خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8329"> سلسلة مباحث النبوة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! كنا نتدارس في المبحث الثالث من مباحث النبوة الذي يدور حول الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: هذه الأمور والعلامات والدلالات كثيرةٌ غزيرة، يمكن أن نجمعها في أربع علامات:
العلامة الأولى: النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خلقاً وخلقاً.
والعلامة الثانية: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام.
والعلامة الثالثة: النظر إلى المعجزات التي أيد الله بها أنبياءه ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
والعلامة الرابعة وهي آخر العلامات: النظر إلى أصحابه الكرام، فالتلاميذ هم صورة شيوخهم، ونبينا عليه الصلاة والسلام إذا أردت أن تعرف حاله فانظر إلى أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
هذه العلامات الأربع من تأملها وبحث فيها يتبين له صدق النبي عليه الصلاة والسلام، كما يتبين أيضاً كذب المتنبئ الدعي الذي يدعي أنه رسول الله، وهذه العلامات تفضحه وتظهر حقيقة أمره، وأنه ليس كما يقول.
إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور، والعلامة الأولى من هذه العلامات: وهي النظر إلى نفس الرسول على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: النظر إلى نفس الرسول عليه الصلاة والسلام يدور حول أمرين: النظر إلى نفسه خلْقاً، والنظر إلى نفسه خلُقاً، فقد أعطى الله أنبياءه ورسله الكمال في الأمرين: في الخلق وفي الخلق، كنا نتدارس خَلق النبي عليه الصلاة والسلام، وما فيه من علاماتٍ ودلالات تدل على أنه رسول رب الأرض والسموات على نبينا صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! لقد حبا الله نبينا عليه الصلاة والسلام الكمال في خلقه، فأعطاه البهاء والجمال عليه صلوات الله وسلامه، فكان جميلاً عليه صلوات الله وسلامه بهياً، وكان جليلاً مهيباً عليه صلوات الله وسلامه كما تقدم معنا هذا، وآخر شيءٍ تدارسناه في الموعظة السابقة: أن البهاء الذي في نبينا عليه الصلاة والسلام والجلال كان يمنع الصحابة الكرام من إدامة النظر إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا رآه الإنسان في أول وهلةٍ يهابه، ثم إذا عاشره أحبه عليه صلوات الله وسلامه.
وختمت الموعظة السابقة بحديثين اثنين: الحديث الأول في مستدرك الحاكم وسنن ابن ماجه من رواية أبي مسعود ، والرواية الثانية للحديث هذا في المستدرك أيضاً ومعجم الطبراني الأوسط عن جرير ، لما جيء برجلٍ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فارتعدت فرائصه عندما وقع نظره على النبي عليه صلوات الله وسلامه، فقال له نبينا عليه الصلاة والسلام: (هون عليك، إني لست بملك، إنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد)، وقلت: ليست هذه الحالة حالة فردية في هذا الصحابي الذي ما كان يعرف النبي عليه الصلاة والسلام، ولا اجتمع به، بل هذه حالة سائر الصحابة الكرام معه، وختمت الموعظة السابقة بالحديث الذي في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقلت: إنه كان أدهى الخلق في ذلك الوقت، وعنده من الشجاعة والجرأة والهيبة ما عنده، ومع ذلك يخبر عن نفسه أنه ما استطاع أن يملأ عينيه من نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
وهذا الوصف الذي كان في نبينا عليه الصلاة والسلام وهذه الهيبة كانت من دون خدمٍ ولا حشم ولا حرسٍ ولا شرطةٍ تحيط به عليه صلوات الله وسلامه، إنما فيه هذه الهيبة العظيمة مع جمال عظيم بحيث يهابه الإنسان ويوقره، لكن هذا التوقير مشوبٌ -كما تقدم معنا- بحبٍ كثيرٍ، لا يعدله حب أحدٍ من الخلق، فقد كان محبوباً، وهو مع ذلك مرهوب عليه صلوات الله وسلامه، وهبه الله الكمال، فهو موهوب، وهو محبوب، وهو مرهوب عليه صلوات الله وسلامه.
