خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8329"> سلسلة مباحث النبوة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً, وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا, وعلمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً, وعملاً صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك! سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك! اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فلا زلنا ضمن مباحث النبوة على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وهذا البحث المستطرد جرنا إليه خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، فبعد أن انتهينا من ذكر خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أمهاتنا وأهل بيته الكرام, وتبين لنا ما في ذلك الخلق من دلالات واضحات على أنه رسول رب الأرض والسماوات, عليه صلوات الله وسلامه، قلت: يحسن بنا أن نتعرف على أمهاتنا أزواج نبينا اللواتي أكرمهن الله بصحبة خير خلقه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, وقلت: إن الله خص نبيه عليه الصلاة والسلام بزيادة على ما أباحه لهذه الأمة المباركة، فشرع له وأباح له أن يقترن عليه صلوات الله وسلامه بأكثر من أربع نسوة، وقلت: لا بد من بيان الحكمة في ذلك, كما أنه لا بد من بيان حكمة التعدد في غيره عليه صلوات الله وسلامه، كما أنه لا بد من بيان حكمة النكاح على وجه العموم، وقلت: ضمن هذه الأمور الثلاثة خمسة وعشرون حكمة لا بد من بيانها، وكنا نتدارس حكم النكاح العامة ومقاصده الأساسية البارزة، وأنها خمسة مقاصد، وخمس حكم, أولها: كما تقدم معنا تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية حسية أو معنوية، وثانيها: إنجاب الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية، وثالثها: تحصيل الأجر للزوجين عن طريقين اثنين, حسن عشرة كل منهما لصحابه ومساعدته له ونفقته عليه، ورابع الحكم العامة للنكاح: تذكر لذة الآخرة، وخامسها: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل صاحبه وقرابته.
ذكرنا ثلاث حكم من هذه الحكم الخمسة, الأولى والثانية والثالثة، وقبل أن ننتقل إلى الرابعة كنا ذكرنا شيئاً يتعلق بما تقدم من الحكم، وقلت: إن مغانم الزواج يشترك في تحصيلها الزوجان الرجل والمرأة، لكن لا بد لتحصيل تلك المغانم من وجود الشروط فيهما وانتفاء الموانع عنهما. وتقدم معنا أن كلاً من الزوجين يؤجر على تربية الولد، وأن كلاً من الزوجين يؤجر على نفقته عليه. وذكرت أمراً في آخر المباحث الماضية أحب أن أكمله, لننتقل بعد ذلك إلى الحكمة الرابعة في هذا المبحث إن شاء الله.
قلت: إنما نبهت عليه على وجه الخصوص لأنه حصل فيه تفريط وتساهل من قبل كثير من الأمهات في هذه الأوقات، ألا وهو: رضاعة الأولاد، وقد فرط كثير من النساء في إرضاع أولادهن, وقلت: جعل الله للأولاد حقاً ثابتاً في الثديين، ينبغي أن يأخذ الأولاد حقهما من هذين الثديين, وإلا فسيسلط الله الحيات على هذين الثديين لتنهشهما وتخدشهما وتعضهما بعد الممات؛ لأن الأم فرطت في حق الأولاد. فالله جعل للأولاد حقاً في هذين الثديين وهو حق الرضاع، وذكرت آيتين كريمتين تدلان على ذلك، الآية الأولى في سورة البقرة: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233], إلى آخر الآية. وتقدم معنا أن الآية أوجبت الرضاع, وبينت أن الفصال والفطام لا يجوز إلا بعد التحقق من ثلاث أمور, أولها: رضا الزوجة، ورضا الزوج، ومشاورة أهل الخبرة، فإذا قرر هؤلاء الثلاثة أن فصال الولد وفطامه عن الرضاع قبل سنتين لا يضره ولا يؤذي بنيته فلا جناح عليهما، وقولنا: فلا جناح, أي: لا إثم عليهما في فصاله. والآية تشير إلى أن إرضاعه ليبلغ السنتين أكمل وأحسن، إنما إذا اتفق هؤلاء الثلاثة فتحققنا أن الضرر منتفٍ عن الولد في حال فصاله قبل السنتين، واتفق الزوجان ووافق أهل الخبرة وقالوا: لا ضرر على المولود في الفصال، ففي هذه الحالة لا جناح عليهما في فصاله وفطامه. وما عدا هذا فلا يجوز.
والآية الثانية ذكرتها في سورة الطلاق، ويقال لها: سورة النساء القصرى، والقصرى: يعني الصغيرة, التي ليست كسورة النساء الكبيرة، وثبت تسميتها بسورة الطلاق وسورة النساء القصرى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما في صحيح البخاري، والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي, وفي مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وسنن سعيد بن منصور, وفي تفسير الطبري، ومعجم الطبراني الكبير, وتفسير ابن المنذر، وابن أبي حاتم, وتفسير ابن مردويه، ومسند عبد بن حميد, والأثر صحيح، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سماها بسورة النساء القصرى، يعني: الصغرى. ونقلت هذه التسمية أيضاً عن أبي سعيد الخدري في تفسير ابن مردويه رضي الله عنهم أجمعين، وهذه الآية تقدمت معنا أيضاً, لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]. ما الآية التي قبلها؟ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [الطلاق:6]. فإذا طلقت المرأة أيضاً ينبغي أن ترضع ولدها, ولها أجرة الرضاعة، وينبغي على الوالد أن ينفق على ولده, وأن يدفع أجرة الرضاع لمطلقته، لأم هذا الولد كما قرر ذلك ربنا الصمد.
