دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإننا استمعنا إلى ما قرأه إمامنا في هذه الليلة في صلاة المغرب، وهي ليلة السبت الحادي عشر من شهر ربيع الثاني عام (1416هـ) في المسجد النبوي، وقد قرأ في الركعة الأولى آخر سورة البقرة، وفي الركعة الثانية آخر سورة النحل، وكل الآيات مهمة جداً، ولكن نبدأ بالأول فالأول، نتكلم على الآيات التي قرأها من آخر سورة البقرة.

تفسير قوله تعالى: (لله ما في السماوات وما في الأرض ....)

قال الله عز وجل: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [البقرة:284] ما: اسم معنى، اسم موصول يعم كل ما في السماوات والأرض فهو لله، لا يشركه فيه أحد، كما قال الله تبارك وتعالى: لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه [سبأ:22-23].

وفي الآية حصر، أي: حصر ملك السماوات والأرض لله وحده؛ والحصر: تخصيص شيء بشيء، فما هو طريق الحصر في هذه الآية؟

طريق الحصر أنه قدم ما حقه التأخير، فقوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لو أردنا أن نعربها لقلنا: (ما) مبتدأ، و(لله) خبره، فقدم الخبر، وتقديم الخبر يفيد الحصر والاقتصار، فملك السماوات والأرض لله وحده، أما ملكنا نحن لما نملكه، كملك الإنسان لقلمه أو لساعته أو لثوبه فهذا ملكٌ قاصر، ولهذا لا يحل لنا أن نتصرف في هذا الملك إلا حسب ما أذن الله لنا فيه، أرأيتم لو أن إنساناً أراد أن ينفق ماله أيملك هذا؟ لا. لأن الله تعالى يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] يعني: فيفسدوها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ انتبه لهذه الجملة من الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ هذه الجملة شديدة على الإنسان؛ إن الإنسان إذا أضمر في نفسه شيئاً حاسبه الله سواء أبداه أو أخفاه، هذا صعب جداً، ولهذا نزلت الآية بعدها، وهي قول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فالحمد لله رب العالمين، ما لا يمكنك مما تحدثك به نفسك فإنه لا يضرك شيئاً ولو كان أعظم عظيم، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) اللهم لك الحمد، نعمة امتن الله بها علينا، حديث النفس لا منتهى له، النفس تحدث الإنسان بأشياء ربما تكون فضيعة، ربما تكون كفراً وشركاً وإلحاداً، ولكن هل يؤاخذ على هذا؟ لا. لا يؤاخذ، إنما يجب عليه أن يفعل ما يطرد به هذا الحديث الذي حدثت به النفس، وهو -أي: ما يطرد هذا الحديث- شيئان، وصفهما لنا طبيب الأمة محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: (وليستعذ بالله ولينته) كلمتان: إحداهما تستطيعها وباختيارك وهي الانتهاء، والثانية: بإذن الله عز وجل تستعيذ بالله.

ومعنى الاستعاذة بالله: الالتجاء والاعتصام، أعوذ بالله، أي: ألتجئ إلى الله وأعتصم به، مِمن؟ من الشيطان؛ لأن الذي يلقي هذه الوساوس في القلوب هو الشيطان.

الصحابة رضي الله عنهم شكوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذا، وقالوا: (يا رسول الله! إننا نجد في نفوسنا ما نحب أن نخر من السماء ولا نتكلم به)، وفي حديثٍ آخر: (ما نحب أن يكون أحدنا حممة -أي: فحمة محترقة- ولا يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: أوجدتم ذلك؟ قالوا: نعم. قال: هذا صريح الإيمان) وما معنى (صريح الإيمان)؟ الصريح من كل شيء خالصه، وإنما كان هذا صريح الإيمان؛ لأن الشيطان يحاول أن يكدر هذا الصريح، ولو كان الصريح كدراً ما حاول، ولهذا قيل لـابن مسعود أو ابن عباس : [إن اليهود يقولون: إننا لا نفكر في صلاتنا ولا نوسوس في صلاتنا -يعني: ونحن المسلمون نفكر في الصلاة، نفكر كثيراً بأشياء لا فائدة منها- فقال ابن عباس: وما يفعل الشيطان بقلبٍ خرب] يعني: ماذا يفعل فيه، قلب خربان لا يقربه الشيطان لأنه خارب، إنما يأتي الشيطان للقلوب الصحيحة ليمرضها، والصالحة ليفسدها، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الناس يتساءلون: من خلق كذا؟) يعني: من خلق السماوات؟ الجواب: الله، من خلق الأرض؟ الله، من خلق الشمس؟ الله، من خلق القمر؟ الله، من خلق النجوم؟ الله، ثم يأتي الشيطان يقفز بهم ويقول: من خلق الله؟ أعوذ بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليستعذ بالله، ولينته) وهذه من نعمة الله.

