مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! لازلنا في دراسة فصل مستطرد ضمن مباحث النبوة، كما دخلنا في مباحث سنن الترمذي في بحث أيضاً مستطرد ضمن مباحث الترمذي فيما يتعلق بالجن عند قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم فإنه زاد إخوانكم من الجن)، عند هذا الحديث كنت أظن أننا سننهي الكلام على الجن بموعظتين أو بثلاث مواعظ، فلعل الأمر سيأخذ منا أكثر من عشر مواعظ، وهكذا في مبحث النبوة دخلنا في هذا المبحث المستطرد، وشاء الله له أن يطول، وعلى كل حال نحن إن شاء الله نتدارس أحكاماً شرعية على أي نوع كانت المباحث.

إخوتي الكرام! الذي جرنا إلى هذا المبحث خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم معنا أن الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه أربعة أمور:

أولها: النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه وخلقه، وثانيها: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ورسالته التي بعث بها، وثالث الأمور: النظر في المعجزات التي أيد الله بها رسله خير البريات على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ورابعها: تأمل حال أصحابه، فهم صورة لنبيهم الذي رباهم عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وقد شرعنا في مدارسة الأمر الأول منها: النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، في خلقه وخلقه، وقد انتهينا من مدارسة الشق الأول المتعلق بخلق النبي عليه الصلاة والسلام، ودخلنا بعد ذلك في الشق الثاني من الأمر الأول من الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وأنبياء الله ورسله جميعاً صلاته وسلامه.

الأمر الثاني: خلق النبي عليه الصلاة والسلام، وقلت: إن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ينقسم إلى قسمين: إلى خلق مع الخلق، وإلى خلق مع الحق، أما خلقه مع الخلق فتقدم معنا أن له سبعة أنواع وأقسام: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه والمؤمنين به من أمته، خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، خلقه عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الإنس، خامسها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الجن، سادسها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات، سابعها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتة.

وأول هذه الأمور السبعة: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، بعد أن انتهينا من مدارسة خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله الكرام قلت: ينبغي أن نتعرف على أمهاتنا أزواج نبينا عليه وعليهن صلوات الله وسلامه، وقلت: هذا يدعونا قبل أن نتعرف عليهن، ونتدارس ترجمة موجزة لهن، قبل هذا ينبغي أن نتكلم على حكمة التعدد التي خص الله بها نيبه عليه الصلاة والسلام زيادة على ما أباح لهذه الأمة، وينبغي أن نتكلم على حكمة التعدد في الأمة، وينبغي أن نتكلم على مقاصد النكاح بوجه عام، وقلت: هذه الأمور الثلاثة يندرج تحتها خمس وعشرون حكمة، خمس حكم لمقاصد النكاح العامة، وعشر حكم للتعدد في حق الأمة، وعشر حكم للتعدد في حق نبينا عليه الصلاة والسلام.

أما مقاصد النكاح العامة فذكرنا أن منها الحكمة الرابعة هي: تذكر لذة الآخرة، وقلت: هذه الحكمة لا بد لها من تمهيد لنتكلم عليها، هذا التمهيد بدأته إخوتي الكرام في الموعظة الماضية، أعظم الشهوات الحسية عند المخلوقات شهوة النكاح، وقضية الجنس، فهي إذن أعظم الشهوات عند المخلوقات، ومع عظمها وتعلق النفوس بها، قلت: فيها آفات وآفات، فإذا كانت هذه الشهوة في هذه الحياة فيها تلك الآفات، وتتعلق بها نفوس المخلوقات، فمن باب أولى ينبغي أن تتعلق همتنا بهذه الشهوة التي تكون في جنة ربنا، وليس فيها آفة من الآفات التي سأذكرها في هذه الشهوة الجنسية في الحياة الدنيوية، وبضدها تتميز الأشياء.

وكنا إخوتي الكرام نتدارس الآفات التي تكون في شهوة النكاح في هذه الحياة، غالب ظني أنني ذكرت خمس آفات أكملها بخمس آفات أخرى توجد في شهوة النكاح في هذه الحياة، لا يوجد شيء منها في شهوة النكاح التي سيحصلها المؤمنون في نعيم الجنات.

الآفة الأولى تقدم معنا الكلام عليها وتقريرها، قلت: صورة النكاح في هذه الحياة ممتهنة، ثانيها قلت: لا تحصل هذه الشهوة، ولا يمكن أن يحصلها الإنسان إلا بتعب وجهد ونصب، ثالثها: يترتب تعب عليه وعلى زوجه، كل منهما يتعب، ولذلك يجهد الإنسان زوجه، ويجتهد ويجهد نفسه عندما يقوم بقضاء تلك الشهوة، رابعها: لا تطيب إلا عند الحاجة إليها، فإذا فقد الإنسان الاحتياج إليها لا يفكر بها، ولا تخطر على باله، ولذلك الصغير لا يشعر بها، وهكذا الهرم وهكذا وهكذا، وقلت: هذا من منغصات الشهوة، ومن مكدراتها، ومن وجود النقص والآفات فيها، أنك لا تشتهيها إلا إذا احتجت إليها، إذن هي شهوة ليست كاملة.

والآفة الخامسة وهي آخر ما ذكرت من الآفات وسأتبعها بالآفات التي بعدها إن شاء الله، قلت: إن حقيقة شهوة الجنس في هذه الحياة كما هو الحال في سائر المشتهيات، الحقيقة دفع ألم بألم، والتخلص من تعب بتعب، هذه هي شهوات الدنيا، والأمر كما قال القائل:

