دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ففي اللقاء الماضي قرأ إمامنا في صلاة المغرب آخر سورة البقرة وآخر سورة النحل، وذكرنا أن موضوع الآيات التي قرأها مهمٌ جداً، وتكلمنا على آخر سورة البقرة بما تيسر، وذكرنا ما من الله به على عباده فيما يتعلق بالأوامر وفيما يتعلق بالنواهي، الذي ذكره الله تعالى بما يتعلق بالأوامر هو قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

والذي يتعلق بالنواهي هو قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].

وذكرنا أنه يؤخذ من الجملة الأولى قاعدة مهمة فيما يتعلق بالواجبات وهي:

أن الواجبات تسقط عن العاجز، فإن كان لها بدل أتي بالبدل، وإن لم يكن لها بدل سقطت.

من الواجبات التي تسقط بالعجز ولها بدل كفارة الظهار.

فكفارة الظهار يجب فيها عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.

ويصح أن نمثل بالطهارة: يجب الماء فإن لم يجد فالتراب -التيمم- فإن لم يجد صلى ولو بلا وضوءٍ ولا تيمم؛ لأن الواجبات تسقط بالعجز، وهذه قاعدة ليست من رأي فلانٍ وفلان، ولا من فكر فلانٍ وفلان، ولكنها من رب العالمين الذي قال في كتابه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهذه عبادته يسقط الله عز وجل عن عباده ما لا يستطيعون.

أما في النواهي فالقاعدة فيها: أن الجاهل والناسي يسقط عنه الإثم وما يترتب على الفعل من فدية أو كفارة فإنه يسقط عنه، ولهذا أيضاً أمثلة كثيرة: لو تكلم الإنسان في صلاته جاهلاً بتحريم الكلام فما حكم صلاته؟

صلاته صحيحة، والدليل: أن رجلاً دخل في الصلاة فسمع آخر حين عطس فقال: الحمد لله، فقال له: يرحمك الله... إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي تكلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) أو كما قال، ولم يأمره بالإعادة.

بقي علينا شيءٌ لم تدل عليه الآية، وربما يؤخذ من الآية كما سنبين وهو الإكراه: إذا أكره الإنسان على فعل محرم فهل يترتب على هذا الفعل إثم أو فدية أو كفارة؟

الجواب: لا يترتب، ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106] فإذا كان الرجل لا يؤاخذ في الإكراه على الكفر وهو أعظم المعاصي، فعدم مؤاخذته في الإكراه على ما دونه من باب أولى، على أنه جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) وبناء على هذه القاعدة الثالثة وهي: سقوط الإثم والفدية والكفارة بالإكراه، بناءً على ذلك لو أن الرجل أكره زوجته وهي صائمة فجامعها فهل يفسد صومها؟

لا يفسد.

وهل عليها كفارة؟

ليس عليها كفارة؛ لأنها مكرهة، وهكذا أيضاً لو أكرهها على ذلك وهي في حجٍ أو عمرة فإنه ليس عليها فدية، وليس عليها إثم للقاعدة التي ذكرناها والتي أخذناها من كلام الرب عز وجل، ربما يؤخذ هذا، أي: سقوط الإثم والكفارة والفدية من قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]؛ لأن المكره لا يستطيع أن يتخلص، ولهذا لو أكرهه من يتمكن من دفع إكراهه فإنه يترتب عليه الحكم.

ما تقولون في رجل أجبرته زوجته على أن يطلقها، وقالت: إما أن تطلق وإما أن تقتل نفسها، وهي قادرة على أن تنفذ هذا، السكين بيدها، فطلق، هل يقع الطلاق أو لا؟

لا يقع الطلاق لأنه مكره، كيف كان مكرهاً؟ لأنها تريد أن تقتل نفسها وهي قادرة على أن تنفذ، وهذا من أشد ما يكون من الإكراه، لذلك نقول: لا يقع الطلاق، وهكذا جميع الأحكام لا تترتب على المكره، وذكرنا الدليل لهذا.

أما آخر سورة النحل وهي موضوع درسنا الآن فهي قول الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] الخطاب في قوله: (ادع) لمن؟ للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقيل: إن الخطاب لكل من يصح أن يتوجه إليه الخطاب، النبي عليه الصلاة والسلام وغيره؛ لأن القرآن نزل للأمة جميعاً، فإذا قال الله: (ادع) فالخطاب لكل مؤمن أن يدعو إلى الله، واعلم أن الخطاب الموجه في مثل هذه الصيغة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يكون في السياق ما يدل على العموم.

