اللغة العربية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن من ألطاف الله تعالى ونعمته ورحمته أن جعل للناس لساناً يتفاهمون به، فإن الناس يحتاج بعضهم إلى بعضٍ، ولا يمكن أن يقوم أحدٌ منهم بحاجته دون بعض، ولا يمكن أن يستقل إنسان بقضاء أموره، ولا بأداء مهماته، إلا إذا وجد من يساعده على ذلك.

ومن هنا فيحتاج الناس إلى التفاهم فيما بينهم والتعارف، فجعل الله لهم وسائل للتعارف، ومن أعظمها الأنساب، حيث قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13] .

وجعل لهم وسائل للتفاهم، وأعظمها اللغات، ولهذا ربط الله بين الألوان واللغات، وبين خلق السماوات والأرض في قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ[الروم:22] .

وسائل التفاهم

البشر لا يمكن أن يتفاهموا إلا عن طريق وسائل الحس، وهي الحواس الخمس؛ لأن وسائل العلم لدى الإنسان ثلاث هي: العقل، والروح، والحس:

والعقل لا يمكن أن يتفاهم عن طريقه؛ لأنه من الأمور المعنوية غير الحسية.

والأرواح يمكن أن تتعارف، لكن لا يمكن أن تتفاهم، ولهذا حصل التعارف بينها في عالم الذر، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري تعليقاً في الصحيح، وأخرجه مسلم مسنداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).

لكن التفاهم إنما يتم عن طريق إحدى هذه الحواس، وهذه الحواس مدركاتها هي المسموعات والمبصرات، والملموسات، والمشمومات، والمذوقات.

وقد جعل الله تعالى أصناف الحيوان تتفاهم عن طريق هذه الوسائل، فمن الحيوانات ما يتفاهم عن طريق إفراز رائحةٍ يحصل بها التفاهم والتعارف بفطرة الله لها على ذلك، كالنحل وغيره من الحيوانات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق السمع، وما يمكن تفاهمه عن طريق البصر بالإشارات والحركات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق اللمس، لكن الذوق لا يمكن أن يحصل التفاهم عن طريقه؛ لأن الطعوم محصورة، وقد صرح العلماء بأن أنواع الطعوم خمسة هي: الحلاوة، والمرارة، والمزية، والملحية، والتفاهة، فهذه خمس هي أصل الطعوم كلها.

أما المرئيات المشاهدات، وكذلك المسموعات، فهي كثيرة جداً يمكن التفاهم عن طريقها، وبهذا تخلص لنا جارحتان للتفاهم فيما بين الإنسان فالتفاهم بين بني آدم لا يتم إلا عن طريق السمع، أو عن طريق البصر.

أما عن طريق السمع فإنهم بالإمكان أن يسمعوا الكلام، وأما عن طريق البصر، فإنهم بالإمكان أن يقرءوا الكتابة، وأن يفهموا الإشارات، وهاتان الوسيلتان يمكن أن تفي بمقصود الإنسان، لكن جعل الله بعض بني آدم عمياً وجعل بعضهم صماً، فالعميان لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق البصر مع غيرهم، والصم لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق السمع مع غيرهم، فبقي التوازن بين هاتين الحاستين، لكنه جعل الزمن أيضاً مقسوماً بين ليل ونهار، وقد محا الله آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، وبذلك ازدادت نسبة العميان في البشر بوجود الليل، فكان التفاهم عن طريق السمع أقوى وأوسع من التفاهم عن طريق البصر، ومن هنا جعل الله هذه اللغات هي أساس التفاهم بين الناس.

نشأة اللغات

وقد علم الله آدم الأسماء كلها كما أخبر بذلك في كتابه: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا[البقرة:31] ، وهذا التعليم اختلف فيه الناس هل كان عن طريق الوحي والتوقيف، أو كان عن طريق الإلهام والإلقاء؟ وكل ذلك ممكن، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، لكن اتفق الناس على أن ما يتجدد من دلالات الألفاظ، وما يطرأ من المجازات، إنما هو عن طريق الإلهام، ويضع الله القبول على بعض المصطلحات، فتشيع بين الناس.

