مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس كما تقدم معنا فصلاً مستطرداً، جرنا إليه مبحث من مباحث النبوة، ألا وهو خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، وبعد أن انتهينا من مدارسة هذا الجانب من حياة نبينا عليه الصلاة والسلام وتبين معنا: أن من تأمل خلقه عليه الصلاة والسلام مع آل بيته الكرام عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، لن يرتاب في أن نبينا رسول الله حقاً وصدقاً عليه صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! كما قلت بعد أن انتهينا من هذا الجانب ينبغي أن نتدارس ترجمة لأمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وعليهن صلوات الله وسلامه، وهذه الدراسة قلت سيسبقها ثلاثة أمور:

أولها: في بيان مقاصد النكاح والحكم من مشروعيته.

والأمر الثاني: في بيان حكم التعدد في حق الأمة.

والأمر الثالث: في بيان حكم التعدد في حق النبي عليه الصلاة والسلام، بعد هذه المقدمات الثلاث ننتقل إلى مدارسة أمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وكنا نتدارس إخوتي الكرام! الأمر الأول من هذه الأمور الثلاثة، وهي الحكم العامة والمقاصد البارزة من مشروعية النكاح، وقلت: لذلك حكم جليلة يمكن أن نجملها في خمس حكم:

أولها: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية، حسية أو معنوية.

والأمر الثاني: إنجاب الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية، وتقدم معنا ما في إنجاب الذرية من فوائد في العاجل والآجل، في الدنيا والآخرة.

وثالث الأمور: تحصيل الأجر لكل من الزوجين عن طريق حسن عشرة كل منهما لصاحبه ومساعدته أيضاً في النفقة.

والأمر الرابع: تذكر لذة الآخرة.

وخامس الحكم: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل صاحبه.

كنا إخوتي الكرام: بدأنا في الحكمة الرابعة ألا وهي: تذكر لذة الآخرة، وقدمت لها مقدمة لا زلنا نتدارس هذه المقدمة لننتقل بعد ذلك إلى كيفية تذكير النكاح بلذة عظيمة تكون في الآخرة إن شاء الله.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن أعظم الشهوات الحسية عند بني آدم شهوة الجنس، وتقدم معنا تقرير هذا من كلام الله ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبين معنا أن النفس البشرية لا تصاب بالعشق المفرط الذي يؤدي بصاحبه إلى تلف وهلاك إلا في هذه الشهوة، فمهما اشتهى الطعام لا يؤدي به ذلك إلى الهيام والجنون، وإلى أن يموت هماً وغماً لأنه ما حصل شهوة طعام ما، وهكذا شهوة الشراب، أما شهوة الجنس فقد يصاب الإنسان لضعفه وعدم تعلقه بربه أحياناً بالتلف والعشق والوسوسة والجنون، هذا حاصل في الناس بكثرة في القديم وفي الحديث، ونسأل الله أن يعلق قلوبنا به، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

تقدم معنا تقرير هذا.. أن هذه الشهوة هي أشد الأشياء تسلطاً على النفس البشرية، والنفس البشرية تقدمها على غيرها من الشهوات الحسية، وآخر ما ذكرته في ذلك الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما من قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن)، وبينت ما يتعلق بهذا الحديث من معنى في الموعظة الماضية، ولا أريد أن أعيد شيئاً من ذلك، إنما هذا كما قلت آخر شيء ذكر في آخر الموعظة الماضية، أبني عليه لأنتقل بعد ذلك كما قلت إلى بيان أن هذه الشهوة مع تعلق النفس بها هي شهوة أيضاً خسيسة وضيعة، يعني: ليس لها قدر ولا اعتبار، ومع ذلك النفس تتعلق بها وتقدمها على غيرها، فكيف بالشهوة الحقيقية التي تكون في الجنة دار السلام.

إخوتي الكرام! كما قلت هذه الشهوة لها هذا الأثر في النفس، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا أيضاً في أحاديث أخرى، سأقرر هذا بحديثين آخرين، ثم أنتقل إلى بيان منزلة هذه الشهوة وحقارتها في هذه الحياة، لنعلم أننا عندما نفعلها عن طريق الحلال نفعلها أرضاءً لذي العزة والجلال، وأما إذا عرضت على المرء من طريق حرام فيعرض عنها إعراض الكرام، ويقول: إني أخاف ذا الجلال والإكرام سبحانه وتعالى.

إخوتي الكرام! مما يدل على تعلق النفس البشرية بهذه الشهوة الحسية أيضاً ما ثبت في المسند والكتب الستة إلا سنن أبي داود ، والحديث في الصحيحين والسنن الثلاثة، رواه الإمام الحميدي في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه، ورواه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى، والبغوي في شرح السنة، ورواه الإمام العدني وابن قانع كما ذكر ذلك الإمام السيوطي في جمع الجوامع، في الجزء الأول صفحة تسع وتسعين وستمائة.

والحديث كما قلت في المسند والصحيحين وغير ذلك من رواية حب رسول الله وابن حبه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، من رواية أسامة بن زيد رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، فهذه الشهوة الحسية لها هذا الأثر، تزيد كما قلت على أثر ميل الإنسان إلى الطعام والشراب وغير ذلك، (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، هذا لفظ الحديث إخوتي الكرام، وسمعت بعض الخطباء يذكره على المنبر بزيادة ما وقفت عليها، فلا بد من التحقق مما ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فيزيدون في الحديث يقول: (وما تركت بعدي فتنة أضر على النساء من الرجال)، كما قلت بعد تفتيش وبحث ما وقفت على هذه الزيادة، وإن كان المعنى صحيحاً، لكن لفظ الحديث: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، وأما تلك الزيادة فكما قلت ما أعلمها مروية، لكن المعنى حقيقة فيها صحيح، فكما أن أعظم فتنة للرجل المرأة، فأعظم فتنة للمرأة أيضاً الرجل، والأمر صحيح. ‏

وقد ثبت معنى هذا في تفسير ابن أبي حاتم وتفسير ابن المنذر والأثر رواه البيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (خلق الرجل من الأرض، فجعلت نهمته فيها) يحب أن يتملك، وأن يبني، وأن يكون له العقار، والمزارع، (وخلقت المرأة من الرجل، فجعلت نهمتها فيه، فاحبسوا نساءكم) المرأة لا يهدأ بالها ولا يقر قرارها إلا إذا كانت في كنف رجل وتحت رعايته، وإذا حصلت هذا الرجل حصلت وطرها من الحياة، أما الرجل حقيقة مع ميله للمرأة يحب أيضاً أن يتملك، وأن يكون له كذا وكذا من العمارات والعقارات، المرأة لا تسأل عن شيء من ذلك إذا حصلت بعلاً، (جعلت نهمتها في الرجل، فاحبسوا نساءكم)، لأن الفتنة مشتركة من الجانبين، هو يميل إليها فهي بعض منه، وهي تميل إليه فهو أصلها.

نعم إخوتي الكرام: إن الميل كما قلت بينهما مشترك، فأعظم فتنة على الرجل المرأة، وأعظم فتنة على المرأة الرجل، لكن لا يجوز أن ننسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما قاله ونطق به عليه صلوات الله وسلامه، والمرأة كما قلت بعض من الرجل، وهي مخلوقة منه، وقد ثبت هذا في كتاب التوحيد والرد على الجهمية للإمام ابن منده ، في صفحة خمسين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فجرى من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم انتزع الله ضلعاً من أضلاعه فخلق منه حواء )، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، (أضلاعه فخلق منه حواء)، ولذلك سميت أمنا: حواء رضي الله عنها وعن سائر الصديقين والصديقات؛ لأنها خلقت من شيء حي، كما ثبت هذا في تاريخ ابن عساكر عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وأنا أقول: قيل لها كذلك لأنها أم كل حي، فهي أم الأحياء وخلقت من شيء حي رضي الله عنها وأرضاها.