والقسم الثاني: أن يكون هناك دليلٌ على الخصوص.

والقسم الثالث: ألا يكون فيه دليلٌ لهذا ولا لهذا.

مثال الأول: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1] فهنا وجه الخطاب أولاً إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال: (إذا طلقتم) والخطاب هنا للعموم بدليل الجمع، وعلى هذا فيكون الخطاب الموجه للرسول عليه الصلاة والسلام له وللأمة بالنص: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ .

الثاني: أن يكون هناك دليل على الخصوص، فهنا يختص الحكم بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مثاله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، ومثل قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح:1-2] إلى آخر السورة، فهذا يختص بالرسول عليه الصلاة والسلام.

القسم الثالث: ما يكون لا دليل فيه لهذا ولا لهذا؛ مثل هذه الآية الكريمة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] الخطاب موجه للرسول عليه الصلاة والسلام لوحده، أو لكل من يصح خطابه؟ على قولين، واعلم أن الخلاف شبيه باللفظ في هذه المسألة؛ لأن الذين يقولون: إنه خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام يقولون: إن أمته يشملها الحكم باعتبار الأسوة، لقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

فإذا قال قائل: ما الأصل: الخصوصية أم العموم؟ فنقول: الأصل العموم، ولهذا لما أراد الله عز وجل الخصوصية نص عليها فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا [الأحزاب:50] فما هو الدليل على الخصوص؟

إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا يعني: أباح الله له أن يتزوج بالهبة؟ خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إذاً: هذا يدل على أنه إذا لم يدل دليل على أن الحكم خاص بالرسول وجب التعميم، وخذها قاعدة: كل حكمٍ ثبت للرسول صلى الله عليه وسلم فهو ثابتٌ للأمة إلا بدليل.

وعلى هذا فنقول: إن قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره.

وقوله: إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ما هو سبيل الله؟ سبيل الله تعالى شرعه؛ لأنه طريق يوصل إلى الله عز وجل؛ ولأن الله تعالى هو الذي شرعه فأضيف إليه، فيكون الشرع مضافاً إلى الله لوجهين:

الوجه الأول: أنه موصل إلى الله.

والوجه الثاني: أنه هو الذي شرعه لعباده وبينه لهم حتى يصلوا إلى الله عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ هنا إذا تأملنا كلمة (سبيل) وجدنا أنها تضاف أحياناً إلى الله كما في هذه الآية، وأحياناً تضاف إلى المؤمنين كما في قوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115] فأضاف السبيل هنا إلى المؤمنين، فكيف نجمع بين الآيتين؟ مرة يضاف إلى الله ومرة يضاف إلى المؤمنين؟

نقول: الجمع بينهما سهل: أضيف إلى المؤمنين لأنهم هم السالكون له، وأضيف إلى الله لأنه شرعه وموصلٌ إليه، ومثل ذلك كلمة الصراط: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ [الشورى:52-53].. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] فمرة أضاف الصراط إلى الله، ومرة أضاف الصراط إلى المؤمنين الذين أنعم الله عليهم، فكيف نجمع؟

أضيف إلى المؤمنين الذين أنعم الله عليهم؛ لأنهم هم الذين سلكوه، وأضيف إلى الله لأنه شرعه والموصل إليه.

الإخلاص في الدعوة إلى الله

قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] في هذا دليل على وجوب الإخلاص، أن تدعو إلى سبيل الله هذا إخلاص؛ وذلك لأن الدعاة لهم إرادات؛ من الناس من يدعو إلى سبيل الله لكن انتقاماً من المدعو، أو انتصاراً لرأي، هذا الذي يدعو انتقاماً من المدعو أو انتصاراً لرأيه هل يكون داعياً إلى الله، أو إلى سبيل الله؟ لا. يوجد أناس الآن يدعون إلى الله لكن يريدون أن ينصروا قولهم، ولذلك يصعب عليهم جداً أن يتراجعوا عنه ولو كان خلاف الحق؛ لأنهم يريدون أن يكون الكلام لهم أو سلطة الرأي لهم، وهذا لا شك مجانبٌ للإخلاص تماماً، هذا يدعو إلى الهوى وليس يدعو إلى الهدى.

إنسان آخر يدعو انتقاماً من الشخص، هذا أيضاً غلط، الواجب أن تدعو إلى الله، وإلى سبيل الله لإصلاح عباد الله، وليس انتقاماً منهم، ولا انتصاراً لرأيك، ولكن لإصلاحهم، وإذا كان كذلك أي لإصلاح الخلق؛ فسوف يسلك الإنسان أقرب الطرق إلى حصول المقصود.

