شرح العقيدة الطحاوية [77]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (ونحن مؤمنون بذلك كله، لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به):

الإشارة بذلك إلى ما تقدم، مما يجب الإيمان به تفصيلاً، وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله).. إلى آخر كلامه، أي: لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بهم ونصدقهم كلهم، فإن من آمن ببعض وكفر ببعض كافر بالكل، قال تعالى: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151].

فإن المعنى الذي لأجله آمن بمن آمن منهم موجود في الذي لم يؤمن به؛ وذلك الرسول الذي آمن به قد جاء بتصديق بقية المرسلين، فإذا لم يؤمن ببعض المرسلين كان كافراً بمن في زعمه أنه مؤمن به؛ لأن ذلك الرسول قد جاء بتصديق المرسلين كلهم، فكان كافراً حقاً، وهو يظن أنه مؤمن، فكان من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ].

قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) ].

صحة العبارة: لا يخلدون في النار، لكنه راعى السجع؛ فأوهمت العبارة، فالمعنى: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلدون في النار، والتقدير بأنهم في النار ثم لا يخلدون خطأ، فـالطحاوي راعى السجع فقدم كلمة (النار) على (لا يخلدون)؛ وهذا يفهم منه أنهم في النار في أول وهلة، والصحيح التفصيل كما سيأتي؛ وهو أن أهل الكبائر تحت المشيئة: إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم، وبعضهم يغفر له وبعضهم قد يعذب، ومن يعذب لا يخلد.

قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون؛ وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته؛ وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله! مسكنا بالإسلام حتى نلقاك به ].

في هذه الجملة تعرض لأصل من الأصول الكبرى التي خالف فيها كثير من الفرق أهل السنة والجماعة، وهي مسألة مرتكب الكبيرة، ويمكن أن نلخص أقوال الناس في أهل الكبائر بما يلي:

أولاً: أن مرتكب الكبيرة إذا تاب من ذنبه قبل الموت، فهذا لا شك أنه يغفر له ذنبه، بمعنى أنه تقبل منه توبته إذا صدق وتوافرت فيه شروط التوبة، وهذا باتفاق، وإن كان هناك من بعض الجهلة من يخوض في بعض تفاصيل المسألة، لكن في الجملة لا نجد في أصول الفرق التي خالفت أهل السنة والجماعة -كالخوارج والمعتزلة- من يشك في هذه المسألة، أن من تاب تاب الله عليه.

وأما إذا أصر عليها في الدنيا ثم مات عليها فأقوال الناس في هذه المسألة على النحو الآتي:

قول أهل السنة والجماعة

أولاً: قول أهل السنة والجماعة: وهو أن مرتكب الكبيرة ما دام مصراً على كبيرته في الدنيا فإنه يبقى فيه أصل الإيمان، لكنه فاسق بكبيرته، وقد يسمى بحسب عمله، قد يسمى ظالماً، وقد يسمى فاجراً، وقد يسمى فاسقاً، وقد يسمى عاصياً، وقد يطلق عليه وصف النفاق إذا كانت فيه خصلة من خصال النفاق، لكن ليس المقصود به النفاق المطلق، فيقال: فيه نفاق، فيه جاهلية.. إلى آخره، ويسمى مبتدعاً إذا كانت معصيته بدعة، لكن يبقى فيه مسمى الإيمان وأصل الإيمان، فيسمى مؤمناً ويعامل معاملة أهل القبلة إلا لمصلحة راجحة فيهجر ليتوب، أو ليكف فساده عن الناس، ويقام الحد عليه في الدنيا، كل هذه الأمور لا تمنع من كونه مؤمناً، ولا تمنع أن يكون من أهل القبلة وأن تجرى عليه أحكام أهل القبلة في الجملة، وحجبه عن بعض حقوق أهل القبلة لا يعني أنه خرج منهم، فقد لا يصلي عليه بعض أهل العلم، ولا يعني ذلك أنه ليس بمسلم، وقد لا يحضر جنازته، وقد لا يعوده في أثناء مرضه، لكن هذا لمصلحة، ولا يعني أنه ليس بمسلم، وهذه من الأمور التي اشتبهت على كثير من صغار طلاب العلم؛ يأخذون بعض مواقف السلف تجاه المبتدعة أو تجاه أهل الكبائر أو الظالمين أو نحوهم، فيظنون أن هذا يعني الحكم عليهم بالكفر أو نحو الكفر، أو أنهم يحرمون من حقوقهم التي ثبتت لهم بالإسلام، والحال أن هؤلاء لهم حكم تفصيلي، فلابد من اعتبار المصالح ودرء المفاسد فيهم، ومعرفة حكم السلف على الشخص وإن عاملوه معاملة قاسية؛ فالسلف قد يهجرون المبتدع، قد يهجرون الفاسق والفاجر، قد يقيمون عليه الحد في الدنيا، قد يصفونه بالفسق والفجور، قد يتركون بعض حقوقه من الصلة أو الزيارة عند المرض أو الصلاة عليه أو حضور جنازته، أو حضور وليمته أو نحو ذلك، قد يفعل هذا كثير من أئمة الدين، وهذا نوع من الهجر لمصلحة، ولكن لا يعني الحكم عليه بأنه ليس بمسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في حق بعض موتى الصحابة: (صلوا على صاحبكم)، وكذلك فعل بعض السلف، فهذا ما يتعلق بحكم مرتكب الكبيرة في الدنيا عند أهل السنة.