ومن هنا فكل جديد يطلق الناس عليه عدة أسماء باعتبار أذواقهم، ولكنه سيثبت له اسم واحد يضع الله له القبول بين غيره من الأسماء، فمثلاً: عندما صنع أول جهاز (كمبيوتر) في الولايات المتحدة في جامعة (بنسلفانيا) سمي في البداية النظامة، ثم سمي الرتابة، ثم سمي الحاسوب، ثم سمي بالحاسب الآلي، ثم سمي بعد ذلك بالعقل الإلكتروني، وهذه الأسماء كلها لبعض وظائف هذه الآلة، لكن بتطور الزمان وبتطور الدلالات، لابد أن يثبت اسمٌ واحدٌ لهذه الآلة يكون اسماً عالمياً مشهوراً.

وكذلك لما طرأت آلة الفاكس للإرسال الكتابي عن طريق الاتصالات الهاتفية، إما عن طريق الكيبلات، أو عن طريق الأقمار الصناعية، أو عن طريق الألياف الزجاجية، سميت في البداية بـ(الناقل)، ثم سميت بـ(الهاتف الكاتب)، ثم سميت بعد ذلك بـ ( الكاتوب )، وغيرها من المصطلحات، فبتطور الزمان سيختار اسمٌ واحدٌ يضع الله له القبول وينتشر بين الناس.

لا شك أن البشر متنوعون في الأذواق وفي البيئة، وفي أنماط الحياة، وبسبب ذلك تنوعت لغاتهم واختلفت، وقد نص العلماء على أن الله تعالى علم آدم اثنتين وسبعين لغة، وهي أصول لغات العالم، وهذه اللغات أصلها أربع فقط، ومنها تتشعب بقية اللغات كلها، حتى تصل إلى العدد الموجود اليوم.

ففي الهند وحدها أربعمائة وخمسون لغة! وهي دولة واحدة، وهذه اللغات بعضها يكون مشتقاً من بعض بالتداخل، كحال اللغة الفارسية مع اللغة البشتونية، واللغة الأوردية كذلك مع الفارسية ومع العربية، واللغة التركية كذلك مع اللغة العربية في التداخل في كثير من المفردات.

وكذلك فإن بعض اللغات يكون قابلاً للتطور بسرعة هائلة، فتتجدد دلالاته ومصطلحاته، ومن ذلك اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية إلى حد ما فإن ألفاظها تتناقل وتتجدد، ومن هنا فنسبة (10%) من اللغة الفرنسية هو من الكلمات المنقولة، إما من اللغة الإغريقية أو من اللغة الرومانية، أو غيرها من اللغات، حتى من اللغة العربية.

لكن هذه اللغات، سواء كانت توقيفية أو كانت إلهامية، فإن كل ذلك يرجع إلى الاختيار الرباني، والاصطفاء الإلهي، والقبول الذي يضعه الله للكلمات حتى تتناسب مع الأذواق، فالحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته ووصف الكمال والنقص أمرٌ عقلي، وبمعنى ترتب الثواب والعقاب عاجلاً أو آجلاً أمر شرعي، ومن هنا حصل الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يتعلق بالتحسين والتقبيح، والخلاف ينبغي أن يكون لفظياً؛ لأن الحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، لا شك أن هذا راجع إلى العقل، أما الحسن والقبح بمعنى ترتب الثواب والعقاب، فهذا شرعيٌ قطعاً لا بد فيه من وحي، فالخلاف يمكن أن يرجع إلى خلاف لفظي ولا تترتب عليه أحكام كثيرة.