أصبحت في دار البليات أدفع آفات بآفات

ولذلك لا يوجد في هذه الحياة شهوة خالصة من جميع الوجوه وبكل الاعتبارات إلا الإيمان بالله، إلا ذكر الله، إلا محبة الله جل وعلا، أما الشهوات الأخرى ففيها نغص ونكد قبل تناولها وعند تناولها وبعد تناولها، وكنت بينت ما في شهوة الطعام من نقص وامتهان في مباحث سنن الترمذي ، وهنا شهوة الجنس أيضاً كما قلت: إننا نتخلص من ألم بألم، وندفع تعباً بتعب، فليست هي لذة خالصة، ولذات الدنيا كما قال أئمتنا هي كلذة الأجرب عندما يحك جلده، فإذا حك الجلد خدش الجلد وسال الدم يتلذذ، لكن بما يؤذيه، الأجرب لا يصبر عن الحك، يحك وترى الدم يسيل من جلده، يتلذذ بحكه لنفسه، ويؤذي نفسه ويخدش جلده ويخمش وجهه ويسيل الدم من جسمه وهو يتلذذ، وهكذا الشهوات الدنيوية بأسرها بلا استثناء، هي كلذة الحك عند الأجرب، وهذه شهوات الدنيا كلها، وهذه هي دار النقص ودار البلاء ودار الآفات، ولا عيش إلا عيش الآخرة، ولو كان هناك شهوة واحدة كاملة لربما ركن الناس إليها وقالوا: يوجد شهوة كاملة نتمتع بها من جميع الوجوه، لا، لا يوجد في هذه الحياة شهوة كاملة خالصة، إنما الشهوات الكاملة التي ليس فيها نقص بوجه من الوجوه في الدار التي من دخلها لا يمسه فيها نصب ولا يخرج منها، نسأل الله أن يمن علينا برضوانه وبدار كرامته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ‏

الآفة السادسة إخوتي الكرام! من آفات شهوة الجنس: شهوة التمتع بما أحل الله من النساء النفس لا تشبع منها، ولا تقنع بما عندها، مع أنه ما عندها يكفيها ويزيد على حاجتها، يعني عنده زوجة يريد ثانية، تزوج ثانية يريد ثالثة، تزوج ثالثة يريد رابعة، فالنفس البشرية طبيعتها لو كان في حوزتها جميع نساء الدنيا إلا واحدة فقط لقال: أريد تلك الواحدة، جميع نساء الدنيا بلا استثناء هن في حوزته، وفي عصمته، وتحت رغبته إلا واحدة، يقول: أريد تلك فلعل حاجتي عندها! يا عبد الله! ما عند تلك عند هذه، لكن هذه النفس البشرية.

إذاً النفس البشرية لا تشبع من هذا، مع أنه يكفيها منه شيء قليل، لكن هكذا النفس البشرية تتطلع كما قلت، ولا غرو في ذلك ولا عجب، هذه الدار هي دار النقص، وهي دار الذل، وهي دار الحاجة، وهي دار الفقر، وهي دار الجشع، ولذلك النفس تصاب بهذه الآفات نحو هذه الشهوة ونحو غيرها، كما لو أنه لو ملك وادياً من ذهب لأحب ثانياً، طيب يا عبد الله الوادي يكفيك، ويكفي ذريتك إلى عشرة قرون، ولو كان عنده واد ثان لابتغى ثالثاً، ولو أعطيته ثالثاً لطلب الزيادة، ولا يملأ جوفه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.

وهنا كذلك شهوة مع ما فيها من الآفات فيها هذه الآفة، وهي أن الإنسان لا يقنع منها، ويتطلع، ونفسه تزهد فيما تملكه، وتتطلع إلى ما لا تملكه، ولا يقنع من هذه الشهوة بما يكفيه إلا الكيس الفطن العاقل اللبيب، وهم قليل قليل، الذين حالهم كما قال الله: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7]، وأما أكثر الناس فحاله أن يتمتع من هنا وهناك، ولا يقنع بما يحصل من واحدة إلى أربع، وهذا كما قلت حال هذه الحياة.

وليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا

ومن حماقة الإنسان أن يتعلق بغير ما عنده، مع أن ما عنده يسد مسد ما يتعلق به، بل ربما كان ما عنده أفضل بكثير مما ليس عنده، لكن هذه دار النقص، وهذه النفس كما قلت فيها النقص، وفيها الفقر، لذلك تتطلع إلى غير ما تملك من المشتهيات، مع أن ما تملكه كما قلت يكفي النفس ويزيد عليها، والسبب في هذا قصور عقل الإنسان، ونظره إلى الظاهر، وعدم وصوله إلى حقيقة الأمر الباطل.

والإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله له نحو هذا الأمر توجيهات ونصائح سديدة ذكرها في كتابه صيد الخاطر، فمنها ما ذكره في صفحة واحدة وستين ومائتين، يقرر فيه شأن العاقل وشأن الأحمق، فيقول تحت عنوان من عرف النساء رضي بزوجته، يقول: أكثر شهوات الحس النساء، وقد يرى الإنسان امرأة في ثيابها فيتخايل له أنها أحسن من زوجته، أو يتصور بفكره المستحسنات، وفكره لا ينظر إلا إلى الحسن من المرأة فقط، فيسعى في التزوج والتسري، فإذا حصل له مراده لم يزل ينظر في عيوب الحاصل التي ما كان يتفكر فيها فيمل ويطلب شيئاً آخر، ولا يدري أن حصول أغراضه في الظاهر ربما اشتمل على محن، منها: أن تكون الثانية لا دين لها، أو لا عقل لها، أو لا محبة لها، أو لا تدبير لها، فيفوت أكثر مما حصل، وهذا المعنى هو الذي أوقع الزناة في الفواحش؛ لأنهم يجالسون المرأة حال استتار عيوبها عنهم، وظهور محاسنها، فتلذهم تلك الساعة، يعني: هذه الساعة تدخل على نفسهم اللذة عندما جالسها من حيث الظاهر دون أن يسبر غورها، وأن يعرف حقيقتها، ثم ينتقلون إلى أخرى، فليعلم العاقل ألا سبيل إلى حصول مراد تام كما يريد، ما دام في هذه الحياة لا يمكن أن يحصل ما يريد, ما يريد هذا لا يكون إلا في دار كرامة الله، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].

يقول الإمام ابن الجوزي : وما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز جل: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25]، وذو الأنفة يأنف من الوسخ صورة وعيب الخلق معنى، فليقنع بما باطنه الدين وظاهره الستر والقناعة، فإنه يعيش مرفه السر طيب القلب، ومتى استكثر فإنما يستكثر من شغل قلبه، ورقة دينه.

إذاً من آفة هذه الشهوة أنه عندك ما يكفيك ويسد حاجتك، وأنت مع ذلك تتطلع إلى شيء آخر ربما كان أنزل مما عندك.

