فلم (الوردة البيضاء)
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
مجمد عبد الوهاب. .
.
محمد جلال سميرة خلوصي.
.
.
رجاء دولت أبيض.
.
.
فاطمة هانم محمد عبد القدوس.
.
.
خليل أفندي سليمان نجيب.
.
.
إسماعيل بك زكي رستم.
.
.
شفيق بك توفيق المردنلي.
.
.
الشيخ متبولي إخراج: محمد كريم عرض في الأسبوع الماضي في سينما رويال فلم (الوردة البيضاء) وهو بلا شك أول فلم غنائي ناطق من نوعه، ويعد خير الأفلام المصرية التي ظهرت إلى اليوم، ومن المظنون أنه سيحتفظ بمرتبته هذه طويلا، وقد لقي من النجاح والإقبال ما لم يلقه فلم من قبله، وهذه العاطفة الجياشة المتدفقة التي قابل بها الجمهور بطل الفلم الأستاذ الموسيقار محمد عبد الوهاب أثناء العرض، وهذه الهتافات الحارة ومظاهر التقدير والإعجاب لفناننا الشاب، هي بعض ما يستحقه، وعبد الوهاب يتمتع بمكانة في نفوس الشعب يغبط عليها، وقد نالها عن جدارة وكفاية وموهبة سامية رفعته درجات في سماء المجد والشهرة، ولم يزل الموسيقار العبقري في مقتبل العمر ونضرة الشباب يمتاز هذا الفلم بأشياء كثيرة أولها: أن به قطعة للمغفور له أحمد شوقي بك أمير الشعراء وهي قطعة (النيل) آخر ما وضع شوقي من الأغاني لعبد الوهاب، وكأن القدر شاء أن تبقى هذه الطرفة الغالية في مخبئها الأمين حتى تظهر في أول أفلام عبد الوهاب فتضفي عليه من جلالها جلالا ومن سحرها سحراً.
وكأني بأمير الشعر يأبى إلا أن يلازم أمير الغناء حيا وميتا، ويأبى عبد الوهاب إلا أن يظهر إلى جانب إحدى صور الفقيد العظيم في مشاهد هذا الفلم.
ويحمد له الناس هذا الصنيع الكريم الذي يتضمن من معاني الاعتراف بالجميل أسماها وأبقاها على الزمن. كذلك ينفرد هذا الفلم بما أبداه عبد الوهاب من التقدير لمن سبقه من رجال الفن بإظهار صورهم، وتسجيل أصواتهم في فلمه الأول، فرأينا على الشاشة عبده الحمولي والشيخ سلامة حجازي والشيخ سيد درويش، وقد أدرك الجمهور بحاسته الصادقة ما في هذا الصنيع النبيل من تقدير عبد الوهاب للسابقين الخالدين من رجال الفن، فقدره قدره وأولاه من أجله ما يستحق من الثناء والحمد الجميل.
وعبد الوهاب خليق بالشكر لهذا الشعور الذي لا يصدر إلا عن فنان حق. ومن مميزات هذا الفلم أنه يعطي الجمهور (في ثنايا القصة) صورة رائعة عن خلق الفنان وشهامته ونبله، وكيف تتسع روحه الكبيرة للتضحية العظيمة عن رضى وكرم، في سبيل فكرة أو في سبيل عاطفة صادقة من الإقرار بالجميل والاعتراف به.
وما أروع هذا الموقف الذي نرى فيه (جلالا) وهو يعد، وعد فنان، أن يقطع صلاته بحبيبته (رجاء) ثم يكون عند وعده وهذه الصورة النبيلة التي أرادها عبد الوهاب (لجلال) الفنان.
.
قد تبرر ما يؤخذ على القصة في هذه النقطة، والشخصيات التي نتخيل فيها مثلنا العليا لا تحدها الاعتبارات المألوفة والغايات القصار المدى.
ولا شك أن (جلالا) كان مثلاً أعلى في التضحية السمحة الكريمة فرفع شأن رجل الفن وأعلى من مكانته، وجعله في مركز أسمى من كل هذه الشخصيات التي ظهرت إلى جانبه في القصة، وكلها مترفة تنعم بالجاه والمال، وتلقى أينما حلت الاحترام والإجلال، أما هو فليس أكثر من جلال أفندي.
ولكنه فنان، وحسبه ذلك فخرا وكفى. أما ميزة الفلم الكبرى بظهور عبد الوهاب فيه فهذا ما أر جيء الحديث عنه الآن. قصة الفلم بسيطة، لا تعقيد فيها ولا تشعب، يتتبعها المشاهد في سهولة ويسر، وأعتقد أنها توافق تماما الغرض الأول الذي رمى إليه من وضع هذا الفلم ومن إسناد دور البطل فيه إلى عبد الوهاب الموسيقار، فشخصية (جلال) هي الشخصية البارزة وتجري حوادث القصة حولها متخذة من الشخصيات الأخرى بطانة وحاشية لها.