اصطفاء الله للغة العربية من بين اللغات

وإذا كان الأمر كذلك، وكان الأمر راجعاً إلى أن الله سبحانه وتعالى يضع القبول على بعض الكلمات، فتناسب أذواق أكبر عدد من البشر، فإن اللغة العربية قد اصطفاها الله على غيرها من اللغات، وشرفها على غيرها من اللغات، وتكلم بها سبحانه وتعالى بهذا القرآن الذي تحدى الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، فأقصر سورة في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات، وقد تحدى الله الثقلين الإنس والجن على مر الدهور، أن يأتوا بسورة من مثلها، وقد وجدت كثير من المحاولات، وباءت كلها بالفشل؛ بل إن تلك المحاولات إذا سمع العقلاء بعضها ضحكوا واشتد هزؤهم منها، كمحاولات مسيلمة الكذاب ، فهي غاية في السخافة، وعدم الانسجام، وذلك أنه اتجه إلى اتجاه واحد، وهو تركيب الألفاظ دون النظر إلى الإعجاز المعنوي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، وغيرها من أنواع الإعجاز التي جعلها الله في القرآن.

إذاً: اختيار هذه اللغة هو اختيار رباني بوحي من عند الله سبحانه وتعالى، واصطفاء منه، لا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولو جاء الناس فصوتوا وجاءت أغلبيتهم على رفض هذه اللغة؛ فإن ذلك لا يقلل نفوذها، ولا يقلل القبول الذي جعل الله لها؛ لأنه اصطفاء من عند الله لا يستطيع الناس رفضه ولا تجاهله، ومن هنا فإن الغربيين الذين يفخرون بلغاتهم، ويزعمونها اللغات العالمية المسايرة لتطور العالم، لا يزال فيهم من مثقفيهم وقادتهم وعلمائهم من يتخصص في دراسة اللغة العربية، ويخصص وقته لها.

وفي العصر الماضي اشتهر عدد كبير من هؤلاء، مثل بروكلمان، ومثل يوسف شخت من كبار المستشرقين الذين عنوا باللغة العربية، ونشروا كثيراً من مخطوطاتها، ودرسوها وحفظوا كثيراً من أشعار العرب، وصرح كثير منهم بأن هذه اللغة لا تعدلها أي لغة، وأذكر أننا في العام الماضي قابلنا أحد المستشرقين الكبار في جامعة في سكوتلاند في شمال بريطانيا، فذكر أنه قد خلد شهادته بأن اللغة العربية لا تعدلها لغة ولا تساويها في السمو والارتقاء، ولا في الذوق، ولا في الاتساع، وأنه كتب هذه الشهادة في جامعته وخلدها قبل ثلاثين سنة، وهذا كلام الأعداء، والحق ما شهدت به الأعداء.

البشر لا يمكن أن يتفاهموا إلا عن طريق وسائل الحس، وهي الحواس الخمس؛ لأن وسائل العلم لدى الإنسان ثلاث هي: العقل، والروح، والحس:

والعقل لا يمكن أن يتفاهم عن طريقه؛ لأنه من الأمور المعنوية غير الحسية.

والأرواح يمكن أن تتعارف، لكن لا يمكن أن تتفاهم، ولهذا حصل التعارف بينها في عالم الذر، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري تعليقاً في الصحيح، وأخرجه مسلم مسنداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).

لكن التفاهم إنما يتم عن طريق إحدى هذه الحواس، وهذه الحواس مدركاتها هي المسموعات والمبصرات، والملموسات، والمشمومات، والمذوقات.

وقد جعل الله تعالى أصناف الحيوان تتفاهم عن طريق هذه الوسائل، فمن الحيوانات ما يتفاهم عن طريق إفراز رائحةٍ يحصل بها التفاهم والتعارف بفطرة الله لها على ذلك، كالنحل وغيره من الحيوانات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق السمع، وما يمكن تفاهمه عن طريق البصر بالإشارات والحركات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق اللمس، لكن الذوق لا يمكن أن يحصل التفاهم عن طريقه؛ لأن الطعوم محصورة، وقد صرح العلماء بأن أنواع الطعوم خمسة هي: الحلاوة، والمرارة، والمزية، والملحية، والتفاهة، فهذه خمس هي أصل الطعوم كلها.