وذكر نحو هذا في صفحة ثمانين ومائتين تحت عنوان لذات الدنيا مشوبة بنغص، ثم قال عليه رحمة الله: إن النفس لا تقف على حد بل تروم من اللذات ما لا منتهى له، وكلما حصل له غرض برد عندها وطلبت سواه، هذا الغرض الذي كان عنده حرارة في طلبه وتحصيله، فيفنى العمر، ويضعف البدن، ويقع النقص، ويرق الجاه، ولا يحصل المراد، وليس في الدنيا أشد بلاهة ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليس في الدنيا على الحقيقة لذة، إنما هي راحة من مؤلم، يدفع بلية ببلية، يتخلص من ألم بألم، فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها ومالت إليه، وعلم سترها ودينها، أن يعقد الخنصر على صحبتها، وأكثر أسباب دوام محبتها ألا يطلق بصره، فمتى أطلق بصره، أو أطمع نفسه في غيرها، فإن الطمع في الجديد ينغص الخَلق، أي: القديم الذي عنده من زوجة قديمة، وينقص المخالطة، ويستر عيوب الخارج، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب، ويتكدر العيش مع الحاضر القريب، كما قال الشاعر:

والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

طيب حصل الثانية ما النتيجة؟ ثم تصير الثانية كالأولى، وتطلب النفس ثالثة، وليس لهذا آخر، بل الغض عن المشتهيات، ويأتي النفوس من طلب المستحسنات يطيب العيش مع المعاشر، ومن لم يقبل هذا النصح تعثر في طريق الهوى، وهلك على البارد، وربما سعى لنفسه في الهلاك العاجل أو في العار الحاضر، فإن كثيراً من المستحسنات لسن بصينات، ولا يفي التمتع بهن بالعار الحاصل، ومنهن المبذرات في المال، ومنهن المبغضة للزوج وهو يحبها كعابد صنم، إلى آخر كلامه في هذا الأمر.

إذاً هذا من آفة هذه الشهوة، أن النفس لا تقنع بما يكفيها، وهي فقيرة تريد المزيد، وفي ذلك إضرار عليها في هذه الحياة، وإضرار أيضاً لها بعد الممات، والإمام ابن الجوزي يقرر هذا أيضاً في كتابه ذم الهوى في صفحة اثنتين وخمسين وستمائة، وهكذا الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه روضة المحبين، وهو كذم الهوى، لكن الهوى إذا صرف في الحلال فحقيقة هو مباح وروضة، وإذا صرفته في غير ذلك فيذم وتمنع منه، فذاك نظر إلى جانب وهذا إلى جانب، فذاك سمى كتابه ذم الهوى، وهنا هوى مباح فسماه روضة المحبين.

يذكر الإمام ابن الجوزي وبعده الإمام ابن القيم عليهم جميعاً رحمة الله في هذا الكتاب في ترجمة الخليفة المتوكل أمراً عجيباً، والمتوكل هو جعفر بن المعتصم ، توفي سنة سبع وأربعين ومائتين للهجرة، ومن الغريب أنه مات مقتولاً، قتله أعوانه بتآمر مع ولده المنتصر، ثم بعد أن تآمر مع أعوان أبيه على قتل أبيه، دبر هؤلاء مكيدة فقتلوا الابن، فكان يقول لأمه وقد قتل بعد أبيه بخمسة أشهر ونصف: خسرت الدنيا والآخرة.

انظر في حال المتوكل ، يقول الإمام ابن الجوزي : خرج مرة وهو واجم، أي: ساكت، كأنه مشدوه، فقال له وزيره: ما لك؟ عليك علامة الحيرة والدهشة، ووضعك ليس بطبيعي؟! قال: في الدار عشرون ومائة جارية ما فيهن واحدة تطلبها نفسي، عنده من الجواري مائة وعشرون من الغيد الحسان، يقول: نفسي ملتهن، ما تتطلع إلى واحدة من هؤلاء، تريد شيئاً آخر، شيئاً غريباً، هذا حقيقة من علامة النقص في هذه الشهوة، وكما قلت: لو كان النساء كلهن في عصمتك إلا واحدة لقلت: أريد تلك الواحدة فلعل عندها ما أريد، فعنده مائة وعشرون ثم بعد ذلك يفكر في إرواء شهوته يقول: نفسي لا تميل إلى واحدة من هؤلاء، هذا حقيقة من الآفة التي في هذه الشهوة في هذه الحياة.

والسبب في ذلك إخوتي الكرام أن عين الهوى عوراء، ولو كان الذي يهوى يبصر لقنع بواحدة، وإذا أراد أن يتوسع فأحل الله له ثانية وثالثة ورابعة، وقف عند الحد وانتهى، لكن عين الهوى عوراء، يرى المستحسنات ولا يعلم ما فيهن بعد ذلك من آفات وبليات، فيريد أن يعدد وأن يجدد، وفي ذلك حتفه وهلاكه في العاجل والآجل، وكما قلت هذا من النقص الذي في هذه الشهوة، وجميع الشهوات في هذه الحياة لا يخرجن عن هذا الوصف ألا وهو النقص.

يقول الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله في ذم الهوى صفحة ثلاث وخمسين وستمائة في علاج الهوى الذي يدعو صاحبه إلى أن ينظر بعين واحدة ويغمض الأخرى، يقول: ومما يداوى به -أي: إذا أردت أن تداوي هواك- أن تفكر أن محبوبك ليس كما في نفسك، فأنت تنظر إلى شيء والواقع بخلافه، فأعمل فكرك في عيوبه تسلو عنه -إذا تفكرت فيما عنده من عيوب زهدت فيه- إن الآدمي محشو بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يصور له الهوى عيباً؛ لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر يغطي المعايب، فيرى العاشق القبيح من معشوقه حسناً، وبهذا السبب يعرض الإنسان عن زوجته، ويؤثر عليها الأجنبية، وقد تكون الزوجة أحسن من الأجنبية، والسبب أن عيوب الأجنبية لم تبن له، وقد تكشفها المخالطة، ولذلك إذا خالط هذه المحبوبة الجديدة، وكشفت له المخالطة ما كان مستوراً، مل وطلب أخرى إلى ما لا نهاية.

ثم نقل عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (إذا أعجبت أحدكم المرأة فليذكر مناتنها) ما فيها من نتن من بول وغائط وحيض ونفاس ومخاط وبصاق، اذكر هذه المناتن تزهد نفسك فيها.