هذا ذكرته - كما قلت- في المباحث الماضية، وآخر شيء ذكرته تقريراً لهذا كما تقدم معنا الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وقلت: إن إسناده صحيح على شرط مسلم, وهو في الجزء الثاني، صفحة عشر ومائتين من رواية أبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين، وقلت: جميع رجال الإسناد ثقات أثبات احتج بهم الشيخان، غير واحد فقط لم يحتج به البخاري, ألا وهو سليم بن عامر الحمصي, فهو من رجال مسلم فقط، نعم أخرج له البخاري لكن في الأدب المفرد، وأخرج له مسلم في صحيحه, وأخرج له أهل السنن الأربعة، وهو من التابعين الكبار, ولد في حياة النبي عليه الصلاة والسلام, لكنه لم يره, رضي الله عنه، ومن أثبت رؤيته فقد وهم، وقد روى عن أبي هريرة، وأبي الدرداء, وروى عن تميم الداري، وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما عداه جميع رجال الإسناد فقد روى عنهم الشيخان، ولذلك الحديث على شرط مسلم؛ لأن هذا لم يرو له البخاري, كما قال ذلك الحاكم وأقره الذهبي, والحديث فيه طول كما تقدم معنا، ومحل الشاهد فيه، في الرؤيا التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام يقول: ( ثم مررت على نساء .. إلى قوله: إذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات ). وقلت: هذا وقع في رؤيا منام لنبينا عليه الصلاة والسلام، ورؤيا الأنبياء وحي، ( فقلت: ما بال هؤلاء؟ فقالا )، أي: الملكان اللذان أخذا نبينا عليه الصلاة والسلام ليتجول في عالم الرؤيا، ( فقالا: هؤلاء اللواتي يمنعن أولادهن ألبانهن ). يسلط الله على ثديهن الحيات بعد الممات, فتنهش الحيات ثدي النساء اللاتي يمنعن أولادهن ألبانهن، وتكملة الحديث، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( ثم بعد ذلك انطلقت فإذا أنا بغلمان يلعبون بين نهرين، فقلت: من هؤلاء؟ فقالوا: هؤلاء ذراري المؤمنين ). وقد تقدم معنا أن أولاد المسلمين الموحدين إذا ماتوا قبل الحنث فهم في جنات النعيم باتفاق أهل السنة الكرام الطيبين. يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( ثم شرف لي شرفٌ -أي: بدا- فإذا بثلاثة نفر يشربون من خمر لهم، فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء
وآخر الحديث يقول: ( ثم شرف لي شرف فإذا بثلاثة ينتظرون, فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: إبراهيم، وموسى، وعيسى على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ). ينتظرونك يا محمد!
الشاهد في هذا -كما قلت-: أن الله يسلط الحيات تنهش ثدي النساء إذا منعن أولادهن ألبانهن. فالمرأة ستحصل مغانم كثيرة من النكاح، لكن بشرط أن تتقي الله، وأن تقوم نحو الذرية بما أوجبه الله، فجعل الله للأولاد حقاً في ثدي الأمهات، فينبغي على الأمهات أن يعطين الأولاد هذا الحق الذي جعله الله للأولاد.
هذا - كما قلت- تقدم معنا، وذكرته في بداية هذا المبحث بشيء من التوضيح, وأزيده توضيحاً، كما قلت: سأتكلم على مكانة الرضاعة ومنزلتها, وعلى فوائدها وحسنها.
إن رضاعة الأولاد من ثدي أمهاتهم لها آثار كثيرة بدنية ونفسية على الأولاد وعلى الأمهات، والأمهات إذا فرطن في ذلك فقد اعتدين على أنفسهن وعلى أولادهن.
فمن الآثار النافعة الطيبة للأولاد التي يحصلها الأولاد من الرضاعة من الآثار:
الفائدة الأولى: لبن الأم كما يقرر هذا الأطباء قاطبة بلا نزاع معقم جاهز للولد، عُقم في هذه المعامل الربانية التي جعلها الله في هذه النفس البشرية، معقم جاهز, يشربه ولا يتضرر ولا يصاب بأذى، ولذلك الذي يرضع من ثدي أمه يحفظ من النزلات المعوية، كالإسهال الذي لا يصيب الأولاد إذا كانوا يرضعون من ثدي الأمهات، اللبن الذي يرضعه المولود من ثدي الأمهات يتم كما قال أئمتنا استحالته وهضمه خلال ساعة ونصف فقط، وأما اللبن الذي يؤخذ بعد ذلك من غير الأمهات من لبن مصنع، أو من لبن طبيعي من الحيوانات يحتاج إلى أربع ساعات على أقل تقدير لهضمه فما زاد، أما هنا ساعة ونصف. خذ من هذا اللبن, وليس فيه أي محذور، معقم جاهز نافع للبدن. فهذا إذاً: ينبغي أن تعطيه الأم هذا الحق الذي جعل هذا الغذاء يناسبه ويوافقه.
الفائدة الثانية: من فوائد الرضاعة الطبيعية من ثدي الأمهات: اللبن يفي بحاجة المولود مدة الرضاعة من ولادته إلى تمام السنتين، في جميع مراحل الرضاعة يكفيه, غذاء نافع يتناسب مع جسمه، رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]. والأم عندما يخرج منها جنينها يفرز الثديان مادة تشبه الصمغ, يقال لها: اللبأ، وهي: مادة ثخينة سميكة تميل إلى الكدرة, ليس فيها اللون الخالص من الحليب، وهذه المادة نافعة للمولود جداً. ويا ويح الأم إذا لم ترضع ولدها ولا سيما في الأيام الأولى! هذه كما يقول أئمتنا الأطباء: فيها كميات من البروتين المهضومة تناسب الجنين وتغذيه في ذلك الحين، وفيها مواد محتوية على أمور مضادة للجراثيم، فهذا اللبأ الذي يأخذه الجنين من ثدي أمه يعطيه مناعة لجراثيم خطيرة تقابله وتحل في بدنه.
الفائدة الثالثة: هذا اللبأ، يكون - كما قال أئمتنا- بمثابة جدار للمعدة من أجل أن يستقر به بعد ذلك الغذاء وينتفع به.
بروتينات مهضومة, وقاية وتحصين من الجراثيم، جدار للمعدة. إذاً: هذا الغذاء يناسب المولود في جميع مراحل رضاعته، وهذا الذي يقرره الأطباء وهو المشاهد، المولود عندما يرضع من ثدي أمه ينمو بسرعة، وبنيته تقوى, وعوده يشتد, وصحته تكون أصح ممن يأخذ اللبن - كما قلت- إما المجفف أو من الحيوانات.
