أرشيف المقالات

الحلقة الثامنة عشرة - خواطر قرآنية (سورة السجدة) - أيمن الشعبان

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب، والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
بعد أن بيّن الله سبحانه حال المؤمنين في الدنيا وما لهم من نعيم في الآخرة، وحال الكفار الفاسقين وصفاتهم ومآلهم يوم القيامة ؛ عطف على ذلك سؤال العقلاء: هل يستوي الفريقان؟ يقيناً لا يستويان، ليبين أحوال كل فريق يوم القيامة .
ولما كان موضوع السورة الخضوع ومادتها اليقين بحقائق الإيمان ؛ قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
ولما كانوا أهل بلاغة ولسن، وبراعة: وجدل، فكان ربما قال متعنتهم: ما له إذا كان ما تزعمون من أنه لا يبالي بشيء ولا ينقص من خزائنه شيء وهو العزيز الرحيم، لا يسوي بين الكل في إدخال الجنة ، والمن بالنعيم فيعمهم بالرحمة الظاهرة كما عمهم بها في الدينا كما هو دأب المحسنين؟
{مُؤْمِنًا} أي راسخاً في التصديق العظيم بجميع ما أخبرت به الرسل.
{فَاسِقًا} أي راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان.
قال قتادة: "لا والله لا يستوون لا في الدينا ولا عند الموت ولا في الآخرة".

{أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً} يعنى أتظنون أيها الظانون المسرفون الجاحدون المنكرون أن من كان مؤمنًا موقنًا بوحدانية الله متصفًا بالأعمال الصالحة المؤيدة لإيمانه {كَمَنْ كانَ فاسِقاً} خارجاً عن ربقة الإيمان والإخلاص وعن عموم حدود الشرائع والأديان الواردة لحفظ الإيمان كلا وحاشا إنهم {لا يَسْتَوُونَ} في الشرف والكمال والفوز والنوال.
{أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً} خارجاً عن الإِيمان لاَّ يَسْتَوُونَ في الشرف والمثوبة تأكيد وتصريح.
يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمنًا بآياته متبعًا لرسله، بمن كان فاسقاً، أي: خارجًا عن طاعة ربه مكذباً لرسله إليه.
أفمن كان في حال الوصال يجرّ أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسي وباله؟
أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعانى مشقة الكلفة؟
أفمن هو في روح إقبالنا عليه كمن هو في محنة إعراضنا عنه؟
أفمن بقي معنا كمن بقي عنّا؟
أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالى الكفران ووحشة العصيان؟
أفمن أيّد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن ربط بالخذلان ووسم بالحرمان؟ لا يستويان ولا يلتقيان!
ينبه تعالى، العقول على ما تقرر فيها، من عدم تساوي المتفاوتين المتباينين، وأن حكمته تقتضي عدم تساويهما فقال: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً} قد عمر قلبه بالإيمان، وانقادت جوارحه لشرائعه، واقتضى إيمانه آثاره وموجباته، من ترك مساخط الله، التي يضر وجودها بالإيمان.
{كَمَنْ كانَ فاسِقاً} قد خرب قلبه، وتعطل من الإيمان، فلم يكن فيه وازع ديني، فأسرعت جوارحه بموجبات الجهل والظلم، من كل إثم ومعصية، وخرج بفسقه عن طاعة الله.
أفيستوي هذان الشخصان؟
{لا يَسْتَوُونَ} عقلاً وشرعًا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، وكذلك لا يستوي ثوابهما في الآخرة.
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} أي أبعدَ ظهورِ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ يُتوهَّمُ كونُ المؤمنِ الذي حُكيت أوصافُه الفاضلةُ كالفاسقِ الذي ذُكرت أحوالُه {لاَّ يَسْتَوُونَ} التَّصريح به مع إفادةِ الإنكارِ لنفيِ المشابهةِ بالمرَّة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه لبناء التَّفصيل الآتِي عليه.
وكما قال تعالى في وصف مشابه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
وقوله سبحانه: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
ولم يقل يستويان، لأنّه لم يرد بالمؤمن مؤمنًا واحدًا، وبالفاسق فاسقاً واحدًا، وإنّما أراد جميع الفسّاق وجميع المؤمنين، ولأن {مَنْ} تؤدي عن جمع فحمله على المعنى..
فيكون يستوون على هذا قد جمع في موضع التثنية، لأن التثنية جمع في الأصل.
لماذا لم يأت الجواب مثلاً: لا يستوي المؤمن والفاسق؟ قالوا: لأن هذا الأسلوب يسمى أسلوب الإقناع التأكيدي، وهو أن تجعل الخصم هو الذي ينطق بالحكم.
والمعنى: أي فهذا الكافر المكذب وعد الله ووعيده، المخالف أمره ونهيه، كهذا المؤمن بالله، المصدق وعده ووعيده، المطيع لأمره ونهيه، كلا، لا يستوون عند الله، ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون.
هنا قال {فاسِقاً}  ولم يقل "كافرًا" لتناسبه مع موضوع السورة وهو الخضوع، وعكس الخاضع الفاسق الذي يخرج عن طاعة الله.
من هداية الآية:
من باب العدل والإنصاف إعطاء كل ذي حق حقه، وعلى مدراء المؤسسات والمشاريع، التفريق بحسب الكفاءة والتفاني والإخلاص في العمل والبذل والعطاء.
أحد أسباب تخلف وتأخر الأمة، وانتكاس كثير من الشباب ، هو تقديم المحسوبيات على الكفاءة والخبرة، حتى صار السافل عاليًا والعالي سافلاً!
المجتمع الآن للأسف ينظر لمن معه مال ومنصب وتجارة وجاه وقوة، أكثر من نظره إلى العالم والخبير وصاحب الفكر والعقل في نفع الأمة!
المؤسسة التي لا تعامل موظفيها على أساس المهنية والكفاءة والتفاني بغض النظر عن جنسه ولونه وعمره؛ مآلها الفشل ولو بعد حين!
أخبر عليه الصلاة والسلام أن الموازين ستنقلب، ويوسد الأمر لغير أهله، ويتصدر المشهد من لا خلاق لهم، يقول عليه الصلاة والسلام: «لا تقومُ الساعةُ حتى يكونَ أسعدَ الناسِ بالدنيا لُكَعُ ابنُ لُكَعٍ» (سنن الترمذي [2209]).
في اليابان يعطى لقب "سعادة" للمعلم، من باب التقدير المعنوي وتثمينًا لدوره الهام في نهضة المجتمع.
وعندما سُئل إمبراطور اليابان عن أسباب تقدم دولته في وقت قصير، أجاب: بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم، ومنحنا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير!
لا ينبغي أن نساوي في التعامل أو المكانة والتقدير والمكافئة؛ بين المؤمن والفاسق..
العالم والجاهل..
الأمين والخائن..
الصادق والكاذب..
المتقن والمهمل..
الحريص والمغفل..
المجتهد والخامل..
المثابر والكسلان!
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
18- رمضان -1435هـ 

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