ومرة اغتصب بعض الفجار امرأة، وأرادوا الاعتداء عليها، فمن خوفها تغوطت في ثيابها، فتركوها وهربوا عنها شاردين من النتن وكريه الرائحة التي فاحت منها، ثم نقل عن امرأة عفيفة صينة صالحة أن بعض الغواة تعرض لها وراودها فقلت: ويحك، تعلم ما هنالك؟ هنالك بالوعة، وأنت تريد أن تبول فيها، هي أنتن من الكنيف، تعلم ما هنالك، يعني: أسرتك هذه الشهوة أنت ما تعلم ما يوجد في ذلك المكان، استحي يا عبد الله من نفسك، هذا أمر عن طريق الحلال يطلب مع ما فيه من نقص؛ لما ترتب عليه من خيرات وفضائل، أما بعد ذلك تعلق همتك بهذا الأمر، وتجعله غاية وإن كان من الحرام، أما تعلم ما هنالك، هذه بالوعة أنتن من الكنيف، أما يردعك هذا عن همتك الدنيئة.

حقيقة إخوتي الكرام! هذا علاج لمن ينظر بعين واحدة، وكما قلت: نساء الدنيا فيهن ما فيهن، وفينا كذلك، ولذلك هذا الكلام موجه للنساء أيضاً، فإذا أعجبها الرجل فلتذكر مناتنه، يعني: لا تظن أن المرأة فيها نتن والرجل ليس كذلك، الآدمي محشو بالأقذار والأنجاس، وأوله كما قال أئمتنا نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل في جوفه العذرة، ابن آدم تأمل حالك وحال غيرك، تغسل الخراءة في اليوم بيدك مرتين فقف عند حدك وعلق قلبك بربك جل وعلا، وإياك وهذه الشهوات الحسيات الزائلات، فإن تيسرت عن طريق الحلال لما يترتب عليها من خير تناولتها بالصفة الشرعية، وإلا فعندك فيها ما يزهدك فيها، هذا عدا عما بعد ذلك عند الله من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، هذه هي الشهوة بنفسها لو تأملتها لزهدت فيها، ووالله لولا ما يترتب عليها من طيب الخصال لأعرض عنها عقلاء الرجال، لولا أن هذه الشهوة هي الطريق لإنجاب الذرية، هي أيضاً تذكر باللذة العظيمة التي سينالها الموحدون بجوار الحي القيوم في دار كرامته، لأعرض العاقل عنها يقول: هذه فيها ما يدعو إلى الإعراض عنها.

إذن هذا من آفاتها، النفس لا تشبع منها، وعندها ما يكفيها، يعني هي الواحدة تكفي، وتكفي أمثاله معه، وتراه يتطلع، يا عبد الله! اتق ربك، وعلق همتك بما عند الله جل وعلا.

الآفة السابعة في آفات الشهوة الجنسية في هذه الحياة: إخوتي الكرام! هذه الشهوة محفوفة بالأخطار، يترتب عليها حسد العباد، وينتج منها فساد الزوجة والأولاد، وكم من إنسان ذبح من أجل زوجته, زوجته جميلة وأرادوا الاعتداء عليها فذبحوه، وكم من إنسان ذبحته زوجته الفاسدة وولده الفاسد، كم؟! فهي إذا فعلت عن طريق حلال محفوفة بالأخطار، مع أنها عن طريق حلال، كما قلت: تبتلى بحسد من قبل الناس، عنده زوجة جميلة يحسد، ويتآمرون على قتله، وسيأتينا أن حاكم مصر أراد قتل خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه من أجل زوجته سارة ، فتخلص إبراهيم من ذلك بقوله: إنها أختي، شأنك بها، فلست أنا بزوج لها كما سيأتينا والحديث في الصحيحين، قال: إنها أختي، وإذا أردتها خذها، أما إذا كانت زوجة ذاك لا بد من أن يقتل زوجها ليتمتع بها بعد ذلك، قال: أختي، قال: سآخذها، قال: خذها، والله جل وعلا سيحول بينك وبينها، إنما إذا قال: زوجتي قبل أن يأخذها سيبطش به.

والسبب في تطلع الملك إليها أنها عندما دخلت إلى بلاد مصر جاءه أعوانه وقالوا: دخلت امرأة جميلة وضيئة لا تصلح إلا أن تكون لك، هي مع إنسان دونك، أنت الملك ينبغي أن تكون هذه المرأة الجميلة عندك، وسيأتينا الحديث في ذلك، وهكذا بعد ذلك فساد الزوجة والأولاد.

إذن شهوة محفوفة بالأخطار، أما الحسد الذي يتعرض له صاحب الزوجة الجميلة من قبل الأشرار بسبب ما في زوجته من حسن وجمال فهذا واقع في جميع الأعصار، وكما قلت حصل لخليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد نجا الله خليله وزوجه من المكيدة التي دبرت لهما.

ثبت الحديث بذلك في المسند والصحيحين ورواه أبو داود في سننه والإمام الترمذي في سننه، وهو من أعلى الأحاديث درجة وصحة فهو في الصحيحين كما قلت، والحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وفيه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله)، وفي بعض الروايات: (كلها في ذات الله، يماثل)- أي: يجادل بها عن دين الله، وإنما قال: ثنتين في هذه الرواية؛ لأن الثالثة زوجته سارة قد يظن أن له تعلق بها، ومن أجل مصلحته دفع ما دفع، وقال ما قال، إنما الأمر أيضاً من أجل الله، وفي ذات الله.

والكلام إخوتي الكرام وسيلة إلى المقاصد، وإذا كان لا يتوصل إلى المقصود إلا بالكذب تعين الكذب، وإذا كان المقصود واجباً ولا يمكن أن تصل إليه إلا بالكذب تعين أن تكذب، ولا حرج عليك في ذلك، فإذا هرب مظلوم من ظالم وجاء الظالم وبيده سكين ويريد أن يقتله، والمظلوم عندك في البيت فقال: أين فلان؟ تقول: ما رأيته، ما دخل بيتك؟ ما دخل بيتي ولا أعرفه ولا يعرفني، وهذا واجب عليك، ولو أردت أن تتصف بالورع البارد وتقول: الكذب حرام وفلان دخل إلى بيتي وهو في الحجرة الفلانية، ودخل فقتله فأنت شريكه في القتل، يجب عليك أن تكذب، نعم إذا أمكن أن توري، هذا أحسن، وأن تفهم المخاطب شيئاً وأنت تريد شيئاً، كما قال علماء اللغة والكلام: أوسع من أن تكذب تقول: ما رأيته، أي: ما ضربت رئته، وهو يفهم منك ما رأيته بعينيك، هذا موضوع آخر.

