مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وكنا نتدارس الأمر الأول منها ألا وهو النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه في خَلقه وخُلقه عليه صلوات الله وسلامه، وقد مر الكلام على الشق الأول من هذا الأمر الأول ألا وهو النظر إلى حال النبي عليه الصلاة والسلام في خلقه، وبينت أن الله جعل أنبياءه ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه أتم الخلق خلقاً، وأحسن الخلق خلقاً، فخلقهم أجمل خلقٍ، وأبهى خلق على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وهكذا خُلقهم عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فهم أحسن الناس أخلاقاً، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو أفضلهم في ذلك عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

وقلت: إخوتي الكرام! سنتدارس خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا الخلق قلت: إما أن يكون مع الحق، وإما أن يكون مع الخلق، أما خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع ربه فقلت: سأختم به الكلام على خلقه عليه صلوات الله وسلامه، وأما خلقه مع الخلق فينقسم إلى عدة أقسامٍ: أولها: خلقه مع أهله في بيته عليه صلوات الله وسلامه، خلقه مع أصحابه وأمته، خلقه مع الملائكة الكرام عليه وعليهم جميعاً الصلاة والسلام، خلقه مع أعدائه من شياطين الإنس والجن، خلقه مع الحيوانات العجماوات ومع الجمادات، لا بد من بيان خلق نبينا عليه الصلاة والسلام، وكيفية معاملته مع هذه الأشياء حتى يظهر خلقه عليه الصلاة والسلام على وجه التمام بصورةٍ مصغرة، وإلا فإن الكلام على خلقه كما ينبغي لا يمكن الإحاطة به، فيكفي أن خلقه القرآن، وإذا كان البشر ليس في وسعهم أن يحيطوا بمعاني القرآن، فليس في وسع أحدٍ أن يحيط بأخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن بالكلام على هذه الأمور يصبح عندنا صورةٌ واضحةٌ عن خلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ويستنبط الإنسان بعد ذلك منها دلالةً واضحةً على أنه رسول الله حقاً وصدقاً عليه صلوات الله وسلامه.

أول هذه الأمور وهو ما بدأنا في مدارسته في الموعظة الماضية: خلقه مع أهله عليه صلوات الله وسلامه، وقلت: ينبغي أن يحدد عدة أمورٍ في هذا الأمر فيما يتعلق بمسكنه عليه صلوات الله وسلامه، وبأساس ذلك المسكن الذي كان يستعمله هو وأهله عليه صلوات الله وسلامه، وبالطعام الذي كان يتناول في ذلك المسكن على نبينا صلوات الله وسلامه، وفي معاملته بعد ذلك مع نسائه عليه وعليهن صلوات الله وسلامه، هذه الأمور الأربعة كلها تدخل تحت الأمر الأول ألا وهو معاملته وخلقه مع أهله عليه صلوات الله وسلامه، ولا بد -كما قلت- من الكلام على المسكن والأثاث والطعام؛ لأنها مقدماتٌ لخلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع زوجاته الكريمات عليه وعليهن صلوات الله وسلامه.