أما المرئيات المشاهدات، وكذلك المسموعات، فهي كثيرة جداً يمكن التفاهم عن طريقها، وبهذا تخلص لنا جارحتان للتفاهم فيما بين الإنسان فالتفاهم بين بني آدم لا يتم إلا عن طريق السمع، أو عن طريق البصر.

أما عن طريق السمع فإنهم بالإمكان أن يسمعوا الكلام، وأما عن طريق البصر، فإنهم بالإمكان أن يقرءوا الكتابة، وأن يفهموا الإشارات، وهاتان الوسيلتان يمكن أن تفي بمقصود الإنسان، لكن جعل الله بعض بني آدم عمياً وجعل بعضهم صماً، فالعميان لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق البصر مع غيرهم، والصم لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق السمع مع غيرهم، فبقي التوازن بين هاتين الحاستين، لكنه جعل الزمن أيضاً مقسوماً بين ليل ونهار، وقد محا الله آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، وبذلك ازدادت نسبة العميان في البشر بوجود الليل، فكان التفاهم عن طريق السمع أقوى وأوسع من التفاهم عن طريق البصر، ومن هنا جعل الله هذه اللغات هي أساس التفاهم بين الناس.

وقد علم الله آدم الأسماء كلها كما أخبر بذلك في كتابه: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا[البقرة:31] ، وهذا التعليم اختلف فيه الناس هل كان عن طريق الوحي والتوقيف، أو كان عن طريق الإلهام والإلقاء؟ وكل ذلك ممكن، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، لكن اتفق الناس على أن ما يتجدد من دلالات الألفاظ، وما يطرأ من المجازات، إنما هو عن طريق الإلهام، ويضع الله القبول على بعض المصطلحات، فتشيع بين الناس.

ومن هنا فكل جديد يطلق الناس عليه عدة أسماء باعتبار أذواقهم، ولكنه سيثبت له اسم واحد يضع الله له القبول بين غيره من الأسماء، فمثلاً: عندما صنع أول جهاز (كمبيوتر) في الولايات المتحدة في جامعة (بنسلفانيا) سمي في البداية النظامة، ثم سمي الرتابة، ثم سمي الحاسوب، ثم سمي بالحاسب الآلي، ثم سمي بعد ذلك بالعقل الإلكتروني، وهذه الأسماء كلها لبعض وظائف هذه الآلة، لكن بتطور الزمان وبتطور الدلالات، لابد أن يثبت اسمٌ واحدٌ لهذه الآلة يكون اسماً عالمياً مشهوراً.

وكذلك لما طرأت آلة الفاكس للإرسال الكتابي عن طريق الاتصالات الهاتفية، إما عن طريق الكيبلات، أو عن طريق الأقمار الصناعية، أو عن طريق الألياف الزجاجية، سميت في البداية بـ(الناقل)، ثم سميت بـ(الهاتف الكاتب)، ثم سميت بعد ذلك بـ ( الكاتوب )، وغيرها من المصطلحات، فبتطور الزمان سيختار اسمٌ واحدٌ يضع الله له القبول وينتشر بين الناس.

لا شك أن البشر متنوعون في الأذواق وفي البيئة، وفي أنماط الحياة، وبسبب ذلك تنوعت لغاتهم واختلفت، وقد نص العلماء على أن الله تعالى علم آدم اثنتين وسبعين لغة، وهي أصول لغات العالم، وهذه اللغات أصلها أربع فقط، ومنها تتشعب بقية اللغات كلها، حتى تصل إلى العدد الموجود اليوم.

ففي الهند وحدها أربعمائة وخمسون لغة! وهي دولة واحدة، وهذه اللغات بعضها يكون مشتقاً من بعض بالتداخل، كحال اللغة الفارسية مع اللغة البشتونية، واللغة الأوردية كذلك مع الفارسية ومع العربية، واللغة التركية كذلك مع اللغة العربية في التداخل في كثير من المفردات.

