خطب ومحاضرات
بشائر النصر
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أحمد الله تعالى على الاجتماع بكم في هذا المكان الطيب المبارك في بيت من بيوت الله تعالى في هذا اليوم الذي هو أشرف أيام الأسبوع، والذي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: ( خير أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أرسل إليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، فما من دابة إلا وهي مطرقة مسيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة إلا الإنس والجن ).
فهذا الوقت المبارك الذي ثبت في الصحيحين والموطأ من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه: ( أن فيه ساعة الجمعة لا يصادفها عبد مؤمن يسأل الله حاجةً إلا أعطاه إياها ) وذلك في كل جمعة يجتمع في هذا البيت الذي أمر الله أن يرفع وأن يذكر فيه اسمه في جملة بيوته، ونلتقي في ذات الله عز وجل، وأن نتدارس كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يجمعنا لنؤمن بالله وحده، والكفر بالطواغيت كلها، نلتقي على هذا ونسأل الله تعالى أن يجمعنا بعد اجتماعنا هذا الذي منا به علينا في الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرشه جل وعلا، حين لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
إن الموضوع الذي اختاره الإخوة لجلستهم هذه هو بشائر النصر، موضوع مهم تشرئب الأنفس للتحدث فيه، وذلك أن النصر أمر محبوب، يحبه المؤمن، ويحبه الكافر، وهو أمر يحتاج إلى تحديد، ومفهومه الواقعي أن يكتب الله عز وجل العاقبة والتمكين لمن أراد نصره، ولا يكون النصر إلا من عند الله كما قال الله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10]، لذلك فإن النصر يحتاج إلى وسائل، وله مبشرات تسبقه، وله ظواهر بعد حصوله، فهذه العناصر الثلاثة هي التي سنتحدث عنها.
العمل وفق ما يرضي الله
العنصر الأول: أسباب النصر، لا شك أن ما عند الله عز وجل لا يطلب إلا بمرضاته، وأن النصر طلب عظيم عند الله تعالى، وهو من نعمه ومن فضائله، فلذلك لا يطلب إلا بما يرضي الله تعالى، فمن طلبه بعداوة الله أو بما يؤدي إلى سخط الله تعالى فقد ابتغى في الماء جذوة نار.
بذل النفس في سبيل الله
وكذلك من أسبابه: أن يبذل الشخص نفسه لله تعالى، وأن يؤمن بقدره وقضائه، فهذا سبب عظيم من أسباب النصر به الثبات الذي يكتب بعده النصر، ولهذا قص الله علينا في كتابه قصص السالفين الذين كتب لهم النصر من الأنبياء والذين تلوهم بإحسان، وذكر في تلك القصص ما يدل على قوة إيمانهم بالله تعالى، وبقضائه وقدره، وبين لنا ما لاقوه من المرارات في سبيل ذلك.
الاعتماد على الله في كل حال وعدم الاعتماد على النفس
ومن وسائل النصر: أن يجزم الشخص بأن كل ما أوتي من قوة وطاقة ليس صانعاً للنصر، إنما النصر من عند الله، فالله وحده هو الذي يكتبه لمن شاء، ومتى شاء، ولا يتعلق ذلك بعدد ولا بعدة، ولهذا قال الله تعالى في قصة بني إسرائيل حين كتب عليهم أن يقاتلوا أعداءهم وهم قلة، وامتحنهم قبل ذلك بكثير من الامتحانات -التي سنتعرض لها إن شاء الله في بشائر النصر- قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]، وأعاد التجربة في هذه الأمة الصالحة يوم حنين حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألف مجاهد في سبيل الله، فلما أعجبهم كثرتهم وعَددهم وعُددهم بين الله عز وجل لهم أن النصر إنما هو من عند الله، فليس نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمجاهدين المقاتلين، بل قد نصره الله تعالى إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، ولذلك عاتب المؤمنين على ما وجدوه في أنفسهم وتحدث به بعضهم، فقال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:25-26]، فهذه السكينة إنما تنزل من الله من النصر وبه انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والفئة القليلة هي ثبتت معه التي لا يتجاوز أعدادها مائةً من الرجال والنساء، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول وهو على ناقته الشهباء: ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب )، وهوازن في مائة وعشرين ألف مقاتل يولونه أدبارهم، وينهزمون أمامهم، والمسلمون ينتهبون ما خلفوه على آثارهم من الغنائم.
