كيف نستقبل رمضان [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد أخرج النسائي في السنن بإسناد صحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبشر أصحابه بمقدم رمضان، فيقول: قد أظلكم شهر كريم، تصفد فيه مردة الشياطين، وتوصد فيه أبواب النار، وتفتح فيه أبواب الجنة )، وفي رواية: ( تفتح فيه أبواب السماء )، وهذه البشارة النبوية الكريمة هي بشارة للمسلمين المستعدين لصيام رمضان وقيامه، وأداء الأعمال الصالحة فيه ليستقبلوه بقلوب مؤمنة، وبتوبة خالصة نصوح، مكفرة لما مضى من السيئات؛ ليكونوا فيه من الفائزين بالسبق، ومن الفائزين بالعتق من النار.

رمضان شهر القرآن

فهذا الشهر الكريم ميزه الله على سائر الشهور بكثير من الميزات والتفضيل، فقد جعله شهر القرآن، فيه كانت بداية نزوله كما قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وكانت بداية نزوله في ليلة القدر منه كما قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وخصه الله سبحانه وتعالى بأن جعل صيامه ركناً من أركان الإسلام، فمن أنكر وجوبه كفر وخرج من الملة، ومن أقر بوجوبه، وامتنع من أدائه كان فاجراً يعاقب على ذلك، ويحبس، ويمنع من الأكل والشرب ومبطلات الصوم في النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

وقد فرضه الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في المدينة، واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيامه، وسن للمؤمنين قيامه مع صيامه، وجعلهما مكفرين لجميع السيئات الماضية، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).

الاستمرار في عبادة صيام رمضان

كما خص الله هذا الشهر الكريم بأن جعله عبادةً مستمرةً، يتشبه فيها الإنسان بالملائكة الكرام، فالإنسان كائن بين نوعين من أنواع الكائنات، نوع أسمى منه وهو الملائكة الكرام، فهم عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، محضهم الله لطاعته، وكلفهم بعبادته، ولم يسلط عليهم الشهوات، ولم يمتحنهم بها، فهم ناجحون فائزون دائماً. والصنف الأدنى من الإنسان هو الحيوان البهيم سلط الله عليه الشهوات، ولم يكلفه بالتكاليف، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين فهو مكلف بتكاليف، ممتحن بالشهوات، فإن هو أدى التكاليف، ولم يتبع الشهوات، التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيم، بل يكون أدنى منه؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان أكبر من الحجة القائمة على الحيوان، قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]؛ ولذلك ضرب الله أسوأ الأمثلة من الحيوانات للذين عدلوا عن سبيله ومنهجه من الإنسان، فقال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5].

وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:175-177].

والملائكة الكرام عملهم ديمة، فالراكع منهم راكع أبداً، والساجد ساجد أبداً، والمسبح مسبح أبداً، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير ابن جرير وغيره أنه قال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيها ساجد أو راكع ).

والإنسان عاجز عن مواصلة العبادة عمره كله، فاحتيج إلى أن يكون له عبادة مستمرة تشبه عبادة الملائكة، فجعل الله الصيام سداً لهذه الثغرة، فالصائم يستطيع أن ينام وهو صائم، ويستطيع أن يدخل الخلاء وهو صائم، ويستطيع أن يبيع ويشتري وهو صائم، ويستطيع أن يزاول عمله المكتبي وهو صائم، فلا ينقض الصوم كل هذه الأمور، لا ينقضه إلا المحرمات المنافية له كالأكل والشرب والجماع، أما ما سوى ذلك من أعمال الإنسان فلا تنافي الصيام، فهو إذاً عبادة مستمرة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وعلى هذا يستطيع الإنسان أن يجمع بينها وبين غيرها.