أما في الآخرة فإن مرتكب الكبيرة إذا مات مصراً على كبيرته فإنه تحت مشيئة الله عز وجل: إن شاء غفر له، وأسباب الغفران كثيرة جداً، وأحياناً يغفر الله للعبد بغير سبب منه، بل برحمة الله عز وجل ولطفه بعبده، وإن شاء عذبه في النار، وإن عذبه الله عز وجل فلابد أن يخرج منها بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة لأهل الكبائر من أمته، وقد ضمنها الله له يوم القيامة، أو بشفاعة الشافعين الآخرين، كشفاعة الأنبياء، وشفاعة الرسل، وشفاعة الصالحين، وشفاعة الشهداء على القول بأن حديث شفاعة الشهداء صحيح، وشفاعة القرآن، وشفاعة الصيام، وشفاعة أطفال المسلمين إذا ماتوا قبل البلوغ واحتسبهم أهلهم عند الله عز وجل، كل هذه من أسباب خروج أهل الكبائر من النار، ثم برحمة الله عز وجل قبل ذلك وبعده.

أما الفرق فقد اختلفت اختلافاً كثيراً في مصير أهل الكبائر في الآخرة نوجزه على النحو الآتي:

قول الخوارج والمعتزلة والمرجئة

أولاً: الخوارج، فالخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا كافر، أي: يحكمون عليه بأحكام الكفر في الغالب، وإن كان بعضهم قد يسميه كافراً ومع ذلك لا يحكم عليه بجميع أحكام الكفر، ففرقهم تختلف في هذا اختلافاً كثيراً، وإذا مات على كبيرته فإنهم يرون أنه مخلد في النار مطلقاً.

ثانياً: المعتزلة، وقد وافقوا الخوارج في بعض أقوالهم وخالفوهم في بعضها، فأما في الدنيا فقد نفت المعتزلة عن مرتكب الكبيرة الإيمان ونفت عنه الكفر، وبعضهم يسميه فاسقاً، وبعضهم يقول: هو في منزلة بين المنزلتين، فمنزلة بين المنزلتين اصطلاح جديد لم يرد به الشرع، يريدون به أنه ليس بمؤمن ولا بكافر.

أما في الآخرة؛ فإن مرتكب الكبيرة عندهم -كما هو حاله عند الخوارج- من أهل النار المخلدين فيها، ولا يدخل تحت مشيئة الله عز وجل ولا تشمله الشفاعة، لكن بعضهم يقول بأن له ناراً غير نار الكافرين، أي أنها أخف من نار الكافرين، وهذه أيضاً مقولة عجيبة ليس لها مستند.

ثالثاً المرجئة، وأقوال المرجئة أيضاً تتفاوت، فالمرجئة الغلاة يرون أن مرتكب الكبيرة ما دام مؤمناً بالله عز وجل فهو مؤمن في الدنيا والآخرة، ولا يضره أي ذنب يفعله ما دام مؤمناً، وهو في الآخرة مضمونة له الجنة، حتى وإن ارتكب من الكبائر ما ارتكب.