على كل حال قوله: إني سقيم عندما ذهبوا إلى عيدهم وعبادتهم غير ربهم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، محل الشاهد: وواحدة في شأن سارة ، فإنه قدم أرض جبار وهي أرض مصر ومعه سارة ، وكانت أحسن الناس، هذه هي محل الفتنة، هي لو كانت زوجة عادية لما تطلع هذا الملك إليها، ولكنها كانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك؛ فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها هذا الجبار، فقبضت يده قبضة شديدة، ووقفت وشلت وما استطاعت أن تتحرك، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك، ففعلت، فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله ألا أضرك، ففعلت، وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها فقال له: إنك إنما جئتني بشيطانة، ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر أمة خادمة، قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه انصرف فقال لها: مهيم، أي: ما أمرك وما حالك وما شأنك وماذا جرى؟ قالت: خيراً، كف الله يد الفاجر، وأخدمنا خادماً، قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء، وكما قلت الحديث في الصحيحين وغيرهما.

إخوتي الكرام! سأذكر بعض الروايات الأخرى لهذا الحديث، إنما هنا خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم كيف أعطى زوجته إلى هذا الجبار، وأيضاً تخلص أن يقول: إنها أختي، هذه أختي، كيف هذا؟! إخوتي الكرام! هو على يقين أن الله جل وعلا سيحفظ زوجة نبيه الكريم زوجة خليله إبراهيم محفوظة، فإذا كان الأمر كذلك لا داعي أن يعرض نفسه للخطر، وأن يدخل مع الجبار في مشكلة ومشاكلة، فهذه محفوظة، ولن تصل يد الجبار إليها.

وورد في بعض الآثار أن الله جعل القصر كالقارورة الصافية، فكان إبراهيم يراهما ويسمع كلامهما وهو يصلي ويناجي ربه؛ حتى يطمئن تمام الاطمئنان، لو أيضاً ما رأى وما سمع لربما قالت: ما فعل شيئاً يقع في نفسه ما يقع في نفوس البشرية، إذن اعلم هذه مصونة محفوظة، وهذه زوجة نبي، وتقدم معنا أن نساء الأنبياء يصن عن الفواحش، وإذا كانت لا تزني زوجة النبي باختيارها، فلا يمكن أن يقع الزنا أيضاً بها باضطرارها، والله يصونها من هذه الفاحشة في الحالتين، لا باختيار ولا باضطرار، لا يمكن أن تقع منها كرامة لزوجها النبي على نبينا وأنبياء الله جميعاً صلوات الله وسلامه، فهو مطمئن، لذلك قال: أنا أخ لها، وهي أختي؛ لينجو بنفسه، وتلك ناجية ما عنده شك في ذلك.

وهذا إخوتي الكرام هو الجواب المعتمد في هذه الحادثة، وما قيل: إن خليل الرحمن إبراهيم قال: هي أختي لأنه كان في دين الملك أحق الناس بالمرأة أخوها، وعليه هي أختي وأنا سأتزوجها، فلا تقربها أنت لأن الأخ أولى بها من غيره، فقيل: كان الملك يرى نكاح المحارم، وأراد خليل الرحمن إبراهيم أن يقول: إنها أختي من أجل أن يمنع الملك عنها؛ لأنه لو علم أن هذه المرأة أخت لهذا الإنسان يقول: هو أولى بها، فلا داعي أن نعتدي عليها، لكن هذا في الحقيقة غير سليم، لم؟ لأن هذا الجبار إن أراد عن طريق النكاح فقط يمكن أن يقال هذا، لكن هو لا يريدها عن طريق النكاح، بل يريدها عن طريق السفاح، فلا يمنعه مانع، سواء كان الذي معها أخ لها وسيتزوجها، أو كان زوج وليس بأخ سيقتله.

إذن كما قلت الجواب الأول هو المعتمد، خلص نفسه وهو ضامن كما قلت خلاص زوجه سارة .

السبب -كما قلت- فيما حصل له في هذه المحنة حسن سارة وجمالها رضي الله عنها وأرضاها، ولو كانت كسائر النساء لما تعرض لها الجبار، ولما ذهبت إلى تلك المحنة.

ولـأبي هريرة رضي الله عنه في رواية أخرى مسندة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هاجر إبراهيم بـسارة فدخل بها قرية فيها ملك من الملوك، أو جبار من الجبابرة، فقيل له: دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن النساء)، وفي بعض الروايات قالوا له: (إن هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه: يا إبراهيم من هذه التي معك؟ قال: أختي، ثم رجع إليها فقال لها: لا تكذبي حديثي فإني أخبرتهم أنك أختي، والله إن ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأرسل بها إليه، فقام إليها فقامت توضأ وتصلي فقالت: اللهم إن كنتُ آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي يد الكافر، فغط حتى ركض برجله)، غط أخذه الغطيط، وهو الصرع، فبدأ يفحص برجليه ويضطرب كأنه مخنوق، (فقالت: اللهم إن يمت يقال: هي قتلته -يعني: لا أريد أن يموت، وإلا نقع في مشكلة أخرى مع أعوانه وزبانيته- فأرسل ثم قام إليها فقامت توضأ وتصلي وتقول: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي فلا تسلط علي هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله)، قال أبو هريرة فقالت: (اللهم إن يمت يقال: هي قتلته، فأرسل في الثانية أو في الثالثة، فقال: والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانة، ارجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر ، فرجعت إلى إبراهيم فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر، وأخدم وليدة)، وفي بعض الروايات: قيل للجبار: ( إنه نزل هاهنا رجل معه امرأة هي أحسن الناس، قال: فأرسل إليه فسأله عنها؟ فقال: إنها أختي)، بنحو الروايات المتقدمة. ‏

عظم فتنة المسلم بالمال والولد في الدنيا

إذن محفوفة بالأخطار، إن تزوجت جميلة تحسد من قبل الناس، وتتعرض لمشاكلهم، ثم هذه الزوجة قد تفسد وتكون فاسدة فتصاب ببلاء من قبلها، تأتي بذرية فاسدة تصاب ببلاء من قبل هذه الذرية، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا في كتابه في سورة التغابن، فقال جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم [التغابن:14]، إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم، هذه هي أخطار في هذه الزوجة فيما ينتج عنها من أولاد، فيما تتعرض له أيضاً من مشاكل وحسد العباد.