الفائدة الرابعة: ليس المقصود من الرضاعة إعطاء المولود حظه الجسمي فقط من الرضاعة، لا ثم لا، بل لذلك أثر نفسي لا يعلمه إلا الذي يعلم السر وأخفى, وهو الله جل وعلا، ومن أجل ذلك أمر الله الأمهات أن يرضعن الأولاد، فالجنين ينبغي أن يأخذ مع الغذاء البدني غذاء نفسياً، وينبغي أن يأخذ معه معنى الإنسانية، ومعنى الود، ومعنى الرحمة، ومعنى الحب، ومعنى الحنان ضمن الرضاعة، والأم عندما تضم جنينها إلى صدرها وتلقمه ثديها فدقات القلب التي يسمعها تعمل فيه في مستقبل حياته ما لا يعلمه إلا الله، وإذا منع عن ذلك ولد يصبح أشبه شيء بالحيوان منه بالإنسان, فصل كأنه بعد ذلك شيء ميكانيكي، أما دقات الأم بهذه الضمة التي يحصلها المولود وهو صغير لها أثر كبير.
ونعجب لهذه الأمة التي انحطت في هذه الأيام عندما تشيد وتقدر الحكم الغربية، قرأت مرة حكمة, يقولون: حكمة فرنسية في بعض التقاويم التي تكتب, يقولون: إن المولود إذا وضع بجوار أمه بعد ولادته يشعر بلذة وسعادة وراحة، هذه حكمة فرنسية، أي فرنسية, وأي أمريكية، لا بارك في الدول الغربية إذا انحرفت عن الشريعة الإسلامية، نحن عندنا كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام, هذا مقرر عندنا, وهذا حق للجنين وللمولود, ينبغي أن يرضع, ليس فقط بوضعه بجوار أمه عند الولادة، بل ويضم إلى صدرها, وهذا حق واجب عليها, إذا فرطت فالويل لها! حيات ستنهش ثديها.
وللرضاعة فوائد أيضاً للأم، ولذلك الأم تسيء إلى نفسها ثم إلى ولدها عندما لا ترضع أولادها، فمن الفوائد التي تعود على الأم بالرضاعة:
الأمر الأول: عودة الرحم إلى وضعه وحجمه الطبيعي إذا أرضعت ولدها، وكلما تأخرت عن إرضاع الولد كلما تأخرت عودة الرحم إلى موضعه, ولا يتقلص إلى الحجم الذي كان عليه. فهذا أيضاً لا بد منه، والله جل وعلا هو الذي خلق هذا الخلق, وجعل هذا الأمر فيهم سبحانه وتعالى، عندما ترضع الولد يعود الرحم إلى مكانه, ويتقلص كما كان، وتعود الأم إلى حالتها الطبيعية، وإذا تركت الرضاعة تحتاج بعد ذلك إلى ما يحتاجه النساء في هذه الأيام من معالجات من أجل عودة الرحم إلى مكانه، من أجل تقلصه وانكماشه وعودته إلى حجمه الطبيعي. يا أمة الله! هلا أرضعت هذا الولد, ويكفيك الله شر المستشفيات من أولها لآخرها.
الأمر الثاني: سرطان الثدي، يقرر علماء الطب في هذه الأوقات ومن بعض الإخوة ممن يزاولون مهنة الطب وهم أعلم مني في ذلك، لكن أقول: يقرر علماء الطب في هذه الأوقات أن سرطان الثدي نسبة إصابة النساء غير المزوجات به أكثر بكثير من نسبة النساء المزوجات، ونسبة إصابة النساء المزوجات به اللاتي لا يرضعن أولادهن أكثر من نسبة إصابة المزوجات اللاتي يرضعن أولادهن، فأقل نسبة تصاب بها النساء بسرطان الثدي إذا كانت مزوجة وترضع، لعله واحدة من مائة من النساء اللاتي يصبن بسرطان الثدي. والجزاء من جنس العمل، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، فهي عندما بذلت جهداً نحو رضيعها حتماً هذا فيه كلفة عليها، لكن الله يمدها بالعافية والمعونة والقوة, ويدفع الآفات عنها، وهو الرحيم الغفور القوي القدير سبحانه وتعالى. إذاً: الرضاعة سبب للتحصين من سرطان الثدي.
الأمر الثالث: تأخر الحمل، المرأة في الغالب في أكثر النساء ما دامت ترضع لا تحمل، وهذا ضروري للمرأة إذا كانت ترضع ولدها ليتأخر الحمل عنها؛ من أجل أن يأخذ الولد لبناً خالصاً ولا يفسد بالحمل، ومن أجل أن يأخذ عناية كاملة بالتربية, ولا تشغل الأم بغيره عندما تحمل وتلد، والمولود الأول ما أكمل سنة. فإذاً: ما دامت ترضع ففي غالب النساء لا يمكن أن تحمل. وهذه نعمة. ولذلك النساء في هذه الأوقات تركت الرضاعة, ثم أخذت حبوب منع الحمل. وحبوب منع الحمل تؤذيها وتضرها وتسبب سرطاناً وتسبب بلاءً، وتسبب أضراراً عليها، وعلى الزوج، وعلى الجنين، هلا أرضعت هذا المولود وكفيت هذه البلايا من أولها إلى آخرها! لأن الحمل سيتأخر, ترضعينه لمدة سنتين ولا يوجد حمل، وبعد ذلك احملي لسنة, الولد أكمل ثلاث سنين, وإذا ولدت ولداً آخر، يكون الولد الأول قد شب, وبدأ يركض على رجليه، واستغنى بعد ذلك عن التربية الزائدة الكثيرة، أما وهو بعمر سنة، وتلدين إذا لا ترضعي -وكما قلت- هذا فيه إضرار عليها وعلى مولودها الأول والثاني، وإذا أخذت الحبوب ضرت نفسها وزوجها, وآذت أولادها بعد ذلك.
الفائدة الرابعة: المولود الرضاعة تؤثر فيه نفسياً, يؤثر أيضاً في نفسية الأم، فالأم عندما تضم ولدها وترضعه من ثديها يصبح بينها وبينه صلة قوية عظيمة, ليس كما لو كانت تعهد بإرضاعه إلى مربية، أو أنها تلقمه هذه الرضاعة, وهي بعيدة عنه، أما الولد الذي يلتقم ثديها صباحاً ومساء، يصبح بينها وبين هذا المولود ارتباط وثيق. وهذه فوائد الرضاعة في حق الأم.