بل إن مذهب المالكية أن رمضان جميعاً عبادة واحدة، فتكفيه نية واحدة، إلا إذا انقطع التتابع بموجب أو مبيح، فالموجب كالحيض والنفاس وكالمرض الذي يخاف منه هلاك أو فقد لإحدى الحواس، والمبيح كالسفر وكالمرض الذي دون فقط إحدى الحواس، فإذا نوى الإنسان في الليلة الأولى من رمضان صيام هذا الشهر جميعاً فتلك النية كافية لكل ما يجب تتابعه منه، فإذا سافر في أثنائه وأراد مواصلة الصيام فعليه أن يجدد النية كل ليلة، وكذلك إذا حاضت المرأة ثم طهرت فيجب عليها أن تبتدئ نيةً جديدةً لباقي الشهر بعد طهرها، وكذلك إذا مرض الإنسان فوجب عليه الفطر، أو أبيح له، سواءً كان المرض عظيماً يخشى به الهلاك، أو يخشى به فقد إحدى الحواس الخمس، أو دون ذلك فإنه إذا برئ وأراد أن يصوم فلا بد أن يجدد النية، ولا تكفيه النية الماضية، وما سوى ذلك تكفيه النية السابقة؛ لأن المالكية يرون أن رمضان عبادة واحدة.

رمضان موسم لتنافس الناس

كذلك مما خص الله به هذا الشهر أن جعل فيه موسماً عظيماً من مواسم الخير يتنافس الناس فيه بتقرب من الله سبحانه وتعالى، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهذا الموسم يتفاوت الناس فيه، فمنهم من يغفل عن شعبان، ويبقى في أعماله وانشغالاته حتى يبغته رمضان، وهؤلاء منهم المقصرون الذين يستمرون على تقصيرهم، فلا يفرقون بين رمضان وبين غيره من الشهور، ويستقبلون رمضان بما كانوا فيه من حياتهم وشئونهم، وهؤلاء لا شك مقصرون مغبونون، ومن أدرك رمضان فلم يغفر فلا غفر له.

ومنهم من يحاول اللحاق بالركب، والاستمرار في السير، لكن يجد نفسه مسبوقاً قد سبقه السابقون بالخيرات بإذن الله، ولعله يكون من المقتصدين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم.

والذين يستقبلونه بروح طيبة، وتوبة نصوح، واستعداد وإعداد للطاعة والعبادة، ولا يريدون أن يبقى باب من أبواب الخير إلا كانت لهم فيه مشاركة، ولا يريدون أن يبقى باب من أبواب الجنة إلا كتبت أسماؤهم فيه، هم الذين يسبقون بالخيرات بإذن الله، ويستعدون لصيامه وقيامه والأعمال الصالحة فيه، فلا يأتي رمضان إلا وقد تطهروا من الآثام والسيئات بالتوبة النصوح، ويأتي وهم على استعداد كامل للحسنات؛ لأن الحسنة تدعو إلى الحسنة، كما أن السيئة تدعو إلى السيئة، فيوفقون لصيامه كاملاً، حتى يثبت لهم الأجر، وتحصل لهم الفرحة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أنه قال: ( للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه )، والمقصود بفرحته عند فطره قيل: أنه فات الشيطان بيوم كامل وعبادة تامة، وقيل: المقصود فرحته عند فطره بالدعوة التي لا ترد، وأما فرحته عند لقاء ربه فإن الله تعالى يقول: ( كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم، ويقول الله: فإنه لي وأنا أجزي به، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )، وهذا يدل على أن الأعمال التي توزن الحسنات فيها بعشر أمثالها يستثنى منها الصوم فإن جزاءه غير معدود؛ ولذلك فسر جمهور المفسرين قول الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فسروا الصابرين هنا بالصائمين، فهذا الشهر يسمى شهر الصبر أي: شهر الصوم، والصابرين هنا بمعنى الصائمين، فهم الذين يوفون أجرهم بغير حساب، لا يدخلون في هذا التعداد الذي هو الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بل يعطيهم الله سبحانه وتعالى جوائزه وفضله مما لا يمكن أن يخطر على بال، ولا يمكن أن يعد بحساب.

الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان

وكذلك ميز الله هذا الشهر بأن جعل فيه العشر الأواخر منه، وهي أفضله، وهي موسم عظيم من مواسم الخير، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصها بعبادات خاصة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر جد وشد المئزر، واجتهد، وأيقظ أهله، وأحيا أهله، ودخل معتكفه )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وفي بداية انشغاله بالاعتكاف ( اعتكف العشر الأوائل، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواسط فأتاه فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يزل يعتكفها ).