وسبب نزول هذه الآية ما ثبت في تفسير الطبري وسنن الترمذي وقال الترمذي : حسن صحيح، والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني صفحة تسعين وأربعمائة وصححه وأقره عليه الذهبي ، ورواه عبد بن حميد والإمام الفريابي والإمام الطبراني في معجمه الكبير، ورواه ابن مردويه في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره، وابن المنذر في تفسيره، عن ابن عباس رضي الله عنه، وإسناد الأثر كما قلت صحيح، هذه الآية قال: نزلت في قوم من أهل مكة أسلموا، وأرادوا أن يهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمنعهم قراباتهم نساؤهم وأولادهم، منعوهم من الهجرة، وقالوا لهم: فارقتمونا في الأديان، تفارقونا أيضاً في الأبدان والأوطان، يعني: ما يكفي أنكم على خلاف ديننا، ورضينا بأنكم آمنتم بالنبي عليه الصلاة والسلام، أيضاً تتركون الوطن، وتفارقون أرحامكم فمنعوهم من الهجرة، فلما بعد ذلك هاجر هؤلاء إلى المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وجدوا من سبقهم قد فقهوا وفهموا وتعلموا، وهؤلاء منعوا من هذا الفقه والتعلم فترة طويلة، وحرموا هذا الخير من النبي عليه الصلاة والسلام، فهموا بعقوبة أهليهم الذين منعوهم من الهجرة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله هذه الآية: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]، عفا الله عما سلف، لكن ينبغي على الإنسان أن يحترس.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]، وإنما قال الله جل وعلا: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [التغابن:14]، و(من) تبعيضية؛ لأنه ليس كل الأزواج والأولاد أعداء، حقيقة منهن من تكون عوناً لزوجها على أمور الدين والدنيا، ومن الأولاد من هو قرة عين، ويعين والده في الدنيا وينفعه في الآخرة، ويوجد أيضاً من الزوجات من هي بلاء، ويوجد من الأولاد من هم بلاء، (من) للتبعيض، إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14].

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28] حذف (من) في قوله: (أموالكم وأولادكم)، ولم يقل: إن من أموالكم وأولادكم فتنة، إنما (أموالكم وأولادكم فتنة)؛ لأن واقع الأمر أنه لا تخلو الأموال وهكذا مشاكل الأولاد والعيال من فتنة، ومشكلة الولد حقيقة أمره صعب صعب، وكم ستبذل في تربيته، وبعد ذلك كيف سيكون حاله، نسأل الله أن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين.

والأموال قل أن يسلم الإنسان من فتنتها، وهنا ما أدخل الأزواج؛ لأن من الأزواج من لا تكون فتنة للزوج، وهنا عمم قال: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)، أما الأولاد واقع الأمر كل ولد فتنة، والمال فتنة لك من جميع الجهات، لكن بالنسبة للزوجة قد يكون بعض النساء عدواً، لكن بعضهن قد لا تكون عدواً، ولا يكون فيها فتنة، إنما هي أحلى من العسل طيبة لا تكلف زوجها رهقاً، لا في أمر الدين ولا في أمر الدنيا.

ولذلك (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) أشار إلى هذا أئمتنا عليهم رحمة الله في كتب التفسير، انظروا كتاب السراج المنير للخطيب الشربيني في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير في الجزء الرابع صفحة سبع وثلاثمائة، وانظروا زاد المسير للإمام ابن الجوزي في الجزء الثامن صفحة خمس وثمانين ومائتين، وهذا الكلام والتوجيه نقلوه عن الإمام البقاعي عليه رحمة الله قال: منهن من يكون صلاحاً وعوناً للزوج على الآخرة، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28].

نعم إخوتي الكرام! قد يكون بعض الأزواج عدوا للزوج، وهذا بسبب شهوة النكاح، فأي خطر أشنع من هذا الخطر؟! زوجتك تعبت في تحصيلها، ثم أتعبت نفسك في معاشرتها، ثم بعد ذلك تآمرت عليك مع الأولاد فذبحوك، وهذا وقع سابقاً وحاضراً، وسيقع لاحقاً، وقع بكثرة، طيب هذه الشهوة انظر إلى هذه الأخطار التي فيها، يعني شهوته أدت إلى ذبحه، هذا أكثر ما يقع، ولذلك كم يغتاظ الإنسان إذا حصلت العداوة له من قبل أزواجه وأولاده، وهذه أعظم البلايا، عداوة الأزواج والأولاد واقعة، وهي فظيعة منكرة.

وقد روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام ما يشير إلى ذلك في أثر ضعيف، ومعناه صحيح صحيح، رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير كما في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة خمس وأربعين ومائتين، والأثر في إسناده محمد بن اسماعيل بن عياش الحمصي ، قال عنه الإمام الهيثمي : ضعيف، وبذلك حكم عليه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة اثنتين وثمانين ومائة، فصدر الحديث بلفظ: روي، وهذا الرجل وهو محمد بن إسماعيل في طبعة تقريب التهذيب الجديدة التي هي في مجلد واحد رمز إلى أنه من رجال سنن ابن ماجه فقط، وقال الحافظ ابن حجر في ترجمته: عابوا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع، وكما قلت: رمز إلى أنه من رجال ابن ماجه ، وفي الطبعة القديمة من التقريب في مجلدين، وهكذا في تهذيب التهذيب رمز ب د ق إلى أنه من رجال أبي داود وسنن ابن ماجه ، وهذا هو الثابت، وورد في كتاب الكاشف للإمام الذهبي الاقتصار على د، أي: إلى أنه من رجال أبي داود ، وكذلك في الميزان، وكذلك في المغني في الضعفاء، فبعضهم كما قلت الطبعة الجديدة من التقريب ق، وكتب الذهبي من المغني والميزان والكاشف د، والطبعة القديمة من تقريب التهذيب هو من رجال سنن ابن ماجه وسنن أبي داود ، كما قلت نقموا عليه أنه حدث عن أبيه بغير سماع، وحكم عليه الحافظ الذهبي في الكاشف فقال: ليس بذاك، وما عدا هذا رجال الإسناد ثقات أثبات، فالحديث ضعيف، لكن معناه صحيح.

