله وعده للمؤمنين أو لا ينجزه، ((وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ)) كثير من الناس الآن يقولون: نحن الحمد لله من حزب الله، وسنكون من أهل الفردوس الأعلى من الجنة، وسنجاور النبي صلى الله عليه وسلم ونشرب من حوضه، وسيبيض الله وجوهنا يوم تبيض وتسود وجوه، وسيعطينا كتبنا بأيماننا، وسيظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وسننجو على الصراط ... إلى آخره، لكن هذه الأماني لا فائدة فيها إذا لم يصحبها عمل، قال تعالى: ((وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ))، وأمر الله هو الموت، ((وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)) وهو الشيطان.

فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ[الحديد:15]، يعني: لو بذلتم كل أموالكم وأرواحكم وأهليكم لأن تنجو من عذاب الله في هذا الوقت من يوم القيامة ما قبل الله ذلك منكم؛ ((وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا))، فهم ليسوا من الذين كفروا؛ بل هم من المنافقين؛ ولذلك قال: ((وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)).

ثم بعد هذا لا بد أن نعلم أن المتخلفين والمتخاذلين والمتأخرين عن نصرة هذا الدين يوشك أن يقال لهم ما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله في المنافقين: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ[التوبة:83].

لا يرتضي الله فتنتهم في الدين فيقتلهم ويطردهم عنه.