على أن القصة تسير في بطئ، وكان يمكن تفادي ذلك في وضع السيناريو أو في التقطيع (ديكوباج) وهذا ما سنفصل الحديث عنه بالكلام عن الإخراج. قام الأستاذ محمد عبد الوهاب بتمثيل دور (جلال) الشاب الوديع، الهادئ، الوقور.
.
وفي عبد الوهاب نفسه كثير من شخصية جلال من هذه النواحي، ولذلك كان فيه طبيعيا جهد استطاعته.
على أن شخصية عبد الوهاب كموسيقار قد طغت على هذه الناحية وخلفتها وراءها وكانت موضع اهتمام الجمهور، فلا عجب إذا أولاها الناقد القسط الأوفى من عنايته. والآن.
هل أنا في حاجة إلى الحديث عن عبد الوهاب الموسيقار، الملحن، والمغني؟ لا يستطيع أحد أن ينكر على عبد الوهاب الملحن ما أدخله وابتكره في الموسيقى من الألوان الجديدة الطريفة، وهذه ألحانه وأغانيه تشهد له بالنضوج الفني الكامل، والذوق السليم، وان له ملكة الفنان الحق، الفياضة، المتدفقة، التي يغترف من معينها الذي لا ينضب، ويستقي من نبعها الصافي السلسبيل، أنغاما تشجي القلب والفؤاد، وتبث في النفس ألوانا شتى من العاطفة الحية القوية، فأنت معه: إن بكى أبكاك، وان طرب أطربك، وان وصف خلت أنك ترى بالعين ما تسمع بالأذن، وان شدا حلق بك في سماء من النشوة أنت فيها هانئ سعيد، وملأت موسيقاه روحك بخيالات الأمل وأحلام الشباب، وتنقل بك ما شاء أن يتنقل بين عواطف القلب وميول الفؤاد، وأنت تنهل من موسيقاه في مثل نبع سائغ عذب حلال. ولقد جدد عبد الوهاب في موسيقى التخت الجامدة، فأدخل عليها بعض الآلات، كما وضع لألحانه توزيعها الموسيقي (أوركستراسيون) فأضفى عليها ثوبا قشيبا من التجديد له خطره وله جلاله.
وعبد الوهاب المغني حبته الطبيعة بصوت مرن، يعلو حتى يكد العازف في تتبعه، وينخفض حتى لا يكون أكثر من همس الخاطر، أو مناجاة العاشق، على خوف من الرقباء والعاذلين، وقد أحسن عبد الوهاب استخدام هذه المرونة كالصانع الحاذق يشكل ما في يديه كما يشاء، ويلون في تموجات صوته معاني ما ينشد من الألحان، فيكسب اللفظ جدة وروحا، ويبرز لك المعنى بروزا قويا صريحا، وقد تقرأ اللحن فلا تجد فيه شيئا، فتسمعه من عبد الوهاب فكأنما صاغه من جديد صياغة الماهر اللبق، وما أذكر أني سمعت عبد الوهاب مرة إلا وأخضلت عيناي بالدموع يلقي عبد الوهاب في الفلم ثماني قطع غنائية، منها قطعة (الرومبا) التي وضعها على نسق هذا النوع الطريف من الموسيقى الإفرنجية، فأتى فيها بمعجزة، ولست أقتصد في القول ولا أتهيب أن أقدم لعبد الوهاب أبلغ آيات الإعجاب على توفيقه في تلحين هذه الأنشودة.
كذلك كانت القطعة الختامية التي ينشدها على مقربة من منزل حبيبته ليلة عرسها، والأسى يقطع قلبه، والألم يحز في نفسه.
وتراه من خلف القضبان الحديدية متشبثا بها كغريق يتعلق بأمل أخير، فلا تسمعه ينشد، وإنما يبكي ويسفك الدمع في اللحن والأغنية حتى لتكون أشبه بنواح بلبل جريح. وهذا المشهد من الفلم أروع مشاهده، وما تستطيع أن تملك دمعك فيه ولو كان عصيا، وقد رفعه عبد الوهاب بأنشودته إلى أسمى ذروة من الفن الغنائي والسينمائي معا، ولو لم يكن لعبد الوهاب من أثر في الفلم كله إلا هذه القطعة، وهذا المشهد لكفى لنعترف له مخلصين بالكفاية النادرة والموهبة المؤاتية الجبارة التي يتفرد بها ملحنا ومطربا.
وباقي القطع ليست أقل من هذه فكلها من صنع عبد الوهاب وكفى. طال بنا القول ولما ننته، ومن الخير أن نكتفي بهذا القدر اليوم على أن نعود الحديث عن الفلم من ناحيته الفنية المحضة في مقال آخر.
ولكن لنهنئ ممثلي الفلم قبلا على ما أبدوه من كفاية في مواقفهم جميعا، وما لاقوه من نجاح في أداء أدوارهم، أما المخرج فلينتظرنا قليلا، على إننا نكتفي اليوم بأن نشد أذنيه في غير عنف ولا قسوة، ترقبا للمعركة القادمة فليأخذ أهبته وليعد السيف والترس فسنجول معه جولة لعله لا يصاب فيها بكثير من الجراح والخدوش.