فعليك أخي المسلم! ألا تستولي عليك هذه الوساوس حتى تنخدع وتخضع لها بل اطردها، اطردها بشيئين هما: الاستعاذة بالله، والإعراض عنها، انته عنها، صد عنها، لا تهمك، اشتغل بما بين يديك وانسها حتى تزول بالكلية، وهل هذا يشمل الوساوس في العلاقات بين الزوجين؟ بمعنى: لو أن الشيطان حدثك في نفسك بأنك طلقت زوجتك، أتطلق؟ لا. إنسان يحدث نفسه، يقول: هذه زوجة ليست صالحة، هذه أتعبتني، هذه فعلت ما فعلت، ثم يقول في نفسه: هي طالق دون أن ينطق بها بلسانه، تطلق أو لا؟ لا تطلق، ولهذا ليطمئن أولئك الذين يلقي الشيطان في قلوبهم أنهم طلقوا زوجاتهم دون أن يتكلموا بذلك ليطمئنوا أن زوجاتهم باقيات وأنهن لم يطلقن، وهذه من نعمة الله عز وجل.

وإن هم الإنسان أن يفعل معصية، ولكن تذكر عظمة الله، تذكر عقاب الله، تذكر ما تحدثه المعاصي في القلوب؛ لأن المعاصي سهام القلوب تخرق القلوب حتى تتلف، لما تذكر هذا خاف الله وترك الهم بالمعصية، ماذا يكون عليه؟ يأثم أو لا يأثم؟ لا يأثم بل يؤجر، يكتبها الله تعالى حسنة كاملة، ولله الحمد، قال في الحديث: (لأنه تركها من جرائي) معنى من جرائي: أي من أجلي. فهذه من نعمة الله عز وجل أن حديث النفس لا أثر له، ولكن اخش واحذر أن يتسلط عليك الشيطان حتى يكون هذا الحديث انفعالاً وإرادة فتهلك.

يقول الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يكون الله تعالى قد أعلمنا في الآية الثانية: أنه إذا كان هذا الأمر ليس بوسعنا فإننا غير مكلفين به، ونبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبرنا: بأن الله تجاوز عنا ما حدثت به أنفسنا ما لم نعمل أو نتكلم: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ يعني: إذا حاسبنا الله عز وجل على ما في قلوبنا فإن المشيئة التامة له؛ إن شاء غفر وإن شاء عذب.

وفي الآية إثبات مشيئة الله عز وجل وأنه يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا يسأل عما يفعل؛ لأنه عز وجل لا يفعل شيئاً إلا لحكمة سواء علمناها أم لم نعلمها.

وفي آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] هذه الآية أوجبت للعصاة الذين يعصون الله بغير الشرك أن يتهاونوا، وإذا نهيته عن معصية ارتكبها يقول: الله غفور رحيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ هكذا الشيطان يوسوس لهم، يجعلهم يعملون بالمتشابه من القرآن ويتركون المحكم.

ولكن هل أنت على ثقة من أن تكون ممن شاء الله أن يغفر لهم؟ أجيبوا يا جماعة؟

لا؛ لأنه ما قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) ولم يقيده، بل قيده فقال: (لمن يشاء) فهل أنت على ثقة أنك ممن شاء الله أن يغفر له؟ لست على ثقة.

ثم إن المعاصي يجر بعضها بعضاً، ولذلك حرم النظر للمرأة التي ليست بينك وبينها محرمية، لماذا؟ نظرة فقط حرام؟ لأنه يجر إلى الزنا، فالمعاصي في الواقع مشترك بعضها ببعض، إذا تهاونت بمعصية هون عليك الشيطان ما هو أعظم منها، ثم ما هو أعظم، حتى يوصلك إلى الشرك.

واستمع إلى الذين غمرت قلوبهم المعصية ماذا قالوا عن آيات الله؟ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المطففين:1] يعني: هذه (سواليف) وليست بشيء، قال الله عز وجل: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] انظر المعاصي تجعل الإنسان يتصور أن آيات الله أساطير الأولين؛ لأنه لا يصل معناها إلى قلبه والعياذ بالله، بل هو قلب مغلق، فلا يصل الإيمان بهذه الآيات إلى قلبه، ولا تفيد قلبه شيئاً؛ لأنه قد ران على قلبه ما كان يكسب.

فالمعاصي يا أخي! احذرها ولا تتهاون بها: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] (والله على كل شيء قدير) كل شيء، وهذه الكلمة فيها عمومٌ، كل شيء موجود فهو قادر على إعدامه بلحظة، وكل شيء مفقود فهو قادر على إيجاده بلحظة: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] والله على كل شيء قدير فما هي القدرة؟ القدرة هي: فعل الفاعل بلا عجز، يعني: أن يفعل الفاعل والشيء بلا عجز.

وما هي القوة؟ أن يفعل الشيء بلا ضعف، انتبه للفرق! كثير من الناس لا يفرق بين القدرة والقوة، والواقع أن بينهما فرقاً؛ القوة ضدها الضعف، والقدرة ضدها العجز، واستمع للفرق بين هذا وهذا من القرآن: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم:54] هذه تدل على أن ضد القوة الضعف.

وضد القدرة العجز، استمع: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] ولم يقل: قوياً؛ لأن ضد العجز القدرة.

وهنا أضرب لكم مثلاً حسياً يبين لكم الفرق بين القدرة والقوة:

هذا رجل قلنا له: احمل هذا الحجر، فأراد أن ينقله من الأرض فعجز، فهل نقول: هذا غير قادر أو غير قوي؟ غير قادر.

رجل آخر قلنا: احمل هذا الحجر فحمله لكن بمشقة، فهل نقول: هذا غير قوي أو غير قادر؟ غير قوي، لأنه زحزحه بمشقة.