هناك فائدة عامة للأم وللأب وللمولود وللعالم بأسره، وهي فائدة اقتصادية، إن الرضاعة الطبيعية لا تكلف شيئاً، الله جل وعلا جعل في الأم قابلية تحويل شيء من الغذاء إلى لبن، وهذا لا يكلف شيئاً؛ لأن الأنثى ستأكل, قسم منه يفرز إلى لبن بإذن الله ترضع به ولدها, وأما إذا أرادت أن تشتري لبناً فهذا يكلف، ولا سيما على الأسر الفقيرة, وبعض الناس يتأذون من شراء اللبن، وهذا يشق عليهم ويؤذيهم غاية الأذى. اضرب لك مثلاً: في إندونيسيا علبة اللبن المجفف التي بحجم علبة النيدو تعدل خمسين ريالاً هنا، يعني: ثمن العلبة خمسين ريالاً, وراتب الموظف المتوسط لا يزيد على مائة ريال في الشهر، وهذا المتوسط, والنادر راتبه بحدود خمسين إلى ستين ريالاً في الشهر, يعني: ثمن علبة الحليب. وعلبة الحليب لا تكفي المولود شهراً، فسيأخذ إذاً هذه الأجرة أو المكافأة أو المرتب لثمن علبة حليب وهي لا تكفي الولد لمدة شهر. فكم في ذلك من الضر عليه. وهذا من اللبن المجفف الذي يصلح للكبار، وأما إن أردت أن تأخذ اللبن الذي يتناسب مع الصغار بتركيبات معينة فهو أغلا بأضعاف مضاعفة، وهذا موجود في الدول التي يسمونها نامية، أو ميتة، أو نائمة, وهذا يحتاج أيضاً لتحقيق ونظر فيه، في الدول النامية - يعني: الدول الفقيرة- وهذا يضرهم ضرراً بالغاً. أما الرضاعة الطبيعية فلا تكلف شيئاً، فهي لو أكلت الجرجير، أو أكلت البقدونس فقط مع الخبز، لتحول إلى لبن بإذن الله جل وعلا، وما يحتاج بعد ذلك إلى أشياء أخرى.
إذاً: هذه فوائد الرضاعة إخوتي الكرام! وكما قلت: جعل ربنا جل وعلا الرضاعة حقاً للأولاد في ثدي الأمهات، فالويل للأمهات إذا قصرن نحو أولادهن في هذا الحق!
إخوتي الكرام! إن حقيقة الرضاعة فيها عبرة ينبغي أن نعتبر بها ونحن نذكرها, ولا يجوز أن نمر عليها دون أن ننبه لشأنها.
لقد أشار أئمتنا إلى شيء من العبر في أمر الرضاعة كما في كتاب مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة للإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الجزء أول، صفحة ستٍ وخمسين ومائتين, يقول: انظر إلى هذا اللبن الذي جعله الله في ثدي الأمهات، كيف رققه الله لك وصفاه، جعله رقيقاً صافياً ليس فيه شوائب، وكيف أطاب طعمه وحسن لونه، وكيف أحكم طبخه أحسن إحكام، فليس هو بالحار المؤذي، وليس هو بالبارد الردي، لا حاراً ولا بارداً, ترى فيه شيء من الحرارة المخففة, فليس بمثلج وليس بساخن يغلي، ليس بالحار المؤذي ولا بالبارد الردي، وليس بالمرّ المرذول, وليس بالمالح غير المقبول، وليس كريه الرائحة، ويحصل من غير جهد وتعب بإذن الله جل وعلا. تأمل هذا. ثم تأمل هذه الحلمة التي في مقدمة الثدي, وكيف يلتقمها هذا الجنين, وقد جعلها الله بمقدار صغر فمه, لا يضيق عنها, ولا تتعب في التقامها. ثم تأمل كيف جعل الله في رأسها ثقوباً صغيرة لطيفة بحسب احتمالك، فلم يوسعها؛ لئلا تختنق، فلو كانت هذه الثقوب في حلمة الثدي واسعة ومص الجنين هذه الحلمة مصاً لخرج اللبن من هذه الثقوب كثيراً ويخنق الجنين. ولم يجعلها ضيقة جداً؛ لئلا يصبح عليك كلفة في رضاعك، إنما جعلها بحسب حكمته ومصلحتك سبحانه وتعالى.
ثم تأمل كيف جعل الله هذا الثدي وهذه الحلمة لينة, فعندما ترضع من هذا الثدي أنت تزاول بذلك رياضة, لكن ليس فيها عليك جهد ولا تعب، وبعد الرضاعة يستريح؛ لأنها رياضة, فينام الجنين مباشرة؛ لأنه بذل مجهوداً فيه شيء من التعب عليه فتراه ينام.
وأمر الرضاعة - كما قلت- فيه آيات وعبر كثيرة, ينبغي أن ننتبه إليها، وأن نعلق قلوبنا بربنا، وأن لا نشغل أنفسنا بما ضمن لنا، فالرزق والأجل قرينان مضمونان، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً، ما دام لك حياة ستعيش وسيأتيك الرزق أينما كنت. وإذا سد الله عليك طريقاً بحكمته فتح لك برحمته طريقاً أيسر, فتأمل حياتك، عندما كنت في بطن أمك في ظلمات ثلاثة كنت تغذى من طريق واحد, وهو من سرتك، فليس لك إلا هذا الطريق، تتغذى الدم عن طريق السرة، لما خرجت سد ذاك الطريق عنك, لكن فتح لك طريقين وهما الثديين، والغذاء فيهما أطيب وأشهى, وأحلى وأنفع من ذاك الغذاء، ذاك دم عن طريق السرة، وهنا لبن طيب حسن المنظر عن طريق ثديين ناعمين لينين، ثم عندما استغنيت بعد ذلك عن هذا اللبن وفطمت أجرى الله الرزق عليك ضعف ما كان يجريه عليك ويسوقه لك عندما ترضع من ثدي أمك، فهناك ترضع من ثديين، فلما فطمت وفصلت جعل الله لك غذاءً وشراباً، أما الغذاء من حيوان ونبات نوعان، وأما الشراب فمن ماء ولبن، فصار الطريقان أربعة طرق، في بطن الأم طريق واحد، وإذا خرج من بطن الأم طريقان، وإذا فطم أربعة طرق، وبعد ذلك إذا ذهبت للآخرة وكنت من أهل الخير يفتح الله لك أبواب الجنة الثمانية، هناك ثمانية، ويأتيك فيها من الرزق ما تشتهيه نفسك وتلذ عينك, وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]. تأمل هذه الحكم التي جعلها الله جل وعلا في هذه الحياة.