اشتراط العلم في الدعوة إلى الله

وقوله جل وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ يتبين أنه لابد من العلم، لماذا؟ لابد أن تعلم ما تدعو إليه أنه من شرع الله، فتعلم أولاً ثم ادع ثانياً، أما أن تدعو إلى سبيل الله وأنت لا تعلم سبيل الله فكيف يمكن هذا؟!

ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] على علم، فلابد أن يكون الإنسان عالماً بما يدعو إليه، وأنه حق ومن شريعة الله.

أما مجرد أن ينقدح في ذهنه أن هذا حق بدون دليل شرعي فإنه لا يجوز أن يتكلم، لأن الله يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، ويقول الله جل وعلا: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] لابد أن يكون الإنسان عالماً بالشرع، فلو رأيت إنساناً يصلي ولكنه لا يطمئن في صلاته، يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يسجد بدون أن يطمئن، هل يصح أن تقول له: إن صلاتك باطلة بدون علم؟ لا يصح؛ لأنه كيف تدعو إلى شيء لا تدري عنه؟ لكن إذا كنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال للذي كان يصلي ولكنه لا يطمئن، قال: (ارجع فصلِ فإنك لم تصلِ) حينئذٍ يكون عندك دليل ويمكن أن تدعو إلى الله.

لابد أيضاً أن يكون عالماً بحال المدعو، وإلا فلا يجوز أن يتكلم، لابد أن تكون عالماً بحال المدعو وأنه يحتاج إلى دعوة، وأنه ممن عنده علم أو ممن ليس عنده علم، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ وقد بعثه إلى أهل اليمن ، قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) لماذا أخبره بحالهم؟ من أجل أن يعرف كيف يخاطب هؤلاء؛ لأن خطاب العالم ليس كخطاب الجاهل، خطاب العالم لابد أن يكون عندك قدرة على مجادلته، إذ إن العالم الذي كان على باطل لا يمكن أن يقبل أو يستقبل الدعوة بسهولة؛ لأن عنده علماً، فتجده عندما تدعوه إلى الحق يجادل لإبطال الحق وإحقاق الباطل الذي كان عليه، فلابد أن تعلم لو أنك أردت أن تدعو نصرانياً إلى الدين الإسلامي يحتاج أن تعرف أنه نصراني وأن عقيدته التثليث مثلاً، يقول: إن الله ثالث ثلاثة، فيحتاج أن تعرف كيف ترد عليه فيما لو احتج عليك بباطل وإلا لهزمت، وهزيمة الداعي إلى الله عز وجل والذي بنى دعوته على غير علم هذه مصيبة، ليست مصيبة عليه وحده بل مصيبة على ما يدعو إليه من الدين، فلابد أن تكون عالماً بحال المدعو.

انظروا إلى قصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فجلس، هل دعاه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن يصلي ركعتين قبل أن يعلم حاله؟

لم يدعه حتى علم بحاله، ووجه ذلك أن الرجل لما دخل جلس فقال له: (أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين).

إذا وجدت إنساناً يأكل في رمضان هنا في المدينة هل أنكر عليه من أول الأمر؟

لا أنكر عليه حتى أقول: أمسافر أنت؟ أو أنت ممن يحل له الفطر؟ لكن لو وجدت شخصاً من أهل البلد أعرف أنه من أهل البلد وأنه لا عذر له في الفطر فحينئذٍ أنكر عليه، أذكره لعله نسي، وعجباً من بعض العامة يقولون: إذا رأيت إنساناً يأكل في رمضان فلا تذكره لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) ما دام الله أطعمه وسقاه لا تحرمه، لا تقطع رزقه، دعه يأكل ويشرب، وهذا غلط ، الواجب أن يذكر المؤمن أخاه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: لما سها في صلاته، قال: (إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون؛ فإذا نسيت فذكروني) فيجب على المؤمن أن يذكر أخاه، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى، أما قوله: هذا رزق ساقه الله إليه دعه يأكل ويشرب، هذا غلط.