وبينت -إخوتي الكرام- في الموعظة الماضية ما يتعلق بمسكن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وكيف كان ذلك المسكن في منتهى التواضع، ولكل زوجةٍ من أمهاتنا أزواج نبينا عليه وعليهن صلوات الله وسلامه لكل واحدةٍ حجرة، لكن تلك الحجر تقدم معنا وصفها لو قام الإنسان لنال السقف بيده، ولو مد رجليه لنال الجدار من أي جهةٍ كانت، ثم هي من جريد نخلٍ كسي وطلي بطين، هذه هي حجر خاتم النبيين عليه صلوات الله وسلامه، ولذلك تقدم معنا أنه عندما ضمت الحجر إلى المسجد -وكان ذلك في سنة ثمانٍ وثمانين- حزن أهل البيت الطيبون الطاهرون، وهكذا من كان حاضراً من الصحابة، وهكذا التابعون، وقلت: حصل في المدينة ضجةٌ ورجةٌ وشدةٌ تشبه الضجة والرجة التي حصلت عند موت النبي عليه الصلاة والسلام، فبكوا بكاءً كثيراً عندما ضمت هذه الحجر إلى المسجد؛ لأن معالم بيوت النبي عليه الصلاة والسلام ذهبت، وكان يتمنى سلفنا أن يطلع المتأخرون على بيوت النبي عليه الصلاة والسلام، ليعلموا أنه ما كان كـفرعون وهامان وقارون ، على نبينا صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! قلت: وذلك المسكن، وهكذا ما حصل فيه من أثاث كما سيأتينا وصفه، ومن طعامٍ جوع يومٍ وشبع يوم، ثم معاملةٌ طيبةٌ، ما حصل في ذلك المسكن بتلك الصفات، قلت: هذا من باب الاختيار من خير المخلوقات عليه الصلاة والسلام، فما كان الدافع له -كما تقدم معنا- قلةٌ وفقر، فقد أعطاه الله من الغنى وكان ينفقه على غيره عليه صلوات الله وسلامه، وما كان ذلك أيضاً من باب الضن والبخل، إنما تعامل مع الدنيا بما يليق بها، فهي دار ممر وليست بدار مقر.

فأعقل الناس فيها العباد وأكيس الناس فيها هم الزهاد

وأكيس الناس وأعقل الورى هم الذين زهدوا فيما ترى

إذ نبذوا الدنيا لعلمهم بها ورغبوا في أختها لقربها.

إخوتي الكرام! وهذا البناء الذي يبنيه الإنسان في هذه الحياة لا يؤجر على ما يضع فيه من نفقةٍ إذا زاد ذلك البناء عن مقدار الضرورة والحاجة، فالعبد يؤجر على نفقته كلها إلا ما يجعله في التراب، والبناء إذا زاد عن مقدار الحاجة فهو وبالٌ على الإنسان، وإذا أراد الله بالعبد شراً وهلاكاً خبر له باللبن والطين، أي: زين له أن يبني وأن يجمل بيته وأن يحسنه، وسيأتينا -إخوتي الكرام- تقرير هذا بأدلته إن شاء الله بعد الانتهاء من بيان ما يتعلق بالأمر الأول بمسكن النبي عليه الصلاة والسلام وأساسه وطعامه، ومعاملته لأهله في ذلك المسكن على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه.

أنتقل بعد ذلك إلى بيان هدي الإسلام في البناء، وأفرد لذلك موعظة لنعرف وضعنا في هذه الحياة، وإلى أين نسير، وأذكر ما يدل على هذه الأمور التي ذكرتها: أن العبد يؤجر في نفقته كلها إلا في التراب، وإذا زاد البناء عن مقدار الحاجة فهو وبالٌ على صاحبه، وإذا أراد الله بعبدٍ شراً خبر له في اللبن والطين، حتى يبني وحتى يشيد ويزخرف وينجد. سوف يأتينا تقرير هذا بأدلةٍ صحيحةٍ عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وأبين هدي الإسلام في البناء -إن شاء الله- بعد الانتهاء من هذا الأمر الأول بإذن الله، إنما أريد أن يرسخ في أذهاننا هنا أن نبينا عليه صلوات الله وسلامه عندما كان يقتصر على ذلك المسكن المتواضع، وعلى ما فيه من أثاث قليلٍ، وعلى طعامٍ يسير عليه صلوات الله وسلامه، كان يختار ذلك لا لأنه لا يملك، لا لأن الدافع له قلةٌ وفقر، ولا لأن الدافع ضن وبخل، فهو أكرم خلق الله، وما عرفت البشرية أكرم من نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وما شهدت الحياة أكرم من خير المخلوقات نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وكنت قررت هذا ببعض الأدلة في أول الموعظة الماضية.