رجل ثالث قلنا: احمل هذا الحجر، قال: هذا الحجر؟ قلنا: نعم، قال: باسم الله ثم رفعهُ بقوة، هذا نقول عنه: قوي.

تفسير قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون)

قال الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] (آمن الرسول) من الرسول؟ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، (بما أنزل إليه من ربه) وهو ما ذكره الله في قوله: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113] فالرسول عليه الصلاة والسلام آمن بالكتاب والسنة، ولهذا كان هو يشهد بأنه رسول الله، يشهد لنفسه بأنه رسول الله، ولا بد أن يكون كذلك؛ لا بد أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.

والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:

1/ الإيمان بوجوده.

2/ الإيمان بربوبيته.

3/ الإيمان بألوهيته.

4/ الإيمان بأسمائه وصفاته.

ولا حاجة أن نطيل الكلام فيها لأنها سبقت في لقاءات ماضية.

(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ) الملائكة: هم عبادٌ خلقهم الله عز وجل ليقوموا بطاعته، وهم كما قال الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] فنؤمن بالملائكة عموماً، ونؤمن بمن عرفنا أسماءهم خصوصاً، ومن أسمائهم:

1- جبريل: وهو أفضل الملائكة، وهو موكل بالوحي.

2- إسرافيل: موكل بنفخ الصور.

3- ميكائيل: موكل بالقطر والنبات.

هل جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هؤلاء الثلاثة في حديثٍ واحد؟

نعم. جمع النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة في استفتاح صلاة الليل، يقول في استفتاح صلاة الليل: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم) الله أكبر! الرسول يقول: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) فكيف بنا نحن المعرضون للخطر والخطأ؟!! أكثر الناس إذا قال قولاً يظن أنه على الصواب، يقول: هذا هو الصواب، وما عداه فهو خطأ، سبحان الله! هل تدري هل هديت إلى ما اختلف فيه من الحق بإذن الله؟! لا تدري، لست معصوماً، قد تخطئ وقد تصيب، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يسأل ربه هذا السؤال، فجديرٌ بنا نحن أن نسأل الله هذا السؤال، ولاسيما عندما يورد علينا استفتاء، فإن الإنسان ينبغي له أن يلجأ إلى الله عز وجل بقلبه ولسانه وحاله أن يوفقه للصواب؛ لأن المفتي -يا إخواني!- معبر عمن؟ عن الله، معبر عن الله فليست المسألة هينة، ومع الأسف أن من الناس الآن من يتسابقون إلى الفتيا أيهم يفتي، وليس عندهم من العلم ما يجعلهم أهلاً للفتيا.

السلف الصالح هل كانوا يتسابقون في الفتيا أو يتدافعونها؟ يتدافعونها، كل واحد يقول: اذهب للثاني، لأن الإنسان يخشى، والله نخشى من الفتيا، ولولا أن الإنسان يخشى من كتمان العلم، أو أن السائل يذهب إلى إنسان جاهل ويفتيه لكان الإنسان يتوقف عن الفتيا ليسلم، لكن من استفتي وعنده علم فإن عدم إقدامه على الفتيا ليس بسلامة بل هو عطب.

هؤلاء الثلاثة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يذكرهم في استفتاح صلاة الليل.

وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ نعرف من الكتب أشياء ويخفى علينا أكثر الكتب، فنؤمن بالكتب إجمالاً، وأن كل رسولٍ أرسله الله أنزل معه كتاباً حقاً ولكن نعرف من الكتب:

أول ما يدخل في الكتب القرآن لا شك، كتاب الله.

التوراة منزلة على من؟ على موسى.

الإنجيل على عيسى.

الزبور على داود.

صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، أما صحف إبراهيم فلا نعرف لها إلا هذا الاسم، وأما صحف موسى فقيل: إنها التوراة وقيل: غيرها، والله أعلم.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) لا نفرق بين نوح أول الرسل ومحمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، بماذا لا نفرق؟ بالتصديق والإيمان، نؤمن بأنهم رسل من عند الله حقاً، ونؤمن بما صح عنهم من الأخبار، وأما الأحكام فإن شريعتنا ناسخة لجميع الشرائع، كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48] فللقرآن السيطرة على جميع الكتب، لو جاء في التوراة أو الإنجيل حكم وصح صحة لا ريب فيها، ولكنه يخالف ما في القرآن؛ فالعبرة بما في القرآن، هذا بالنسبة للأحكام، أما الأخبار فإنها لا تنسخ، وكل ما صح من الأخبار عن الكتب السابقة فهو حق، لكن تعلمون أن الكتب السابقة لم يتكفل الله تعالى بحفظها، بل قال: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44] فجعل حفظها لمن أنزل عليهم، ولكنهم لم يقوموا بالحفظ، بل حرفوا وبدلوا وغيروا.

إذاً: الكتب أولها: القرآن، الرسل أولهم: نوح وآخرهم محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا سمعنا وأطعنا)

قال تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285] الضمير يعود على من؟ على الرسول والمؤمنين؛ لأنه قال: (آمن الرسول.. والمؤمنون) (وقالوا) أي: الرسول ومن آمن به: (سمعنا وأطعنا) ليسوا يقولون: (سمعنا وعصينا) ولكن يقولون: (سمعنا وأطعنا) أي: امتثلنا ما أمرنا به وتركنا ما نهينا عنه.