عروة بن مسعود الثقفي يحكي تعظيم الصحابة الكرام للنبي صلى الله عليه وسلم
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يسألوني خطةً فيها رشدٌ إلا أجبتهم إليها)، فوقف مكانه، وبدأت الوفود تأتي إليه من مكة من أجل مفاوضته، وهل يدخل هذا العام أو يعود؟ وما هي الشروط بينهم وبين المشركين؟ جاء عروة بن مسعود الثقفي وكان مشركاً ثم أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه، فلما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان قد جاء قبله أناسٌ، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: أنت بين أمرين اثنين، يعني إذا كنت تصر على الدخول إلى مكة من أجل العمرة، أنت بين أمرين: إما أن تستأصل أمر قومك، أي: أن تبيدهم، وأن تفنيهم، وهل سمعت أحداً اجتاح أهله قبلك؟ يعني هذه منقصة عليك ومذمة إذا استأصلت أمر قومك، وقتلت أهلك في مكة، فهم عشيرتك وأصحابك وأسرتك، وهل سمعت أحداً قبلك اجتاح أهله وقتلهم؟ هذا الأمر الأول، والم
أمر الثاني: إن كانت الأخرى، وما انتصرت على أهل مكة، إنما انتصروا عليك وغلبت، إن كانت الأخرى فلا أرى معك وجوهاً، أي: سادةً من الأشراف الذين يدافعون عنك أهل النخوة والمروءة، لا أرى معك وجوهاً، لا أرى معك إلا أشواباً من الناس، أي: أخلاطاً من الناس، خليقاً أن يفروا، أي: يجدر بهم إذا انتصر المشركون أهل مكة عشيرتك عليك أن يفر أصحابك، وأن يسلموك إلى قومك.
رد أبي بكر على عروة بن مسعود بقوله: امصص بضر اللات
وهذه الكلمة التي تفوه بها صديق هذه الأمة ونطق بها رضي الله عنه وأرضاه هي كلمة حقٍ وصدق، قيلت في المكان الذي ينبغي أن تقال فيه، وحذار أن يقول واحدٌ: إن هذا من الفحش، فالصحابة أعف خلق الله ألسنةً وأطهرهم قلوباً، لكن الذي يتهجم عليهم بهذه العبارات ويقول: إن حول النبي عليه الصلاة والسلام أشواباً من الناس، أي: أخلاطاً ليس لهم أصلٌ -كما يقال- ولا فصل، ولا مروءة ولا شهامة، إذا كانت الدائرة على المسلمين فروا وتركوا نبيهم الأمين عليه الصلاة والسلام، فهذا ينبغي أن يردع بكلمةٍ توقفه عند حده، وهي: امصص بضر اللات، أنحن ننكشف عنه؟ أنحن نفر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! هذه كلمة حق، فإذا تطاول الإنسان ينبغي أن توقفه عند حده بعبارةٍ خشنة.
وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا، ففي مسند الإمام أحمد والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه البغوي في شرح السنة، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وهو حديثٌ صحيحٌ، عن أبي المنذر أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان في مجلسٍ، فتكلم بعض الحاضرين بنعرة الجاهلية، وبدأ يباهي بنسبه وعشيرته وقبيلته، وأبي جالس، فلما سمعه أبي يتكلم بهذا الكلام قال له: أعضض أير أبيك، فقال له الحاضرون: يا أبا المنذر ! ما كنت فحاشاً. أنت صحابي سيد القراء تقول هذه الكلمة في المجلس! فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، والهن: هو العورة، هو العضو الذكر، (فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، لا داعي للكناية، لا تقل له: أعضض كذا وكذا، بل صرح كما فعل سيد القراء أبي بن كعب .
والذي يدعو إلى حمية الجاهلية ينبغي أن يردع عن هذه الخصلة الردية بهذا اللفظ الذي يستأصل هذا الداء من قلبه لئلا يعود إليه مرةً أخرى، لقد أكرمنا الله بالإسلام، وبنبينا عليه الصلاة والسلام، وأفضلنا عند الله أتقانا، وهذا غيبٌ لا يعلمه إلا الله، فعلام يفخر بعضنا على بعض؟ إذاً الذي يثير هذه الحمية الجاهلية ينبغي أن يردع بهذه اللفظة الخشنة القاسية، وآخر الدواء الكي، كما أن الإنسان يكتوي أحياناً من باب علاج نفسه، والكي شديدٌ أليم، لكن ليداوي نفسه بذلك، وهنا كذلك: (فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا).