إذاً: خلقت من أحد أضلاع أبينا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة الكثيرة، بأن المرأة خلقت من ضلع، إشارة إلى هذا الأثر الثابت كما قلت في كتاب التوحيد والرد على الجهمية للإمام ابن منده ، وثبت معنى هذا الحديث في الصحيحين وسنن الترمذي ، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً).

خلقت من ضلع وأعوج شيء في الضلع أعلاه، وأعوج شيء في المرأة لسانها، وقد يخرج منها ما يخرج، فهو أيضاً حال بني آدم ذكوراً وإناثاً، لكن صفة الخفة فيها أكثر، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وكسر المرأة طلاقها، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً، هذا كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث ثابت من رواية عدة من الصحابة الكرام.

ثبت في المسند وسنن النسائي وكتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ، والأثر رواه الإمام الدارمي في سننه، والإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، من رواية أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، ورواه الإمام أحمد أيضاً وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، والطبراني في معجمه الأوسط، والإمام النسائي في السنن الكبرى من رواية سمرة بن جندب .

إذاً: من رواية أبي هريرة وأبي ذر ومن رواية سمرة ، ورواه الإمام العسكري في الأمثال عن أمنا عائشة رضي الله عنها بمعنى حديث أبي هريرة المتقدم رضي الله عنهم أجمعين، المرأة خلقت من ضلع، وهذا إشارة إلى خلق أمنا حواء من أبينا آدم على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، وهذه إحدى الحكم المعتبرة في أن بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل، كما تقد معنا في بعض مواعظ الجمعة، وقد ثبت هذا الحديث في السنن الأربعة إلا سنن النسائي وإسناده صحيح كالشمس، من رواية علي رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية)، وهذا ما لم يطعما ما داما يتناولان اللبن من الثديين، فإذا بال الغلام يرش رشاً خفيفاً بالماء، وأما بول الجارية فلا بد من غسله، (ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية)، وكما قلت: الحديث في السنن الأربعة إلا سنن النسائي .

ورد في سنن ابن ماجه وهو في الجزء الأول صفحة خمس وسبعين ومائة، عن أبي اليمان المصري ، ولعل هذا غلط كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب: هو أبو لقمان وليس أبو اليمان وهو محمد بن عبد الله بن خالد مستور من رجال سنن الإمام ابن ماجه ، ورد عن أبي لقمان أنه قال لشيخه سيد المسلمين في زمانه أبي عبد الله الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله عن الحكمة من ذلك: لم ينضح بول الغلام ويغسل بول الجارية؟ فقال الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: لأن بول الغلام أصله ماء وطين، وبول الجارية أصله لحم ودم، فقال أبو لقمان : كيف هذا؟ يعني كيف هذا أصله ماء وطين وذاك أصله لحم ودم؟ فقال الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة ربنا: إن الله خلق آدم من تراب، وعليه أولاده يحملون خصائصه، فخلق حواء من ضلعه القصير، والإناث يحملن خصائصها، فالأنثى مخلوقة أصلها من دم ولحم، والذكر أصله مخلوق من ماء وطين، ثم قال له: فهمت؟ قال: نعم، قال: بارك الله فيك ونفعك الله.

انتبه! أصل هذا الغلام ماء وطين، وأصل هذه الأنثى لحم ودم، إذاً: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، وواقع الأمر كذلك، وما آيس إبليس من أحد إلا أتاه من قبل النساء، وكان سعيد بن المسيب من أئمة التابعين الكبار لا يبصر بإحدى عينيه في آخر حياته، وبالأخرى يعشو، وهو في بلد نبينا المختار على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه في العصر الأول، ولا يوجد شيء من التبرج ولا عدم الانضباط، ومع ذلك يقول: لا يوجد شيء في المدينة أخافه إلا النساء، يقول: هؤلاء النساء فتنة للرجل، كما أن الرجل حقيقة أيضاً فتنة للمرأة، ولذلك عندما فصل الإسلام بين الجنسين ضبط الجنسين بهذا الفصل، والاختلاط من أشنع الأمور في الإسلام، وخلطة النساء بالرجال في شرعنا من أقبح الخصال وسمة الفساق والجهال في كل وقت وبكل حال.

وما نتج عن الاختلاط من الفساد في هذه الأوقات لا يحتاج إلى ذكر، ولذلك قال عز وجل: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، وهذا كلام نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء).

الشاهد إخوتي الكرام! هذا الحديث يقرر لنا كما قلت منزلة تعلق بني آدم بشهوة الجنس، فهي أعظم الفتن، إذا ما اتقوا ربهم نحوها، ومما يقرر هذا حديث آخر رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام مسلم في صحيحه، ورواه الأئمة أهل السنة الأربعة إلا سنن أبي داود ، والحديث رواه الإمام الحميدي والإمام البغوي والإمام القضاعي ، وكما تقدم معنا هو في صحيح مسلم وغيره، فالحديث صحيح، من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، إن الدنيا حلوة خضرة، وإذا اجتمع هذان الوصفان تتعلق النفس بالشيء على التمام، حلوة طعم طيب ومنظر بهيج، حلوة خضرة، هذه هي الشهوات، لكن نعوذ بالله حقيقتها سم قاتل، يعني هي مثل حبة الفخ، قطعة الجبن التي توضع في المصيدة، من أجل أن يصاد العصفور أو الفأرة، حقيقة طعم الجبن طيب، لكن ينتج عنها هلاك وعطب، وهنا (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)، أي: احذروا تناول شيء من هذين على غير هدي رب الكونين، وليس المقصود أن تترك الدنيا ولا أن تبتعد عما أحل الله لك من النساء، لا، إنما انتبه، لا تتناول شيئاً من هذين على غير هدي الإسلام وخص النساء بالذكر مع أنها من الدنيا، (فالدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)، لأنها أعظم فتن الدنيا، وأعظم مغرياتها بالنسبة للرجل، (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).

وحقيقة من تأمل أحوال بني إسرائيل علم هلاكهم وعطبهم بسبب عدم انضباطهم نحو النساء، فلما حصل الاختلاط ترتب عليه الفساد، وغضب عليهم رب العباد.

وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا في سورة الأعراف فقال جل وعلا: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:175-177].

وخلاصة قصته كما ثبت في كتب التفسير؛ تفسير الطبري ، وفي كتاب أبي الشيخ ، وتفسير ابن مردويه ، وتفسير ابن أبي حاتم ، عن الإمام الشعبي وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، في قصة الرجل من أهل الكتاب الذي يسمى بلعام بن باعوراء ، قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير عند تفسير هذه الآية، في الجزء الثالث صفحة ثمان وثمانين ومائتين: المشهور في التفسير أن هذه الآية تتحدث عن رجل في الأمم السابقة اسمه بلعام بن باعوراء ، وهكذا قال في كتاب التبصرة في الجزء الأول صفحة ثلاث وستين ومائتين قال: هذا هو المشهور والأثبت، وإلى هذا ذهب الإمام الألوسي في روح المعاني، وغيره من أئمة التفسير عليهم جميعاً رحمة الله.

وخلاصة قصته: أن نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما أرسل جيشاً لفتح بيت المقدس، وكان فيها الجبارون المتكبرون، جاءوا إلى بلعام بن باعوراء وطلبوا منه أن يدعو على جيش موسى ليهلكه الله وليستأصله، ويقال: كان قد أوتي اسم الله الأعظم، وكان إذا دعا به أجيب وإذا سأل أعطي، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] فقالوا: ادع على جيش موسى ليهلكهم الله، قال: كيف أدعو على جيش نبي وهم على الحق، ولو دعوت لما استجيب، قالوا: شاور ربك، استخر ربك في هذا، فنام فظهر له ملك في الرؤيا يقول له: لا تدع على جيش موسى إنهم على الحق، لا تتورط وتنسلخ من دين الله، فجاء قومه إليه في الصباح، ماذا قال لك ربك؟ قال: نهاني أن أدعو على جيش موسى إنهم على الحق، قالوا: شاور ربك مرة ثانية استخره، فشاور ربه واستخاره، فرأى في الرؤيا في الليلة الثانية ما رآه في الليلة الأولى، وهكذا في الليلة الثالثة، ثم جاءوا إليه في اليوم الرابع قالوا: شاور ربك رابعة، فشاور ربه واستخاره فما رأى في الرؤيا شيئاً، قالوا: ماذا رأيت؟ قال: لم أر شيئاً، قالوا: رضي ربك أن تدعو على جيش موسى، ولو لم يرض لنهاك كما نهاك في الليالي الماضية.