فإذاً هذا السبب الواضح الذي أظهره الله تعالى وأبداه هو نفسه، والذي كان المؤمنون قد فرحوا به يوم الأحزاب عندما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وجاءهم عدوهم من أعلاهم ومن أسفل، ولم يستطع أحد منهم أن يخرج إلى الخلاء من الهول والخوف في هذا الوقت أنزل الله عليهم جنوداً لم يروها، وأيدهم بنصره وتوفيقه، فجاءت الريح فهزمت المشركين وأعادتهم من حيث أتوا يجرون الخسائر، وتركت غنائمهم للمسلمين.
فهذا سبب من أسباب النصر يغفل عنه كثير من الناس، حتى إن كثيراً منهم يرى أن أعداء الله تعالى وطواغيت الأرض يوصفون بالنصر في بعض المواقف، وما ذلك إلا لتغير مفهوم النصر عند هذا الناطق الأبله الذي لا يدرك حقائق الأمور، فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وإن للباطل صولةً فيضمحل، كم هي الصولات التي ارتفع فيها قول أهل الباطل، وارتفعت فيها رءوسهم، ثم نكست من حيث أتت، وانتكست راياتهم، والتي تحقق غاياتهم، وأعز الله عز وجل دينه وأظهره بعز عزيز أو بذل ذليل، كل هذا يدلنا على أن الله عز وجل قادر على الانتصار من أعدائه، وأنه إنما يمتحن أولياءه بالصمود والصبر والتضحية في سبيل إقامة دينه وإعزازه، ولهذا قال الله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
ابتلاء الله لعبده ونبيه إبراهيم عليه السلام
إذاً النصر جاهز في الصناديق قبل المعركة، ولكن الله تعالى يدخره للامتحان، فإذا جاء الامتحان يأتي النصر للناجحين، للذين نجحوا وهو جائزتهم في نجاحهم.
وانظروا إلى رجل كان من السابقين، طرده الآشوريون ورموه في النار بالمنجنيق، فلما مسه حر النار حينما اقترب منها قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فخاطب الله النار فقال: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، وكان قد تألب عليه أبوه وإخوانه وبنو عمه وجميع عشيرته، وأرادوا أن يتخلصوا منه بشر متخلص حين رموه بالنار التي لا تستطيع الطير أن تمر بينها وبين السماء، فنصره الله تعالى هذا النصر العزيز، والمكبتة لأعدائه، وأخرجه من هذه النار، فآمن به لوط وخرج معه مهاجراً إلى الله عز وجل بعد أن ترك الدار والأهل والأنصار، فنصره الله تعالى وأعزه، وجعل له لسان صدق في الآخرين، فأمر محمداً صلى الله عليه وسلم باتباعه، وأمر أمته بأن يتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ما هذا إلا جائزة على نجاح إبراهيم في امتحان عظيم امتحنه الله به، وهذه الامتحانات إذا قرأتموها في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستعلمون أن كل ما تسمعون في العصور المتأخرة من الامتحانات لا يساوي شيئاً في جنب امتحانات إبراهيم .
عداوة آزر لإبراهيم
أولاً: عداوة أبيه، وحسد ذوي القربى كما تعلمون هو شر الحسد، ولذلك قال الحكيم من قبل:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً
فأشد ظلم المضاضة هو الظلم الصادر من ذوي القربى، وأبوه كان مهيئاً لأن ينصفه، ولذلك خاطبه إبراهيم بخطاب أديب مهذب وقال: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [مريم:44-45]، وعندما أراد أن يبلغ إليه رسالة ربه لم يقل: يا أبت! أنت جاهل وأنا عالم أوحى الله إلي بوحيه، وإنما قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43]، لم ينكر أن لأبيه حظاً من العلم، قال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً [مريم:43]، مع هذا فإنه خاطبه بهذا اللفظ الذي يخاطب به الابن البر أباه (يا أبت)، ومع هذا خاطبه أبوه اشر خطاب وناداه باسمه الصريح فقال: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46]، مع ذلك يجيبه إبراهيم بآدب جواب فيقول: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً [مريم:47-48].
رمي إبراهيم عليه السلام في النار
ثم امتحن برميه في النار بعد أن أقام الحجة على أصحابه حتى سلموا ورأوا الحق بأعينهم وانتكسوا على رءوسهم، وأنكروا ما أقرت به العواطف من قبل قلوبهم عندما خاطبهم فقال: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ [مريم:42]، حينما أقام عليهم الحجة في ذلك، وقص الله ذلك في مواضع من كتابه، فقال تعالى في سورة الأنبياء: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:51-54].