بما أننا في شهر الجود والكرم أحب أن أذكر شيئاً من كرم النبي عليه الصلاة والسلام في بدء هذه الموعظة قبل أن ننتقل إلى بيان أثاثه؛ ليظهر لنا جلياً واضحاً أن الدافع لذلك ما كان بسبب قلةٍ وفقر، ولا بسبب ضنٍ وبخل على نبينا صلوات الله وسلامه، فاسمع لجوده عليه صلوات الله وسلامه.

حديث جابر: (ما سئل رسول الله شيئاً قط فقال لا)

ثبت في المسند والصحيحين، والحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة، ورواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وهو في أعلى درجات الصحة، من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا)، وفي بعض الروايات: (ما سئل عن شيءٍ قط فقال: لا)، عليه صلوات الله وسلامه، كلمة (لا) لا تصدر من فمه عليه صلوات الله وسلامه، إن كان عنده بذل وإلا سكت، أما أن يقول: لا، فلا يطاوعه لسانه أن يرد السائل بكلمة: لا، فإذا سكت يعلم السائل أن النبي عليه الصلاة والسلام ليس عنده ما يعطيه فيذهب، قال الإمام العز بن عبد السلام عليه وعلى أئمتنا رحمات ذي الجلال والإكرام: ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا) منعاً، وقد يقولها اعتذاراً ليعتذر، ثم استدل بقول الله جل وعلا في سورة التوبة: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:91-93].

يقول العز بن عبد السلام : لم يقل: (لا) امتناعاً، منعاً، أي: عنده ويمتنع، إنما قد يقولها اعتذاراً كما قال: لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ولكن هذا الجواب مع وجاهته من هذا الإمام المبارك غير مسلمٍ وغير دقيق، ولفظ الحديث عامٌ، أما الآية فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا أجد ما أحملكم عليه)، ولم يقل: لا أحملكم، وبين اللفظين من الفرق كما بين السماء والأرض، فقد أتوا يطلبون مركباً للجهاد في سبيل الله فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه)، فهذا ليس فيه لسؤالهم رداً لجوابهم بلا، إنما كأنه يقول: رب أنت تعلم حالي، فليس عندي ما أحملكم عليه، فشتان بين قوله: (لا أجد ما أحملكم)، وبين قوله: لا أحملكم، فما قال: (لا) عليه صلوات وسلامه قط، وما سأله سائلٌ فأجابه: بلا، إن كان عنده أعطاه، وإلا سكت، وقد يقول بعد ذلك لبيان عذره: لا أجد، لا أجد ما طلبته، ونحو ذلك، وهذا الذي ذكرته هو كلام الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله، قاله في الرد على العز بن عبد السلام ، قال: إن قوله غير مسلم، فبين الصيغتين من الفرق ما لا يخفى، ولا يجوز الاستدلال بقول الله: لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة:92]، على أنه يقول (لا) من باب الاعتذار، لا من باب المنع، فإنه لا يقول (لا) اعتذاراً ولا منعاً.

حديث أنس: (ما سئل رسول الله على الإسلام شيئاً إلا أعطاه...)

واستمع لنماذج من جوده عليه صلوات الله وسلامه، ثبت في المسند وصحيح مسلم ، والحديث من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فذهب هذا الرجل إلى قومه فقال: يا قوم! أسلموا فإن محمداً عليه صلوات الله وسلامه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر)، عندما كانت تأتيه الغنائم عليه صلوات الله وسلامه يوزعها ويحرم نفسه منها، بيت النبوة عليه صلوات الله وسلامه ينبغي أن يكون بعيداً عن الدنيا؛ لئلا يكون في ذلك شبهة لمشتبه أن يقال: أراد النبي عليه الصلاة والسلام بدعوته أن يملأ بطنه، وأن يبني بيته، بل لسان حاله: نحن في بيتنا نجوع يوماً ونشبع يوماً.