استعمال الحكمة والموعظة الحسنة مع المدعو

يقول الله عز وجل: بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]. هذه ثلاثة أوصاف للدعوة، هل هي أوصاف مقترنة؟ أو أوصاف مترتبة؟ يعني: بعضها في حال وبعضها في حال، أو هي مقترنة يعني: تدعو بحكمة وموعظة ومجادلة؟ الجواب: الحال يقتضي أن تكون مرتبة، أولاً: بالحكمة، ببيان الحق ودليله من الكتاب والسنة، واعلم أنني أحب لكل داعية أن يقرن دعوته بالدليل، أولاً: لبراءة الذمة، وثانياً: ليطمئن المدعو؛ لأن المدعو إذا قيل له: هذا حرام، أو هذا واجب لقوله تعالى، أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئن بلا شك، ويكون له حجة عند الله عز وجل، فإذا أمكنك أن تذكر الدليل للمدعو كان هذا خيراً، لما فيه من إبراء الذمة، وثانياً: اطمئنان المدعو، هذا الرجل رجل ليس عنده رد للدعوة وليس عنده مجادلة يكفي أن تدعوه بالحكمة، واعلم أن الحكمة كما قال الله عز وجل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269]. لو رأيت رجلاً يستغيث بصاحب قبر: يا سيدي! يا مولاي! يا ولي الله! أغثني، مثلاً: يستغيث بصاحب القبر، نحن نعلم أن الاستغاثة بصاحب القبر شركٌ أكبر مخرج عن الملة، فهذا الذي يستغيث بصاحب القبر نقول: لو مت على هذا لكنت من أصحاب النار، أصحاب النار المخلدين فيها، لقول الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72]. رأيت رجلاً يستغيث بقبر، هل تأتي مباشرة وتقول: أنت كافر! أنت مشرك! قد حرم الله عليك الجنة؟ لا. ولا يجوز أن تقول هذا، وإن كان واقع الحال هو ما ذكرت، لكن لا يجوز، هذا تنفير، اذكر له الحق، والحق مطابقٌ تماماً للفطرة، قل: يا أخي! أو لا تقل: يا أخي! هذه مشكلة، هل تقول لهذا الذي يستغيث بالقبر: يا أخي! تعال هذا شرك بالله، أو لا تقول: يا أخي؟! هو على كل حال هذا الرجل الذي يستغيث بالقبر لا تظن أنه يستغيث به وهو يعتقد أنه شركٌ مخرج عن الإسلام أبداً، هذا إذا كان ينتسب إلى الإسلام، فإذاً: يصح أن تقول: يا أخي! باعتبار أنه يرى نفسه مسلماً، وإن شئت فقل: يا أخي! باعتبارٍ آخر وهو أنه باعتبار ما يكون، وإن شئت فقل: يا رجل! وتسلم من هذا الإشكال: استغث بالله عز وجل، كما قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وأصحابه: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9] الاستجابة مرتبة على الاستغاثة، والفاء تدل على الترتيب والتعقيب، استغث بالله حتى يستجيب الله لك وربك على كل شيء قدير، وهذا المخلوق الذي أنت الآن تستغيث به هو ميت هامد ربما تكون الأرض أكلته ولا يبقى من جسده إلا عجب الذنب ولا ينفعك، ثم بعد ذلك ترغبه في التوحيد، أترون أن هذا يقبل، أو لو قيل له: أنت مشرك، وهذا شرك، ومن أشرك بالله حرم الله عليه الجنة؟ الذي وبخته وأنكرت عليه بشدة هذا لا يقبل في الغالب، لكن من أتيته بلطف وموعظة حسنة قبل. والموعظة الحسنة هل هي بالصيغة أو بالكيفية؟ بمعنى هل أنت تسوق له الأدلة من الكتاب والسنة على وجهٍ يقنع، أو حتى بالكيفية؟ الجواب: بالأمرين جميعاً، بكيفية السياق، وبأقرب ما يمكن أن يقتنع به، حتى لو ضربت له الأمثال افعل، ألم يكن الله عز وجل يضرب الأمثال للذين يدعون من دون الله؟ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت:41].. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ [الرعد:14] الذي يريد أن يشرب من النهر، ويخرج يديه باسطاً إياهما أيبقى شيء من الماء؟ لا. إذاً: هؤلاء الذين يدعون من دون الله لا يستجيبون لهم إطلاقاً؛ لأن هذا الذي يريد أن يشرب وقد بسط كفيه لا يمكن أن ينال ماءً. المرتبة الثالثة: إذا دعوناه بالحكمة ولم يفعل، بالموعظة الحسنة ولم يفعل، نأتي إلى المجادلة؛ لأن الذي لا يقبل بالموعظة سوف يجادل، فنجادله لكن بالتي هي أحسن، أقرب طريق يوصل إلى الحق اتبعه. وأنا أذكر لكم الآن مجادلة وقعت بين إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وبين رجلٍ مشرك متمرد: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] فإذا كان ربك يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت، إذاً: أنا رب كربك، فقال له إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] جادله بماذا؟ بالتي هي أحسن، جادله بأمرٍ لا يتمكن من الرد عليه، ولهذا قال: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258] في البداية رد على إبراهيم لما قال إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، جادل وقال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] هل هذه دعوى منه أنه يحيي ويميت؟ أو أنه منزل على حالٍ من الأحوال؟ الظاهر أنه منزلٌ على حالٍ من الأحوال؛ الأحوال: هو أنه يؤتى إليه بالرجل الذي استحق القتل فلا يقتله، ويدعي أن هذا إحياء، وليس إحياءً في الواقع الرجل حي من قبل، أو يؤتى إليه بالرجل لا يستحق القتل فيقتله، فيقول: هذا إماتة. وهذا غير صحيح، هذا ليس إماتة لكنه فعل سببٍ يقتضي الموت، ولو شاء الله ألا يموت هذا الذي قتل لم يمت، ألم تعلموا أن الدجال يأتيه الرجل الشاب ويقول: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله! فيقطعه قطعتين ويمشي بينهما، ثم يدعوه فيقوم يتهلل، من الذي أحياه؟ الله عز وجل، فالمهم هذا الرجل قال بعض العلماء أراد بقوله: أنا أحيي وأميت أنه يؤتى إليه بالرجل لا يستحق القتل فيقتله، وادعى أن هذا إماتة، ويؤتى إليه بالرجل يستحق القتل فيرفع عنه القتل وادعى أن هذا إحياء، وقيل: إن هذه دعوى منه وليس يريد أن ينزلها على حالٍ من الأحوال، يعني: ادعى أنه يحيي ويميت، وعلى كلٍ فإبراهيم عدل عن هذا الذي يمكن أن يكون جدلاً إلى أمرٍ لا يمكنه أن يتخلص منه وهو إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [ البقرة:258] هل يمكن أن يدعي أنه يأتي بها من المغرب؟ لا يمكن؛ لأن هذا أمرٌ معلوم بالبداهة: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، ولهذا ينبغي للمجادل أن يسلك أقرب طريق لإفحام الخصم، لا يتابعه؛ لأنه ربما إذا تابعته صعد بك جبلاً لا تستطيع رقيه، لكن ائت بأمر لا يتخلص منه، واعدل عن جوابه الذي أورد الشبهة فيه حتى تقضي عليه نهائياً. المهم: حالنا بالنسبة لدعوة الناس تنقسم إلى أقسام: الأول: الدعوة بالحكمة. والثاني: إذا لم يقتنع نعظه بترغيبٍ وترهيب. والثالث: إذا جادل نجادله بالتي هي أحسن. وهناك أمر رابع لم يذكر في هذه الآية، وهو إذا كان ظالماً: فإننا لا نجادله، لقول الله تبارك وتعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]؟ هؤلاء لا نجادلهم بالتي هي أحسن، بل نجالدهم بالسيف؛ لأنهم معاندون، فصار الأقسام إذاً أربعة؛ ثلاثة ذكرت في آية واحدة، والرابع في آية أخرى. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من دعاة الحق وأنصاره، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. وإني أدعو إخواني الداعين إلى الله أن يستعلموا الأسهل والأيسر، ولهذا كان الرسول يبعث الناس للدعوة إلى الحق ويقول: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) فكل شيء يرغب الناس في الحق اتبعه فأنت على خير.

قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل:125] في هذا دليل على وجوب الإخلاص، أن تدعو إلى سبيل الله هذا إخلاص؛ وذلك لأن الدعاة لهم إرادات؛ من الناس من يدعو إلى سبيل الله لكن انتقاماً من المدعو، أو انتصاراً لرأي، هذا الذي يدعو انتقاماً من المدعو أو انتصاراً لرأيه هل يكون داعياً إلى الله، أو إلى سبيل الله؟ لا. يوجد أناس الآن يدعون إلى الله لكن يريدون أن ينصروا قولهم، ولذلك يصعب عليهم جداً أن يتراجعوا عنه ولو كان خلاف الحق؛ لأنهم يريدون أن يكون الكلام لهم أو سلطة الرأي لهم، وهذا لا شك مجانبٌ للإخلاص تماماً، هذا يدعو إلى الهوى وليس يدعو إلى الهدى.

إنسان آخر يدعو انتقاماً من الشخص، هذا أيضاً غلط، الواجب أن تدعو إلى الله، وإلى سبيل الله لإصلاح عباد الله، وليس انتقاماً منهم، ولا انتصاراً لرأيك، ولكن لإصلاحهم، وإذا كان كذلك أي لإصلاح الخلق؛ فسوف يسلك الإنسان أقرب الطرق إلى حصول المقصود.