ليلة القدر وليلة العتق في العشر الأواخر من رمضان

وكذلك خصه الله بليلتين عظيمتين فيه هما ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، من وفق لقيامها فإنه يغفر له ما تقدم من ذنبه، ويزداد عمره بأربع وثمانين سنةً وزيادة؛ لأن فائدة العمر التقوى وما يقرب من الله والعمل الصالح، أما ما سوى ذلك من التمتع بالملذات والشهوات فهو أمر مشترك بين سائر الحيوانات تشترك فيه النملة والفأرة مع الإنسان، فقيمة عمر الإنسان إنما هي ما يرجح كفة حسناته يوم القيامة، فإذا وفق لقيام ليلة القدر فهي خير من ألف شهر، وألف شهر أربع وثمانون سنةً وزيادة من الأشهر، فإذا وفق الإنسان لقيامها فإنه عمره قد زاد بهذا العدد، وهذا خير كثير دون أن ينال فيه مشقةً، ولا ألماً، ولا مرضاً، ولا تعباً من متاعب الدنيا ومشكلاتها.

ثم بعد ذلك الليلة الثانية هي ليلة العتق، وهي آخر ليلة من ليالي رمضان، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يعتق الله الصائمين والصائمات من النار في آخر ليلة من ليالي رمضان. فقيل: أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند نهاية عمله ).

وهذا يدل على أن رمضان إذا كان كاملاً فكان ثلاثين يوماً فالليلة الأخيرة منه ليست ليلة القدر، بل هي ليلة العتق، وكذلك إذا كان تسعاً وعشرين ليلة فالليلة الأخيرة منه ليست ليلة القدر وإنما هي ليلة العتق، وما سوى ذلك من الليالي يحتمل أن تكون فيه ليلة القدر، فالراجح في شأنها أنها متنقلة بين ليالي رمضان، ولكنها في العشر الأواخر أرجى، وهي في أوتارها أرجى أيضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اطلبوها أو التمسوها في العشر الأواخر في أوتارها ) (في أوتارها) أي: في ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، فهذه أوتار العشر الأواخر من رمضان تلتمس فيها ليلة القدر، وقد أخفاها الله سبحانه وتعالى لما فضلها هذا التفضيل العظيم، وإخفاؤها لتشتد المنافسة فيها؛ وليحيي الناس الليالي كلها بحثاً عنها، فالتكليف كله امتحان، والامتحان بقدر مشقته يكون رفع الدرجة فيه، وعلو الشهادة التي ينالها الإنسان.

فهذا الشهر الكريم ميزه الله على سائر الشهور بكثير من الميزات والتفضيل، فقد جعله شهر القرآن، فيه كانت بداية نزوله كما قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وكانت بداية نزوله في ليلة القدر منه كما قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وخصه الله سبحانه وتعالى بأن جعل صيامه ركناً من أركان الإسلام، فمن أنكر وجوبه كفر وخرج من الملة، ومن أقر بوجوبه، وامتنع من أدائه كان فاجراً يعاقب على ذلك، ويحبس، ويمنع من الأكل والشرب ومبطلات الصوم في النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

وقد فرضه الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في المدينة، واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيامه، وسن للمؤمنين قيامه مع صيامه، وجعلهما مكفرين لجميع السيئات الماضية، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).

كما خص الله هذا الشهر الكريم بأن جعله عبادةً مستمرةً، يتشبه فيها الإنسان بالملائكة الكرام، فالإنسان كائن بين نوعين من أنواع الكائنات، نوع أسمى منه وهو الملائكة الكرام، فهم عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، محضهم الله لطاعته، وكلفهم بعبادته، ولم يسلط عليهم الشهوات، ولم يمتحنهم بها، فهم ناجحون فائزون دائماً. والصنف الأدنى من الإنسان هو الحيوان البهيم سلط الله عليه الشهوات، ولم يكلفه بالتكاليف، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين فهو مكلف بتكاليف، ممتحن بالشهوات، فإن هو أدى التكاليف، ولم يتبع الشهوات، التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيم، بل يكون أدنى منه؛ لأن الحجة القائمة على الإنسان أكبر من الحجة القائمة على الحيوان، قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]؛ ولذلك ضرب الله أسوأ الأمثلة من الحيوانات للذين عدلوا عن سبيله ومنهجه من الإنسان، فقال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5].

وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:175-177].

والملائكة الكرام عملهم ديمة، فالراكع منهم راكع أبداً، والساجد ساجد أبداً، والمسبح مسبح أبداً، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير ابن جرير وغيره أنه قال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيها ساجد أو راكع ).

والإنسان عاجز عن مواصلة العبادة عمره كله، فاحتيج إلى أن يكون له عبادة مستمرة تشبه عبادة الملائكة، فجعل الله الصيام سداً لهذه الثغرة، فالصائم يستطيع أن ينام وهو صائم، ويستطيع أن يدخل الخلاء وهو صائم، ويستطيع أن يبيع ويشتري وهو صائم، ويستطيع أن يزاول عمله المكتبي وهو صائم، فلا ينقض الصوم كل هذه الأمور، لا ينقضه إلا المحرمات المنافية له كالأكل والشرب والجماع، أما ما سوى ذلك من أعمال الإنسان فلا تنافي الصيام، فهو إذاً عبادة مستمرة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وعلى هذا يستطيع الإنسان أن يجمع بينها وبين غيرها.

بل إن مذهب المالكية أن رمضان جميعاً عبادة واحدة، فتكفيه نية واحدة، إلا إذا انقطع التتابع بموجب أو مبيح، فالموجب كالحيض والنفاس وكالمرض الذي يخاف منه هلاك أو فقد لإحدى الحواس، والمبيح كالسفر وكالمرض الذي دون فقط إحدى الحواس، فإذا نوى الإنسان في الليلة الأولى من رمضان صيام هذا الشهر جميعاً فتلك النية كافية لكل ما يجب تتابعه منه، فإذا سافر في أثنائه وأراد مواصلة الصيام فعليه أن يجدد النية كل ليلة، وكذلك إذا حاضت المرأة ثم طهرت فيجب عليها أن تبتدئ نيةً جديدةً لباقي الشهر بعد طهرها، وكذلك إذا مرض الإنسان فوجب عليه الفطر، أو أبيح له، سواءً كان المرض عظيماً يخشى به الهلاك، أو يخشى به فقد إحدى الحواس الخمس، أو دون ذلك فإنه إذا برئ وأراد أن يصوم فلا بد أن يجدد النية، ولا تكفيه النية الماضية، وما سوى ذلك تكفيه النية السابقة؛ لأن المالكية يرون أن رمضان عبادة واحدة.

كذلك مما خص الله به هذا الشهر أن جعل فيه موسماً عظيماً من مواسم الخير يتنافس الناس فيه بتقرب من الله سبحانه وتعالى، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهذا الموسم يتفاوت الناس فيه، فمنهم من يغفل عن شعبان، ويبقى في أعماله وانشغالاته حتى يبغته رمضان، وهؤلاء منهم المقصرون الذين يستمرون على تقصيرهم، فلا يفرقون بين رمضان وبين غيره من الشهور، ويستقبلون رمضان بما كانوا فيه من حياتهم وشئونهم، وهؤلاء لا شك مقصرون مغبونون، ومن أدرك رمضان فلم يغفر فلا غفر له.

ومنهم من يحاول اللحاق بالركب، والاستمرار في السير، لكن يجد نفسه مسبوقاً قد سبقه السابقون بالخيرات بإذن الله، ولعله يكون من المقتصدين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم.