خلاصة الكلام - كما قلت-: الرضاعة حق واجب للأولاد على الأمهات، إذا قصرت الأمهات في ذلك فالويل لهن أمام رب الأرض والسماوات، ومدة الرضاعة كما حددها الله سنتان كاملتان، ولا يجوز أن يفطم الولد قبل ذلك إلا بثلاثة أمور، رضا الزوج، والزوجة، وموافقة أهل الخبرة، ثم مع ذلك لو أكملت مدة الرضاعة لكان أولى وأحسن.
وقد اتفق أئمتنا ولا نزاع بينهم في ذلك وهذا محل إجماع على أن الرضاعة إذا حصلت دون الحولين فلها حكم, وهي محرمة، فإذا رضع مولود من امرأة وعمر المولود دون السنتين ثبت له حكم الرضاعة، وصار ابناً لهذه المرأة من الرضاعة وإن لم تلده، فله أثر ما دام دون السنتين، وصار زوج المرضعة أباً له, ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. هذا محل إجماع. لكن إذا رضع الولد من امرأة بعد سنتين هل يثبت حكم الرضاع أم لا؟ لأئمتنا في ذلك ثلاثة أقوال كلها معتبرة.
أولها: وهو قول الشافعي وقول تلميذه أحمد عليهم جميعاً رحمة الله, ووافقهما على ذلك صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ، ومحمد رحمة الله على أئمتنا والمسلمين أجمعين, قالوا: لا عبرة بالرضاعة بعد السنتين. لو رضع مولود من امرأة بعد سنتين لا يثبت لهذا الرضاع حكم، ولا يعتبر ابناً لها, كما لو رضع وهو كبير ابن عشرين سنة, لا يثبت لهذا الرضاع حكم. الرضاع الذي يحرم ويثبت له حكم الرضاع ما كان دون الحولين.. دون السنتين.
وأما مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال: يثبت حكم الرضاع إذا رضع المولود من امرأة وقد بلغ سنتين وزيادة يسيرة، وما حدد هذه الزيادة اليسيرة، لكن المالكية أتباع المذهب كما في حاشية الدسوقي في الجزء الثاني، صفحة سبع وأربعين ومائتين قالوا: هذه الزيادة تحد بشهرين، فإذا حصل الرضاع ضمن سنتين وشهرين ثبت له حكم الرضاع, وهذا الرضاع محرم، بعد سنتين وشهرين لا يثبت له حكم, يصير كرضاع الكبير.
والقول الثالث هو قول أبي حنيفة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: وهو أحوط الأقوال في هذه المسألة, أن حكم الرضاع يستمر إلى سنتين ونصف إلى ثلاثين شهرا، واستدل بقول الله جل وعلا: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]. قال أبو حنيفة عليه رحمة الله: ضرب الله المدة لهما، أي: الحمل ثلاثون شهراً, والفصال ثلاثون شهراً، قال: خرج الحمل من ذلك؛ لأن أكثر الحمل عند أبي حنيفة سنتان؛ لدليل منفصل، فبقي الرضاع على ما هو عليه، فمدة الرضاع الذي يثبت له حكم ثلاثون شهراً. قال وأما قول الله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، قال: لا يعارض هذه الآية، هذا في الوقت الذي ينبغي على الأم أن ترضع فيه الولد، وهذا حقه، أما بعد ذلك فليس من حق الولد أن يرضع، إن فطمته الأم لا حرج عليها، وهذا أيضاً حق الأم في مطالبة أجرة الرضاعة إذا طلقت، فإذا طلقت لها أن تطالب بأجرة الرضاعة إلى سنتين، بعد سنتين لا يلزم الوالد بدفع أجرة رضاعة ابنه، إنما إذا حصلت الرضاعة بعد السنتين إلى سنتين ونصف إلى ثلاثين شهراً, فالحكم يثبت, وهذا الرضاع يعتبر رضاعاً معتبراً محرماً.
وأنهي الكلام عند هذه المسألة فيما يتعلق بهذه الحكمة الثالثة من حكم النكاح.
الحكمة الأولى: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية حسية ومعنوية.
الحكمة الثانية: إنجاب الذرية التي تعبد رب البرية.
الحكمة الثالثة: تحصيل الأجر للزوجين عن طريق حسن عشرة كل منهما لصاحبه، وعن طريق مساعدته له في النفقة المالية.
وفي الرابعة: تذكر لذة الآخرة.
لذات الدنيا في هذه الحياة من مطاعم ومشارب ومناكح هذه اللذائذ في هذه الحياة جعلها الله جل وعلا صورة مصغرة للذائذ والمشتهيات التي تكون في نعيم الجنات، حتماً مع البون الشاسع بين النعيم الذي في هذه الدار وبين النعيم الذي يكون في دار القرار، فلذائذ الدنيا ومشتهياتها مهما عظمت وامتدت ليس لها في الحقيقة اعتبار عند الأخيار، كيف لا ومصيرها إلى فناء وزوال مع ما فيها من الشوائب والأكدار، ولذلك فهذه الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له، فهذه اللذائذ الذي تتعلق بها النفوس في هذه الحياة، الإنسان إذا كان عاقلاً يطلب لذة ليس فيها تنغيص, ولذة دائمة لا تزول، وهذا لا يكون إلا في دار كرامة الله في الجنة في الآخرة. نسأل الله أن يمن علينا بذلك, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
نعم لا تطيب الحياة لعقلاء الأنام إلا في غرف الجنان في دار الحيوان, كما قرر ذلك ذو الجلال والإكرام، قال الله جل وعلا في سورة العنكبوت: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]. هي الحياة الكاملة التي لا تزول, ولا تنغيص فيها بوجه من الوجوه. وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]. وقال الله جل وعلا في سورة الحجر: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:45-48]. وقال الله جل وعلا في سورة ق: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:31-35]. ولذلك أعظم نعيم في الدار الآخرة أنهم لا يموتون، وأنهم يحصلون ما يشتهون. هذا أعظم نعيم. وأما في هذه الحياة لا تحصل ما تشتهي, ثم ما تحصله سيزول بعد ذلك, وأنت ستفارقه.