ومن الطاعة: تصديق الخبر، ولهذا لو قال قائل: لماذا لم يقولوا: سمعنا وصدقنا؟ لأن الكتب فيها أوامر ونواه وفيها أخبار، الطاعة للأوامر والنواهي، والتصديق للأخبار، نقول: ومن الطاعة أن نصدق بالأخبار؛ لأنه يجب علينا أن نصدق بكل خبرٍ جاء في هذه الكتب إذا صح به النقل، ثم إنه يجب أن نسمع ونطيع سواء علمنا الحكمة أم لم نعلم، ومن كان لا يطيع إلا إذا علم الحكمة فإنه ليس بمؤمن، انتبه! لماذا؟ لأنه اتبع هواه، إذا قال الإنسان: أنا لا أصلي حتى أعرف الحكمة من الصلاة! لا أتطهر حتى أعرف الحكمة! قلنا: إذاً لست بمؤمن! المؤمن يقول: (سمعنا وأطعنا) صل الظهر أربعاً، قال واحد: حسناً ولكن ما الحكمة، لماذا أربعاً؟ لماذا لم تكن ركعتين أو ستاً؟ يقول: لا يصلي هو، هل هذا مؤمن؟!

لا. المؤمن يقول: (سمعنا وأطعنا) ولهذا قال الله تعالى في سورة الأحزاب: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].

تفسير قوله تعالى: (غفرانك ربنا وإليك المصير)

غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] ونصبت غفرانك مع أنها في أول الجملة، وكان فيما يبدو أن تكون بالرفع، لكنها منصوبة بفعل محذوف، أي: نسألك غفرانك، يقولون: (سمعنا وأطعنا) ثم يقولون: (نسألك غفرانك) لأن الإنسان وإن أطاع فقد يكون في عمله نقص وقصور، ولهذا نصلي وأول ما نبدأ به بعد الصلاة أن نقول: أستغفر الله.. أستغفر الله.. أستغفر الله؛ لأن الإنسان لا يخلو من خلل، وهنا قالوا: (سمعنا وأطعنا) ثم قالوا: (غفرانك) خشية أن يكون فيما أطاعوا الله فيه شيءٌ من النقص، قال الله تعالى: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] بعدما يصلون ويتهجدون يتفرغون للاستغفار، سبحان الله! وهم قد تهجدوا في الليل، فلماذا يسألون بالاستغفار في آخر الليل؟ خوفاً من أن يكون في عبادتهم نقص، وهذه ملاحظة ينبغي للإنسان أن ينتبه لها، لا تقل: أنا صليت وبرئت الذمة وحصلت القربة من الله، لا. لا تقل هكذا، لعله يكون فيها نقص، حسناً يقول: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا قد يقول المبتدي في النحو: لماذا لم تكن ربِنا، صفة للكاف التي محلها الجر؟ أنا لا أظن أن أحداً لا يعرف إعراب (ربَنا) ممن شم رائحة النحو، فهي منادى حذفت منه ياء النداء، ربنا يعني: يا ربنا! نسألك غفرانك، ونعم الرب ربنا جل وعلا، وما أقربه من الداعي: (وينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) اللهم اجعلنا ممن يتعرضون لهذا النداء يا رب العالمين.

يقول: رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ هل المراد إليك المصير في عبادتنا فلا نشرع إلا ما شرعت، إليك المصير في تدبير أمورنا فأنت تدبر أمورنا، إليك المصير يوم القيامة، هل يشمل هذه الثلاثة وغيرها مما مصيره إلى الله؟ أو خاص بيوم القيامة؟

الجواب: يشمل، وسنعطيكم فائدة في التفسير: إذا رأيت الآية تشمل معانٍ متعددة لا ينافي بعضها بعضاً، وليس بعضها أولى من البعض، فاحملها على العموم، وهذه قاعدة تفيد طالب العلم.

انظروا إلى قول الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:17-18] ماذا قال المفسرون في (عسعس)؟ قالوا: أقبل، وبعضهم قال: أدبر، أي قالوا: إن الله أقسم بالليل حين إقباله، وبعضهم قال: أقسم بالليل حين إدباره، والآية تشمل التفسيرين، إذاً: (عسعس) من أفعال الأضداد، في اللغة العربية أفعال تكون للشيء وضده.

فعلى أيها تحمل الآية؟

نحملها على العموم، يعني: على المعنيين جميعاً، نقول: أقسم الله تعالى بالليل إذا أقبل والليل إذا أدبر؛ لأن إقبال الليل وإدباره من أعظم آيات الله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:71-73].

إذاً: قول الله تعالى: (وإليه المصير) يشمل العموم: المصير في الآخرة، المصير في الشرع، المصير في القدر، كل شيء، المصير إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42].. إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:8].

تفسير قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)

قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] هذه نعمة عظيمة تشبه قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] كل شيءٍ لا يمكنك ولا تستطيعه فهو ساقط عنك، وأنت غير مكلف به.