قال: أمنوا، فرفع يديه وبدأ يدعو، فكان إذا أراد أن يقول: اللهم أهلك جيش موسى يقول: اللهم أهلك جيشنا، وإذا أراد أن يقول: اللهم انصر جيشنا يقول: اللهم انصر جيش موسى، الله على كل شيء قدير، وهذا اللسان لا يتحرك إلا بإذن من الرحمن سبحانه وتعالى، فلما انتهى من الدعاء قالوا: ويحك، أهلكتنا دعوت علينا ودعوت لهم، قال: لا خيار لي في ذلك، يعني: هذا الذي حصل بغير اختياري، ولو دعوت عليهم لما استجيب لي، لكن أخبركم بما أن الأمر وقع وغضب الله حل علينا، إذاً لو كان عاقلاً لتاب وأناب، إنما سيسلك مسلك إبليس، عندما حصل منه ما حصل كان الواجب عليه أن يقول: رب أستغفرك أعتذر مما وقع، إنما قال: أنظرني إلى يوم يبعثون، ثم لا تجد أكثرهم شاكرين، ولأغوينهم أجمعين، يعني: هي محادة لا تضر إلا نفسك، وهنا كذلك إذا ظهر خذلانه وعلم أن الله غضب عليه فالواجب أن يتدارك، وأن يقول: يا قوم أنا أتوب إلى الله مما صدر مني وتوبوا إلى الله واحترسوا، لكن انظر ماذا فعل، فلما علم أن الله خذله قال لهم: أنا أرشدكم إلى شيء إذا فعلتموه تنتصرون به على جيش موسى الأمر يسير، قالوا: وما هو؟ قال: إن جيش موسى جاء من مصر من بلاد بعيدة، وليس مع الجيش نساؤهم، وهم يتطلعون إلى هذه الشهوة، فجهزوا البنات ليبعن الطعام، ويختلطن بجيش موسى، وليستقبل البنات الجيش، وزينوا البنات بحيث تغري الرجال، وإذا أراد بعض الرجال شيئاً من النساء فلتمكنه، يعني: لا تمتنع، فإن الجيش إذا وقع في الزنا غضب الله عليه وبذلك تنتصرون عليهم، وكان الأمر كذلك، فجهزوا البنات، وذهبن ليبعن الطعام ويتلقين هذا الجيش، وحصل في الجيش ما حصل من الضياع والفساد، وفشى فيهم الطاعون، ويقال مات منهم كما في أخبار الكتب السابقة سبعون ألفاً من أثر وقوع الجيش في الزنا، وأوحى الله إلى نبيه وكليمه موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ما حصل في الجيش، فأرسل فرقة أخرى تتدارك الموقف، يقال: حتى إن الفرقة الأخرى التي جاءت مدداً لتصحح الموقف جاء رئيسها فدخل على رئيس الفرقة الأولى في خيمته فرأى معه بغياً، أيضاً يفعل معها ما حرم الله، فضربهما برمحه ثم رفعهما إلى السماء، وقال: اللهم من فعل هذا فعلنا به هذا، فاكشف عنا البلاء، يعني: الجيش وقع، وأنت عاقبتنا، لكن نتوب إليك أنت ربنا وولينا وحسبنا، فكشف الله عنهم البلاء والطاعون، ثم بعد ذلك فتح لهم ودخلوا منتصرين ظاهرين.

(فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، ولذلك ينقل الإمام ابن القيم في كتابه روضة المحبين، صفحة ست وتسعين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لم يكن كفر من كفر ممن مضى إلا من قبل النساء، وسيكون كفر من بقي من قبل النساء، يعني: كفر الماضين سببه النساء، وكفر اللاحقين سيكون في المستقبل بسبب النساء، ونسأل الله العافية والسلامة، وكما قلت هذه الآثار تبين لنا منزلة هذه الشهوة في النفس البشرية، بحيث توصله إلى الكفر، وتخرجه من دين الله.

نعم إخوتي الكرام: إن الزنا يبغضه الله، وإذا ظهر الزنا ومعه الربا في قوم فأعلم أن الله يحاربهم، ومن حاربه الله فلا ناصر له، ثبت الحديث بذلك عن نبينا صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد ، ومسند أبي يعلى ، وتفسير الطبري ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وإسناد الحديث جيد، كما في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة ثمانية، وفي صفحة أيضاً ثمان وسبعين ومائتين، وقد حكم الإمام الهيثمي أيضاً على الحديث بأن إسناده جيد في مجمع الزوائد، في الجزء الرابع صفحة مائة وثماني عشرة، وكذلك حكم عليه الإمام ابن حجر الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر، في الجزء الأول صفحة سبع وعشرين ومائتين، والحديث روي أيضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في المستدرك، في الجزء الثاني صفحة سبع وثلاثين، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان.

وعليه هو مروي عن صحابيين عن عبد الله بن مسعود وعن عبد الله بن عباس ، وإسناد الحديث صحيح من الطريقين، ولفظ الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ظهر الربا والزنا في قوم فقد أحلوا بأنفسهم عقاب الله).

إخوتي الكرام! كما قلت هذه الآثار وما تقدمها كلها تقرر منزلة تعلق النفس البشرية بهذه الشهوة الحسية، فلها شأن كبير، هذه الشهوة مع تعلق النفس بها إخوتي الكرام أيضاً لا قيمة لها في الحقيقة، فهي ناقصة بكل اعتبار، ولا غرو ولا عجب في ذلك، فهذه الشهوة تكون في هذه الدار، وهذه الدار دار نقصان، ودار ذل، ودار امتهان وهوان، فكل الشهوات فيها ناقصة، ولا يوجد شهوة كاملة إلا في الدار الآخرة، فهي دار الحيوان، هذه الشهوة كما سيأتينا محفوفة بالأخطار، هذه الشهوة يشاركك فيها الكفار والفجار، بل الحيوانات البهيمية، هذه الشهوة منقطعة يعتريها الفتور والفناء والزوال، هذه الشهوة قد توصل إلى ذل الدنيا وعذاب النار.

وسأبين إخوتي الكرام ما في هذه الشهوة من نقائص ليعلم الإنسان وضعه في هذه الحياة، وليتبصر أمره نحو هذه الشهوة، ونحو غيرها من المشتهيات، وكنت ذكرت ما في شهوة الطعام من نقائص وشوائب وكدر، فيما يكون قبل تناولها وعند تناولها وبعد تناولها عند أحكام الخلاء في مبحث سنن الترمذي ، وقررت هذا كما تقدم معنا من عشرة أوجه، وشهوة الجنس عندنا هذه سأقرر نقصها وامتهانها وخستها في هذه الدار من عشرة أوجه، هذه الأوجه لا يوجد شيء منها في الدار الآخرة، فإذا كانت هذه الشهوة ناقصة والنفس البشرية تتعلق بها، إذاً من باب أولى ينبغي أن يتعلق الإنسان بهذه الشهوة الكاملة في الدار الكاملة التي هي دار الآخرة، فهناك لا نقص في هذه الشهوة بوجه من الوجوه.

وهذه السلبيات في هذه الشهوة كما قلت إخوتي الكرام: نذكرها لا لنعرض عن هذه الشهوة عن طريق ما أحل الله لنا، لا ثم لا، فالنقص فينا مركب، وهذه الحياة هي دار النقص، لكن كما قلت لنعلم وضع هذه الشهوة، لئلا ننهمك فيها وإن كانت مباحة، ولأن نحذرها إن كانت محرمة، ولنصرف بعد ذلك همتنا إلى الشهوة الكاملة التي تكون في الدار الآخرة، ولنذكر بما يكون من شهوة كاملة في تلك الدار الآخرة الفاضلة.