والأثر رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه وأمصوه)، قل له: أعضض وامصص، عندما يتكلم بنعرة الجاهلية ويثير الحمية الجاهلية، وهنا أبو بكر صديق هذه الأمة وأفضل خلق الله بعد الأنبياء والرسل عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه عندما قال عروة بن مسعود الثقفي : يا محمد عليه الصلاة والسلام! لا أرى حولك وجوهاً، إنما أرى أشواباً من الناس خليقين أن يفروا، قال أبو بكر : امصص بضر اللات، أنحن نفر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أنحن ننكشف عنه؟!
منع المغيرة بن شعبة عروة بن مسعود من يمد يه إلى لحية النبي
تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم كما جاء على لسان عروة بن مسعود الثقفي
والصفة الرابعة: وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم، وهم عرب كانوا في الجاهلية في منتهى البذاءة والغلظة والجفاف، لكن إذا تكلموا بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام أصوات خافتة لا تسمع إلا بانتباه وهدوء.
والصفة الخامسة وهي محل الشاهد: وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، ما رأيت صحابياً ينظر إليه ويديم ويتابع النظر، هذا لا يوجد، هذا هو صاحب الهيبة، رسول الله عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! هذا هو العام السادس للهجرة وسبقه ثلاث عشرة سنة في مكة، تسع عشرة سنة يصاحبونه فيها أبو بكر وغيره من الصحابة، ومع ذلك لا يستطيع أحدٌ أن يحد النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وصف عروة لنبينا عليه الصلاة والسلام مع صحابته.
زاد ابن إسحاق في السيرة: قال: ولا تسقط شعرة من شعر النبي عليه الصلاة والسلام، عندما يتوضأ، عندما يسرح لحيته وشعره عليه صلوات الله وسلامه، إلا تسابقوا إليها أيهم يأخذها، هذه هي حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد عروة إلى قومه في مكة، وعروة بن مسعود الثقفي هذا هو أحد الرجلين اللذين كان المشركون يريدون أن تنزل الرسالة عليهما، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، فهو من الوجهاء الكبار، ورئيس أهل الطائف وزعيمهم، عروة بن مسعود الثقفي .
عاد وقال لهم: لقد أتيت النجاشي في ملكه، وكسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، فما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! كسرى وقيصر والنجاشي هؤلاء أعظم ملوك الأرض في زمنه، وكل واحدٍ عنده من السطوة والرهبة ما عنده، ويعظم من أجل دنيا، ومع ذلك تعظيم الجنود لهؤلاء القادة ليس كتعظيم الصحابة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لا من أجل عرضٍ دنيوي، إنما من أجل التقرب إلى الله القوي سبحانه وتعالى، ثم قال: وقد دعاكم إلى أمر رشد، فأرى أن تطيعوه، فلما أبوا قال: إني أفارقكم خشية أن ينزل الله علينا عقوبةً، فترك مكة وخرج إلى الطائف.
عروة بن مسعود الثقفي لما شرح الله صدره وآمن في العام الثامن للهجرة في آخره، أراد أن يعود إلى قومه ليكون سبب هدايتهم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إني أخاف عليك من قومك أن يقتلوك)، فقال: أهم يقتلونني؟ أنا عندهم أغلى من سمعهم وبصرهم، أنا المحبب عندهم، فلما ذهب ودعاهم إلى الإسلام رشقوه بالنبال فقتلوه، رضي الله عنه وأرضاه، ثم أسلم قومه بعد ذلك في العام التاسع للهجرة.
إذاً: ما كان أحدٌ يستطيع أن يحد النظر إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا حال الصحابة الكرام، جمال وجلال في نبينا عليه الصلاة والسلام، فجمع الله له الملاحة والبهاء، الجمال والجلال، فصار كاملاً في خلقه وخلقه عليه صلوات الله وسلامه، وهذا الجمال والجلال الذي في خلقه صاحبه جمالٌ وجلالٌ وكمالٌ في الخلق أيضاً كما سيأتينا تفصيل هذا في الأمر الثاني.