وكذلك فإن بعض اللغات يكون قابلاً للتطور بسرعة هائلة، فتتجدد دلالاته ومصطلحاته، ومن ذلك اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية إلى حد ما فإن ألفاظها تتناقل وتتجدد، ومن هنا فنسبة (10%) من اللغة الفرنسية هو من الكلمات المنقولة، إما من اللغة الإغريقية أو من اللغة الرومانية، أو غيرها من اللغات، حتى من اللغة العربية.

لكن هذه اللغات، سواء كانت توقيفية أو كانت إلهامية، فإن كل ذلك يرجع إلى الاختيار الرباني، والاصطفاء الإلهي، والقبول الذي يضعه الله للكلمات حتى تتناسب مع الأذواق، فالحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته ووصف الكمال والنقص أمرٌ عقلي، وبمعنى ترتب الثواب والعقاب عاجلاً أو آجلاً أمر شرعي، ومن هنا حصل الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يتعلق بالتحسين والتقبيح، والخلاف ينبغي أن يكون لفظياً؛ لأن الحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، لا شك أن هذا راجع إلى العقل، أما الحسن والقبح بمعنى ترتب الثواب والعقاب، فهذا شرعيٌ قطعاً لا بد فيه من وحي، فالخلاف يمكن أن يرجع إلى خلاف لفظي ولا تترتب عليه أحكام كثيرة.

وإذا كان الأمر كذلك، وكان الأمر راجعاً إلى أن الله سبحانه وتعالى يضع القبول على بعض الكلمات، فتناسب أذواق أكبر عدد من البشر، فإن اللغة العربية قد اصطفاها الله على غيرها من اللغات، وشرفها على غيرها من اللغات، وتكلم بها سبحانه وتعالى بهذا القرآن الذي تحدى الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، فأقصر سورة في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات، وقد تحدى الله الثقلين الإنس والجن على مر الدهور، أن يأتوا بسورة من مثلها، وقد وجدت كثير من المحاولات، وباءت كلها بالفشل؛ بل إن تلك المحاولات إذا سمع العقلاء بعضها ضحكوا واشتد هزؤهم منها، كمحاولات مسيلمة الكذاب ، فهي غاية في السخافة، وعدم الانسجام، وذلك أنه اتجه إلى اتجاه واحد، وهو تركيب الألفاظ دون النظر إلى الإعجاز المعنوي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، وغيرها من أنواع الإعجاز التي جعلها الله في القرآن.

إذاً: اختيار هذه اللغة هو اختيار رباني بوحي من عند الله سبحانه وتعالى، واصطفاء منه، لا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولو جاء الناس فصوتوا وجاءت أغلبيتهم على رفض هذه اللغة؛ فإن ذلك لا يقلل نفوذها، ولا يقلل القبول الذي جعل الله لها؛ لأنه اصطفاء من عند الله لا يستطيع الناس رفضه ولا تجاهله، ومن هنا فإن الغربيين الذين يفخرون بلغاتهم، ويزعمونها اللغات العالمية المسايرة لتطور العالم، لا يزال فيهم من مثقفيهم وقادتهم وعلمائهم من يتخصص في دراسة اللغة العربية، ويخصص وقته لها.

وفي العصر الماضي اشتهر عدد كبير من هؤلاء، مثل بروكلمان، ومثل يوسف شخت من كبار المستشرقين الذين عنوا باللغة العربية، ونشروا كثيراً من مخطوطاتها، ودرسوها وحفظوا كثيراً من أشعار العرب، وصرح كثير منهم بأن هذه اللغة لا تعدلها أي لغة، وأذكر أننا في العام الماضي قابلنا أحد المستشرقين الكبار في جامعة في سكوتلاند في شمال بريطانيا، فذكر أنه قد خلد شهادته بأن اللغة العربية لا تعدلها لغة ولا تساويها في السمو والارتقاء، ولا في الذوق، ولا في الاتساع، وأنه كتب هذه الشهادة في جامعته وخلدها قبل ثلاثين سنة، وهذا كلام الأعداء، والحق ما شهدت به الأعداء.