ولذلك كما قلت سأذكر عشرة أمور تبين نقص هذه الشهوة، ثم بعد ذلك أنتقل إلى موضوع البحث وهو النقطة الرابعة، تذكر لذة الآخرة عند هذه الحكم العامة للنكاح.

إخوتي الكرام! أول نقص في هذه الشهوة أعني غريزة الجنس وإرواء الشهوة البشرية، أول نقص فيها: صورتها ممتهنة، ولذلك تفعل في السر، وهي شهوة بهيمية في حقيقة الأمر، صورتها ممتهنة حقيقة يستحي منها العقلاء، يستحي منها الفضلاء، ولذلك تفعل سراً، وما يجهر الإنسان بها حتى عن طريق الحلال، يفعلها سراً مع من أحل الله له.

أثر عن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه كما في إحياء علوم الدين، في الجزء الثالث صفحة ست ومائتين، والأثر أيضاً موجود في شرح الإحياء للإمام الزبيدي في الجزء الثامن صفحة ثمان وتسعين، وما وقفت على من خرج هذا الأثر عن هذا الخليفة المبارك رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب من الكتب التي تروي بالإسناد، إنما كما قلت في الإحياء، وفي شرحه عن علي رضي الله عنه أنه قال: إنما الدنيا ستة أمور، يعني شهواتها وملذاتها تقوم على ستة:

أولها: مطعوم، وأعلى المطعومات مذقة ذباب، وهو العسل، يعني: لعاب ذباب، أعلى المطعومات العسل، والنحلة كما قال أئمتنا بأحد طرفيها تعسل، وبالطرف الآخر تلسع، ومقلوب العسل لسع، فالعسل من الفم واللسع من الإبرة في المؤخرة، مخلوق صغير يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، يعني: من الذي فضلها على الذبابة، ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فهذه تأكل من كل الثمرات، وسهل الله لها أن تسلك سبل ربها ذللاً، وتلك تقف على القاذورات والأشياء المستقبحات، فالنحلة لا تقف على غائط، لكن هذا مكان الذباب، ولو قدر أن الإنسان قضى حاجته في صحراء فإنه يتجمع الذباب على هذا الغائط الذي يخرج منه، أما النحل لا يأتي، النحل ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [النحل:69]، لم؟ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:68-69].

إذاً: أشرف المطعومات مذقة ذباب، هذا أشرف المطعومات، قال: ومشروب، يعني: الدنيا مطعوم ومشروب، وأشرف المشروبات الماء، ويستوي فيه البر والفاجر، وهو هذا الماء أهون موجود وأعز مفقود، يعني: إذا وجد لا قيمة له، وليس له ثمن، لكن إذا فقد هو أعز شيء عندك وأغلى شيء عندك، ولذلك الماء يلي الهواء في احتياج الكائنات الحية إليه، أهون موجود عندما يوجد لا قيمة له، لكن إذا فقد أعز مفقود.

ورحمة الله على محمد بن السماك عندما دخل على هارون الرشيد رحمة الله عليهم جميعاً، ودعا بقلة ماء ليشربها في أيام الحر، وخليفة المسلمين في ذاك الوقت، إذا أراد أن يشرب ماء مثلجاً في القلة التي هي من الفخار، أما ثلاجات وثلج هذا كان لا يوجد، خليفة المسلمين كان إذا أراد أن يخرج من بلاد العراق للحج يعتريه ما يعتري غيره من ظروف الطبيعة من رياح وأمطار وبرد و..و..و.. والآن صار عند الناس من وسائل الرفاهية والراحة ما تشاهدونه وتعلمونه، ونسأل الله أن يجعل الآخرة دارنا، وألا يجعل الدنيا دارنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

دعا بماء ليشربه، قال: لا تشرب يا أمير المؤمنين، قال: علام؟ قال: إن منعت هذا الماء في هذا اليوم القائظ كم تدفع ثمناً له، قال: أدفع نصف ملكي، حقيقة هذا أعز مفقود، إذا فقد فهو عزيز غال، وهو يقول يدفع نصف ملكه هذا في حال الاختيار هو الآن ما يقدر قيمة الماء؛ لأنه لا يشعر بقيمته إلا إذا فقد، هو الآن يقول: نصف الملك، والله يدفع الملك بكامله إذا اضطر إلى كوز من الماء، قال: اشرب، قال: الآن إذا احتبس هذا الماء في بطنك وما خرج كم تدفع ثمناً لإخراجه؟ قال: نصف الملك الآخر، قال: تباً لهذا الملك الذي لا يعدل بولة، إن ملكاً يا أمير المؤمنين لا يساوي بولة لا ينبغي أن يتنافس الناس فيه، يعني الدنيا من أولها إلى آخرها ثمن بولة، ثمن كوز من الماء تشربه وتخرجه، واقع الأمر كذلك.

ولذلك إخوتي الكرام: نعم الله علينا لا تحصى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وكثير من الناس يظن أن النعم بكثرة المطعومات وتنوعها وأشكالها، يا عبد الله نعمة الهواء ما أعظمها بلا ثمن، بل بلا كلفة، لا تشعر بها على الإطلاق، لو كان الهواء يشرى بثمن لمات أكثر الناس، يليه نعمة الماء بلا ثمن، وهو كما قلت أهون موجود، يليه الغذاء ومن قنع بالخبز لم يستعبده أحد، ومن رحمة الله بعباده أنه كلما اشتدت حاجتهم إلى الشيء بدا لهم بلا ثمن وبلا كلفة، وكلما قلت حاجتهم إليه جعل له قدراً واعتباراً، فمثلاً رفيع الثياب والحلي والزينة للنساء لها ثمن، لكن لو أن المرأة طول حياتها ما لبست الحلي نقصت قيمتها؟ ما نقصت قيمتها.

سبحان من خص العزيز بعزه والناس مستغنون عن أجناسه

وأذل أنفاس الهواء وكل ذي نفس لمحتاج إلى أنفاسه

الهواء ذليل بلا ثمن، وهكذا الماء هو أهون موجود، وهو أشرف مشروبات الدنيا.

الأمر الثالث من شهواتها: قال: ملبوس، قال: وأشرف الملبوسات نسج دودة، وهو الحرير، هذا أشرف الملبوسات.. أغلاها.. ألينها.. أنعمها، وهو نسج دودة، هناك مذقة ذباب، وهنا نسج دودة، وما بينهما الماء أعز مفقود وأهون موجود.

قال: ومركوب، وأشرف المركوبات الخيل، وعليه يقتل الرجال، على هذا الخيل في المعارك يموت الرجال في ساحات الوغى، وهذا أشرف مركوب يركبونه يموتون عليه.

يقول: ومشموم، وهو الأمر الخامس، يقول: وأشرف المشمومات أعلاها المسك، وهو دم الغزال.

والسادس: ومنكوح، وهو مبال في مبال، هذه الدنيا مطعوم، مشروب، ملبوس، مركوب، مشموم، منكوح، المنكوح مبال في مبال.

قال علي رضي الله عنه: وإن المرأة لتزين أحسن شيء فيها، ويراد أخس شيء منها، تجمل وجهها وتزينه بأنواع المساحيق والزينة، ويراد منها ما يستحيا من ذكره، مبال في مبال.

والله الذي لا إله إلا هو إخوتي الكرام! لولا أن الله أمر الرجال بتناول هذه الشهوة لما يترتب عنها من طيب الخصال، من إخراج ذرية تعبد وتوحد رب البرية، من صحة للجسم، من تذكر للذة الآخرة، يعني لولا أن الله أمرهم وحثهم على تناولها لما يترتب عليها من مصالح لولا ذلك لأعرض عنها الرجل العاقل، يكفي في الإعراض عنها هذا الامتهان فيها، مبال في مبال.

