خطب ومحاضرات
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبمحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة في بيان الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
وتقدم معنا -إخوتي الكرام- أن الأمور التي يعرف بها صدق النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة وفيرة يمكن أن تجمع في أربعة أمور: أولها: النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه.
وثانيها: النظر إلى دعوته وشريعته ورسالته.
وثالثها: النظر إلى معجزاته وخوارق العادات التي أكرمه الله بها وأيده بها.
ورابعها: النظر إلى حال أصحابه الكرام رضوان الله على الصحابة أجمعين.
إخوتي الكرام! وكنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور وهو النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، وقلت: تحت هذا الأمر الأول نوعان من النظر: النظر إلى خَلق النبي عليه الصلاة والسلام، والثاني: النظر إلى خُلق النبي عليه الصلاة والسلام، فالله أعطى رسله الكمال في الأمرين، ومنحهم الجمال والجلال في خلقهم وفي أخلاقهم على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
وقد تقدم معنا -إخوتي الكرام- ما يتعلق بالأمر الأول وهو النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في خلقه، وشرعنا بعد ذلك في مدارسة الجانب الثاني في النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في خُلقه، وقلت عند هذا المبحث باختصار: لا يمكن لإنسان أن يقف على وجه التمام على خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، كما لا يمكن له أن يحيط بمعاني القرآن، إنما نتدارس من أخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام ما في وسعنا حسب الإمكان.
ولذلك إخوتي الكرام! قلت: إذا أردنا أن نقف على صورة مجملة واضحة لأخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام فينبغي أن نبحث في سبعة أمور: أولها: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله، ثانيها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته، ثالثها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام، ورابعها: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الإنس، وخامسها: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الجن، وسادسها: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات، وسابعها وهو آخر الأمور: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتات.
هذه الأمور السبعة يظهر بها على وجه الإيجاز والإجمال صورة مختصرة واضحة لخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد بدأنا بالأمر الأول من هذه الأمور السبعة وهو النظر إلى خلق نبينا عليه الصلاة والسلام في بيته مع أهله، وقلت إن هذا الأمر إذا أردنا أن نحيط به بصورة مختصرة ينبغي أن نتدارسه ضمن أربع مراحل: المرحلة الأولى: في بناء مسكن نبينا عليه الصلاة والسلام وحال حجره، والثاني: في أثاث ذلك المسكن ومتاعه، والثالث: طعامه الذي يقدم في تلك الحجر والبيوت الطاهرة المطهرة، والرابع: في كيفية المعاملة التي تجري بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين أهله الكرام على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه.
وحقيقة من وقف على هذا الأمر من الأمور السبعة في خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، يظهر له أن نبينا محمد رسول الله حقاً وصدقاً على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
وقد تدارسنا إخوتي الكرام! ما يتعلق بمسكن نبينا عليه الصلاة والسلام، وقلت باختصار: كان سكنه في هذه الحياة سكن من جعل الدنيا معبراً ولم يتخذها مقراً، وهكذا متاعه في ذلك السكن عليه صلوات الله وسلامه فهو متاع قليل كمتاع المسافر، لا يأخذ في سفره إلا ما يحتاجه ويكفيه، وأما القوت والطعام الذي يقدم في تلك الحجر المباركة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، فتقدم معنا أنه طعام قليل يسير، اختار الدون عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر فيما يتعلق بكميته وكيفيته، فكان يأخذ الطعام القليل مع خشونته أيضاً، فلا يكثر من الكمية ولا يختار الألوان الطيبة الشهية على نبينا صلوات الله وسلامه.