إننا في بحثنا في أهمية أي شيء ننظر فيه من ناحية الحكم الشرعي، ثم من ناحية الفائدة والمصلحة البشرية، فلنبدأ أولاً بحكم الشرع في لغة العرب، وتعلمها فنقول:

القدر الواجب تعلمه من اللغة على الأعيان

إن الله سبحانه وتعالى قد فرض على كل من آمن به تعلم جزء من العربية، وبهذا تكون العربية فرض عين على كل إنسان بقدر ما يقيم به ألفاظ الفاتحة، وبقدر ما يتقن به التكبير والتشهد والسلام في الصلاة، فهذا القدر من العربية فرض عين على كل مسلم، ولا يسع مسلماً جهله.

وهذا القدر اختلف الناس في تحديده؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ[المزمل:20] ، والناس تتباين رؤاهم في تحديد هذا القدر الذي هو أقل ما يخاطب به الإنسان من تعلم العربية، فقال قوم: لا بد أن يصل إلى مستوى يفهم به ألفاظ الفاتحة، وألفاظ التشهد، وألفاظ الدعاء المأمور به على سبيل الوجوب، وكذلك ألفاظ الأذكار التي تجب مرة في العمر بالتهليل والاستغفار، والتسبيح والتحميد وغير ذلك، فيجب عليه أن يتعلم معانيها بالعربية، وهذا القول هو الراجح، ومن القائلين به مالك و الأوزاعي و سفيان الثوري ، وغيرهم من كبار علماء السلف، فرأوا أنه يجب على الإنسان المسلم أن يتعلم معاني هذه الكلمات؛ لأنه لو قال: لا إله إلا الله دون أن يفقه معناها، فيمكن أن تلقن هذه الكلمة لأي إنسان، ولا يلزم بمقتضياتها، ولذلك فإن شهادة أن لا إله إلا الله لها أربع مقتضيات، من لم يحقق هذه المقتضيات الأربع فليس شاهداً أن لا إله إلا الله:

فالمقتضى الأول: هو العلم بمعناها.

والمقتضى الثاني: هو مقتضى القول: أن ينطق بذلك؛ لأنها مشروطة على القادرين، فلا يدخل الإنسان الإيمان وهو قادر على النطق إلا إذا نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

المقتضى الثالث: هو أن يلتزم بحقوقها التي يقاتل عليها من تركها: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها).

المقتضى الرابع: هو الإلزام بها، وهو أن يسعى الإنسان لنشر لا إله إلا الله، وتوسيع دائرة القائلين بها، وإلزام الناس بها.

فهذه المقتضيات الأربع هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، وقد توسع بعض المتأخرين من المتكلمين في هذا الباب، فقد ذكر عليش في شرحه لأم البراهين في العقائد الأشعرية للسنوسي : أن من لم يفهم ما تتناوله شهادة أن لا إله إلا الله من العقائد، وهو خمسٌ وستون عقيدة على مقتضى عد المتكلمين؛ فإنه لم يؤد مقتضياتها.

وهذا تشدد ومبالغة لا محالة، ولكنه يدلنا على أهمية فهم شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا كان بعض أهل العلم يرون أنك إذا لم تحقق مقتضياتها جميعاً وهي خمسٌ وستون عقيدة، فمعنى ذلك أنك لم تفهمها؛ فهذا يدلنا على أهمية تعلم اللغة التي يفهم بها معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

وإن الذي يدعو وهو لا يفهم ما يدعو به، أو يثني على الله وهو لا يفهم معنى ما يثني به، لا يمكن أن ينال أجر ما يقول؛ لأن الصلاة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليصلي الصلاة وما كتب له نصفها ثلثها ربعها...) ، حتى انتهى إلى العشر؛ لأنه لا يكتب له منها إلا ما عقل ووعى، ومن هنا فإن على الإنسان أن يتفهم ويتدبر ما يقول، ولهذا قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[ص:29] ، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24] ، وهذا الخطاب ليس للعرب وحدهم، بل لجميع من آمن بهذا القرآن.