إذا كانت لذائذ الدنيا محبوبة للنفس ولاسيما أعظم اللذائذ الحسية، كشهوة النكاح أو الشهوة الجنسية، إذا كانت هذه محبوبة للنفس والناس يرغبون فيها ويتعبون في تحصيلها مع ما فيها من بلايا ورزايا وما فيها من فضائل ومحاسن، لكن لا يوجد في الدنيا لذة كاملة، لا يوجد في الدنيا لذة كاملة على الإطلاق، إلا توحيد الله ومحبته وذكره، والله ما طابت الدنيا إلا بتوحيد الله ومحبته، وما طابت الآخرة إلا برؤيته ومشاهدته. لكن اللذائذ الحسية لا يوجد فيها لذة كاملة. وكنت شرحت هذا عند أحكام الخلاء في مبحث سنن الترمذي . -ذكرنا هناك شهوة الطعام والشراب- وسنذكرها إن شاء الله الشهوة الجنس, وما في هذه الشهوة من آفات ونقص إن شاء الله ضمن مراحل البحث.
كما قلت: لذائذ الدنيا مهما عظمت وكثرت وصفت زائلة, وأنت ستزول، ولذلك لو أخبر أهل الجنة بأنهم سيمكثون في الجنة عدد رمل الدنيا لحزنوا، ولو أخبر أهل النار أنهم سيمكثون في النار عدد رمل الدنيا لفرحوا. فانظر للأمر. سيمكث في الجنة عدد رمل الدنيا, وله بكل حبة سنة, ثم يكون إلى فناء، فسيحزن ويتنغص عليه نعيمه، ونحن في هذه الحياة كم سنعيش نسأل الله حسن الخاتمة؟ من عمّر منا إلى المائة فهي بجنب الدنيا لا وزن لها, فكيف بجنب الآخرة التي لا نهاية لها؟ وهذا المعنى ورد من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام, وإسناد الحديث ضعيف, لكن معناه صحيح، رواه الطبراني في معجمه الكبير، وأبو نعيم في حلية الأولياء، في الجزء الرابع، صفحة ثمان وستين ومائة، وهو في مجمع الزوائد في الجزء العاشر، صفحة ست وتسعين وثلاثمائة، قال الهيثمي في المجمع: في إسناده الحكم بن ظهير , وهو مجمع على ضعفه. وهو الحكم بن ظهير من رجال الترمذي في السنن, ولم يخرج له أحد من أهل الكتب الستة إلا الترمذي , عليهم جميعاً رحمة الله، وقد حكم عليه الحافظ ابن حجر بأنه متروك، وأورد هذا الحديث ابن أبي حاتم في كتاب العلل في الجزء الثاني، صفحة أربع وعشرين ومائتين، وقال: إنه حديث منكر، لكن معناه - كما قلت- ثابت صحيح, يقرره ما ذكرته، ولفظ الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( لو قيل لأهل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا ). حتى لو قيل: تمكثون بعدد كل حصى الدنيا لكل حصاة سنة لفرحوا ما دام النهاية زائلة. ( ولو قيل لأهل الجنة: إنكم ماكثون في الجنة بعدد كل حصاة لحزنوا، ولكن جعل الله لهم الأبد ). هؤلاء مؤبدون, وهؤلاء مؤبدون.
النكاح في الدنيا والنكاح في الآخرة
ينبغي أن نتذكر هذا المعنى عند حل النكاح ومشروعيته لنا في هذه الحياة، إن شهوة الجنس - كما يقرر علماؤنا الكرام- هو: الرغبة في اتصال الرجل بامرأة، والرغبة في اتصال المرأة بالرجل محبوب للنفس البشرية، بل ذلك عند النفس البشرية هو أعظم اللذات الحسية, وقد أشار ربنا إلى هذا في الآيات القرآنية, ووضحه نبينا عليه الصلاة والسلام خير البرية في أحاديثه النبوية. أعظم اللذات الحسية التي تتقدم على الطعام والشراب - أعظمها- بكثير لذة الجنس، وهذه اللذة كما سيأتينا مع ما فيها سأبين ما فيها من منغصات. أذكر عشر منغصات فيها بحيث قد يزهد الإنسان في النكاح الحلال, فضلاً عن التطلع بعد ذلك إلى قضاء هذه الشهوة في حرام. كما تقدم معنا في المنغصات التي في الطعام، وكنت ذكرت شيئاً من هذا في بعض المباحث السابقة في بعض البلاد الإسلامية، فبعض الإخوة ذهب إلى أمريكا بعد أن سمع هذه المباحث فقيل له: أما تتطلع نفسك لما في هذه الحياة من فتن، قال: الموعظة التي سمعتها زهدتني في زوجتي، يعني: عندما سمعت تلك الموعظة ما بقي عندي رغبة في الاتصال بزوجتي، فبعد ذلك تريدون أن أرتع في الحرام؟ يقول: استحضر ما في هذه اللذة من آفات ونقائص, ومكدرات وبلايا، كما سيأتينا إن شاء الله. وهذه لو فعلت عن طريق الحلال، سيأتي ما فيها من منغصات, ومن أمور حقيقة متعبة للإنسان في بدنه وفي غير ذلك، كما سيأتينا إن شاء الله.
هذه اللذة التي هي أعظم اللذات الحسية كما سأوضح هذا من آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام فيها هذه المنغصات، ولا تدعونا للزهد فيما أحله الله؛ لأننا نحن في دار الكدر، وفي دار العناء، وفي دار التعب, فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]. كل من في هذه الحياة سيشقى في أي شيء في تحصيل الرزق والكد والتعب والعناء والبلاء، فهذه الحياة الصافية لا يمكن على الإطلاق، فكل من خرج إليها سيعاني الشدة فيها، لكن المؤمن يرجو على هذه الشدة أجراً عند الله جل وعلا, ولا تكون هذه اللذات مقصودة عنده أصالةً ولا غاية؛ لأنها لذات - كما قلنا- محفوفة بالمكدرات والمنغصات, ثم في نهاية الأمر إلى زوال. إذاً: هذه تذكره بلذة لا تفنى ولا تزول, فينبغي أن يعلق همته بها.