هنا كان استدلال إبراهيم استدلالاً عقلياً بحجته الناضحة والواضحة، وكان جواب أصحابه بجواب عاطفي بمجرد التقليد، والتقليد لا يكون إلا عن جهل، ولهذا قال الحكيم:
عرف العالمون فضلك بالعلم وقال الجهال بالتقليد
التقليد لا يكون إلا عن جهل، وهؤلاء ما لهم حجة إلا أنهم وجدوا آباءهم على هذه الحجة، وهذه الحجة الواهية هي التي أخبرنا الله تعالى أن كل ملأ من الذين يدعون إلى الله تعالى يلقي عليهم الشيطان هذه الشبهة، وهي مقابل يلقي الله الحجة على ألسنة أوليائه، وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83].
فهنا قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:53-61]، هنا سيحاكمونه محاكمةً عملية، ويخرجون إقراره أمام الناس بفعلته هذه الشنعاء، وما هي الفعلة الشنعاء التي يخرج بها إقرار إبراهيم على النذير، ويعلن للناس كلهم في أنه حطم الأصنام، وأنكر ألوهيتها من دون الله.
نشر الشائعات
إذاً هذا الإقرار الذي تقوم به وسائل الإعلام ضد إبراهيم وتنشره وتطبل له هو أنه حطم الأصنام، هذا ذنبه: قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ [الأنبياء:61]، (على أعين الناس) لو كانت لديهم وسائل إعلام مرئية لأخرجوه في تجهيزاتهم أمام الناس، فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:61-63]، فانظروا إلى إقامة الحجة عليهم، فهو يقول: أنتم كأنكم حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، فإذا كنتم تدينون بأن هذه الحجارة تنفع وتضر فلماذا لا ترد على أنفسها؟ وأيضاً فإن حالتها مثل حالتكم، فهي تخضع لكبيرها وطاغوتها.
فما هو أكبر منها في الحجم وأقدر منها في الطاقة يتصرف فيها ويهدمها ويحطمها فكذلك أنتم، ملككم وهو نمرود يتحكم فيكم وفي مصائركم فكأنه هذا الصنم الذي هو أكبر الأصنام، فقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، هنا جاء دور العقل فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، فهم عرفوا أن الأصنام لا يمكن أن تجيب، وأنها لا يمكن أن تدرك، فصارحوهم بهذا قبل أن يفكروا في عواطفهم، صارحوهم بمنطق العقل دون تفكير في العاطفة، لكن لما نكسوا على رءوسهم ورجعوا إلى عواطفهم قالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:65-67]، حينئذ عرفوا أنه لا يمكن أن يقاوم بالحجج ولا بالشبه، فأرادوا التخلص منه، وكان هذا امتحان لـإبراهيم نجح فيه.
إخراج المشركين لإبراهيم عليه السلام من بلده
ثم جاء الامتحان الثاني بأن أخرج من دياره ومن أوطانه، وأخرج إلى أرض لا يعرف لغةً فيها، وليس له فيها أي ملك ولا وطن، والقلوب مفطورة على حب أوطانها، ثم بعد هذا امتحن بأن رزق ولداً صالحاً عالماً حليماً على كبر سنه بعد أن قنط وأيس من الولد، ثم امتحن بأن يرمي هذا الولد وأمه في واد موحش لا ماء فيه ولا مرعى، فبادر إبراهيم إلى تنفيذ أمر الله عز وجل، فقالت له تلك المرأة المسكينة: ( يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، فقالت: إذاً لا يضيعنا الله )، فكانت هذه المرأة مؤمنةً حقاً فنجحت هي الأخرى في هذا الامتحان، فأخرج الله لها المعجزة العظيمة التي ما زالت حتى الآن آثارها مشاهدة، وجعل هذا المكان الذي أخرجت إليه هذه المرأة وهذا الولد الصغير مثابةً للناس وأمناً إلى يوم القيامة، وجعلت قبلةً للمسلمين يتجهون إليها في مشارق الأرض ومغاربها، ثم بعد نجاح إبراهيم في هذا الامتحان بعد أن بلغ ولده الحلم أتاه امتحان آخر وهو أن أمره الله بذبح ولده هذا، وهذا الامتحان هو أعظم من سابقه؛ لأنه سيكون مباشراً للتخلص من ولده بالذبح، مع هذا نجح إبراهيم في الامتحان، فقال لولده: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
تمكين الله لإبراهيم وجعله إماماً للناس
ثم لما نجح إبراهيم في هذا الامتحان وأتمه أعطاه الله الجائزة بنصره على أهل الأرض وأهل السماء، وجعله في مكان علي في السماء السابعة، فقد لقيه رسولنا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وجده في السماء السابعة مسند ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو تدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولم تدخله قبل ذلك اليوم، وجعل الله له لسان صدق في الآخرين كما تمنى ذلك على ربه في قوله: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:78-89].