وهذه قاعدة -يا إخواني!- في المأمورات، فلقاؤنا الليلة إن شاء الله قواعد، والقواعد خيرٌ من الفروع: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا هذه قاعدة المأمورات، كل شيءٍ لا تستطيعه من المأمورات يسقط عنك؛ لأن الله قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ، ثم إن كان لهذا الواجب بدل أتيت بالبدل، وإن لم يكن له بدل سقط عنك نهائياً.

ومثاله: إذا ظاهر الرجل من زوجته، فقال لها والعياذ بالله: هي عليه كظهر أمه، هذا منكر وكذب، كما قال الله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً [المجادلة:2] ماذا عليه؟ عليه أولاً: أن يعتق رقبة، هذا الواجب، لم يجد رقبة إما لعدم المال عنده وإما لعدم وجود الرقاب، فتسقط عنه الرقبة، يأتي دور: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4] يجب أن يصوم شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا بعذرٍ شرعي أو عذر قدري، ولكن لم يستطع الرجل لضعفه أن يصوم شهرين متتابعين، لا في الشتاء ولا في الصيف، يسقط الصيام أو لا؟ يسقط إلى شيء ثالث: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4] ما وجد، فقير لا يجد أن يطعم ستين مسكيناً، ماذا يكون؟

يسقط عنه، ودليل هذا قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا .

وقصة الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان وهو صائم استمعوا لها وفيها فائدة أيضاً:

جاء رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: (يا رسول الله! هلكت وأهلكت -هلك هو بنفسه وأهلك زوجته- وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم -ماذا كان من الرسول عليه الصلاة والسلام.. أنهره؟ ما نهره، ولا زجره، أمره بما يبرئ ذمته- أمره أن يعتق رقبة، قال: لا أجد، قال: صم شهرين متتابعين؟ قال: لا أستطيع، قال: أطعم ستين مسكيناً؟ قال: ما عندي -كل المراتب الثلاث لا يستطيعها- ثم جلس الرجل فجيء بتمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: خذ هذا تصدق به، أطعم منه ستين مسكيناً، فقال الرجل: أعلى أفقر مني؟ والله ما بين لابتيها أهل بيتٍ أفقر مني -سبحان الله! الإنسان عنده طمع، أعلى أفقر مني؟- فضحك النبي عليه الصلاة والسلام -اللهم صلِّ وسلم عليه، هذا يدعو الناس إلى دين الله بالبشر والابتسامة والضحك والتيسير والتبشير، ليس بالعنف والغضب والغيظ- ضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه ثم قال: أطعمه أهلك) فرجع الرجل الذي خرج من عند زوجته وهو خائف، رجع وهو غانم؛ معه تمرٌ لأهله، وهل قال: وإذا قَدَرْتَ بعد ذلك فأطعم؟ لا. إذاً: سقط عنه حتى الإطعام؛ لأنه لا يستطيع، والله عز وجل يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا .

مثال آخر: رجل قتل نفساً خطأً، فقلنا له: أعتق رقبة، قال: ما عندي، قلنا: صم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، ماذا نقول؟

نقول له: ليس عليك شيء، يعني: الله ذكر خصلتين في كفارة القتل وهما: تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، وما ذكر الإطعام، إذاً: إذا قال هذا الذي وجبت عليه كفارة القتل: لا أجد الرقبة، قلنا: صم، قال: لا أستطيع الصيام، قلنا: ليس عليك شيء، لا يوجد إطعام، من أين نأخذ هذا الحكم؟ من قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا هذه في الأوامر.

تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)

تأتي النواهي: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] ماذا قال ربنا جل وعلا؟ (قال الله: قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إذا نسيتم أو أخطأتم، هذه الجملة الثانية في النواهي، فإذا فعل الإنسان معصية ناسياً أو فعل معصية مخطئاً لا يعلم أنها حرام فلا شيء عليه وكأنه لم يفعلها.

نضرب أمثلة لهذا: رجل يصلي والذي يصلي لا يتكلم أبداً إلا مع الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فإنه يناجي ربه).. (تقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] فيقول الله: حمدني عبدي) المهم لا يتكلم كلام آدميين، لكنه قرع عليه الباب واحد يستأذن، فسمع الباب وقال: تفضل -يقول للذي قرع الباب- لكنه ناسٍ أنه في الصلاة، ماذا يكون عليه؟ لا شيء، تبطل صلاته أو لا تبطل؟ لا تبطل، لماذا؟ لأنه ناسٍ غافل.

رجل آخر يحب الخير ويحب أن يقوم بالواجبات فعطس إلى جنبه أحد المصلين وهو معه يصلي، فقال الذي عطس: الحمد لله، وهذا جائز ومشروع، إذا عطست وأنت تصلي قل: الحمد لله، الثاني زميله إلى جنبه قال: يرحمك الله، متأولاً؛ لأن يرحمك الله دعاء، وهو يتصور أن الدعاء في الصلاة لا يبطل الصلاة، ولو كان بكاف الخطاب، قال: يرحمك الله، فلما انتهت الصلاة، قال له بعض الحاضرين: أعد الصلاة لأنك تكلمت بكلام آدميين؛ تخاطب صاحبك تقول: يرحمك الله، فماذا نقول له بناءً على القاعدة التي ذكرها الله في الآية؟

