أرشيف المقالات

القياس: تعريفه وأركانه وأنواعه

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
القياس: تعريفه وأركانه وأنواعه
 
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله مُعلِّم الأصول، والصلاة والسلام على خير رسول، وعلى آله وصحبه وأتباعه أهل العلم والقلب العقول، واللسان السؤول.
أما بعد:
يُعتبَر أصل القياس من الأصول المتَّفق عليها بين الأصوليِّين، وهي أربعة: القرآن، والسُّنة، والإجماع، والقياس، جُمِعت في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59]، فـ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ﴾ تُحيل على القرآن، ﴿ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ تُشير إلى السنة، ﴿ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ الإجماع، ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ القياس.
 
لذلك فمن أدلة القياس، قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].
 
كذلك من أدلة السنة، قوله عليه الصلاة والسلام: ((وفي بُضْع أحدكم صَدَقة))، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضَعها في حرام، أكان عليه فيها وِزْر؟ فكذلك إذا وضَعَها في الحلال كان له أجر))، ويُسمَّى هذا بقياس العكس.
 
"وقد جاء شابٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ((ادنه))، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: ((أتحبُّه لأُمِّكَ؟)) قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ((ولا الناس يُحبُّونه لأُمَّهاتهم))، قال: ((أفتُحِبُّه لابنتِكَ؟))، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ((ولا الناس يحبُّونه لبناتهم))، قال: ((أفتُحِبُّه لأُخْتِكَ؟))، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ((ولا الناس يُحبُّونه لأخواتهم))، قال: ((أفتُحبُّه لعمَّتِكَ؟))، قال: لا...
إلى آخر الحديث"، ومحل الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاسَ محارِمَ الشابِّ على المرأة التي يُريد الزنا بها.
 
والقياس لغةً: هو التمثيل؛ نقول لا يُقاس الله بخلقه؛ أي: لا يُمثل، ويأتي بمعنى: التقدير؛ نقول: قاس الثوب إذا قدَّر طولَه وعرضَه.
 
وفي اصطلاح الأصوليين: هو ردُّ واقعةٍ غيرِ منصوصٍ عليها إلى واقعةٍ منصوص عليها؛ لاتفاقهما في العِلَّة، وبالتالي الحكم.
 
الواقعة غير المنصوص عليها تُسمَّى عند أهل العلم بالفرع، وتُسمَّى بالمقيس، وبمعنى آخر: واقعة غير منصوص عليها؛ لم يأتِ فيها دليلٌ خاصٌّ، إلى واقعة منصوص عليها تُسمَّى عند أهل العلم بالأصل، كما تُسمَّى عندهم بالمقيس عليه؛ أي: جاء دليل في بيان حُكْمِها؛ لاتفاق بينهما في العلة، فالمقيس يأخذ حكمَ المقيس عليه؛ إذ يتفقان في الحكم لأن العلة جالبةٌ للحُكْم.
 
وأركان القياس أربعة، وهي:

1- المقيس: وهو الواقعة التي لم يُنَصَّ عليها.2- والمقيس عليه: وهو الواقعة التي نُصَّ عليها.3- العلة: وهي سبب تشريع الحكم، وقيل في تعريفها: "هي الوصف الظاهر المنضبِط المشتمل على حكمة تشريع الحُكْم".
4- والحكم.
 
ونذكر هنا أمثلة حتى يتضح المقال؛ فالمخدِّرات كالحشيش، مقيس أو فرع، لم يأتِ دليل خاص يُبيِّن حكم الحشيش؛ هل هو حرام أم حلال؟ فهو واقعة غير منصوص عليها، وهذا المقيس يُرَدُّ إلى الخمر، وهي واقعة منصوص عليها (المقيس عليه)؛ أي: أصل جاء نص في بيان حكمها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]، فهنا جاء نصٌّ محكم في بيان التحريم، والعِلَّة الجامعة بينهما التي اتَّفقا فيها هي السُّكْر؛ أي: كلاهما يُسْكِر ويُذهِب العقل، وهذا وجه التشابُه بينهما، وعليه فمن أركان القياس أن يتفق المقيس والمقيس عليه في العِلَّة، وهي السُّكْر في هذه الحالة، وقد أخذ حكم المقيس عليه؛ إذًا جميع أنواع المخدِّرات تُقاس على الخَمْر، وجميع أنواع المسكِرات تُقاس عليها، فهذا هو بيان القياس.
 
وفيه أنواع نذكر منها:
قياس الأَوْلى: سُمِّي بالأَوْلى؛ لأن الفرع (المقيس) يكون في حكمه أولى من المقيس عليه، فمثلًا مسألة دفع الوالدين لم يأتِ دليلٌ خاصٌّ يُبيِّن تحريمها؛ أي: تحريم الدفع، فدفعهما في هذه الحالة مقيس، والتأفيف عليهما مقيس عليه، جاء دليل خاص في بيان تحريمه: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾ [الإسراء: 23]؛ وعليه فإن دفع الوالدين فرع ومقيس غير منصوص عليه، والتأفيف على الوالدين أصل ومقيس عليه منصوص عليه، والعلة الجامعة بينهما العقوق، أما الحكم: فهو تحريم الدفع كما حُرِّم التأفيف.
 
وقد سُمِّي هذا بقياس الأَوْلى؛ لأن الدفع أولى في التحريم من قول "أُف"؛ لذلك سمَّاه أهل العلم كذلك، بمعنى أن حكم المقيس أولى من حكم المقيس عليه.
 
ومن أنواعه كذلك: القياس المساوي: وهو تساوي حكم المقيس والمقيس عليه؛ كقياس إتلاف مال اليتيم على أكله، فلا يوجد دليل خاص من الكتاب والسنة يُحرِّم إتلاف مال اليتيم، وقد أنزل تعالى آيةً يُحرم فيها أكل مال اليتيم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، وقد قاس العلماء إتلاف الأموال على أكلها، والإتلاف يتساوى مع الأكل.
 