وقلت: فعل نبينا هذا اختياراً من أجل أن يعامل الدنيا بما تستحق، ومن أجل أن يكمل له أجره عند الله جل وعلا، فإنه لا ينال أحد من هذه الحياة نعيماً إلا نقص من درجته عند الله وإن كان عليه كريماً، كما تقدم معنا هذا إخوتي الكرام، وذكرت بعض الأحاديث في طعام نبينا عليه الصلاة والسلام وبدأتها بحديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكيف كان يمر على حجر نبينا عليه الصلاة والسلام وبيوته ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في بيوته الطاهرة الكريمة الطيبة نار، لا لخبز ولا لطعام على نبينا وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وقلت: هذا المعنى -إخوتي الكرام- ثابت عن عدد من الصحابة الكرام في وصف قوت وطعام نبينا عليه الصلاة والسلام، وقلت: إنه متواتر، أقطع بذلك وأسأل أمام الله عز وجل، وقلت: سأقرره بعشرة أحاديث كما تقدم معنا، ذكرت الحديث الأول في تقرير معنى حديث أمنا عائشة رضي الله عنها من رواية عبد الرحمن بن عوف ، وذكرت الحديث الثاني من رواية أبي أمامة ، والحديث الثالث من رواية أبي هريرة ، والحديث الرابع من رواية أنس عن سيدتنا فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، ورواية هذا الحديث تقدم معنا أنها في المسند ومعجم الطبراني بسند صحيح، وفي هذا الأثر والحديث أن سيدتنا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها عندما قدمت لأبيها على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه كسرة من خبز الشعير قال لها: ( هذا أول طعام يأكله أبوك منذ ثلاثة أيام )، والحديث الخامس تقدم معنا من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، وهو كما تقدم معنا في المسند وسنن الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح، أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يبيت الليالي المتتابعة، وهكذا أهله الكرام على نبينا وعليهم جميعاً الصلاة والسلام، لا يجدون عشاء، وإنما كان أكثر خبزهم خبز الشعير.
حديث سلمى امرأة أبي رافع في قوت النبي صلى الله عليه وسلم
تقول سلمى امرأة أبي رافع رضي الله عنهم وأرضاهم، كما في معجم الطبراني الكبير بسند جيد، وانظروا الحديث في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة، وفي الترغيب والترهيب للإمام المنذري في الجزء الرابع صفحة سبع وتسعين ومائة.
وخلاصة الحديث: عن سلمى رضي الله عنها وأرضاها قالت: دخل عليّ الحسن بن علي وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس رضوان الله عليهم أجمعين بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام، دخل هؤلاء الثلاثة الصحابة الكرام الحسن وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، دخلوا على سلمى امرأة أبي رافع مولاة نبينا عليه الصلاة والسلام، فقالوا لها: اصنعي لنا طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكله، أي: اصنعي لنا طعاماً كان يحبه النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت سلمى رضي الله عنها وأرضاها: يا بني! إذاً لا تشتهونه. لقد تغيرت الأوضاع وتبدلت لو صنعت لكم طعاماً من الطعام الذي كان يشتهيه رسول الله عليه الصلاة والسلام ويحبه، فإن نفوسكم لا تميل إليه، بعدما ألفت النعمة والأشكال والألوان، قالت سلمى رضي الله عنها وأرضاها: فقمت فأخذت شعيراً فطحنته ثم نفثته، والنفث هو النفخ، تنفخ عليه ليطير القشر الذي هو كالإبر، وسيبقى أيضاً بعد ذلك في الشعير شيء القشر، أخذت شعيراً فطحنته ثم نفثته، وجعلت منه خبزة، خبزت قرصاً من الشعير، قالت: وكان أدمه الزيت، فبلته بالزيت ونثرت عليه الفلفل، هذا هو الطعام الذي كان يحبه نبينا عليه الصلاة والسلام، رغيف قرص من خبز الشعير يؤتدم بزيت وينثر عليه الفلفل من أجل أن يطيب طعمه، قالت: ثم قربته إليهم فقلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذا، هذا إذا تيسر له، يعني هذه نعمة عظيمة عنده عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً، كفافاً )، عليه صلوات الله وسلامه، هذا كان يحبه ويكثر من أكله إذا تيسر له، لكن أحياناً يطوي الأيام الثلاثة والأربعة ولا يدخل جوفه طعام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، أما هذا لو تيسر له رغيف قرص من خبز الشعير يؤتدم بزيت وينثر عليه الفلفل، لآثر النبي عليه الصلاة والسلام هذا الطعام على غيره ورأى أنه في ذلك اليوم أكل من لذائذ الأطعمة، وهذا الذي تقوله سلمى : إذاً لا تشتهونه يا بني، لو قدمت لكم ما يحبه النبي عليه الصلاة والسلام لا تشتهونه.
وحقيقة لو قدم هذا لنا الآن فلن نأكله، نسأل الله أن يتوب علينا، وأن يحسن ختامنا، وأن يعرفنا بقدر أنفسنا، والله ما ابتعد سلفنا عن الدنيا إلا لكرامتهم على ربهم، وما خضنا فيها إلا لهواننا على الله عز وجل.