أعظم الشهوات الشهوة الجنسية
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، (من) قال أئمتنا: إنها لبيان الجنس. وهذا كقول الله جل وعلا: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]، وكقول الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]. لبيان الجنس، أي: ننزل القرآن شفاء للناس وهدى ورحمة للمؤمنين، وليس يستشفى ببعضه, ولا يستشفى ببعضه الآخر، وهنا فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [الحج:30]، كلها رجس وقذر، ليس بعض الأوثان نجسة وبعضه مقدسة. إذاً: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، أي: زين للناس حب الشهوات التي هي النساء، وما سيأتي بعد ذلك من مشتهيات أخرى. قال أئمتنا: إنما بدأ الله بالنساء كما هو نص كلام الرازي في تفسيره عند هذه الآية في الجزء السابع، صفحة خمس وتسعين ومائة, قال: بدأ الله جل وعلا بالنساء لكمال المحبة لهن، وقدمهن على الكل؛ لأن الالتذاذ بهن أكثر, والاستئناس بهن أتم، ثم قرر هذا بأن النفس تستأنس وتركن إلى هذه الزوجة، والزوجة تركن إلى زوجها بقول الله جل وعلا: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
قال الرازي : ومما يؤكد هذا أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة، يعني: لا يوجد شيء مشتهى يصاب من يشتهيه ويتعلق به بعشق شديد مفلق مهلك إلا في من يعشق امرأة، أما أنه يهلكه عشقه على المال أو عشقه على الحرث، لا ثم لا، أو على أولاده لا، فمهما تعلق بتلك المشتهيات لا يصل الأمر فيه إلى عشق شديد مفرط مهلك. هذا مما يؤكد عظم هذا المشتهى, كما قال: قدمه لأن الالتذاذ به أكثر, والاستئناس به أتم. أعظم الشهوات الحسية الشهوة الجنسية.
وهكذا قال القرطبي عليه رحمة الله في تفسيره عند هذه الآية في الجزء الرابع، صفحة تسع وعشرين، قال: بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن؛ ولأنهن حبائل الشيطان, وفتنة الرجال في كل زمان ومكان. وحبائل بمعنى: مصايد، جمع حبالة, وهو ما يصاد به من أي شيء كان، وورد هذا اللفظ عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ( النساء حبائل الشيطان ). جمع حبالة. وما ضبطه بعض الناس في هذه الأيام حُبالة هذا غلط، حِبالة بكسر الحاء, وهي ما يصاد به من أي شيء كان. حبائل جمع حبالة, أي: مصائد الشيطان. وكما ورد هذا المعنى مرفوعاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ورد موقوفاً على بعض الصحابة الكرام، رواه الإمام القضاعي في مسنده في الجزء الأول، صفحة ستٍ وستين، ورواه الأصفهاني في ترغيبه, والخرائطي في اعتلال القلوب من طريق عبد الله بن مصعب بن زيد بن خالد الجهني ، عن أبيه عن، جده وهو زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الشباب شعبة من الجنون، والنساء حبائل الشيطان ).
وإسناد الحديث من طريق عبد الله بن مصعب , وهذا الرجل - كما قال أئمتنا- مجهول, عبد الله بن مصعب , كما قرر ذلك الذهبي في الميزان، وتبعه ابن حجر في اللسان في الجزء الثالث، صفحة ثلاث وستين وثلاثمائة، وقال الذهبي : رفع خطبة منكرة عن أبيه، عن، جده زيد بن خالد الجهني , يقول فيها زيد بن خالد الجهني : إنه سمع هذه الخطبة من النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه جهالة، ومع ذلك رمز السيوطي لحسنه، كما أشار إلى ذلك المناوي في فيض القدير في الجزء الرابع، صفحة اثنتين وسبعين ومائة.
والكلام عليه في المقاصد الحسنة صفحة خمسين ومائتين, وفي كشف الخفاء، وجمع الجوامع، وقد حكم على إسناده بأن فيه جهالة العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الثالث، صفحة ستٍ وتسعين. نعم روي من طريق آخر، رواه الديلمي عن عبد الله بن عامر رضي الله عنهم أجمعين، ورواه أبو نعيم في الحلية بسند منقطع، والبيهقي في المدخل بسند فيه مجاهيل, ما سماهم. والحلية في الجزء الأول، صفحة ثمان وثلاثين ومائة، والمدخل للبيهقي صفحة ستٍ وعشرين وأربعمائة من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً من كلامه: النساء حبائل الشيطان, والشباب شعبة من الجنون.
قال ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في تفسيره في الجزء الأول، صفحة إحدى وخمسين وثلاثمائة عند هذه الآية، قال: بدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد. ثم ذكر ما يقرر هذا من الأحاديث التي سأذكرها عما قريب إن شاء الله، قال: فإذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه, مندوب إليه، ثم ذكر الأحاديث المرغبة في النكاح وفي التماس الأولاد بسبب النكاح, وهي التي تقدمت معنا.
وهذا متفق عليه بين أئمتنا, أن شهوة الجنس هي أعظم الشهوات الحسية عند النفوس البشرية. وتقرير هذا في إحياء علوم الدين في الجزء الثالث، صفحة سبع وتسعين، وفي روح المعاني للإمام الألوسي في الجزء الثالث، صفحة تسع وتسعين. أعظم الشهوات. وحقيقة يترتب على هذه الشهوة أيضاً بليات وآفات ولذلك بدأ بها, زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ [آل عمران:14]، إلى آخر الآية الكريمة, وهذا الذي قرره أئمتنا واستنبطوه من هذه الآية، الآية تدل عليه صراحة, وهو الذي تواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام, وأن أمر النساء بالنسبة للرجال عظيم عظيم.
وتقرير هذا من كلام نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام:
ثبت في المسند، والصحيحين، والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، من رواية أبي سعيد الخدري , والحديث رواه أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه، والترمذي في السنن، وابن أبي عاصم في شرح السنة، من رواية أبي هريرة , ورواه أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى وابن أبي عاصم في شرح السنة، من رواية عبد الله بن عمر , ورواه ابن حبان ، والحاكم في المستدرك من رواية عبد الله بن مسعود . هذه أربع روايات، أبي هريرة ، وأبي سعيد ، وابن عمر ، وعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهم أجمعين، الروايات الثلاثة الأول - كما قلت- في صحيح مسلم , وبعضها أيضاً في الصحيحين، والرواية الرابعة فقط في صحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم , وكل الروايات صحيحة ثابتة كالشمس، ولفظ الحديث من رواية هؤلاء الصحابة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن من الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، تكفرن العشير, وتكثرن اللعن، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن، فقالت امرأة: ما نقصان عقلنا، وما نقصان ديننا يا رسول الله! عليه الصلاة والسلام؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وأما نقصان الدين فتمكث الليلي ما تصلي, وتفطر في شهر رمضان, فهذا نقصان دينها ).