نقول: لا شيء عليك، والذي قال: إن صلاتك باطلة ليس على صواب؛ لأن السنة تحكم بين الناس، والسنة وقعت بمثل هذه الصورة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من تكلم بإعادة الصلاة: (معاوية بن الحكم رضي الله عنه دخل يصلي فعطس رجلٌ من القوم فقال: الحمد لله، فقال له معاوية : يرحمك الله، فرماه الناس بأبصارهم، رموه بأبصارهم -يعني: نظروا إليه نظرة إنكار؛ لأن الإنسان إذا نظر إليك نظر رضاً ما يقال رماك ببصره، لكن نظر إنكار- يقال: رموه بأبصارهم مستنكرين قوله، فقال: واثكل أمياه -يعني: تكلم مرة ثانية- فجعلوا يضربون أفخاذهم يسكتونه فسكت، فلما انتهت الصلاة، دعاه من بالمؤمنين رءوف رحيم صلى الله عليه وسلم، بعدما انتهت الصلاة دعاه قال معاوية : فبأبي هو وأمي! والله ما كهرني ولا نهرني -لا أنكر عليه بالوجه ولا باللسان، ما كهره ولا نهره- وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) أو كما قال، ولم يأمره بالإعادة. وهذا بناء على أن من فعل محذوراً جاهلاً فليس عليه شيء.

وفي حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) هذا إنسان نسي أنه صائم فمر على البراد، فشرب لأنه عطشان، ونسي أن كان صائماً، ماذا نقول له؟ لا شيء عليه.

رجل آخر معه عنقود عنب، فجعل يأكل من العنقود ناسياً أنه صائم، فلما بقي حبة واحدة ذكر أنه صائم، فقال: سآكل هذه الحبة، إن كان العنقود الأول لا يفطرني فالحبة هذه لا تفطرني، وإن كان يفطرني فقد انتهى الموضوع، ماذا تقولون في هذا؟ أفطر بالحبة الأخيرة؛ لأنه كان الواجب عليه أن يتوقف ويسأل، ربما يقول قائل: هذا أكل الحبة جاهلاً، لكن نقول: هو مفرط، الواجب عليه أن يسأل.

رجلٌ احتجم وهو صائم يظن أن الحجامة لا تفطر، أيفسد صومه؟ لا. لأنه جاهل.

رجل أفطر يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب، فهل يفسد صومه؟ لا.

رجل أكل بعد طلوع الفجر يظن أن قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] أن المراد بالخيوط الحبال، وجعل يأكل ويشرب حتى تبين الحبل الأسود من الحبل الأبيض، أيفسد صومه؟

لا يفسد؛ لأنه كان جاهلاً.

وقد وقعت هاتان القصتان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام:

أما الأولى: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أفطرنا في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في يوم غيمٍ ثم طلعت الشمس) ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به لوجوب الإبلاغ عليهم، فلما لم يأمر به علم بأنه ليس بواجب، وهو داخل في القاعدة: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .

أما الثاني: فـعدي بن حاتم رضي الله عنه كان يريد أن يصوم، وفي الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ فجعل تحت وسادته عقالين أحدهما أسود والثاني أبيض، وجعل يأكل وينظر إلى العقالين فلما تبين الأبيض من الأسود توقف، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمره بالإعادة، لماذا؟ لأنه كان جاهلاً متأولاً؛ يظن أن هذا هو معنى الآية، فلهذا لم يلزمه النبي عليه الصلاة والسلام بالقضاء.

رجل محرم بالحج وفي ليلة العيد وهي ليلة مزدلفة ، بعد أن رجع من عرفة كانت معه زوجته فجامعها، وهو يظن أن الحج قد انتهى، مستدلاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة ) فقال: قد انتهينا من عرفة والحمد لله وظن أنه يجوز أن يجامع زوجته فجامعها.

وكان الجماع قبل التحلل الأول، وهو يفسد النسك، يعني: أن الحج فسد؛ لأن الجماع قبل التحلل الأول مع العلم والذكر يترتب عليه خمسة أمور:

الإثم، وفساد النسك، والمضي فيه، والقضاء من العام القادم، وفدية وهي بدنة، لكن هذا الرجل جاهل فجاء يسألنا، ماذا نقول له؟ نقول: الحج صحيح ولا شيء عليك لأنك جاهل، والرب عز وجل لما دعا المؤمنون: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال الله: قد فعلت.

المهم -يا إخواني- خذوا هذه القاعدة معكم، في الأوامر: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا .

وفي النواهي: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فقال الله تعالى: قد فعلت.

وعرفتم أمثلة واقعية من السنة في أن الإنسان المخطئ لا يعاقب، والناسي لا يعاقب، ولكن لاحظوا أنه متى زال العذر وجب التوقف عن المحظور، يعني: متى علم أو ذكر الإنسان بأنه الآن في محظور وجب عليه أن يتوقف.

تفسير قوله تعالى: (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا)

قال تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] الإصر يعني: الثقل والأغلال، فالمؤمنون من هذه الأمة يسألون الله عز وجل ألا يحمل عليهم إصراً كما حمله على الذين من قبلهم، فقال الله: قد فعلت بقوله تعالى في وصف الرسول عليه الصلاة والسلام: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] فالله تعالى وضع الإصر والأغلال التي كانت على من سبقنا بهذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه.