هذا الحكم الذي سأل الله تعالى جعله له جائزة على النجاح في الامتحان فقال تعالى حكايةً عن ذلك: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].
جعله الله تعالى إماماً للناس في الدنيا والآخرة جائزة على هذه الامتحانات العظام التي سماها الله تعالى كلمات، وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] هذه شهادة من رب العزة والجلال أن إبراهيم نجح في الامتحان وأتمه مائةً بالمائة، فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124]، لم يصل إبراهيم إلى الإمامة بالأصوات وعن طريق الديمقراطية، ولم يصل إليها بانقلاب عسكري، ولم يصل إليها بثورة اقتصادية أو زراعية، وإنما وصل إليها بتكليف وتشريف من رب السموات والأراضين الذين فطرهن ونحن على ذلك من الشاهدين.
فأقامه الله تعالى إماماً للناس، وأناله سلطة الزمان في الدنيا، وأناله الشرف الأخروي وعلو المنزلة عند الله تعالى، وجعل من ذريته خيرته من خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يتبع ملته، وجعل المؤمنين جميعاً من ذرية إبراهيم ، لاحظوا معي هنا، فنحن عندنا بمعيار الدنيا ننسب الناس إلى الأنساب بحسب الإثنات، أو بحسب السلالات، ولكن النسب عند الله تعالى يحصل بأمور أخرى، فالله تعالى خاطب المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78]، والمؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ليسوا من سلالة واحدة، فيهم من هو من ذرية إسماعيل ، وفيهم من هو من ذرية يعقوب ، وفيهم من ليس من ذرية إبراهيم باعتبار النسب الدنيوي، ولكن باعتبار النسب الديني، فـإبراهيم أب لكل المؤمنين، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78].
هذا الآن النصر الذي أعطى الله تعالى لـإبراهيم لا يمكن أن ينكره أحد، ولكنه مع ذلك لم يتحقق في مدة واحدة، وإنما جاء في مدد متفرقة وفي أزمنة متفاوتة، وهذا ما سنذكره إن شاء الله تعالى في مظاهر النصر.
اللجوء إلى الله والثقة به
ومن أسباب النصر: اللجاء إلى الله تعالى، فإن الله تعالى يمتحن عباده بمحن عظيمة، فإذا رأى منهم الصبر واللجاء إليه أكسبهم النصر، ولهذا انظروا إلى موسى حين أرسله الله تعالى لإخراج قومه من طاغوت مصر فرعون ، جاء فلما أسلم له بنوا إسرائيل وانقادوا وأقاموا الحجة على فرعون لو نفعته الحجج، والله تعالى لم يشاء الهداية لـفرعون ، أمره الله أن يخرج قومه في الثلث الأخير من الليل وهم عصابة قليلة مستضعفة، فأخرجهم موسى .
فلما وصلوا إلى ضفاف البحر الأحمر إذا فرعون من ورائهم، وإذا الشمس تطلع أمامهم فتريهم البحر، فكأن قائلهم يقول: يا هادي الطريق جرت، إنما أمامك البحر أو الهجر، فيقوم موسى فيقول: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فحينئذ لما رأوا بأعينهم أن العذاب قد حل بهم، وأن الهزيمة قد وقعت جاء نصر الله تعالى في هذا الوقت الحرج، فأمر الله عبده موسى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فجعل الله البحر اثني عشر طوداً من الماء، كل واحد كالجبل الراسخ، بينه وبين الآخر أرض يبس لا تخاف دركاً ولا تخشى، فأخرج الله منها بني إسرائيل.
فلما تبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا في البحر أمر الله البحر أن تلتطم أمواجه فوق فرعون وأصحابه، فالتطمت الأمواج من فوقهم، وذهب كل ما كانوا فيه من سلطان في لحظة واحدة بأمر الله عز وجل الذي لا معقب لحكمه، فقال الله تعالى: كن، فكان الأمر على ما أراد سبحانه وتعالى في لحظة عين أو أقل من ذلك.
هنا تقوضت هذه الدولة العظيمة وهي دولة الفراعنة التي دامت آلاف السنين، وطغت وبغت، وصرفت الأنهار والسفن، وصنعت المصانع لعلها تخلد، ونحتت التماثيل والصور، تقوضت كلها في لحظة عين أو أقل من ذلك، وكتب الله البقاء والسيطرة لنبيه صلى الله عليه وسلم، فنصره الله تعالى هنا لا بجند ولا بعدة ولا بعتاد، وإنما بإيمانه بالله تعالى، وتصديقه بوعده، وهذا عندما رأى من بني إسرائيل الإيمان كتب لهم النصر.