والذين يستقبلونه بروح طيبة، وتوبة نصوح، واستعداد وإعداد للطاعة والعبادة، ولا يريدون أن يبقى باب من أبواب الخير إلا كانت لهم فيه مشاركة، ولا يريدون أن يبقى باب من أبواب الجنة إلا كتبت أسماؤهم فيه، هم الذين يسبقون بالخيرات بإذن الله، ويستعدون لصيامه وقيامه والأعمال الصالحة فيه، فلا يأتي رمضان إلا وقد تطهروا من الآثام والسيئات بالتوبة النصوح، ويأتي وهم على استعداد كامل للحسنات؛ لأن الحسنة تدعو إلى الحسنة، كما أن السيئة تدعو إلى السيئة، فيوفقون لصيامه كاملاً، حتى يثبت لهم الأجر، وتحصل لهم الفرحة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره أنه قال: ( للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه )، والمقصود بفرحته عند فطره قيل: أنه فات الشيطان بيوم كامل وعبادة تامة، وقيل: المقصود فرحته عند فطره بالدعوة التي لا ترد، وأما فرحته عند لقاء ربه فإن الله تعالى يقول: ( كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم، ويقول الله: فإنه لي وأنا أجزي به، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )، وهذا يدل على أن الأعمال التي توزن الحسنات فيها بعشر أمثالها يستثنى منها الصوم فإن جزاءه غير معدود؛ ولذلك فسر جمهور المفسرين قول الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فسروا الصابرين هنا بالصائمين، فهذا الشهر يسمى شهر الصبر أي: شهر الصوم، والصابرين هنا بمعنى الصائمين، فهم الذين يوفون أجرهم بغير حساب، لا يدخلون في هذا التعداد الذي هو الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بل يعطيهم الله سبحانه وتعالى جوائزه وفضله مما لا يمكن أن يخطر على بال، ولا يمكن أن يعد بحساب.

وكذلك ميز الله هذا الشهر بأن جعل فيه العشر الأواخر منه، وهي أفضله، وهي موسم عظيم من مواسم الخير، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصها بعبادات خاصة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر جد وشد المئزر، واجتهد، وأيقظ أهله، وأحيا أهله، ودخل معتكفه )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وفي بداية انشغاله بالاعتكاف ( اعتكف العشر الأوائل، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواسط فأتاه فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يزل يعتكفها ).

وكذلك خصه الله بليلتين عظيمتين فيه هما ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، من وفق لقيامها فإنه يغفر له ما تقدم من ذنبه، ويزداد عمره بأربع وثمانين سنةً وزيادة؛ لأن فائدة العمر التقوى وما يقرب من الله والعمل الصالح، أما ما سوى ذلك من التمتع بالملذات والشهوات فهو أمر مشترك بين سائر الحيوانات تشترك فيه النملة والفأرة مع الإنسان، فقيمة عمر الإنسان إنما هي ما يرجح كفة حسناته يوم القيامة، فإذا وفق لقيام ليلة القدر فهي خير من ألف شهر، وألف شهر أربع وثمانون سنةً وزيادة من الأشهر، فإذا وفق الإنسان لقيامها فإنه عمره قد زاد بهذا العدد، وهذا خير كثير دون أن ينال فيه مشقةً، ولا ألماً، ولا مرضاً، ولا تعباً من متاعب الدنيا ومشكلاتها.

ثم بعد ذلك الليلة الثانية هي ليلة العتق، وهي آخر ليلة من ليالي رمضان، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يعتق الله الصائمين والصائمات من النار في آخر ليلة من ليالي رمضان. فقيل: أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند نهاية عمله ).

وهذا يدل على أن رمضان إذا كان كاملاً فكان ثلاثين يوماً فالليلة الأخيرة منه ليست ليلة القدر، بل هي ليلة العتق، وكذلك إذا كان تسعاً وعشرين ليلة فالليلة الأخيرة منه ليست ليلة القدر وإنما هي ليلة العتق، وما سوى ذلك من الليالي يحتمل أن تكون فيه ليلة القدر، فالراجح في شأنها أنها متنقلة بين ليالي رمضان، ولكنها في العشر الأواخر أرجى، وهي في أوتارها أرجى أيضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اطلبوها أو التمسوها في العشر الأواخر في أوتارها ) (في أوتارها) أي: في ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، فهذه أوتار العشر الأواخر من رمضان تلتمس فيها ليلة القدر، وقد أخفاها الله سبحانه وتعالى لما فضلها هذا التفضيل العظيم، وإخفاؤها لتشتد المنافسة فيها؛ وليحيي الناس الليالي كلها بحثاً عنها، فالتكليف كله امتحان، والامتحان بقدر مشقته يكون رفع الدرجة فيه، وعلو الشهادة التي ينالها الإنسان.