هذا الوصف في نبينا عليه الصلاة والسلام تواترت به الأحاديث، فليست هي قصة فردية، ولا ثنائية، هذا هو وصف الصحابة قاطبةً، فاسمعوا لهذا الحديث الذي هو في المسند وصحيح البخاري ، وهو في أعلى درجات الصحة، والحديث طويل أخذ قرابة ثلاث صفحات من صحيح البخاري ، وشرحه الحافظ ابن حجر في الفتح في ثلاثٍ وعشرين صفحة في الجزء الخامس من صفحة ثلاثمائة وتسعٍ وعشرين إلى ثلاثمائة واثنتين وخمسين، والحديث في باب الشروط ومصالحة الكفار وكتابة الشروط معهم في صلح الحديبية، وسأذكر محل الشاهد منه: عندما جاء نبينا عليه الصلاة والسلام في العام السادس مع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وكانوا ألفاً وخمسمائة رضي الله عنهم وأرضاهم، من أجل أن يعتمروا في العام السادس، يريدون العمرة مع نبينا عليه الصلاة والسلام، فلما وصلوا إلى الحديبية، ووقفت ناقة النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك المكان، فقال بعض الصحابة: خلأت القصواء، يعني: ضعفت وفترت واعتراها تعبٌ وإعياء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما خلأت، وليس ذلك لها بخلق، إنما حبسها حابس الفيل)، أي: الله الجليل هو الذي أوقفها عند هذا المكان خشية أن يحصل بيننا وبين المشركين خصامٌ واصطدام وقتال، والله جل وعلا جعل لمكة حرمةً عظيمة، فيريد أن يتم الأمر عن طريق المفاوضة والمصالحة لا عن طريق المشاجرة والمقاتلة.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يسألوني خطةً فيها رشدٌ إلا أجبتهم إليها)، فوقف مكانه، وبدأت الوفود تأتي إليه من مكة من أجل مفاوضته، وهل يدخل هذا العام أو يعود؟ وما هي الشروط بينهم وبين المشركين؟ جاء عروة بن مسعود الثقفي وكان مشركاً ثم أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه، فلما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان قد جاء قبله أناسٌ، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: أنت بين أمرين اثنين، يعني إذا كنت تصر على الدخول إلى مكة من أجل العمرة، أنت بين أمرين: إما أن تستأصل أمر قومك، أي: أن تبيدهم، وأن تفنيهم، وهل سمعت أحداً اجتاح أهله قبلك؟ يعني هذه منقصة عليك ومذمة إذا استأصلت أمر قومك، وقتلت أهلك في مكة، فهم عشيرتك وأصحابك وأسرتك، وهل سمعت أحداً قبلك اجتاح أهله وقتلهم؟ هذا الأمر الأول، والم
أمر الثاني: إن كانت الأخرى، وما انتصرت على أهل مكة، إنما انتصروا عليك وغلبت، إن كانت الأخرى فلا أرى معك وجوهاً، أي: سادةً من الأشراف الذين يدافعون عنك أهل النخوة والمروءة، لا أرى معك وجوهاً، لا أرى معك إلا أشواباً من الناس، أي: أخلاطاً من الناس، خليقاً أن يفروا، أي: يجدر بهم إذا انتصر المشركون أهل مكة عشيرتك عليك أن يفر أصحابك، وأن يسلموك إلى قومك.
فلما قال ذلك كان صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه بجوار النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا عروة ! امصص بضر اللات، أنحن نفر عنه؟ والبضر: هي الجلدة التي تكون في فرج المرأة بعد ختانها، ما يبقى منها يقال له: بضر، وهذه الكلمة من أشنع الكلمات في السب عند العرب، ولكن بدلاً من أن تضاف إلى اللات تقال للأم: امصص بضر أمك، لكن بما أنه يعبد اللات ويعظمها أكثر من أمه حقره أبو بكر رضي الله عنه، فقال له: امصص بضر اللات، أنحن نفر عنه؟ أنحن ننكشف عنه؟! بل نفديه بآبائنا وأمهاتنا وأولادنا وأنفسنا عليه صلوات الله وسلامه.
وهذه الكلمة التي تفوه بها صديق هذه الأمة ونطق بها رضي الله عنه وأرضاه هي كلمة حقٍ وصدق، قيلت في المكان الذي ينبغي أن تقال فيه، وحذار أن يقول واحدٌ: إن هذا من الفحش، فالصحابة أعف خلق الله ألسنةً وأطهرهم قلوباً، لكن الذي يتهجم عليهم بهذه العبارات ويقول: إن حول النبي عليه الصلاة والسلام أشواباً من الناس، أي: أخلاطاً ليس لهم أصلٌ -كما يقال- ولا فصل، ولا مروءة ولا شهامة، إذا كانت الدائرة على المسلمين فروا وتركوا نبيهم الأمين عليه الصلاة والسلام، فهذا ينبغي أن يردع بكلمةٍ توقفه عند حده، وهي: امصص بضر اللات، أنحن ننكشف عنه؟ أنحن نفر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! هذه كلمة حق، فإذا تطاول الإنسان ينبغي أن توقفه عند حده بعبارةٍ خشنة.
وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا، ففي مسند الإمام أحمد والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه البغوي في شرح السنة، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وهو حديثٌ صحيحٌ، عن أبي المنذر أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان في مجلسٍ، فتكلم بعض الحاضرين بنعرة الجاهلية، وبدأ يباهي بنسبه وعشيرته وقبيلته، وأبي جالس، فلما سمعه أبي يتكلم بهذا الكلام قال له: أعضض أير أبيك، فقال له الحاضرون: يا أبا المنذر ! ما كنت فحاشاً. أنت صحابي سيد القراء تقول هذه الكلمة في المجلس! فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، والهن: هو العورة، هو العضو الذكر، (فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، لا داعي للكناية، لا تقل له: أعضض كذا وكذا، بل صرح كما فعل سيد القراء أبي بن كعب .
والذي يدعو إلى حمية الجاهلية ينبغي أن يردع عن هذه الخصلة الردية بهذا اللفظ الذي يستأصل هذا الداء من قلبه لئلا يعود إليه مرةً أخرى، لقد أكرمنا الله بالإسلام، وبنبينا عليه الصلاة والسلام، وأفضلنا عند الله أتقانا، وهذا غيبٌ لا يعلمه إلا الله، فعلام يفخر بعضنا على بعض؟ إذاً الذي يثير هذه الحمية الجاهلية ينبغي أن يردع بهذه اللفظة الخشنة القاسية، وآخر الدواء الكي، كما أن الإنسان يكتوي أحياناً من باب علاج نفسه، والكي شديدٌ أليم، لكن ليداوي نفسه بذلك، وهنا كذلك: (فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا).
والأثر رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه وأمصوه)، قل له: أعضض وامصص، عندما يتكلم بنعرة الجاهلية ويثير الحمية الجاهلية، وهنا أبو بكر صديق هذه الأمة وأفضل خلق الله بعد الأنبياء والرسل عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه عندما قال عروة بن مسعود الثقفي : يا محمد عليه الصلاة والسلام! لا أرى حولك وجوهاً، إنما أرى أشواباً من الناس خليقين أن يفروا، قال أبو بكر : امصص بضر اللات، أنحن نفر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أنحن ننكشف عنه؟!
وكان عروة يمد يده إلى لحية النبي عليه الصلاة والسلام وهو يخاطبه، وليس من باب الغلظة على النبي عليه الصلاة والسلام أو إهانته، إنما عادة العرب جرت إذا كانوا يلاطفون الإنسان في الكلام يتناولون بعض أعضائه لا سيما لحيته، كأنه يقول: أنت رجلٌ فاضل وقور صاحب لحية، صاحب مروءة، فأنا أباسطك في الكلام، فمد عروة يده إلى لحية النبي عليه الصلاة والسلام، فضربه المغيرة بن شعبة بنعل السيف، وقال: ارفع يدك، والله إن مددتها مرةً أخرى لا تعود إليك، أنت تمد يدك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال عروة : من هذا يا محمد عليه الصلاة والسلام؟ وكان قال عندما رد عليه أبو بكر : من هذا؟ قال: هذا أبو بكر ، قال: لولا أن له عندي يداً ما كافأته عليها لرددتها له، وكان عروة تحمل ديةً في الجاهلية فساعده أبو بكر ، فقال: هذه بتلك، يعني هو له معروف عندي وما كافأته عليه، فكيف سأرد عليه هذه الكلمة عندما يقول لي: امصص بضر اللات؟ وقال: ومن هذا؟ قال: هذا المغيرة بن شعبة ، وكان قائماً على رأس رسول الله عليه الصلاة والسلام والسيف بيده، فقال: أي غدر! يرد على المغيرة ، أي: يا صاحب الغدر، لا زلت أعاني من غدرتك حتى الآن، وكان المغيرة قد قتل أناساً في الجاهلية، فتحمل عروة بن مسعود الثقفي ديتهم، يعني أنا أتحمل ديتك، وأسعى في دفع الغرامة التي عليك، وأنت تقول لي: ارفع يدك وتضرب يدي بنعل السيف، وتقول: إذا مددتها مرة ثانية لا تعود إليّ إلا مقطوعة؟! أهكذا تكافئ إحساني إليك؟ ثم رمق عروة بن مسعود الثقفي النبي عليه الصلاة والسلام لينظر إلى صحبه الكرام، فذكر خمس صفات لحال نبينا عليه الصلاة والسلام والصحابة معه، زاد ابن إسحاق في السير صفةً سادسةً فاسمعوها:
فعندما رمق ولاحظ وراقب عروة النبي عليه الصلاة والسلام، كيف حاله مع أصحابه، وقد افترى على أصحابه بأنهم أشوابٌ من الناس سيفرون إذا دارت الدائرة وحصلت المعركة، يقول: فرأيت النبي عليه الصلاة والسلام إذا تنخم، أي: بصق مع إخراج بلغم، إذا تنخم لا تقع نخامته إلا في كف أحدهم، فإذا وقعت في كفه دلك بها وجهه وجسده، أهؤلاء يفرون عنه؟ أهؤلاء ينكشفون عنه؟ هذه الصفة الأولى، يقول: وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، كل واحدٍ يسارع لتنفيذه، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه من الزحام، وهو الماء الذي يتوضأ به وينزل من أعضائه عندما يتوضأ عليه الصلاة والسلام، يقتتلون عليه، كل واحدٍ يريد قطرةً من هذا الماء ليدلك بها جسده وجسمه ووجهه وأعضاءه.