هناك أيضًا من أنواع القياس: قياس الدِّلالة أو الدَّلالة: وهو اتفاق المقيس والمقيس عليه في العلة، لكن لا يكون الاتفاق واضحًا بينهما، حيث يُعرف ذلك بدليل العلَّة؛ لذلك سُمِّي بقياس الدلالة؛ أي: لا يُعرف إلا بدليلها لا بذاتها؛ يعني: بأثر العلة، مثال ذلك: امرأة ليس لها زوج فحملت، تقاس على الزانية، فهي مقيس والزانية مقيس عليه، والعلة الجامعة بينهما الزنا، وقد عرفنا الزنا في حالة المقيس لأثر العلة وهو الحمل، فالحمل أثر للجِماع؛ لذلك سمي بقياس الدلالة؛ أي: بدليل العلة وليس بذات العِلَّة، والحكم اللازم لها هو إقامة الحد على الحامل من غير زوج بالرَّجْم إن كانت ثيِّبًا، وإلَّا فالجلد إن كانت بِكْرًا.
 
من أنواع القياس كذلك: قياس الشبه: وهو وقوع التشابُه في الأصل، أو بين الأصلَينِ، إذ نرى أَنقيس على هذا الأصل أم على الآخر؟ مثال ذلك: قياس العبد المقتول خطأً على الحُرِّ أو على البهائم، وعموم المملوكات، فالعبد المقتول خطأً مقيس، والحُرُّ المقتول خطأً مقيسٌ عليه، والعِلَّة الجامعة بينهما أنهما معًا بَشَرٌ، والحكم المطلوب هو وجوب دفع الدِّيَة إلى سيِّد العبد؛ لكن بعض أهل العلم خالفوا في ذلك، وقالوا: إن الأصل الذي ينبغي أن يُقاسَ عليه العبدُ هو المملوك؛ كالبهيمة التي قُتِلتْ خطأً؛ لأن العبد مملوكٌ، ويتشابه مع المملوكات، فالعِلَّة الجامعة بينهما أن كليهما مملوكٌ، والحكم في هذه الحالة هو دفع قيمة العبد إلى سيِّده، وليست الدية التي هي مائة ناقة مع الكفَّارة؛ أي: صيام شهرين.
 
إذًا يوجد فرق في الحكم حسب الحالتين؛ حيث وقع التشابُه بين أصلَينِ؛ بين أن يُقاس على الحُرِّ، فنعتبر أن العِلَّة الجامعة بينهما أن كليهما بَشَرٌ، أو يُقاس على البهيمة، وتكون العِلَّة الجامعة بينهما أنهما معًا مملوكان، ويُسمَّى هذا بقياس الشَّبَه.
 
من أنواع القياس:
القياس الجلي والقياس الخفي:
القياس الجلي: وهو الْمُجمع عليه؛ أي: القياس القطعي الذي أجمع عليه العلماء، ولا يحتمل معنًى آخر؛ كقياس المخدِّرات على الخَمْر، حيث هناك تشابُه في العِلَّة.
 
والقياس الخفي: وهو الذي فيه خلاف بسبب عدم قطعية العِلَّة، مثلًا نبات في اليمن يُقال له: "القات"، اختلف علماء اليمن في تحريمه، فالذين حرَّمُوه قاسوه على الخَمْر، وقاسوه على السجارة، والذين لم يُحرِّمُوه لم يقولوا بعِلَّة الإسكار، أو بعِلَّة الضَّرَر، وبالتالي فهذا قياس خفي ظنِّي.
 
من أنواع القياس:
قياس الطرد وقياس العكس:
الطرد: وهو اطِّراد العِلَّة في أي زمان ومكان، مثلًا إهلاك الله تعالى لعاد: ﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴾ [الذاريات: 41]، فقد أهلكهم الله تعالى لعِلَّة معصيتهم له، وكُفْرهم بآياته، فهذه عِلَّة مُطَّرِدة؛ أي: إن وجود قوم كفروا بآيات الله، وعصوا الله، فلا يُجلب لهم إلا هذا الحكم الذي هو الهلاك عاجلًا أم آجلًا؛ لذلك سُمِّي بقياس الطرد؛ يعني: أن الحكم يطَّرِد باطِّراد العِلَّة.
 
وقياس العكس: هو عكس الحكم؛ مثاله قوله عليه الصلاة والسلام: ((أَرَأَيْتَ إِنْ وَضَعَها في الْحَرامِ أَكانَ عَلَيْهِ فِيها وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إذا وَضَعَها في الْحَلالِ كانَ لَهُ فِيها أَجْرٌ))، والمفهوم أنه إن وضعها في حلال يُؤجَر؛ لذلك سُمِّي بقياس العكس؛ أي: عكس الظاهر، فمثلًا الذي أشرك بالله يُخلَّد في النار، وبالتالي فالذي وحَّد الله يُخلَّد في الجنة، وهذا النوع هو المسمَّى بقياس العكس.
 
إذًا فأنواع القياس مبحث شاسع أصولي مهم، اعتنى به العلماء؛ لأنه من مصادر التشريع واستنباط الأحكام، وهو واجبٌ على طالب العلم؛ لأنه لا يُمكن أن يُفتي في دين الله، وأن يفهم كتاب الله وسُنَّة رسوله من غير أن يطَّلِع على هذا المبحث المهم والضروري.
 
ونسأل الله تعالى أن يُوفِّقَنا إلى فَهْم كتابه وسُنَّة رسوله، وأن يرزُقنا التقوى والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

شارك الخبر

المرئيات-١