ولذلك كما قالت هند : ما أقبحه حلالاً فكيف به حراماً، يعني: هو في صورة الحلال صورة ممتهنة، ثم بعد ذلك يفعله الإنسان عن طريق الحرام، هذا حيوان.. هذا بهيمة، ليس من بني آدم، ما عنده كرامة، فعل هذا عن طريق ما أحل الله بدافع شرعي، لما يترتب عليه من مصالح في العاجل والآجل ليس فيه بأس، أما أنه يفعل هذا عن طريق ما حرم الله حقيقة هذا ليس من عداد بني آدم، هذا الآن بهيمة من البهائم، لكن يختلف عن البهائم أنه يمشي على اثنتين وتلك تمشي على أربع فقط.

أبني إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر

هو بهيمة، لكن في صورة رجل، فهذا النقص الأول في هذه الشهوة، صورتها ممتهنة، ولذلك تفعل في السر، وهي شهوة بهيمية في حقيقة الأمر.

الأمر الثاني: من أمور النقص فيها: هذه الشهوة لا تحصل إلا بإرهاق وتعب، لا يمكن للإنسان أن يحصل شهوة الجنس إلا بعد تعب، يكد ويكدح، ويجد ويجتهد، ويبذل ويدفع، ويوسط، ويخطب، ووعود، وترتيبات حتى بعد ذلك يقترن مبال في مبال، كل هذا الجهد من أجل هذه الشهوة، ألا تصرف بعد ذلك همتك لشهوة لا نقص فيها بوجه من الوجوه في الدار الآخرة، أما عندك عقل يذكرك بهذا الأمر، انتبه للإرهاق والتعب الذي يكون في هذه الحياة، وكما قلت: هذه دار النقص، وقلت مراراً: لا يوجد في هذه الحياة شهوة كاملة إلا بما يتعلق بتوحيد الله وذكره والأنس به، وما طابت الدنيا إلا بمحبة الله وذكره، وما طابت الجنة إلا برؤيته ومشاهدته، لكن هنا شهوة تامة كاملة لا يمكن، لا فيما يوصل إليها، ولا في تناولها، ولا فيما يعقبها، نقص من جميع جهاتها، لم؟ لتعلم أن هذه الحياة دار هوان والآخرة هي دار الحيوان.

انتبه للتعب الذي يحصل في هذه الحياة، لا تخلو هذه الحياة من تعب، عندما جعل الله أبانا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في الجنة، هناك أخبره أنه لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، وحذره من الركون إلى وساوس الشيطان، فقال له: إذا ركنت إليه وأخرجك منها ستشقى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:116-119]، تشقى في أي شيء؟ في تحصيل أمور الحياة في الدنيا، ليس المراد من الشقاء الذي هو ضد السعادة فيما يتعلق بالطاعة والمعصية، لا، فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، تشقى في تحصيل رزقك، أما في الجنة لا تجوع ولا تعرى، ولا تظمأ ولا تضحى، لا يصيبك حر ولا ظمأ ولا جوع.

أما في الدنيا لا تحصل الشبع إلا بتعب، ولا تحصل الرزق إلا بتعب، ولا تدفع عنك الحر إلا بتعب، فانتبه لهذا، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، إذاً: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، الخطاب إخوتي الكرام! لآدم وزوجه على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، فلا يخرجنكما، ثم الإخبار بصيغة الإفراد: فتشقى، لِمَ لَمْ يقل فتشقيا؟

قيل: لأن المخاطب بذلك آدم أصالة وزوجته تبع له، وما يشمله يشملها، هي ستشقى أيضاً مع شقائه، هو وكل واحد سيتعب في هذه الحياة، وإنما آثر الله الإخبار بصيغة الإفراد من أجل المحافظة على رءوس الآي، فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:117-119].

وقيل: لأن الشقاء والتعب في حق الرجل أكثر منه في حق المرأة؛ لأنه هو المطالب بالنفقة وتحصيل أمور المعيشة، فالشقاء فيه، والتعب فيه، والعناء يحصل له أكثر مما يحصل للمرأة.

إذاً: شقاء سيحصل للإنسان قبل تحصيل هذه الزوجة، أما يحتاج الزواج إلى مهر؟ لا بد منه، يحتاج إلى كلفة وشدة وعناء وتعب وقهر، هذا حال الحياة، ولا يمكن أن يُحَصِّل الإنسان في هذه الحياة لذة إلا بعد مكابدة شدة، كما قال الله جل وعلا في سورة البلد: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] مكابدة مشقة بعد مشقة، ويتحمل شدة بعد شدة في تحصيل مآربه وشهواته ولذائذه التي أحلها الله له، لكن لا توجد شهوة بلا تعب.. بلا كدح.. بلا جهد.. بلا عناء، ولو قدر أن الطعام جاءك من طريق حلال لا بد من أن تتعب كما تقدم معنا في مضغه، ولو قدر أنه بذل لك المهر ويسر لك الزواج مع امرأة تميل نفسك إليها، سيأتي تعب بعد ذلك في الاتصال بها، وفيما يترتب عليك. فإذا كانت النفس عاقلة تتعلق بهذه الشهوة إذا لم يكن فيها نقص من باب أولى، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] يكابد شدة بعد شدة، ونصباً بعد نصب، ومشقة بعد مشقة، وهذا مما قيل في تفسير الآية.

وقيل: وهو معنى ثان معتبر أيضاً ومذكور في كتب التفسير، ومنقول عن أئمتنا: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] قيل: المراد من ذلك لقد خلقناه منتصباً، يمشي على رجلين، قامته معتدلة، خلق على هذه الصورة في بطن أمه، رجلاه إلى أسفل ورأسه إلى أعلى، بخلاف سائر الحيوانات، وإذا قدر الله خروجه انقلب بإذن الله وقت الخروج فخرج الرأس قبل الرجلين، وهو في هذه الحياة صورته أكمل الصور يمشي على رجلين ورأسه مرتفع، بخلاف البهائم التي صورتها في صورة ناقصة، كبد أي: منتصب القامة.

وقيل: المراد من الإنسان هنا: خصوص آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه خلقه الله في كبد السماء، أي: في وسطها، والذي يظهر القول للعموم، ولا مانع أيضاً من أن يقال: إن الله خلق آدم في وسط السماء منتصباً، وخلق ذريته في بطون أمهاتهم منتصبين، وأخرجهم إلى هذه الحياة بصورة منتصبة يمشون على أرجلهم وقاماتهم مرتفعة، ثم بعد ذلك يكابدون الشدائد والمشقات والأهوال في جميع الأحوال والأطوار لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]. ‏

الإمام القرطبي عليه رحمة الله في تفسيره عند هذه الآية، في الجزء العشرين صفحة اثنتين وستين، نقل عن أئمتنا الكرام شيئاً من مكابدات الإنسان في هذه الحياة، حقيقة يحسن بنا أن نذكره لنعلم الشدائد التي يكابدها الإنسان في هذه الحياة.

يقول الإمام القرطبي عليه رحمة الله: قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته، يتألم عندما يقطع السر، ثم إذا قمط قماطاً، وشد رباطاً، يعني: شد عليه يكابد الضيق والتعب، والقماط هو الذي يربط به الولد بعد ولادته من أجل ألا تتحرك أعضاؤه، وكلما قمط ولم تترك يداه متروكتان كان هذا أضبط لصحته في أول حياته، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، يتغير مزاجه يبكي ويصيح، ويعاني حرارة زائدة عند خروج الأسنان، ثم يكابد نبت أسنانه وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، يعني: لو لطمته أسهل عليه من أن تفطمه، ثم يكابد الختان والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم صولته عندما يعلمه يصيح به ويضربه، هذه شدة يكابدها الولد، والمؤدب وكياسته، والأستاذ، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجنان، ثم يكابد شغل الدور وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم.

هذه كلها مكابدات، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الأذن، ويكابد محناً في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله جل وعلا، إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار، قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد، يعني: لو أنت خلقت نفسك ولك الخيار في تدبير حالك لما اخترت هذه الشدائد.

ودل هذا على أن له خالقاً دبره وقضى عليه بهذه الأحوال، فليمتثل أمره لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4].