ونضرب لكم مثلاً: بنو إسرائيل لما عبدوا العجل ماذا ألزموا به لتصح توبتهم؟

ق

قال الله عز وجل: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [البقرة:284] ما: اسم معنى، اسم موصول يعم كل ما في السماوات والأرض فهو لله، لا يشركه فيه أحد، كما قال الله تبارك وتعالى: لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه [سبأ:22-23].

وفي الآية حصر، أي: حصر ملك السماوات والأرض لله وحده؛ والحصر: تخصيص شيء بشيء، فما هو طريق الحصر في هذه الآية؟

طريق الحصر أنه قدم ما حقه التأخير، فقوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لو أردنا أن نعربها لقلنا: (ما) مبتدأ، و(لله) خبره، فقدم الخبر، وتقديم الخبر يفيد الحصر والاقتصار، فملك السماوات والأرض لله وحده، أما ملكنا نحن لما نملكه، كملك الإنسان لقلمه أو لساعته أو لثوبه فهذا ملكٌ قاصر، ولهذا لا يحل لنا أن نتصرف في هذا الملك إلا حسب ما أذن الله لنا فيه، أرأيتم لو أن إنساناً أراد أن ينفق ماله أيملك هذا؟ لا. لأن الله تعالى يقول: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] يعني: فيفسدوها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ انتبه لهذه الجملة من الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ هذه الجملة شديدة على الإنسان؛ إن الإنسان إذا أضمر في نفسه شيئاً حاسبه الله سواء أبداه أو أخفاه، هذا صعب جداً، ولهذا نزلت الآية بعدها، وهي قول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] فالحمد لله رب العالمين، ما لا يمكنك مما تحدثك به نفسك فإنه لا يضرك شيئاً ولو كان أعظم عظيم، لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) اللهم لك الحمد، نعمة امتن الله بها علينا، حديث النفس لا منتهى له، النفس تحدث الإنسان بأشياء ربما تكون فضيعة، ربما تكون كفراً وشركاً وإلحاداً، ولكن هل يؤاخذ على هذا؟ لا. لا يؤاخذ، إنما يجب عليه أن يفعل ما يطرد به هذا الحديث الذي حدثت به النفس، وهو -أي: ما يطرد هذا الحديث- شيئان، وصفهما لنا طبيب الأمة محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: (وليستعذ بالله ولينته) كلمتان: إحداهما تستطيعها وباختيارك وهي الانتهاء، والثانية: بإذن الله عز وجل تستعيذ بالله.

ومعنى الاستعاذة بالله: الالتجاء والاعتصام، أعوذ بالله، أي: ألتجئ إلى الله وأعتصم به، مِمن؟ من الشيطان؛ لأن الذي يلقي هذه الوساوس في القلوب هو الشيطان.

الصحابة رضي الله عنهم شكوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذا، وقالوا: (يا رسول الله! إننا نجد في نفوسنا ما نحب أن نخر من السماء ولا نتكلم به)، وفي حديثٍ آخر: (ما نحب أن يكون أحدنا حممة -أي: فحمة محترقة- ولا يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: أوجدتم ذلك؟ قالوا: نعم. قال: هذا صريح الإيمان) وما معنى (صريح الإيمان)؟ الصريح من كل شيء خالصه، وإنما كان هذا صريح الإيمان؛ لأن الشيطان يحاول أن يكدر هذا الصريح، ولو كان الصريح كدراً ما حاول، ولهذا قيل لـابن مسعود أو ابن عباس : [إن اليهود يقولون: إننا لا نفكر في صلاتنا ولا نوسوس في صلاتنا -يعني: ونحن المسلمون نفكر في الصلاة، نفكر كثيراً بأشياء لا فائدة منها- فقال ابن عباس: وما يفعل الشيطان بقلبٍ خرب] يعني: ماذا يفعل فيه، قلب خربان لا يقربه الشيطان لأنه خارب، إنما يأتي الشيطان للقلوب الصحيحة ليمرضها، والصالحة ليفسدها، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الناس يتساءلون: من خلق كذا؟) يعني: من خلق السماوات؟ الجواب: الله، من خلق الأرض؟ الله، من خلق الشمس؟ الله، من خلق القمر؟ الله، من خلق النجوم؟ الله، ثم يأتي الشيطان يقفز بهم ويقول: من خلق الله؟ أعوذ بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليستعذ بالله، ولينته) وهذه من نعمة الله.

فعليك أخي المسلم! ألا تستولي عليك هذه الوساوس حتى تنخدع وتخضع لها بل اطردها، اطردها بشيئين هما: الاستعاذة بالله، والإعراض عنها، انته عنها، صد عنها، لا تهمك، اشتغل بما بين يديك وانسها حتى تزول بالكلية، وهل هذا يشمل الوساوس في العلاقات بين الزوجين؟ بمعنى: لو أن الشيطان حدثك في نفسك بأنك طلقت زوجتك، أتطلق؟ لا. إنسان يحدث نفسه، يقول: هذه زوجة ليست صالحة، هذه أتعبتني، هذه فعلت ما فعلت، ثم يقول في نفسه: هي طالق دون أن ينطق بها بلسانه، تطلق أو لا؟ لا تطلق، ولهذا ليطمئن أولئك الذين يلقي الشيطان في قلوبهم أنهم طلقوا زوجاتهم دون أن يتكلموا بذلك ليطمئنوا أن زوجاتهم باقيات وأنهن لم يطلقن، وهذه من نعمة الله عز وجل.