يعطي غنماً ما بين جبلين، وهو بعد ذلك حجره في تلك الصورة عليه صلوات الله وسلامه، فما كان يفعل ذلك لفقرٍ وقلة، ولا لضن وبخل عليه صلوات الله وسلامه، إنما كان يفعله معاملةً مع الدنيا بما يليق بحالها، فهذه دار ممر، وحالنا فيها كمسافرٍ استظل تحت شجرة ثم راح وتركها، فعلام الركون إلى هذه الدار التي سنفارقها شئنا أم أبينا؟ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

قال أنس رضي الله عنه كما في المسند وصحيح مسلم في الرواية المتقدمة: وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. يأتي ليسلم من أجل دنيا يطلبها من النبي عليه الصلاة والسلام، فيعطيه ويتألفه النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يرده، فدخل من أجل دنيا، فما يلبث إلا يسيراً فيرى خلق النبي عليه الصلاة والسلام، يرى إمامه، وقدوته، وبركته عليه صلوات الله وسلامه، وزهده، ورغبته عن الدنيا، وحال الصحابة معه، فيكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها وما عليها، مع أنه أسلم من أجل متاعها، ثم بدأ يعطي الدنيا وما يملك منها تقرباً إلى الله جل وعلا، جاء من أجل دنيا فلما جاء بدأ يجود بالدنيا اقتداءً بنبيه عليه صلوات الله وسلامه، هذا جود النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا كرمه، وتلك حجره عليه صلوات الله وسلامه.

حديث سهل بن سعد في قصة الرجل الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم بردته فأعطاه إياها

واستمع لهذه القصة التي هي في صحيح البخاري وغيره: يجود بثوبه الذي يلبسه عليه صلوات الله وسلامه، ثوبه الذي يلبسه إن طلبه أحد نزعه وأعطاه إياه، وحقيقة الطلب محرج غاية الحرج، أن يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام ثوبه الذي يلبسه وما يملك غيره، ثم ذلك الثوب أهدي إليه ولا يملك غيره، لكن هناك علةٌ معتبرةٌ من الطالب، والأعمال بالنيات.

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري ، والحديث في سنن ابن ماجه ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ( جاءت امرأةٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام ببردةٍ منسوجةٍ فيها حاشيتها )، والحاشية هي طرف الثوب، وقيل: طرفه الذي فيه الهدب، يعني الخيوط المدلاة التي تكون للشيء عندما يكون جديداً، قبل أن تقطع ويلبس، لا زالت منسوجة جديدة، نسجتها هذه المرأة رضي الله عنها وأرضاها، فقالت: ( نسجتها بيدي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكسوكها فقال: نعم، فأخذها عليه الصلاة والسلام محتاجاً إليها )، في واقع الأمر هو بحاجة إلى شيءٍ يلبسه في ذلك الوقت عليه صلوات الله وسلامه، قال: ( فخرج إلينا، وإنها إزاره )، لبسها وخرج إلى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ( فقال رجلٌ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما أحسن هذه -يعني البردة- فاكسنيها )، يعني أعطني إياها من أجل أن ألبسها، ( فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، سأكسوك إياها. فلما قام النبي عليه الصلاة والسلام قام إلى حجرته ونزعها وأعطاه إياها فلامه الصحابة الكرام، وقالوا له: ما أحسنت -أي: في كلامك وسؤالك وطلبك- لبسها النبي عليه الصلاة والسلام محتاجاً إليها، ثم سألته، وقد علمت أنه لا يرد سائلاً )، أنت تعلم أنه لا يرد، لو سألته إزاره أو قميصه يعطيك، ولا يرد سائلاً، أنت ما أحسنت في طلبك، وفي روايةٍ: (قد علمت أنه لا يسأل شيئاً فيمنعه)، فكيف تسأله هذه البردة التي هو محتاجٌ إليها؟! على نبينا صلوات الله وسلامه، فقال هذا الصحابي: (رجوت بركتها)، أحين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم، فما أريدها من أجل أنها بردة، أريد أن أتبرك فيها فقط، وبركة في أي وقت؟ قال: ( رجوت بركتها لعلي أكفن فيها، والله ما سألته لألبسها، بل لتكون كفني بعد وفاتي، قال سهل : فكانت كفنه )، فهنيئاً له، وقد بوب الإمام البخاري على هذا الحديث في كتاب الجنائز باباً فقال: من استعد للكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فهذا استعد للكفن وقال: أريد أن أكفن فيها فما أنكر عليه، وعليه لو أن إنساناً اقتنى كفناً وقال: إذا مت فكفنوني في هذا، ثم هذا الكفن أخرجه ما بين الحين والحين يصلي فيه، يسجد عليه، يجلس عليه ويقرأ القرآن ليكون فيه هذه البركة، فلا حرج، كما هو ثابت في صحيح البخاري ، وبوب عليه البخاري أيضاً في كتاب الأدب فقال: باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل، وذكره في كتاب البيوع في باب ذكر النساج، أي: أن النساجة مشروعة استنباطاً من قول المرأة: هذه نسجتها لك، ويجوز للإنسان أن يبيع ما ينسجه بعد ذلك، وعليه فقد أورده في ثلاثة مواضع من كتابه.