أما مرجئة الفقهاء فيقولون بأن مرتكب الكبيرة في الدنيا عاص، وقولهم شبيه بقول أهل السنة والجماعة عموماً، وإن كان المتأخرون منهم تساهلوا في مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل معه، وأما الأوائل فإن رأيهم في مرتكب الكبيرة في الدنيا قريب من رأي أهل السنة والجماعة، وإن كان عندهم نوع تساهل، ومن ذلك أن بعضهم يدخل بعض الأمور المكفرة المخرجة من الملة في مسمى الكبائر، فلا يرون أن مرتكبها يخرج بها من الملة مادامت عملية، وهذا من أهم الفوارق في حكم مرتكب الكبيرة في الدنيا بين أهل السنة والمرجئة عند التفصيل، فهم عند الإجمال يقولون بقول أهل السنة والجماعة، لكن عند التفصيل فإن الكبائر المكفرة عندهم ما دامت عملية لا تخرج من الملة، ويبقى صاحبها مؤمناً، ويكون حكمه حكم المؤمنين في الدنيا والآخرة، وهذا فيه نظر؛ فإن الكبائر المخرجة -كالشركيات والبدع المغلظة- يخرج بها المؤمن من مسمى الإيمان إلى الردة والكفر، أما في الآخرة فإن مرجئة الفقهاء يقولون بقول أهل السنة والجماعة في الجملة.

قال رحمه الله تعالى: [ فقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) رد لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم من الإيمان، لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين منزلتين، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله).

وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) تخصيصه أمة محمد يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذاك نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولم يخص أمته بذلك، بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله، وليس في بعض النسخ ذكر الأمة.

وقوله: (في النار) معمول لقوله: (لا يخلدون)، وإنما قدمه لأجل السجعة، لا أن يكون (في النار) خبراً لقوله: (وأهل الكبائر)، كما ظنه بعض الشارحين ].

أولاً: قول أهل السنة والجماعة: وهو أن مرتكب الكبيرة ما دام مصراً على كبيرته في الدنيا فإنه يبقى فيه أصل الإيمان، لكنه فاسق بكبيرته، وقد يسمى بحسب عمله، قد يسمى ظالماً، وقد يسمى فاجراً، وقد يسمى فاسقاً، وقد يسمى عاصياً، وقد يطلق عليه وصف النفاق إذا كانت فيه خصلة من خصال النفاق، لكن ليس المقصود به النفاق المطلق، فيقال: فيه نفاق، فيه جاهلية.. إلى آخره، ويسمى مبتدعاً إذا كانت معصيته بدعة، لكن يبقى فيه مسمى الإيمان وأصل الإيمان، فيسمى مؤمناً ويعامل معاملة أهل القبلة إلا لمصلحة راجحة فيهجر ليتوب، أو ليكف فساده عن الناس، ويقام الحد عليه في الدنيا، كل هذه الأمور لا تمنع من كونه مؤمناً، ولا تمنع أن يكون من أهل القبلة وأن تجرى عليه أحكام أهل القبلة في الجملة، وحجبه عن بعض حقوق أهل القبلة لا يعني أنه خرج منهم، فقد لا يصلي عليه بعض أهل العلم، ولا يعني ذلك أنه ليس بمسلم، وقد لا يحضر جنازته، وقد لا يعوده في أثناء مرضه، لكن هذا لمصلحة، ولا يعني أنه ليس بمسلم، وهذه من الأمور التي اشتبهت على كثير من صغار طلاب العلم؛ يأخذون بعض مواقف السلف تجاه المبتدعة أو تجاه أهل الكبائر أو الظالمين أو نحوهم، فيظنون أن هذا يعني الحكم عليهم بالكفر أو نحو الكفر، أو أنهم يحرمون من حقوقهم التي ثبتت لهم بالإسلام، والحال أن هؤلاء لهم حكم تفصيلي، فلابد من اعتبار المصالح ودرء المفاسد فيهم، ومعرفة حكم السلف على الشخص وإن عاملوه معاملة قاسية؛ فالسلف قد يهجرون المبتدع، قد يهجرون الفاسق والفاجر، قد يقيمون عليه الحد في الدنيا، قد يصفونه بالفسق والفجور، قد يتركون بعض حقوقه من الصلة أو الزيارة عند المرض أو الصلاة عليه أو حضور جنازته، أو حضور وليمته أو نحو ذلك، قد يفعل هذا كثير من أئمة الدين، وهذا نوع من الهجر لمصلحة، ولكن لا يعني الحكم عليه بأنه ليس بمسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في حق بعض موتى الصحابة: (صلوا على صاحبكم)، وكذلك فعل بعض السلف، فهذا ما يتعلق بحكم مرتكب الكبيرة في الدنيا عند أهل السنة.