وفي هذا خاطبنا الله تعالى مستبطناً لهذه القصة في قوله: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ [الصافات:114-116].
فهذا النصر الواضح من عند الله تعالى به كانت الغلبة لهذا الملأ المشرف، وهذا السبب بالذات من الأسباب وهو اللجاء إلى الله تعالى في وقت الأزمة، ولهذا قال الله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43]، فوقت الأزمات يكون اللجاء إلى الله تعالى سبباً من أسباب النصر، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43]، فالله تعالى يرشد إلى الضراعة إليه وسؤاله في وقت الأزمات.
وهذا ما حققه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في اليوم السابع عشر من رمضان عندما كان مواجهاً لقريش ومن معها ولإبليس وجنوده في بدر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة من أصحابه، وليس معهم من السيوف إلا ثمانية، وليس لهم من الخيل إلا ثلاث، ويقفون في وجه أكبر جيش في جزيرة العرب في ذلك الوقت جيش قريش، وفيه ألف مقاتل، أي: ألف سيف في مقابل ثمانية أسياف.
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى ما وعده من النصر حتى سقط رداءه عن كتفيه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه الصديق فقال: ( يا رسول الله! حسبك من استنصار ربك، فإن ربك لا يخلف الميعاد )، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم هذا، ولكنه يعلم أن السنة الكونية أنه في وقت الأزمات لا بد من استنصار الله تعالى واللجأ إليه، وكثرة الضراعة بين يديه.
وهذا ما تحقق في ذلك الموقف العظيم الذي أعز الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه خمسة آلاف من الملائكة مسومين، وهزم أعداءه أمامهم، فسلطه على رقابهم، فأعطوه ما وعده، فكان صلى الله عليه وسلم يقتل من شاء منهم صبراً، ويأسر من شاء، وغنم كل ما كان في أيديهم، وتتكرر هذه التجربة في المواقع كلها.
التمسك بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم
كذلك من أسباب النصر: التحقق من سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فنصر هذه الأمة كله نصر لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ولذلك ثبت في صحيح البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يخرج البعث، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يخرج البعث فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يخرج البعث فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).
فإذاً كان الفتح والنصر لهذه الأمة تتميماً لنصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك فإن المؤمنين قد جربوا في كل سقوفهم وقتالهم في جميع تاريخهم الطويل الممتد أنهم كلما تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الله عليهم النصر المبين.
وتحضرني الآن قصة من هذا وهي من آلاف القصص في هذا المجال، وهي قصة قتيبة رضي الله عنه حين حاصر مدينةً من مدن القوقاز، وكان معه أصحابه، وفيهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصروا هذه المدينة شهراً فلم تفتح عليهم، فقال قتيبة للجيش: إنكم قد تركتم سنةً من سنن نبيكم فانظروا ما هي، فإن الله لم يكن ليؤجل عنكم النصر إلا بترك السنة، فتذكر مشايخهم فقالوا: لعل ما ترك السواك، وكانوا في أرض قليلة الشجر، فأخرجوا الخيل تبحث عن الشجر فأتوهم بالسواك، وكان ذلك في وقت الضحى، فبدأ المسلمون يستاكون، فلما رآهم عدوهم قالوا: هؤلاء يحدون أسنانهم ليأكلونا وظنوا أنهم يحدون أسنانهم ليأكلون بها، والواقع أنهم يريدون تطبيق سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الله تعالى أمسك النصر عنهم، وأخره ليتذكروا هذه السنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير هذا كثير.
العنصر الأول: أسباب النصر، لا شك أن ما عند الله عز وجل لا يطلب إلا بمرضاته، وأن النصر طلب عظيم عند الله تعالى، وهو من نعمه ومن فضائله، فلذلك لا يطلب إلا بما يرضي الله تعالى، فمن طلبه بعداوة الله أو بما يؤدي إلى سخط الله تعالى فقد ابتغى في الماء جذوة نار.
وكذلك من أسبابه: أن يبذل الشخص نفسه لله تعالى، وأن يؤمن بقدره وقضائه، فهذا سبب عظيم من أسباب النصر به الثبات الذي يكتب بعده النصر، ولهذا قص الله علينا في كتابه قصص السالفين الذين كتب لهم النصر من الأنبياء والذين تلوهم بإحسان، وذكر في تلك القصص ما يدل على قوة إيمانهم بالله تعالى، وبقضائه وقدره، وبين لنا ما لاقوه من المرارات في سبيل ذلك.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4839 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4062 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4003 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3935 استماع |
اللغة العربية | 3932 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3898 استماع |
أسماء الله الحسنى [2] | 3876 استماع |