فهذا خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، أفضل طعام عنده خبز الشعير، مأدوم بزيت عليه فلفل، إذا تيسر هذا فهذا من أطايب الطعام عنده عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا أنه لا لقلة ولا لبخل عليه الصلاة والسلام، فالأمر موجود ويجود به وهو أكرم من عرفته البشرية على وجه الأرض عليه صلوات الله وسلامه، وكان يقسم أحياناً عطاءً ما يزيد على ألف بعير في المجلس الواحد عليه الصلاة والسلام، ثم يأكل بعد ذلك خبز الشعير عليه صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا شيء من كرمه عليه صلوات الله وسلامه، فهذا هو الذي اختاره وآثره لا لضيق ولا لتضييق من نفسه وادخار للأموال في جيبه وبيته، فقد كان ينفق المال على الناس ثم هو بعد ذلك إن تيسر له قرص من خبز الشعير مأدوم بزيت عليه فلفل فيحبه غاية الحب عليه الصلاة والسلام.
سلمى تعلم زوجها أبا رافع وهو في الصلاة
وخلاصتها كما في مسند الإمام أحمد في الجزء السادس صفحة اثنتين وسبعين ومائتين، والأثر رواه الإمام البزار وانظروه أيضاً في كشف الأستار في زوائد الإمام البزار في الجزء الأول صفحة ست وأربعين، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، انظروا المجمع في الجزء الأول صفحة ثلاث وأربعين ومائتين، قال الإمام الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح، وفيه محمد بن إسحاق وقد قال: حدثني هشام بن عروة ، يعني جميع رجال الإسناد رجال الصحيح ومنهم محمد بن إسحاق وهو من رجال الصحيح وأخرج له مسلم ، وكما تقدم معنا أنه من رجال السنن الأربعة، وأخرج له مسلم في صحيحه، والبخاري تعليقاً، وهو صاحب المغازي، توفي سنة خمسين ومائتين للهجرة في السنة التي توفي فيها فقيه الملة أبو حنيفة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، فـمحمد بن إسحاق يقول في الحديث: حدثني في الحديث: حدثني هشام بن عروة ، لماذا قال الإمام الهيثمي هذا؟ تقدم معنا أن هشام بن عروة له كلام في محمد بن إسحاق ، فقد كان هشام بن عروة يتهم محمد بن إسحاق في الرواية ويقول: إنه يقول ما لم يسمع، ويقول: يروي عن زوجتي فاطمة بنت المنذر والله إن رآها قط. يعني: ما رآها قط فكيف يروي عنها؟ إذاً هو يختلق هذه الرواية، فكأنه يطعن في رواية محمد بن إسحاق ، فالإمام الهيثمي يقول هنا أن الإمام محمد بن إسحاق صرح بالتحديث عن هشام بن عروة ، فقال: حدثني هشام بن عروة ، وهشام بن عروة ثقة فقيه توفي سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة، وتقدم معنا أن طعن هشام بن عروة في محمد بن إسحاق لا يؤثر فيه مطلقاً؛ لأن هذا من باب الحمية وليست جاهلية بل حمية شرعية، فقد ظن أن التحديث عن زوجته يلزم منه مقابلة ورؤية لوجهها, فيقول: كيف هذا؟ إذاً روايته لا يعول عليها، وقلت: هذا يلتمس له العذر في طعنه لكنه لا يؤثر هذا الطعن في محمد بن إسحاق ، ولذلك هو صدوق كما قال أئمتنا وحديثه في درجة الحسن، نعم هو من المدلسين وقد صرح بالتحديث فانتفى التدليس وعليه فإسناد الحديث صحيح، على حسب ما يقرر الإمام الهيثمي، فهو في المسند ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير.
ولفظ الحديث: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( أتت
هذه من الدعابات التي جرت مع هذه الأمة المباركة المولاة الصالحة سلمى مع زوجها أبي رافع رضي الله عنهم وأرضاهم، وأبو رافع قد أخذ هذا المعنى من زوجه بعد إرشاد نبينا عليه الصلاة والسلام له فكان لا يقصر أيضاً في نصح المسلمين، وتعديل أحوالهم وإن كانوا في الصلاة في حال مناجاتهم لرب العالمين، لأن زوجته كانت تصحح له وضعه وهو يصلي، فإذا رأى أحداً يصلي وعنده تقصير في شيء يعدل وضعه وهو في الصلاة.