أما في الآخرة فإن مرتكب الكبيرة إذا مات مصراً على كبيرته فإنه تحت مشيئة الله عز وجل: إن شاء غفر له، وأسباب الغفران كثيرة جداً، وأحياناً يغفر الله للعبد بغير سبب منه، بل برحمة الله عز وجل ولطفه بعبده، وإن شاء عذبه في النار، وإن عذبه الله عز وجل فلابد أن يخرج منها بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة لأهل الكبائر من أمته، وقد ضمنها الله له يوم القيامة، أو بشفاعة الشافعين الآخرين، كشفاعة الأنبياء، وشفاعة الرسل، وشفاعة الصالحين، وشفاعة الشهداء على القول بأن حديث شفاعة الشهداء صحيح، وشفاعة القرآن، وشفاعة الصيام، وشفاعة أطفال المسلمين إذا ماتوا قبل البلوغ واحتسبهم أهلهم عند الله عز وجل، كل هذه من أسباب خروج أهل الكبائر من النار، ثم برحمة الله عز وجل قبل ذلك وبعده.

أما الفرق فقد اختلفت اختلافاً كثيراً في مصير أهل الكبائر في الآخرة نوجزه على النحو الآتي:

أولاً: الخوارج، فالخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا كافر، أي: يحكمون عليه بأحكام الكفر في الغالب، وإن كان بعضهم قد يسميه كافراً ومع ذلك لا يحكم عليه بجميع أحكام الكفر، ففرقهم تختلف في هذا اختلافاً كثيراً، وإذا مات على كبيرته فإنهم يرون أنه مخلد في النار مطلقاً.

ثانياً: المعتزلة، وقد وافقوا الخوارج في بعض أقوالهم وخالفوهم في بعضها، فأما في الدنيا فقد نفت المعتزلة عن مرتكب الكبيرة الإيمان ونفت عنه الكفر، وبعضهم يسميه فاسقاً، وبعضهم يقول: هو في منزلة بين المنزلتين، فمنزلة بين المنزلتين اصطلاح جديد لم يرد به الشرع، يريدون به أنه ليس بمؤمن ولا بكافر.

أما في الآخرة؛ فإن مرتكب الكبيرة عندهم -كما هو حاله عند الخوارج- من أهل النار المخلدين فيها، ولا يدخل تحت مشيئة الله عز وجل ولا تشمله الشفاعة، لكن بعضهم يقول بأن له ناراً غير نار الكافرين، أي أنها أخف من نار الكافرين، وهذه أيضاً مقولة عجيبة ليس لها مستند.

ثالثاً المرجئة، وأقوال المرجئة أيضاً تتفاوت، فالمرجئة الغلاة يرون أن مرتكب الكبيرة ما دام مؤمناً بالله عز وجل فهو مؤمن في الدنيا والآخرة، ولا يضره أي ذنب يفعله ما دام مؤمناً، وهو في الآخرة مضمونة له الجنة، حتى وإن ارتكب من الكبائر ما ارتكب.

أما مرجئة الفقهاء فيقولون بأن مرتكب الكبيرة في الدنيا عاص، وقولهم شبيه بقول أهل السنة والجماعة عموماً، وإن كان المتأخرون منهم تساهلوا في مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل معه، وأما الأوائل فإن رأيهم في مرتكب الكبيرة في الدنيا قريب من رأي أهل السنة والجماعة، وإن كان عندهم نوع تساهل، ومن ذلك أن بعضهم يدخل بعض الأمور المكفرة المخرجة من الملة في مسمى الكبائر، فلا يرون أن مرتكبها يخرج بها من الملة مادامت عملية، وهذا من أهم الفوارق في حكم مرتكب الكبيرة في الدنيا بين أهل السنة والمرجئة عند التفصيل، فهم عند الإجمال يقولون بقول أهل السنة والجماعة، لكن عند التفصيل فإن الكبائر المكفرة عندهم ما دامت عملية لا تخرج من الملة، ويبقى صاحبها مؤمناً، ويكون حكمه حكم المؤمنين في الدنيا والآخرة، وهذا فيه نظر؛ فإن الكبائر المخرجة -كالشركيات والبدع المغلظة- يخرج بها المؤمن من مسمى الإيمان إلى الردة والكفر، أما في الآخرة فإن مرجئة الفقهاء يقولون بقول أهل السنة والجماعة في الجملة.

قال رحمه الله تعالى: [ فقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) رد لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم من الإيمان، لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين منزلتين، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله).

وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) تخصيصه أمة محمد يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذاك نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولم يخص أمته بذلك، بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله، وليس في بعض النسخ ذكر الأمة.

وقوله: (في النار) معمول لقوله: (لا يخلدون)، وإنما قدمه لأجل السجعة، لا أن يكون (في النار) خبراً لقوله: (وأهل الكبائر)، كما ظنه بعض الشارحين ].

قال رحمه الله تعالى: [ واختلف العلماء في الكبائر على أقوال، فقيل: سبعة، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ما اتفقت الشرائع على تحريمه، وقيل: ما يسد باب المعرفة بالله، وقيل: ذهاب الأموال والأبدان، وقيل: سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها، وقيل: لا تعلم أصلاً، أو: إنها أخفيت كليلة القدر، وقيل: إنها إلى السبعين أقرب، وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقيل: إنها ما يترتب عليها حد، أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، وهذا أمثل الأقوال ].

هذا هو أجمع الأقوال، خاصة إذا أضيف إليه الإصرار على الصغيرة، فالكبيرة ما يترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد بالنار في الآخرة أو اللعنة أو الغضب من الله عز وجل، وكذلك ما يشابهه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا)، (من تشبه بقوم فهو منهم) إذا كان التشبه يتعلق بالأمور العقدية والعبادية ونحوها، وكذلك البراءة من الفاعل ونحو ذلك، فالمهم أن الألفاظ التي يفهم منها الوعيد بأي وجه مع الإصرار على الصغائر نستطيع أن نفرق بها بين الكبيرة والصغيرة وإن لم تكن حدية قاطعة، لكنها أحسن الضوابط، تجمع الفروق بين الصغيرة والكبيرة بشيء من الدقة.

قال رحمه الله تعالى: [ واختلفت عبارات قائليه: منهم من قال: الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة ].

المقصود بذلك الحدود في الدنيا، وحد الآخرة الذي هو الوعيد بالنار ونحو ذلك، كالوعيد بعذاب القبر.

قال رحمه الله تعالى: [ ومنهم من قال: كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، ومنهم من قال: الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، أعني المقدرة، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة والغضب ].

ضوابط الصغيرة هنا تعود إلى ضوابط الكبيرة، فإذا قلنا: إن ضوابط الكبيرة هي تلك الضوابط؛ فالصغيرة ما دون ذلك، وهذا ما أراد أن يقرره، لكن فصله مرة أخرى على وجه كان ينبغي أن يقرره على القاعدة الأولى، فيقول: ما دون ذلك فهو صغيرة، وينتهي الإشكال.

وجوه ترجيح القول بأن الكبيرة ما وجب فيه حد أو ورد فيه وعيد

قال رحمه الله تعالى: [ وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره؛ فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة: كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك؛ كالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور، وأمثال ذلك.

وترجيح هذا القول من وجوه:

أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كـابن عباس وابن عيينة وابن حنبل وغيرهم.

الثاني: أن الله تعالى قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر.

الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب؛ فهو حد متلقى من خطاب الشارع.

الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال.

فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشر، أو إلى السبعين أقرب مجرد دعوى، ومن قال: ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، والمحرم بالرضاعة والصهرية. ونحو ذلك ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة ونحو ذلك من الكبائر! وهذا فاسد.

ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير والميتة والدم، وقذف المحصنات ليس من الكبائر! وهذا فاسد.

ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر! وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر.

ومن قال: إنها لا تعلم أصلاً، أو: إنها مبهمة؛ فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره، والله أعلم ].

قال رحمه الله تعالى: [ وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره؛ فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة: كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك؛ كالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور، وأمثال ذلك.

وترجيح هذا القول من وجوه:

أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كـابن عباس وابن عيينة وابن حنبل وغيرهم.

الثاني: أن الله تعالى قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر.

الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب؛ فهو حد متلقى من خطاب الشارع.

الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال.

فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشر، أو إلى السبعين أقرب مجرد دعوى، ومن قال: ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، والمحرم بالرضاعة والصهرية. ونحو ذلك ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة ونحو ذلك من الكبائر! وهذا فاسد.

ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير والميتة والدم، وقذف المحصنات ليس من الكبائر! وهذا فاسد.

ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر! وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر.

ومن قال: إنها لا تعلم أصلاً، أو: إنها مبهمة؛ فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره، والله أعلم ].