ونحن مع القول الأول المسهل الذي يقتضي أقل نسبة، وهي ما يكون الإنسان به فاهماً لمقتضى ما يقول من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومحباً لما سوى ذلك، وعالماً أنه كلام الله، ومصدقاً به على سبيل الإجمال، لا على سبيل التفصيل.

فهذا القول لاشك أنه أسهل وأيسر، وهو الراجح من ناحية الاستدلال، لكن مع هذا لا نهمل الأقوال الأخرى، ولا نعتدي على أقوال أهل العلم، فلهذا لا بد أن يعلم كل إنسان أن من واجباته العينية أن يتعلم جزءاً من العربية، يفهم به معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ويقيم به حروف الفاتحة ويفهم معاني ألفاظها، ويقيم به حروف ألفاظ التعبدات في الصلاة، وغيرها من الواجبات العينية، فهذا القدر لا خلاف في وجوبه.

ما يتعلق بفرض الكفاية من تعلم اللغة

المرتبة الثانية: هي ما يتعلق بفروض الكفايات من العربية، فقد افترض الله على المسلمين تعلم علوم العربية على سبيل الكفاية، فإذا قام به من تحصل به إقامة الحجة على الناس كفى ذلك، وهذا داخل في عموم قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ[النساء:135] .

فلا يمكن أن يكون الإنسان شاهداً لله إذا لم يكن فاهماً لما يشهد به؛ لأن العلم شرط في الشهادة؛ لقول الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81] ، ولقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86] .

وفي حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي في السنن بإسناد فيه ضعف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أترى الشمس إذا طلعت؟ قال: نعم. قال: على مثلها فاشهد أو دع).

ومن هنا فلا يمكن أن يشهد الشاهد بما لا يعلمه ولا يفهمه، ولا بد أن يكون الإنسان فاهماً لما يشهد به حتى تقبل شهادته على ذلك، والله تعالى جعل هذه الأمة شاهدة على الناس، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143] .

ولا يمكن أن تتم الشهادة على الناس إذا كنت لا تفهم ما تشهد به، وليس هناك وسيلة للاطلاع من خلالها على أحوال الناس، وما كذبوا به أنبياءهم إلا القرآن، والقرآن بلسان عربي مبين، فإذا لم تفهم هذا فلا يمكن أن تكون شاهداً على الناس، فإذا جاء نوح يوم القيامة يخاصمه قومه، فقالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقال: بلى، قد مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فإذا كنت لا تفهم الآيات التي جاءت في قصة نوح، فلا يمكن أن تكون من الشهداء على هذا؛ لأن الشهادة من شرطها العلم.

وفروض الكفاية في اللغة العربية هي بتعلم علومها الأساسية، وعلومها الأساسية هي أربعة عشر علماً، وهي كلها داخلة في فروض الكفاية، وإذا لم يكن في الأمة من يعلمها حصل الإثم على أفرادها جميعاً، وإذا كان فيها في كل بلدٍ من يعلم هذه العلوم بقدر رد الشبهات، وإجابة الأسئلة المتعلقة بالقرآن والسنة، سقط الإثم عن الجميع.

وفرض الكفاية قد اختلف العلماء: هل هو أفضل أم فرض العين؟ ولذلك قال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع:

فرض الكفاية مهم يقصد ونظر عن فاعل يجرد

وذهب الأستاذ والجويني ونجله يفضلُ فرض العين

وهو على كل رأى الجمهور والقول بالبعض هو المنصور

فقيل مبهم وقيل عُيِّنَ وقيل من قام به ........

فعلى هذا: هذه العلوم الأربعة عشر لابد أن يكون في كل حاضرة من حواضر المسلمين من يعرف منها ما يرد به الشبهات، ويجيب به الاختلافات التي يوردها الناس على الكتاب والسنة.