أبو رافع ينهى الحسن بن علي عن كف شعره وهو في الصلاة
الحديث رواه الإمام الترمذي وأبو داود وابن ماجه في سننهم بإسناد حسن، من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، قال: مرّ أبو رافع بـالحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين وهو يصلي وقد عقص ظفره في قفاه، وفي رواية: وقد غرز ظفر رأسه. والعقص: هو أن يجعل الإنسان شعره مظفوراً، ثم يأخذ طرف الظفائر ويجعلها في وسط الرأس لئلا تبقى نازلة مدلاة، هذا يقال له عقص، وكانت عادة سلفنا جميعاً أنهم يطيلون شعورهم، وهذا من السنة، ولا يقال: إن الحلق بدعة، بل هو مباح، لكن الأكمل ترك الشعر، وهذا كان حال نبينا عليه الصلاة والسلام وحال الصحب الكرام، وما كانت الشعور تجز إلا في حج أو عمرة، في النسك تذللاً لله وتعبداً له، والأكمل أن يطيل الإنسان شعره، وحقيقة فيه هيبة، الإنسان عندما يطول شعره وهكذا لحيته فإن في ذلك هيبة له مع نور الإيمان، لكن نأخذ بالرخصة في حلق شعر الرأس، أما حلق شعر اللحية فأنصح نفسي وأنصحكم أنه لا رخصة في ذلك، شتان بين شعر الرأس وشعر اللحية، فشعر الرأس إذا استؤصل فاتك الأفضل والأكمل ولا حرج عليك، وأما اللحية فلا يجوز أن تحلق كما تواترت بذلك الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
فمر أبو رافع رضي الله عنه وأرضاه بـالحسن بن علي رضوان الله عليهم أجمعين وقد عقص شعره ظفائر وغرزها في وسط الرأس لئلا تبقى مفرقة نازلة على كتفيه، وإذا سجد ستنزل على الأرض، فجاء أبو رافع من ورائه فحلها والحسن يصلي، فالتفت الحسن مغضباً إلى أبي رافع وهو في صلاته دون أن يتغير عن اتجاه القبلة، الالتفات بالرأس فقط يلتفت إلى أبي رافع : ماذا تفعل برأسي وأنا أصلي؟ وتحل الظفائر من وسط رأسي وتجعلها مدلاة نازلة؟ فالتفت الحسن مغضباً إلى أبي رافع ، فقال أبو رافع : يا حسن ! أقبل على صلاتك ولا تغضب، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ذلك كفل الشيطان )، يعني مقعد الشيطان، إذا عقصت شعر رأسك وأخذت الظفائر وجعلتها في الوسط فإن ذلك كفل الشيطان، يعني: مقعد الشيطان، وأنت الآن تصلي والشيطان على رأسك لا يصح، فأنا عندما أحدثت نبهتني زوجتي، وعندما ما قبلت زجرني النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ( إنها لم تأمرك إلا بخير )، وأنت لا تغضب يا حسن ! فأنا سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( ذلك كفل الشيطان )، يعني مقعد الشيطان، فينبغي أن ترسل الشعر من أجل أن يسجد معك كما تسجد أعضاؤك، دعه ينزل على الأرض، ولذلك سيأتينا أن من صلى وقد عقص شعره فكأنه صلى وهو مكتوف اليدين، أي: ما امتدت اليدان وأخذن حظهما من السجود والتواضع والتذلل للرحمن، فما يجوز أن تكف شعراً ولا ثوباً في صلاتك كما سيأتينا الإشارة إلى ذلك على وجه الإجمال.
فـأبو رافع رضي الله عنه وأرضاه انتفع بفعل سلمى رضي الله عنهم أجمعين، وهذا الذي فعله أبو رافع كان يفعله الصحابة الكرام جميعاً إذا رأوا من يخالف في الصلاة، ينبهونه ويعدلونه وهو في صلاته.
عبد الله بن عباس ينهى عبد الله بن الحارث عن كف شعره وهو في الصلاة
وقد أمرنا -إخوتي الكرام- أن نسجد على سبعة أعضاء على سبعة أعظم، كما ثبت بذلك الحديث في المسند والكتب الستة من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة معها الأنف واحد، واليدان، والركبتان، وأطراف القدمين )، هذه سبعة أعضاء ينبغي أن تكون معك عند سجودك، وتكملة الحديث: ( وأن لا أكف ثوباً ولا شعراً )، وفي رواية: ( وأن لا أكفت )، والكفت هو الضم والجمع ( ثوباً ولا شعراً )، وإذا قمت لتصلي فيكره لك أن تجمع ثوبك، وأن تكفه، وهكذا الشعر تنهى عن كفه وجمعه، اتركه ينزل من أجل أن يسجد مع سجودك إذا كان لك شعر، ولذلك من صلى وجمع شعره تحت عمته إذا كان له شعر وعقصه فصلاته مكروهة؛ لأنه ما حصل السجود التام لأعضائه على التمام.