ولفظ الحديث من رواية أبي مالك الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس عدوك الذي إن قتلته كان لك نوراً، وإن قتلك دخلت الجنة)، يقول: هذا عدو معلوم، وليس هذا بالعدو الحقيقي الذي يغيظ القلب إغاظة شديدة، إن قتلته كان لك نوراً، وإن قتلك دخلت الجنة، ليس هذا هو العدو الحقيقي، من هو العدو الحقيقي؟ قال: (ولكن أعدى عدوك ولدك الذي خرج من صلبك)، حقيقة إذا خرج الولد خبيثاً فهذا أشنع من العدو الكافر، أشنع وأغيظ للنفس من العدو الكافر، (ولكن أعدى عدوك ولدك الذي خرج من صلبك، ثم أعدى عدوك مالك الذي ملكت يمينك وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28] ، (أعدى عدوك ولدك الذي خرج من صلبك، أعدى عدوك مالك الذي ملكت يمينك).

والأثر رواه الإمام الديلمي كما في جمع الجوامع في الجزء الأول صفحة واحدة وثمانين وستمائة بلفظ: (ولكن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وامرأتك التي تضاجعك على فراشك، وولدك الذي خرج من صلبك)، فهؤلاء أعدى عدو لك، نفسك التي لا تستقيم على حالة، وزوجتك التي تضاجعك على الفراش، وولدك الذي خرج من صلبك، إذا ما استقام هؤلاء الثلاثة فهم أعظم عدو لك.

هذا كله كما قلت مترتب على الشهوة الجنسية، فكم حول هذه الشهوة من أخطار، وهذا الحديث إخوتي الكرام ذكره الإمام ابن كثير في تفسيره في الجزء الرابع صفحة ست وسبعين وثلاثمائة، وانظروه في فيض القدير مع الكلام عليه للإمام المناوي في الجزء الخامس صفحة ثمان وستين وثلاثمائة.

إخوتي الكرام! حذرنا الله جل وعلا من التلهي بالأزواج والأولاد والإعراض عن ذكر رب العباد، فكثيراً ما يتلهي الإنسان بزوجه، بولده، ويعرض عن طاعة ربه، ولذلك احترس وانتبه نحو هذا لأمر، قال الله جل وعلا في آخر سورة المنافقون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9]، وكثيراً ما حمل حب الإنسان لزوجه ولأولاده على البعد عن طاعة ربه، فكم من إنسان ترك الهجرة من أجل الزوجة والأولاد، ترك الجهاد من أجل الزوجة والأولاد، ترك التصدق من أجل الزوجة والأولاد، ويستغل الشيطان جانب الضعف في الإنسان، ويأتيه من هذه الجوانب، فانتبه لهذا.

وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في المسند والنسائي في السنن، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه البيهقي أيضاً في شعب الإيمان، ورواه الإمام البغوي في شرح السنة، ورواه الإمام أبو يعلى في معجمه، والطبراني في معجمه الكبير أيضاً، والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وإسناد الحديث كما قلت صحيح كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن حجر العسقلاني في الإصابة في الجزء الثاني صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة فقال: إسناد النسائي حسن وصححه الإمام ابن حبان ، ونص الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الثالث صفحة ثمان وعشرين على أن إسناد الحديث صحيح، وإلى ذلك ذهب الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة أربع وثمانين ومائتين.

نعم وهم الخطيب الشربيني في تفسيره في الجزء الرابع صفحة ست وثلاثمائة فعزا الحديث إلى صحيح البخاري وليس فيه، إنما كما قلت في المسند وسنن النسائي وصحيح ابن حبان وغير ذلك، ولفظ الحديث من رواية سبرة بن الفاكه ، ويقال له: ابن أبي الفاكه ، رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، قعد في طريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟! فعصاه وأسلم)، يقول: الآن ستترك قوميتك، أنت تنتمي إلى أقوام معينين ترغب عن ملة الآباء والأجداد، فعصاه وأسلم، (فقعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتذر أرضك وسماءك)، يعني: تترك وطنك، لا قومية ولا وطنية، وإنما مثل المهاجر.. هذا كله من وسوسة الشيطان للإنسان، (وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول)، يعني: في الحبل المربوط، (فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد)، فهو جهاد النفس والمال، (فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال)، هذه المرأة ستضيع، والمال يذهب، (فعصاه فجاهد)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)، إذا أسلم وهاجر وجاهد وما استجاب لوساوس الشيطان، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة.

الشاهد إخوتي الكرام عندما يريد الجهاد يأتيه الشيطان يقول: إن جاهدت تقتل، وإذا قتلت نكحت المرأة، وقسم المال، فيدعوه من هذا الجانب إلى ترك الجهاد، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9].

الأولاد مبخلة مجبنة محزنة

نعم إخوتي الكرام! إن الغلو في محبة الأولاد والأزواج كثيراً ما يدعو إلى الغي والفساد، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا، وأخبرنا أن الولد سبب للجهل، سبب للحزن، سبب للبخل، سبب للجبن، وليس معنى هذا أننا لا ننجب الذرية، إنما إن جاءتنا الذرية نحذر هذه الأمور السلبية، فالولد يدعوك إلى الجبن، إلى البخل، إلى الجهل، إلى الحزن، فانتبه لنفسك، وحذار حذار أن تقع في هذه البليات بسبب الأولاد، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في أحاديثه الكثيرة الصحيحة، وكثير من الناس ما فهموا معنى الأحاديث، وظنوا أن الولد شؤم، وأن الأولاد شؤم، وقالوا: كيف يرغب الشارع في الأولاد ثم يرتب عليها ما يرتب من الشؤم والفساد، هذا تناقض؟! ولا تناقض، إنما كل شيء يوضع في موضعه الشرعي، هذا الولد فيه خير وفيه شر، فاحذر جانب الشر فيه، واغتنم جانب الخير فيه، ووجهه الوجهة السليمة السديدة الرشيدة، وإذا دعاك حرصك على الولد إلى الجبن، وانقدت إلى ذلك، فالولد شؤم عليك، إنما كما قلت جاهد نفسك وقف عند حدود الشرع.