إخوتي الكرام! كما قلت: هذه الشهوة لا تحصل إلا بإرهاق وتعب.

النقص الثالث فيها: كما أنها لا تحصل إلا بتعب، يصاحب تناولها تعب، ويعقبها ضعف ونصب، يعني: تعب قبلها، وتعب عند تناولها، وتعب بعدها، للذكر وللأنثى، يتعبان، يعني: عملية الوقاع مع ما فيها من لذة للجنسين فيها تعب لهما، وقد أشار إلى ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي المسند، والصحيحين، والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي ، والحديث رواه الإمام الدارمي في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه، وعبد الرزاق في مصنفه أيضاً، والدارقطني في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو داود الطيالسي في مسنده، ورواه ابن حبان في صحيحه، وأبو عوانة في مسنده، والحديث كما تقدم معنا في الصحيحين وغيرهما إسناده صحيح صحيح، فهو في أعلى درجات الصحة، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها، فقد وجب الغسل)، جهدها: أتعبها، والشعب الأربع ما بين الرجلين والساقين، إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها في عملية الوقاع وجب الغسل، حصل إنزال أو لم يحصل، إذا حصل الإيلاج حصل الكبد.. الشدة.. المشقة.. التعب.. المرأة تجهد وهو يجهد ويتعب.

وفي بعض روايات الحديث كما في رواية السنن، والمسند، وسنن الدارقطني، ومسند أبي عوانة، ومصنف ابن أبي شيبة (ثم اجتهدا)، يعني: اجتهدا في تلك العملية، وبذلا جهداً، ومشقة، وتعباً، يعني هذه تحصل بدون كلفة؟ لا ثم لا، يحتاج الانتصاب إلى شدة وجهد في الإنسان، ثم ما يخرج منه بعد ذلك خلاصة الدم هذا يضعفه، تعب متتابع عليه، وفي رواية البيهقي في السنن الكبرى، والدارقطني وصحيح أبي عوانة : ( ثم أجهد نفسه ).

( إذا جلس بين شعبها الأربع وجهدها -واجتهد.. وأجهد نفسه- وجب الغسل )، هي جهدت وتعبت، وهو اجتهد وأجهد نفسه وتعب، إذن هذه ما حصلت إلا بعد جهد، بعد تعب، بعد عناء، بعد شدة.

وإذا أكثر الإنسان منها فالويل له والشقاء له والمرض والأسقام له في هذه الحياة عندما يكثر منها، وقد قرر هذا أئمتنا الكرام، ففي كتاب نزهة المتأمل ومرشد المتأهل للإمام السيوطي ، في صفحة ثمان وثمانين يقول: الإفراط في الجماع يورث الفالج، إذا أكثر منه يصاب بالشلل، وهذا واقع، يورث الفالج، ويضعف قوة البصر، وبين الشهوة وقوة البصر ارتباط وثيق، وسبحان من جعل هذا الربط بينهما، فكلما أكثر الإنسان من تناول هذه الشهوة إذا لم يكن قوياً وما عنده استعداد، كلما ضعف بصره، وقد يعمى، سبحان ربي العظيم، شهوة وترتب عليها عمى، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4].

والآفة الثالثة يقول: يورث الهرم، ويسرع المشيب قبل وقته، والشيب ينتشر في شعره عندما يفرط في الجماع، هذا كما قلت في كتاب نزهة المتأمل ومرشد المتأهل، يعني: الذي يريد أن يتأهل ينتبه لهذا الأمر، هذه الشهوة تفعل عند الاحتياج، أما تكثر منها تصاب بهذه الأشياء وأصعبها الفالج والعمى نسأل الله العافية، أما الشيب أمره يسير، يعني: من شاب وما أصيب بعمى وفالج وشلل أمره يسير، لكن هذه كما قلت شدائد يصاب بها الإنسان.

وقد نص أئمتنا الكرام أيضاً على أن من أكثر من تناول هذه الشهوة يصاب برعشة في أعضائه، ترى أعضاءه تتحرك اضطراراً لا اختياراً، لا يملكها، من كثرة إفراطه في تناول هذه الشهوة، وتضعف ذاكرته، ويصاب بنسيان وببلادة، ويصاب بوجع في المفاصل، فلو مشى أمتاراً لتعب، وبدأ قلبه يخفق ونفسه يعلو من صدره، هذا أيضاً من هذه الشهوة كبد، وقد يعقبها الموت، وكم من إنسان مات بسبب الإفراط في الجماع. وهناك حوادث وقعت في التاريخ كثيرة. ‏

كلام السابقين في التحذير من الإكثار من الوطء

ونعرف بعض الحوادث، كنت مرة في بعض البلاد وبعض الناس كان في المستشفى، وما جلس فترة طويلة، فجاءت أهله وهو في حجرة خاصة فما ملك نفسه فوقع فمات إثر الوقاع مباشرة، أعرفه معرفة شخصية في بعض البلاد الإسلامية، وأئمتنا ذكروا هذا أيضاً في كتبهم، أن هذا حصل في الزمن القديم مع كثير من الناس، جماعه أدى به إلى موته، سبحان ربي العظيم!

يذكر الإمام الذهبي عليه رحمة الله في كتابه معجم الشيوخ في الجزء الأول صفحة اثنتين وأربعين ومائة في ترجمة شيخه الإمام الهمام إبراهيم بن عبد السلام القبيسي ، وتوفي سنة ثلاث عشر وسبعمائة للهجرة، ينقل هذا إبراهيم بن عبد السلام عن والده عبد السلام القبيسي أنه قال: سمعت أبي يقول: احفظ الدمين -تثنية دم- هل في الإنسان دمان؟ نعم كما عندك ذهبان أحمر وأبيض، عندك دمان أحمر وأبيض، احفظ الدمين الأبيض والأحمر في صغرك ينفعانك في كبرك. يعني: إياك أن تضيع شيئاً من هذا الدم الذي هو أحمر، والدم الذي هو أبيض، فلا تفرط في الجماع في أول نشأتك، وإذا كنت شاباً وتزوجت ثارت الشهوة قضيتها، أما أنك تتكلفها كما يفعل كثير من الناس بحيث أحياناً يأخذ ما ينشطه من أجل أن يأتي هذه الشهوة، والله ليس بعد هذه الحيوانية حيوانية، وليس بعد هذه البهيمية بهيمية، عندك نشاط فعلته لا تتعب نفسك وتخلصت من فضلة وحصلت خيراً، أما أنك تتكلف هذا لتخرج خالص الدم من دمك، وخالص الدم يتحول إلى مني، أشرف أنواع الدم يتحول إلى مني.

احفظ منيك أيها الإنسان فإنه ماء الحياة يصب في الأرحام

احفظه، هذا ماء الحياة به تحيا، ما دام فيك فأنت في صحة وسلامة وعافية، نقص منك تتضرر، احفظ الدمين الأبيض والأحمر في صغرك ينفعانك في كبرك.

وقد بالغ من حرص بعض الناس على صحته، وإن كان مسلكه لا يقتدى به كما أنه لا يقتدى أيضاً بشخصه، فمسلكه باطل وهو على باطل، وهو أبو مسلم الخراساني الذي هلك سنة سبع وثلاثين ومائة للهجرة، وهو مؤسس الدولة العباسية من السفاحين الذين زاد سفكهم للدماء وظلمهم للناس على ظلم الحجاج ، فالحجاج قتل عشرين ومائتي ألف، وأما هذا فقد أحصي من قتلهم فبلغ ستمائة ألف، قتل في دمشق فقط خلال ثلاث ساعات خمسين ألفاً ، لكن بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين، من الذي قتله؟ الذي أفنى حياته في خدمته، وأسس له ملكه، أبو جعفر المنصور استدعاه وقتله أمامهم، وأنشد أبو جعفر بيتين من الشعر بعد قتل أكبر قواده ومؤسس دولته، فقال:

زعمت أن الدين لا يقتضى فاستوف بالكيل أبا مجرم

بدل (أبا مسلم ) قال: أبا مجرم.