هذا كله -إخوتي الكرام- من باب التنبيه على لطيفة ونكتة ودعابة جرت من سلمى مع زوجها أبي رافع ، وبقية الشواهد لتقرير ذلك الحكم وأن الإنسان إذا سجد ما ينبغي أن يكف ثوباً ولا شعراً، وينبغي أن يسجد بجميعه وبأعضائه وثيابه وشعره لربه جل وعلا، هذا الحديث السادس إخوتي الكرام.
حديث النعمان بن بشير: (لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه)
حديث أنس: (ما أعلم أن رسول الله رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله..)
والحديث في صحيح البخاري ، قال أنس : وما أعلم أنه رأى شاة سميطاً بعينه حتى لقي ربه عليه الصلاة والسلام، والشاة السميط: هي التي ينزع عنها صوفها وشعرها بواسطة غليها بالماء، ثم بعد ذلك تحنذ على النار بجلدها، هذه يقال لها: سميط، قال أئمتنا: هذا فعل المترفين؛ لأن الشاة التي تسمط ينزع عنها الصوف والشعر بالماء الحار ثم تشوى وتحنذ بجلدها، هذا فعل المترفين من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا السمط يكون في الغالب للشاة الصغيرة، لأنها ستطبخ مع جلدها فمن أجل أن تنضج ينبغي أن تكون صغيرة، ولو كانت كبيرة فإن لحمها لن يصبح ناضجاً طيباً، وفي ذلك ترف؛ لأن هذه الصغيرة لو تركت لكبرت فصارت الشاة بمقدار ثلاث شياه، لكن المترفين لا يبالون، فما رأى شاة سميطاً حتى لحق بربه عليه الصلاة والسلام.
والوجه الثاني في أن هذا من فعل المترفين: أن هذا الجلد عندما شوي بالنار فسد ولو سلخ لانتفع به الناس، فهم ضيعوا الجلد بسمطه، وهذه الشاة أكلوها وهي صغيرة وكان بالإمكان أن تترك سنة من أجل أن تصبح الشاة تعدل ثلاث شياه أو أكثر، فما أعلم أنه عليه الصلاة والسلام رأى شاة سميطاً بعينه حتى لقي بربه.
والوصف الثالث الذي يقوله أنس عن سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: وما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات عليه الصلاة والسلام، والخوان: هو ما يوضع عليه الطعام، وهو ليس كالسفرة وليس كالمائدة، المائدة صحون الطعام يقال لها مائدة، والسفرة: من جلد توضع ليوضع عليها الطعام، هذا فعل في حضرة نبينا عليه الصلاة والسلام، أما الخوان فهو جهاز خاص للطعام كالطاولات، أظن أنهم في مصر يقولون عنه طبلية أحياناً، يعني شيء خاص يؤكل عليه، فهذا ما فعل في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام وما أكل على خوان قط، والخوان كما قال علماء اللغة: المشهور فيه كسر الخاء خِوان، ويجوز الضم خُوان، ويجوز أن تقول: إخوان، وهو اسم للشيء الذي يؤكل عليه، وجمعه خُون، وأخاوين، وأخوين، وسمي الخوان خواناً كما قال ثعلب من أئمة اللغة: لأنه يتخون ما عليه، والتخون هو النقص، فما عليه من الطعام ينقص بسبب أكل الآكلين. فما أكل عليه الصلاة والسلام على خوان قط، ولا رأى سميطاً بعينه حتى لقي ربه، ولا رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله عز وجل، هذا ما آثره رسولنا عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة، وهذا ما اختاره الله له من أجل أن ينال درجة لا ينالها أحد من المخلوقات في نعيم الجنات عل
ووقفنا إلى الحديث السادس من الأحاديث العشرة، وقلت: إنه حديث سلمى امرأة أبي رافع رضي الله عنهم أجمعين، أما سلمى فهي مولاة نبينا عليه الصلاة والسلام، وقيل: إنها مولاة لـصفية بنت عبد المطلب عمة نبينا على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه، وأما أبو رافع فهو مولى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كان عند العباس ثم وهبه لنبينا خير الناس على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه.