وهذا الرجل قال الحافظ ابن حجر : لم أقف على تسميته رضي الله عنه وأرضاه.

ثبت في المسند والصحيحين، والحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة، ورواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وهو في أعلى درجات الصحة، من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا)، وفي بعض الروايات: (ما سئل عن شيءٍ قط فقال: لا)، عليه صلوات الله وسلامه، كلمة (لا) لا تصدر من فمه عليه صلوات الله وسلامه، إن كان عنده بذل وإلا سكت، أما أن يقول: لا، فلا يطاوعه لسانه أن يرد السائل بكلمة: لا، فإذا سكت يعلم السائل أن النبي عليه الصلاة والسلام ليس عنده ما يعطيه فيذهب، قال الإمام العز بن عبد السلام عليه وعلى أئمتنا رحمات ذي الجلال والإكرام: ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا) منعاً، وقد يقولها اعتذاراً ليعتذر، ثم استدل بقول الله جل وعلا في سورة التوبة: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:91-93].

يقول العز بن عبد السلام : لم يقل: (لا) امتناعاً، منعاً، أي: عنده ويمتنع، إنما قد يقولها اعتذاراً كما قال: لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ولكن هذا الجواب مع وجاهته من هذا الإمام المبارك غير مسلمٍ وغير دقيق، ولفظ الحديث عامٌ، أما الآية فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا أجد ما أحملكم عليه)، ولم يقل: لا أحملكم، وبين اللفظين من الفرق كما بين السماء والأرض، فقد أتوا يطلبون مركباً للجهاد في سبيل الله فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه)، فهذا ليس فيه لسؤالهم رداً لجوابهم بلا، إنما كأنه يقول: رب أنت تعلم حالي، فليس عندي ما أحملكم عليه، فشتان بين قوله: (لا أجد ما أحملكم)، وبين قوله: لا أحملكم، فما قال: (لا) عليه صلوات وسلامه قط، وما سأله سائلٌ فأجابه: بلا، إن كان عنده أعطاه، وإلا سكت، وقد يقول بعد ذلك لبيان عذره: لا أجد، لا أجد ما طلبته، ونحو ذلك، وهذا الذي ذكرته هو كلام الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله، قاله في الرد على العز بن عبد السلام ، قال: إن قوله غير مسلم، فبين الصيغتين من الفرق ما لا يخفى، ولا يجوز الاستدلال بقول الله: لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة:92]، على أنه يقول (لا) من باب الاعتذار، لا من باب المنع، فإنه لا يقول (لا) اعتذاراً ولا منعاً.