أرشيف المقالات

أثر البيئة النباتية في الجانب (السياسي - العسكري) خلال عصر الرسالة

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
أثر البيئة النباتية في الجانب (السياسي – العسكري)
خلال عصر الرسالة
 
لا يمكن الحديث عن الجانب السياسي بمعزل عن الجانب العسكري؛ لأن الجانب العسكريَّ هو الأداة التي تنفِّذ ما أقرَّته الجهة السياسية، كما أن الجهة السياسية قد تلجأ إلى الحل العسكري لفرض إرادتها على الطرف المقابل، إذا ما فشِلت المفاوضات، وانتهى أمد الاتفاقيات.
 
ولا يمكن الحديث عن الأبعاد السياسية والعسكرية بمعزل عن الجانب الاقتصادي في المدينة المنورة؛ لأن الثاني محرِّك للأول، ولأن الحياة الاقتصادية في المدينة المنورة قائمة أساسًا على الجانب النباتي، وتمثِّل الزروع والنخيل مصدرًا مهمًا له.
 
لقد أوردت كتب التاريخ حوادثَ مهمَّة في السيرة النبوية كانت المحرِّك الأساس للأحداث، أو العامل الذي ساعد على تحريكه على أقل تقدير، مما يعطي انطباعًا في أهمية البيئة النباتية وأثرها في الجانب السياسي والعسكري.
 
برزت الإشارة الأولى في أثر البيئة النباتية في جانب المفاوضات السياسية، والتسويات العسكرية بعد غزوة بدر؛ حيث أرسل أبو سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (أما بعد: ...
فإنك قد قتلت أبطالنا، وأيْتَمْتَ الأطفال، وأرْمَلْتَ النساء، والآن قد اجتمعت القبائل والعشائر يطلبون قتالك، وقلع آثارك، وقد جئنا إليك نريد نصف نخل المدينة، فإن أجبْتَنا إلى ذلك، وإلا أبْشِرْ بخراب الديار وقلع الآثار)
[1]، ولم يوافق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المقترح، أو يرضَخ لهذا التهديد؛ ما دعا أبا سفيان لتنفيذ وعيده، وإن كان هذا التنفيذ لا يتوازى مع ما أعلن عنه قوة وضراوة، فقد ذُكِرَ أنه أتى إلى سلام بن مشكم، وكان من سادات بني النضير في زمانه ذلك، وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه، فأذِن له، وقراه وسقاه، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج من عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالًا من قريش إلى المدينة، فأتَوا ناحية منها يُقال لها العريض، فحرقوا في أصوار من نخلٍ بها، ووجدوا رجلًا من الأنصار وحليفًا له في حرث لهما فقتلوهما، ثم انصرفوا راجعين[2]...
 
وعادت البيئة النباتية للظهور في المشهد مؤثِّرة على الجانب السياسي والعسكري في غزوة أحد؛ حيث اقترح صفوان بن أمية قطعَ نخيلِ المدينة، إذا لم يخرج المسلمين لملاقاتهم، فيضعف شأنهم ولا يجرؤ على قتالهم بعدها، فقال: فقال صفوان: إن لم يصحروا لنا - أي يخرجوا إلى الصحراء - عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه، فتركناهم ولا أموال لهم فلا يجتبرونها أبدًا، وإن أصحروا لنا، فعددنا أكثر من عددهم، وسلاحنا أكثر من سلاحهم، ولنا خيل ولا خيل معهم، ونحن نقاتل على وتر عندهم، ولا وتر لهم عندنا[3]، واستخدم النبي صلى الله عليه وسلم الأسلوب نفسه مع بني النضير، عندما اعتصموا بصياصيهم بعد غدرهم بالمسلمين، وذكرها الله عز وجل في القرآن الكريم قال تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 5]، مما يعطي انطباعًا على مدى الأثر التي لعبته البيئة النباتية في الحياة السياسية والعسكرية.
 
ولم يتوقف تأثير البيئة النباتية عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى المساومات السياسية التي تحقق منفعة دنيوية، أو تدفع عنهم شرًّا قائمًا؛ إذ ورد في غزوة الخندق والمشركون محاصرون المدينة في عشرة آلاف، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولًا إلى عيينة بن حصن الفزاري، وهو يومئذٍ رأس الكفار من غطفان، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُلُثَ ثمر نخل المدينة، على أن يخذِّل بين الأحزاب، وينصرف بمن معه من غطفان، فقال عيينة: بل أعطني شطر ثمرها، وأفعل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وهو يومئذٍ سيد الأوس، وإلى سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، فقال لهما: ((إن عيينة بن حصن قد سألني نصف ثمر نخلكم، على أن ينصرف بمن معه من غطفان، ويخذل بين الأحزاب، وإني أعطيته الثُّلُث فأبى إلا النصف، فما تريان؟ قالا: يا رسول الله، إن كنت أمرتَ بشيء فافعله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أمرت بشيء لم أستأمركما فيه، ولكن هذا رأيٌ أعرضه عليكما، قالا: فإنا لا نرى أن نعطيهم إلا السيف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنعم))[4]، ويذكر كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد على النخيل من الجهة الجنوبية يوم الخندق؛ لأن فيها نخلًا كثيرًا تمنع من ولوج الجيش إلى المدينة.
 
ويبدو أن تأثير البيئة النباتية استمر إلى وقت متأخر من حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربدَ بن ربيعة وعامر بن الطفيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسلِمْ يا عامر، فقال: على أن تجعل لي نصف نخل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحول بيننا وبين ذلك سيوف الأنصار، ولكن لك أعنَّة الخيل، فقال عامر: ومن يمنعها مني اليوم؟ ولكن إن شئت فلك الْمَدَرُ، ولي الوبر، أو لي المدر ولك والوبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم))[5].
 
إن هذه الأحداث ترجِّح بصورة كبيرة أن للبيئة النباتية في المدينة المنورة خلال عصر الرسالة دورًا مهمًّا في تحريك الأحداث التاريخية (السياسية - العسكرية) فيها، وأن وقوع المدينة في واحة تمتلك الزروع والنخيل قد جعل من خصوم المسلمين يركزون على مسألتين؛ هما: مشاركة أهل المدينة لخيرتها وزروعها أولًا، وانتزاع هذه الخيرات إن استطاعوا لذلك سبيلًا ثانيًا.

[1] أبو زهرة، محمد، خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، 2 /683، ذكر أبو زهرة أنه نقله من كتاب السيرة لابن جرير الطبري.

[2] ابن إسحاق، السير والمغازي، 131.

[3] الواقدي، المغازي، 1/ 205.

[4] ابن زنجويه، الأموال، 399.

[5] ابن الفراء، نزهة الأبصار، 316.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١