والصفة الرابعة: وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم، وهم عرب كانوا في الجاهلية في منتهى البذاءة والغلظة والجفاف، لكن إذا تكلموا بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام أصوات خافتة لا تسمع إلا بانتباه وهدوء.
والصفة الخامسة وهي محل الشاهد: وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، ما رأيت صحابياً ينظر إليه ويديم ويتابع النظر، هذا لا يوجد، هذا هو صاحب الهيبة، رسول الله عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! هذا هو العام السادس للهجرة وسبقه ثلاث عشرة سنة في مكة، تسع عشرة سنة يصاحبونه فيها أبو بكر وغيره من الصحابة، ومع ذلك لا يستطيع أحدٌ أن يحد النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وصف عروة لنبينا عليه الصلاة والسلام مع صحابته.
زاد ابن إسحاق في السيرة: قال: ولا تسقط شعرة من شعر النبي عليه الصلاة والسلام، عندما يتوضأ، عندما يسرح لحيته وشعره عليه صلوات الله وسلامه، إلا تسابقوا إليها أيهم يأخذها، هذه هي حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد عروة إلى قومه في مكة، وعروة بن مسعود الثقفي هذا هو أحد الرجلين اللذين كان المشركون يريدون أن تنزل الرسالة عليهما، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، فهو من الوجهاء الكبار، ورئيس أهل الطائف وزعيمهم، عروة بن مسعود الثقفي .
عاد وقال لهم: لقد أتيت النجاشي في ملكه، وكسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، فما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! كسرى وقيصر والنجاشي هؤلاء أعظم ملوك الأرض في زمنه، وكل واحدٍ عنده من السطوة والرهبة ما عنده، ويعظم من أجل دنيا، ومع ذلك تعظيم الجنود لهؤلاء القادة ليس كتعظيم الصحابة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لا من أجل عرضٍ دنيوي، إنما من أجل التقرب إلى الله القوي سبحانه وتعالى، ثم قال: وقد دعاكم إلى أمر رشد، فأرى أن تطيعوه، فلما أبوا قال: إني أفارقكم خشية أن ينزل الله علينا عقوبةً، فترك مكة وخرج إلى الطائف.
عروة بن مسعود الثقفي لما شرح الله صدره وآمن في العام الثامن للهجرة في آخره، أراد أن يعود إلى قومه ليكون سبب هدايتهم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إني أخاف عليك من قومك أن يقتلوك)، فقال: أهم يقتلونني؟ أنا عندهم أغلى من سمعهم وبصرهم، أنا المحبب عندهم، فلما ذهب ودعاهم إلى الإسلام رشقوه بالنبال فقتلوه، رضي الله عنه وأرضاه، ثم أسلم قومه بعد ذلك في العام التاسع للهجرة.
إذاً: ما كان أحدٌ يستطيع أن يحد النظر إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا حال الصحابة الكرام، جمال وجلال في نبينا عليه الصلاة والسلام، فجمع الله له الملاحة والبهاء، الجمال والجلال، فصار كاملاً في خلقه وخلقه عليه صلوات الله وسلامه، وهذا الجمال والجلال الذي في خلقه صاحبه جمالٌ وجلالٌ وكمالٌ في الخلق أيضاً كما سيأتينا تفصيل هذا في الأمر الثاني.