وإن هم الإنسان أن يفعل معصية، ولكن تذكر عظمة الله، تذكر عقاب الله، تذكر ما تحدثه المعاصي في القلوب؛ لأن المعاصي سهام القلوب تخرق القلوب حتى تتلف، لما تذكر هذا خاف الله وترك الهم بالمعصية، ماذا يكون عليه؟ يأثم أو لا يأثم؟ لا يأثم بل يؤجر، يكتبها الله تعالى حسنة كاملة، ولله الحمد، قال في الحديث: (لأنه تركها من جرائي) معنى من جرائي: أي من أجلي. فهذه من نعمة الله عز وجل أن حديث النفس لا أثر له، ولكن اخش واحذر أن يتسلط عليك الشيطان حتى يكون هذا الحديث انفعالاً وإرادة فتهلك.

يقول الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يكون الله تعالى قد أعلمنا في الآية الثانية: أنه إذا كان هذا الأمر ليس بوسعنا فإننا غير مكلفين به، ونبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبرنا: بأن الله تجاوز عنا ما حدثت به أنفسنا ما لم نعمل أو نتكلم: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ يعني: إذا حاسبنا الله عز وجل على ما في قلوبنا فإن المشيئة التامة له؛ إن شاء غفر وإن شاء عذب.

وفي الآية إثبات مشيئة الله عز وجل وأنه يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا يسأل عما يفعل؛ لأنه عز وجل لا يفعل شيئاً إلا لحكمة سواء علمناها أم لم نعلمها.

وفي آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] هذه الآية أوجبت للعصاة الذين يعصون الله بغير الشرك أن يتهاونوا، وإذا نهيته عن معصية ارتكبها يقول: الله غفور رحيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ هكذا الشيطان يوسوس لهم، يجعلهم يعملون بالمتشابه من القرآن ويتركون المحكم.

ولكن هل أنت على ثقة من أن تكون ممن شاء الله أن يغفر لهم؟ أجيبوا يا جماعة؟

لا؛ لأنه ما قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) ولم يقيده، بل قيده فقال: (لمن يشاء) فهل أنت على ثقة أنك ممن شاء الله أن يغفر له؟ لست على ثقة.

ثم إن المعاصي يجر بعضها بعضاً، ولذلك حرم النظر للمرأة التي ليست بينك وبينها محرمية، لماذا؟ نظرة فقط حرام؟ لأنه يجر إلى الزنا، فالمعاصي في الواقع مشترك بعضها ببعض، إذا تهاونت بمعصية هون عليك الشيطان ما هو أعظم منها، ثم ما هو أعظم، حتى يوصلك إلى الشرك.

واستمع إلى الذين غمرت قلوبهم المعصية ماذا قالوا عن آيات الله؟ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المطففين:1] يعني: هذه (سواليف) وليست بشيء، قال الله عز وجل: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] انظر المعاصي تجعل الإنسان يتصور أن آيات الله أساطير الأولين؛ لأنه لا يصل معناها إلى قلبه والعياذ بالله، بل هو قلب مغلق، فلا يصل الإيمان بهذه الآيات إلى قلبه، ولا تفيد قلبه شيئاً؛ لأنه قد ران على قلبه ما كان يكسب.

فالمعاصي يا أخي! احذرها ولا تتهاون بها: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] (والله على كل شيء قدير) كل شيء، وهذه الكلمة فيها عمومٌ، كل شيء موجود فهو قادر على إعدامه بلحظة، وكل شيء مفقود فهو قادر على إيجاده بلحظة: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] والله على كل شيء قدير فما هي القدرة؟ القدرة هي: فعل الفاعل بلا عجز، يعني: أن يفعل الفاعل والشيء بلا عجز.

وما هي القوة؟ أن يفعل الشيء بلا ضعف، انتبه للفرق! كثير من الناس لا يفرق بين القدرة والقوة، والواقع أن بينهما فرقاً؛ القوة ضدها الضعف، والقدرة ضدها العجز، واستمع للفرق بين هذا وهذا من القرآن: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم:54] هذه تدل على أن ضد القوة الضعف.

وضد القدرة العجز، استمع: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] ولم يقل: قوياً؛ لأن ضد العجز القدرة.

وهنا أضرب لكم مثلاً حسياً يبين لكم الفرق بين القدرة والقوة:

هذا رجل قلنا له: احمل هذا الحجر، فأراد أن ينقله من الأرض فعجز، فهل نقول: هذا غير قادر أو غير قوي؟ غير قادر.

رجل آخر قلنا: احمل هذا الحجر فحمله لكن بمشقة، فهل نقول: هذا غير قوي أو غير قادر؟ غير قوي، لأنه زحزحه بمشقة.

رجل ثالث قلنا: احمل هذا الحجر، قال: هذا الحجر؟ قلنا: نعم، قال: باسم الله ثم رفعهُ بقوة، هذا نقول عنه: قوي.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [2] 2513 استماع
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [1] 2298 استماع
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [5] 1773 استماع
دروس وفتاوى الحرم المدني 1416ه [3] 1578 استماع
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [7،6] 1405 استماع