واشرب بكأس كنت تسقي بها أمر في الحلق من العلقم

أبو مسلم الخراساني يذكر أئمتنا في ترجمته كما يذكر هذا الإمام الذهبي في السير في الجزء السادس صفحة ثمان وأربعين: أنه كان لا يأتي النساء إلا مرة واحدة في العام فقط؛ محافظة على صحته، وعناية بأمر جسمه، ثم يقول: لشرفه واشتغاله بأمور الرعية مرة واحدة في السنة يجامع بها زوجته، ما عدا هذا لا صلة له بالنساء، كما قلت: لا يقتدى لا بفعله ولا به، لكن انظر للفكرة العامة أن الإكثار منه حقيقة ضار، فلا بد من وضع الشيء في موضعه، نعم ينبغي للإنسان أن يتعهد نفسه، وأن يعف أهله، لكن ينبغي أن يكون ذلك باقتصاد بحيث لا يرهقه ولا يتعبه ولا يؤذيه، أما أن يترتب على هذا أذى فهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يحصل.

يقول الإمام الذهبي في الجزء الخامس صفحة اثنتين وخمسين في السير ناقلاً عن عبد الله بن بريدة وهو من أئمة التابعين، توفي سنة خمس عشرة ومائة للهجرة، وحديثه في الكتب الستة، عن عبد الله بن بريدة يروي عن أبيه، وأبوه بريدة بن الحصيب ، وهو من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، روى عبد الله بن بريدة عن أبيه وعن عمران بن حصين عن أبي هريرة وعن أبي موسى وعن أمنا عائشة وأمنا أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين، يقول: ينبغي للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثة أشياء ولا يدعها: أولها: المشي، فينبغي للإنسان أن يتعاهد من نفسه المشي ولا يترك المشي؛ لأنه إذا احتاجه وجده، إذا تعلم الركوب باستمرار إذا أراد أن أن يمشي يتعب، فليتعاهد نفسه نحو هذا الأمر، فليمش دائماً، وبعض الناس أصيبوا بالكسل في هذه الأيام، حتى لو أراد أن يخرج لصلاة الجماعة ينبغي أن يركب السيارة.

الأمر الثاني: الأكل، أيضاً لا يمسك عن الأكل فترة طويلة، فإن أمعاءه تضيق، فليعود نفسه أيضاً الأكل بمقدار.

والثالث: الجماع، فإن البئر إذا لم تنزع ذهب ماؤها، فمن أعرض عنه يجف هذا الماء عنده، ولو تزوج بعد ذلك لوجد كلفة ومشقة، هذه الأمور الثلاثة ينبغي للإنسان أن يعتني بها مشي وأكل وجماع.

قال الإمام الذهبي معلقاً على هذا الكلام الحق، قلت: يفعل هذه الأشياء باقتصاد، لا سيما الجماع، وإذا شاخ فتركه أولى، والشيخوخة من سن الستين فما بعد، إذا ما دخل في الستين تركه أولى، ولو فعله يبقى كما قلت باقتصاد، يفعل هذه الأشياء باقتصاد، قال: لا سيما الجماع إذا شاخ فتركه أولى؛ لأنه يغض من حياته ويضعف جسمه إضعافاً كثيراً، يعني: لو جلد الشيخ ألف جلدة أقل ضرراً على نفسه من أن يجامع أهله، إذا لم يجد لذلك نشاطاً، فلا بد من وضعه في موضعه.

إذاً إخوتي الكرام! شهوة، لكن فيها هذا النقص، تعب عندما يتناولها، وتعب يترتب عليها، وكما قلت بعض الناس تناولها ثم صار هلاكه بسببها، وبعض الناس تناول شيئاً ليقوي هذه الشهوة في نفسه، فهذا المقوي قتله كما حصل للخليفة الواثق، يذكر الإمام الذهبي في السير في الجزء العاشر صفحة ثلاثمائة واثنتي عشرة في ترجمة الخليفة الواثق، وقد توفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين للهجرة، وهو هارون بن المعتصم بن هارون بن الرشيد على المسلمين أجمعين رحمة رب العالمين، إذ كان ذا نهمة بالجماع، وسبب موته أكل لحم سبع -والسبع المعروف حيوان مفترس- ليقوى جسمه في تناول تلك الشهوة، قال: فولد له أمراضاً صعبة كان في ذلك حتفه، فقضت عليه هذه الشهوة، ولما احتضر رحمة الله عليه وعلى المسلمين أجمعين ألصق خده بالتراب ثم بكى وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، ملك الله لا يزول، وملك من عداه زائل.

إذن كما قلت إخوتي الكرام: شهوة، لكن محفوفة بهذه الأخطار.

ثلاث مهلكات للأنام ومدعاة الصحيح إلى السقام

دوام مدامة ودوام وطء وإدخال الطعام على الطعام

تحذير الشيخ الكبير من نكاح الفتاة الشابة

فإذاً لابد من وعي هذا، والإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله حقيقة له كلام محكم ينقش على القلب نحو هذا الأمر في كتابه صيد الخاطر، وهو كتاب ليس له موضوع معين، كتبه في مراحل متعددة في حياته، ما يعن له من فوائد يقيدها، فليس هو في تفسير ولا في الحديث ولا في الفقه، يقول في صفحة واحدة وثمانين ومائتين من صيد الخاطر نحو هذه الشهوة كلاماً طيباً تحت عنوان: لذات الدنيا مشوبة بنغص، حقيقة لا يوجد لذة خالصة، يقول: وأبله البله الشيخ الذي يطلب صبية، ولعمري إن كمال المتعة إنما يكون بالصبا، لكن متى لم تكن الصبية بالغة لم يكمل بها الاستمتاع، فإذا بلغت أرادت كثرة الجماع والشيخ لا يقدر، فإن حمل على نفسه لم يبلغ مرادها وهلك سريعاً، يعني: لو أراد أن يتحمل ما يكفيها حقها ما بلغ مرادها وهلك أيضاً، ولا ينبغي أن يغتر بشهوته إلى الجماع، فإن شهوته كالفجر الكاذب، والفجر الكاذب هذا الذي يخرج قبل الفجر الصادق، نور يظهر في الأفق في وسط السماء، يبدو مستطيلاً ثم يعقبه ظلمة الفجر الكاذب كذنب السرحان -كذنب الذئب- هذا لا يدخل به الفجر، ولا يمتنع على الإنسان أن يأكل إذا أراد أن يصوم، وأما الفجر الصادق هذا النور المنتشر في الأفق مستطير.

وأشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الفجرين في الحديث الذي ثبت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن النسائي ، والحديث أيضاً في مصنف ابن أبي شيبة، والسنن الكبرى للإمام البيهقي، ورواه أبو داود الطيالسي، وابن خزيمة في صحيحه، والإمام الطحاوي والإمام الدارقطني عليهم جميعاً رحمة الله من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعنكم من سحوركم -وهو طعام السحور الذي يؤكل عند السحر- أذان بلال، ولا الفجر المستطيل)، باللام، وهذا هو الفجر الكاذب، ولكن الفجر المستطيل كذنب السرحان.

والحديث ثابت من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها، وابن عمر في الصحيحين وسنن النسائي وموطأ الإمام مالك ، وثابت أيضاً في الصحيحين والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، الشاهد هنا: ولا ينبغي أن يغتر بشهوته إلى الجماع، فإن شهوته الفجر الكاذب. قال الإمام ابن الجوزي : وقد رأينا شيخاً اشترى جارية فبات معها فانقلب عنها ميتاً، ليلة واحدة، اشترى جارية ليتسرى بها فمات قبل أن يطلع عليه الفجر، لم؟ هي الحرارة الغريزية التي عنده ذهبت عن طريق إخراج المني، خلاص ما بقي في الجسم ما يحفظه، هلك وعطب ومات.

يقول: وكان في المارستان ما شاء الله هذه قصة تشبه القصة التي ذكرتها لكم، وكان في المارستان شاب قد بقي شهرين، فدخلت عليه زوجته فوطأها فانقلب عنها ميتاً، فبان أن النفس باقية بما عندها من الدم والمني، فإذا أخرج من البدن الدم الأحمر والأبيض، ولم تجد النفس ماء تعتمد عليه ذهبت.