تقول سلمى امرأة أبي رافع رضي الله عنهم وأرضاهم، كما في معجم الطبراني الكبير بسند جيد، وانظروا الحديث في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة، وفي الترغيب والترهيب للإمام المنذري في الجزء الرابع صفحة سبع وتسعين ومائة.
وخلاصة الحديث: عن سلمى رضي الله عنها وأرضاها قالت: دخل عليّ الحسن بن علي وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس رضوان الله عليهم أجمعين بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام، دخل هؤلاء الثلاثة الصحابة الكرام الحسن وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، دخلوا على سلمى امرأة أبي رافع مولاة نبينا عليه الصلاة والسلام، فقالوا لها: اصنعي لنا طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكله، أي: اصنعي لنا طعاماً كان يحبه النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت سلمى رضي الله عنها وأرضاها: يا بني! إذاً لا تشتهونه. لقد تغيرت الأوضاع وتبدلت لو صنعت لكم طعاماً من الطعام الذي كان يشتهيه رسول الله عليه الصلاة والسلام ويحبه، فإن نفوسكم لا تميل إليه، بعدما ألفت النعمة والأشكال والألوان، قالت سلمى رضي الله عنها وأرضاها: فقمت فأخذت شعيراً فطحنته ثم نفثته، والنفث هو النفخ، تنفخ عليه ليطير القشر الذي هو كالإبر، وسيبقى أيضاً بعد ذلك في الشعير شيء القشر، أخذت شعيراً فطحنته ثم نفثته، وجعلت منه خبزة، خبزت قرصاً من الشعير، قالت: وكان أدمه الزيت، فبلته بالزيت ونثرت عليه الفلفل، هذا هو الطعام الذي كان يحبه نبينا عليه الصلاة والسلام، رغيف قرص من خبز الشعير يؤتدم بزيت وينثر عليه الفلفل من أجل أن يطيب طعمه، قالت: ثم قربته إليهم فقلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذا، هذا إذا تيسر له، يعني هذه نعمة عظيمة عنده عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً، كفافاً )، عليه صلوات الله وسلامه، هذا كان يحبه ويكثر من أكله إذا تيسر له، لكن أحياناً يطوي الأيام الثلاثة والأربعة ولا يدخل جوفه طعام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، أما هذا لو تيسر له رغيف قرص من خبز الشعير يؤتدم بزيت وينثر عليه الفلفل، لآثر النبي عليه الصلاة والسلام هذا الطعام على غيره ورأى أنه في ذلك اليوم أكل من لذائذ الأطعمة، وهذا الذي تقوله سلمى : إذاً لا تشتهونه يا بني، لو قدمت لكم ما يحبه النبي عليه الصلاة والسلام لا تشتهونه.
وحقيقة لو قدم هذا لنا الآن فلن نأكله، نسأل الله أن يتوب علينا، وأن يحسن ختامنا، وأن يعرفنا بقدر أنفسنا، والله ما ابتعد سلفنا عن الدنيا إلا لكرامتهم على ربهم، وما خضنا فيها إلا لهواننا على الله عز وجل.
فهذا خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، أفضل طعام عنده خبز الشعير، مأدوم بزيت عليه فلفل، إذا تيسر هذا فهذا من أطايب الطعام عنده عليه الصلاة والسلام، وتقدم معنا أنه لا لقلة ولا لبخل عليه الصلاة والسلام، فالأمر موجود ويجود به وهو أكرم من عرفته البشرية على وجه الأرض عليه صلوات الله وسلامه، وكان يقسم أحياناً عطاءً ما يزيد على ألف بعير في المجلس الواحد عليه الصلاة والسلام، ثم يأكل بعد ذلك خبز الشعير عليه صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا شيء من كرمه عليه صلوات الله وسلامه، فهذا هو الذي اختاره وآثره لا لضيق ولا لتضييق من نفسه وادخار للأموال في جيبه وبيته، فقد كان ينفق المال على الناس ثم هو بعد ذلك إن تيسر له قرص من خبز الشعير مأدوم بزيت عليه فلفل فيحبه غاية الحب عليه الصلاة والسلام.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل | 3297 استماع |
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم | 3251 استماع |
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] | 3230 استماع |
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] | 3207 استماع |
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] | 3165 استماع |
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً | 3152 استماع |
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] | 3121 استماع |
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده | 3095 استماع |
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة | 2949 استماع |
مباحث النبوة - العدد المباح من الزوجات | 2869 استماع |