محل الشاهد في الحديث: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن ). انظر ماذا تفعل هذه الشهوة في نفس الرجال، لا يأخذ لب الرجل تفاحة ولا برتقالة، ولا المال ولا الذهب، فكيف إذا كان الرجل حازماً! لكن تأتيه امرأة فإذا ما ثبته الله والتجأ إلى الله تأتيه امرأة تخضع معه بالقول فتذهب لبه إذا كان حازماً ضابطاً متقناً لأموره، فكيف بمن عداه؟
هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أيجمعن ضعفاً واقتداراً على الفتى أليس عجيباً ضعفها واقتدارها
يعني: ضعيفة وتذهب لب الرجل الحازم! هذا مقدار هذه الشهوة.
وأما قول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( ناقصات عقل ), فقد وضحه النبي عليه الصلاة والسلام: أن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. ليس معناه: أن في عقلها لوثة، أو أن تفكيرها نازل، ونقصان الدين أنها: تمتنع عن الصلاة فترة عند مجيء الحيض والنفاس إليها، وتفطر في رمضان، أما رمضان فتقضيه, وأما الصلاة فلا تقضيها، وهذا النقصان في دينها عندما تصاب به وتترك الصلاة هل تثاب على ذلك كما هو الحال في المسافر إذا سافر وترك ما يعتاده من نوافل؟ لأئمتنا قولان, والذي يظهر والعلم عند الله أنها تثاب، لكن مع ذلك ليس حالها كحال من قام بالصلاة وأتى بها، فهي نزلت عنه وإن أثيبت، لكن لا منقصة عليها في ذلك, ولا لوم عند الله، وستثاب أيضاً على هذه المصيبة التي طرأت عليها, فهذا نقصان الدين، ونقصان العقل شهادة امرأتين بشهادة رجل، وليس في ذلك - كما قلت- منقصة، ولا مضرة على المرأة، وقلت: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]. ووضع لهذه الحياة تشريعاً عظيماً، يتناسب مع خلقه سبحانه وتعالى.
كما قلت: شهوات الدنيا ليست كاملة سليمة، ثم ليست دائمة ثابتة، ومع ذلك نتنافس عليها، ونحرص عليها، وإذا أخذها الإنسان من طريق الحلال كما سيأتينا لا لوم عليه، لكن هذه اللذائذ التي نتلذذ بها وترتاح إليها نفوسنا أما ينبغي أن تذكرنا بلذة أعظم، بلذة كاملة لا تحول ولا تزول، حقيقةً ينبغي أن تذكرنا. ولذلك من جملة حكم النكاح في هذه الحياة أن الله وعدنا أنه يوجد هذا في الآخرة, كما سيأتينا وصف النكاح الذي يكون في الآخرة مع المؤمنات اللاتي في هذه الحياة ونقلن إلى الجنة بفضل رب الأرض والسماوات ومع الحوريات، نكاح ليس له ما لنكاح هذه الدنيا من الأحكام، ليس له ما يوافقه إلا في الاسم، هذا وهذا نكاح، لكن بينهما من التفاوت كما بين الدار الآخرة والدنيا من التفاوت تماماً, يشتركان في مسمى النكاح, ويختلفان في حقيقته. هذا النكاح الذي فيه آفات وبلايا ورزايا نحرص عليه, نتلذذ به. فكيف بذاك النكاح الذي لا آفة فيه, وهو دائم ثابت كما سيأتينا.
ينبغي أن نتذكر هذا المعنى عند حل النكاح ومشروعيته لنا في هذه الحياة، إن شهوة الجنس - كما يقرر علماؤنا الكرام- هو: الرغبة في اتصال الرجل بامرأة، والرغبة في اتصال المرأة بالرجل محبوب للنفس البشرية، بل ذلك عند النفس البشرية هو أعظم اللذات الحسية, وقد أشار ربنا إلى هذا في الآيات القرآنية, ووضحه نبينا عليه الصلاة والسلام خير البرية في أحاديثه النبوية. أعظم اللذات الحسية التي تتقدم على الطعام والشراب - أعظمها- بكثير لذة الجنس، وهذه اللذة كما سيأتينا مع ما فيها سأبين ما فيها من منغصات. أذكر عشر منغصات فيها بحيث قد يزهد الإنسان في النكاح الحلال, فضلاً عن التطلع بعد ذلك إلى قضاء هذه الشهوة في حرام. كما تقدم معنا في المنغصات التي في الطعام، وكنت ذكرت شيئاً من هذا في بعض المباحث السابقة في بعض البلاد الإسلامية، فبعض الإخوة ذهب إلى أمريكا بعد أن سمع هذه المباحث فقيل له: أما تتطلع نفسك لما في هذه الحياة من فتن، قال: الموعظة التي سمعتها زهدتني في زوجتي، يعني: عندما سمعت تلك الموعظة ما بقي عندي رغبة في الاتصال بزوجتي، فبعد ذلك تريدون أن أرتع في الحرام؟ يقول: استحضر ما في هذه اللذة من آفات ونقائص, ومكدرات وبلايا، كما سيأتينا إن شاء الله. وهذه لو فعلت عن طريق الحلال، سيأتي ما فيها من منغصات, ومن أمور حقيقة متعبة للإنسان في بدنه وفي غير ذلك، كما سيأتينا إن شاء الله.
هذه اللذة التي هي أعظم اللذات الحسية كما سأوضح هذا من آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام فيها هذه المنغصات، ولا تدعونا للزهد فيما أحله الله؛ لأننا نحن في دار الكدر، وفي دار العناء، وفي دار التعب, فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]. كل من في هذه الحياة سيشقى في أي شيء في تحصيل الرزق والكد والتعب والعناء والبلاء، فهذه الحياة الصافية لا يمكن على الإطلاق، فكل من خرج إليها سيعاني الشدة فيها، لكن المؤمن يرجو على هذه الشدة أجراً عند الله جل وعلا, ولا تكون هذه اللذات مقصودة عنده أصالةً ولا غاية؛ لأنها لذات - كما قلنا- محفوفة بالمكدرات والمنغصات, ثم في نهاية الأمر إلى زوال. إذاً: هذه تذكره بلذة لا تفنى ولا تزول, فينبغي أن يعلق همته بها.