روى الإمام الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث صفحة ست وتسعين ومائتين، والحديث رواه الإمام البزار كما في مجمع الزوائد في الجزء الثامن صفحة خمس وخمسين ومائة، وانظروه في كشف الأستار في الجزء الثاني صفحة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وإسناد الحديث رجاله ثقات كما قال الإمام الهيثمي في المجمع، ورواه الإمام البغوي وابن السكن كما في جمع الجوامع في الجزء الأول صفحة ست عشرة ومائتين، ولفظ الحديث عن الأسود بن خلف رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حسناً فقبله، وهو ابن سيدتنا فاطمة على نبينا وآله وصحبه جميعاً صلوات الله وسلامه، أخذ حسناً فقبله، ثم أقبل عليهم فقال: (إن الولد مبخلة مجهلة محزنة).

زاد الحاكم في روايته: (مجبنة)، لكنه ذكر أن المقبل في الرواية هو الحسين وليس سيدنا الحسن عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه وعلى نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه، أخذ الحسين فقبله أو أخذ الحسن فقبله، ثم قال: (إن الولد مجبنة مبخلة مجهلة محزنة)، (مجبنة) قلت زادها الإمام الحاكم عن البزار وعمن روى الحديث معه من أئمة الحديث.

ومعنى الحديث كما قلت: الولد يدعو إلى البخل، يدعو إلى الجهل، يدعو إلى الحزن، يدعو إلى الجبن، فانتبه لذلك، كم من طالب علم عندما تزوج خف طلبه للعلم، فلما جاءه الأولاد أعرض عن طلب العلم، فصار الأولاد شؤماً عليه، وكم من رجل كان كريماً، فلما جاءت الزوجة والأولاد أمسك يده، أو كان جريئاً يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم، وإذا طلب إلى القتال في سبيل الله ما تأخر، فلما جاءت الزوجة والأولاد وقف.

فإذاً الولد يدعو كما قلت إلى هذا، كان بعد ذلك لا يبالي بالدنيا إن أقبلت ولا يحزن عليها إن أدبرت، صار يتعلق بها ويحزن عليها، من أجل أولاده، فانتبه لهذا، احترس من ذلك، أنجب الأولاد، واستكثر ما شئت، لكن إياك أن يدعوك الولد إلى جبن، أو إلى بخل، أو إلى حزن، أو إلى جهل، فالولد يدعو إلى هذا، فعالج نفسك وكن يقظاً.

والحديث كما قلت صحيح، وروي من غير طريق الأسود بن خلف رضي الله عنهم أجمعين، رواه أبو يعلى والبزار كما في مجمع الزوائد في المكان المتقدم من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، وفي إسناد الحديث عطية العوفي وهو ضعيف كما قال الإمام الهيثمي في المجمع، وقال عنه الإمام ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً، ومع خطئه يدلس، وقد توفي سنة إحدى عشرة ومائة، عطية بن سعيد العوفي ، وهو من رجال البخاري في الأدب المفرد، وأخرج حديثه أهل السنن الأربعة إلا الإمام النسائي عليهم جميعاً رحمة الله، والرواية التي معنا تشهد لها الرواية المتقدمة, الرواية المتقدمة قلنا من رواية الأسود بن خلف ، هذه من رواية أبي سعيد رضي الله عنهم أجمعين.

لفظ رواية أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة)، يدعو إلى الجبن وإلى البخل وإلى الحزن، فاحترس من هذا، واستكثر من الأولاد ما شئت، إنما إياك أن يوقعك الأولاد في هذه السلبيات، الولد ثمرة القلب.

وبعض إخوتي الكرام من يشتغلون بعلم الحديث في هذه الأيام، أورد حديث أبي سعيد في كتابين، فأورده في الأحاديث الضعيفة، ثم أورده في الأحاديث الصحيحة، صححه هنا وضعفه هناك، انظروا إخوتي الكرام أورده في ضعيف الجامع الصغير وفي صحيح الجامع الصغير، ثم بعد ذلك قال: فاتنا حذف الزيادة، ما هي الزيادة؟ يقول: ثمرة القلب، هذه هي الزيادة في الحديث، يعني: كان ينبغي أن نحذفها، أما الحديث: (الولد مجبنة مبخلة محزنة) هذا ثابت؛ لأنه كما تقدم معنا في الرواية المتقدمة، أما هذه الرواية وهي: (الولد ثمرة القلب)، يقول: فاتنا حذف الزيادة.

وأنا كما قلت إخوتي الكرام إذا شهد الحديث المتقدم لهذا بقيت الولد ثمرة القلب، المعنى صحيح ثابت ولا إشكال فيه، وأما أن يورده الإنسان تارة في الضعيفة، وتارة في الصحيحة، كما قلت إخوتي الكرام هذا من عدم تتبع طرق الحديث، وقلت لكم مراراً إخوتي الكرام: إذا تتبعنا طرق الحديث ورواياته تبين لنا أن الصحيح متواتر، وتبين لنا أن ما فيه ضعف ينجبر، فيتقوى بغيره، وهذا لا بد من العناية به، وقد تنظر أحيانا إلى إسناد بانفراده فتجد أن فيه ضعفاً، ثم بعد ذلك تجد ما يشهد له من نصوص كثيرة.

وهذا الحديث سأورده من خمس روايات عن خمسة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، الرواية المتقدمة كما تقدم معنا صحيحة بنفسها، ورواية أبي سعيد فيها شيء من ناحية وجود عطية العوفي ، لكن يشهد لها ما تقدم وما سيأتي، الرواية الثالثة لهذا الحديث رواها الإمام أحمد في المسند، والإمام الطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع في المكان المتقدم في الجزء الثامن صفحة خمس وخمسين ومائة، وهذه الرواية من رواية الأشعث بن قيس ، وفي إسنادها مجالد بن سعيد ، قال الإمام الهيثمي : ضعيف وقد وثق، ومجالد هو من رجال مسلم والسنن الأربعة، تغير حفظه في آخر عمره، وحديثه إن شاء الله في درجة الحسن، وهو كما قلت من رجال /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 172