يقول: وإن قنع الشيخ بالاستمتاع من غير وطء فهي لا تقنع، فتصير كالعدو له، فربما ضربها الهوى ففجرت، أي: احتالت على قتله، خصوصاً الجواري اللواتي أغلبهن قد جئن من بلاد الشرك، ففيهن قسوة القلب.

مرة كنت في بعض البلاد وأراد بعض الناس أن يتزوج، وأراد أن يختبرني أيضاً مستشاراً في زواجه، كان يسكن قريباً من الحجرة التي أسكنها، وقال: أريد أن تنظر في أمري هل هذه تصلح لي؟ وكان عمره يزيد على الستين، ففي يوم من الأيام حضرت فتاة مع من أحضرها له من أهلها والله عليم، على كل حال في حدود السابعة عشرة، وسبحان الخالق في جسمها وكذا، فقال: ما رأيك؟ قلت: يا رجل! أما تتقي الله في نفسك، أنت ما تحافظ على سمعتك، وعلى مكانتك بين الناس؟ قال: لم؟ قلت: يا عبد الله هذه بين أمرين: إما أن تموت عنها، وإما أن تفجر، ولا يمكن أن تبقى معك على حالتك طرفة عين، اتق الله في نفسك، قال: ماذا أعمل وهي راغبة؟ قلت: اتركها ولو راغبة، ابحث عن واحدة تزيد على الأربعين، وأنت تزيد على الستين، يعني ذلك قد يتحمل منك ومنها، لكن امرأة دون العشرين وأنت فوق الستين! اتق الله في نفسك، أنت إذا كان عندك بعد ذلك كرامة خاصة من قبل الله يمدك بمعونة وقوة فهذا أمر آخر.

يقول الإمام ابن الجوزي : وقبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء، فإن اتفق معه صاحبة دين قبل ذلك فليرع لها معاشرتها، وليتمم نقصه عندها تارة بالإنفاق، وتارة بحسن الخلق، وليجد في تعريفها أحوال الصالحات والزاهدات، وليكثر من ذكر القيامة وذم الدنيا، إلى آخر كلامه الذي يتعلق بهذه القضية، وأشار إلى مثل هذا الكلام أيضاً في صفحة تسعين ومائتين، والكتاب كله إخوتي الكرام حقيقة نافع وفيه مواعظ بالغة تحت عنوان الكهل والزوجة الصغيرة، والكهل هذا الذي دون الشيخ، يعني: من طعن في الأربعين فهو كهل.

يقول: شكا لي بعض الأشياخ فقال: قد علت سني وضعفت قوتي ونفسي تطلب مني شراء الجواري الصغار، ومعلوم أنهن يردن النكاح وليس في، ولا تقنع مني النفس بربة البيت، إذ قد كبرت، عنده زوجة لكن يريد أن يشتري جارية، فقلت له: عندي جوابان: أحدهما: الجواب العامي، جواب العامة، وهو أن أقول: ينبغي أن تشتغل بذكر الموت، وما قد توجهت إليه، وتحذر أن تشترى جارية لا تقدر على إيفاء حقها، فإما تبغضك، فإن أجهدت، يعني: نفسك، استعجلت التلف، وإن استبقيت قوتك غضبت هي، على أنها لا تريد شيخاً كيفما كان، حتى لو أتعبت نفسك تنفر منك، وقد أنشدنا علي بن عبيد الله قال: أنشدنا محمد التميمي ، ثم روى أبياتاً من الشعر هي موجودة أيضاً في كتاب غذاء الألباب للإمام السفاريني في الجزء الثاني صفحة ثمان وثمانين وثلاثمائة، ونقلها عن ابن الجوزي :

أفق يا فؤاد من غرام واستمع مقالة محزون عليك شفيق

علقت فتاة قلبها متعلق بغيرك فاستوثقت غير وثيق

وأصبحت موثوقاً وراحت طليقة فكم بين موثوق وبين طليق

فاعلم أنها تعد عليك الأيام، وتطلب منك فضل المال لتستعد لغيرك، وربما قصدت حتفك، وكم من الناس من ذبحته زوجته، وسيأتينا هذا.. إن من أزواجكم عدواً لكم فاحذروهم، سبحان الله! ما أخس هذه الشهوة إذا كان فيها هذه المنغصات والمكدرات، وربما قصدت حتفك فاحذر والسلامة في الاقتناع بما يدفع الزمان، هذا جواب العامي أوليس كذلك؟ هذا جواب العامة.

يقول: والجواب الثاني فإني أقول: لا يخلو أن تكون قادراً على الوطء في وقت أو لا تكون، فإن كنت لا تقدر فالأولى مصادرة الترك للكل، وإن كان يمكن الحازم أن يداري المرأة بالنفقة وطيب الخلق، إلا أنه يخاطر، وإن كنت تقدر في أوقات على ذلك، ورأيت من نفسك توقاً شديداً فعليك بالمراهقات، فإنهن ما عرفن النكاح وما طلبن الوطء، واغمرهن بالإنفاق وحسن الخلق مع الاحتياط عليهن، والمنع من مخالطة النسوة، وإذا اتفق وطء فتصبر على الإنزال ريثما تقضي المرأة حاجتها، واعتمد وعظها وتذكيرها بالآخرة، واذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح، واذكر لها قبح صورة الفعل، والفت قلبها إلى ذكر الصالحين، ثم يقول بعد ذلك: ولا تخلي نفسك من الطيب والتزين والكياسة والمداراة والإنفاق الواسع، فهذا ربما حرك الناقة للمسير مع خطر السلامة.

إذن إخوتي الكرام! هذه آفة ثالثة كما قلت يصاحب تناولها تعب، ويعقبها ضعف ونصب.

الآفة الرابعة: هذه الشهوة لا تطيب إلا عند الحاجة، وهذا علامة نقصها، كلما اشتدت الحاجة إليها طابت، وإذا لم يكن هناك حاجة في النفس ما تذكرها، هل الصغير يشعر بها؟ الصغير لا يشعر بلذة الجنس وليس عنده خبر عنها؛ لأنه لا يحتاج إليها، الحالم الذي فارت شهوته قد يعرض عنها، الإنسان بعد قضاء وطره وانتهاء حاجته ما عاد يفكر بشيء إلا بعد أن يعود الماء عنده.

إذن هذه لا تطيب إلا عند الحاجة، فإذا ذهبت الحاجة فتر الإنسان عنها وسلا عنها، وهذا من علامات النقص في الشهوة، وهذا بخلاف أمر الآخرة، إن شهوات الآخرة كما سيأتينا ليست كذلك، والطيب فيها موجود في كل وقت، وهي شهية في جميع أحوالها وأنت عندك قوة وتشتهي هذا في جميع أحوالك، ولا تحصل بتعب، ولا يعقبها نصب وتعب، فإذن هذا أيضاً من علامات النقص فيها.

الآفة الخامسة أذكرها وأشرحها وما بعدها في الموعظة الآتية إن شاء الله.

حقيقة هذه الشهوة وجميع شهوات الدنيا، حقيقتها دفع ألم بألم، وتخلص من تعب بتعب، وهذا حال الدنيا تدفع بلية ببلية، كما قال بعض أئمتنا:

أصبحت في دار البليات أدفع آفات بآفات

يعني هنا تخلصت من الشهوة، وهي كما قلنا بلية، لأنك ما توصلت إليها إلا بتعب، وأعقبها تعب وبلاء، وقد يكون التخلص منها أصعب منها، وجميع شهوات الدنيا كذلك، لا يوجد شهوة كاملة، لا في الوصول إليها ولا في تناولها ولا فيما يعقبها، فهي دار نقص فلا تزن عند الله جناح بعوضة.

كما قلت إخوتي الكرام! عند هذه الحكمة أشرحها وأشرح ما بعدها في الموعظة الآتية إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.