مباحث النبوة - ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس مقاصد النكاح الخمسة، وقد مر الكلام على أربعة منها وشرعنا في مدارسة الخامس، وأعيدها على سبيل الإجمال ثم أكمل شرح ما وصلنا عنده إن شاء الله.

أول هذه المقاصد: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية حسية كانت أو معنوية.

وثانيها: إيجاد الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية.

وثالثها: تحصيل الأجر للزوجين عن طريق حسن عشرة كل منهما لصاحبه ولمساعدته لزوجه.

ورابع المقاصد: تذكر لذة الآخرة.

وخامسها وهو الذي كنا نتدارسه: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل زوجته وقرابته.

إخوتي الكرام! كنت أذكر على الأمر الخامس بخمس آيات من كلام رب الأرض والسموات، ذكرت الآية الأولى من سورة الذاريات: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] ، وقلت: في هذه الآية يبين الله جل وعلا أن كل فرد منا بحاجة إلى الفرد الآخر الذي يزاوجه، كما قرر الله جل وعلا هذا في سورة الروم فقال: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21] .

فكل فرد يأوي بعد ذلك إلى صاحبه وزوجه وإلى قريب مما أحل الله الاجتماع عليه بين الذكر والأنثى، فيحصل الود والرحمة، ثم بعد ذلك عندما يجتمعا يحصل الصهر بينهما على أتم ما يكون، وهذا ما أشارت إليه آية الفرقان: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:54].

وتقدم معنا إخوتي الكرام ضمن معاني هذه الآية أن النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، والصهر جامع للقرابات من طرف الزوجين، فأقرباء الزوجة بالنسبة للزوج يقال لهم: أصهار، وأقرباء الزوج بالنسبة للزوجة ولأهل الزوجة يقال لهم: أصهار، أما الأختان فهذا خاص بالقرابات من جهة المرأة، وأما الأحماء فهذا خاص بالقرابات من جهة الزوج.

قال الإمام الماوردي : سميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها كما يختلط الشيء إذا صهر، وهنا اختلط هذان الزوجان وهاتان الأسرتان ببعضهما عن طريق هذا الرباط الشريف المحكم الذي عقده الله بينهما، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:54]، وهذه آخر الآيات الثلاث التي تكلمت عليها في الموعظة الماضية.

وبقي معنا آيتان كما قلت: آية من سورة النحل، والآية الثانية من سورة النور نتدارسهما في هذه الموعظة بإذن العزيز الغفور، وفي هذه الآيات تقرير لما قلت: أن كل زوج يرتبط بزوجه وبأهل زوجه وقراباته، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات:49]، فيرتفق بزوجه يأوي إليه ويسكن إليه، ثم بعد ذلك يحصل الصهر بينهما عن طريق المصاهرة، ويحصل هذا الامتزاج والاختلاط، ولذلك قلت إخوتي الكرام: الزوجان اثنان في الصورة وواحد في الحقيقة، حصل الصهر بينهما: نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:54]، فسبحان الملك الوهاب الذي خلق أصل الإنس من تراب، وهو أبونا آدم على نبينا عليه الصلاة والسلام، وخلق منه زوجه بلا ارتياب: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، وفي ذلك عبرة لأولي الألباب، ثم ربط الله بينهم بأعظم الوشائج والأسباب عن طريق المصاهرة والأنساب، إنه كريم وهاب سبحانه وتعالى.

ثم الآية الرابعة إخوتي الكرام مر الكلام عليها ضمن الثمرة الثانية من ثمرات النكاح والمقصد الثاني من مقاصده، ألا وهي: إيجاد الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية.

الآية الثانية كنت ذكرت الكلام عليها عند تلك الثمرة وذلك المقصد، وهي في سورة النحل، وفيها يقول ربنا عز وجل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72].

انظر لهذا الامتنان وهذه المنة في سورة النعم (سورة النحل) كما ورد تسميتها بسورة النعم عن قتادة في تفسير ابن أبي حاتم ، انظر لهذه المنة: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72]، فهذا الفرد يأوي بعد ذلك إلى هذا الزوج، وكل منهما يأنس بصاحبه ويستريح إليه، ثم بعد ذلك جعل من هذا الزواج مغانم يرتفق بها الزوجان، يستعينان بها في هذه الحياة وبعد الممات، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ [النحل:72]، وتقدم معنا الفوائد في إيجاد الذرية عند المقصد الثاني من مقاصد النكاح، وقلت في ذلك فوائد متعددة؛ أولها: السعي في إبقاء جنس البشر المكلفين لعبادة رب العالمين. والأمر الثاني: إقرار عين نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام بكثرة أمته وأتباعه عليه الصلاة والسلام.

والأمر الثالث: الانتفاع بالولد إن عاش عن طريق مساعدته في هذه الحياة، وتقوي الظهر به، وعن طريق الانتفاع بدعائه أيضاً في الآخرة، فتنتفع بالولد إن عاش عن طريق المنافع الدنيوية، وعن طريق المنافع الأخروية.

ورابع الثمرات من الولد كما تقدم معنا: الانتفاع بالولد إن مات، وتقدم معنا إن مات صغيراً أو كبيراً ماذا يحصله الإنسان من الأجر عند فقد ولده.

وآخر هذه الأمور: تحصيل الأجور الكثيرة عن طريق تربية الأولاد والنفقة عليهم وهي -كما قلت- خمسة خيرات يحصلها العباد من الأولاد: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72] ، والحفدة تقدم معنا أن أقوال أئمتنا في بيان المراد بهم ستة أقوال، قلت: كلها حق مقبول يمكن أن تدخل في هذه الآية:

المعنى الأول: المراد بالحفدة البنات، وإنما عبر عن البنات بلفظ الحفدة لأنها من: حفد يحفد حفداً، وحفداناً واحتفد، إذا خف في الخدمة وأسرع، فهو خادم لكن بسرعة ونشاط، وعبر الله عن البنات بهذا اللفظ لسرعة الخدمة فيهن، فلا أنس في البيت إذا لم تكن فيه أنثى تخدم هذا البيت، وترتبه وتنظفه وتجمله، (بنين وحفدة)، هذا المعنى الأول لهذا اللفظ.

والمعنى الثاني: أن المراد من الحفدة هم البنون، وقلت: نزل تعدد وتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات، فعطف الله الحفدة على البنين، والحفدة هم البنون، لكن لما كان في البنين صفتان مختلفتان صفة بنوة يتقوى بها الإنسان في هذه الحياة يشد ظهره ويشتد ظهره، ثم صفة أخرى: أن هؤلاء يخدمونه، فإذاً هو ابن قرة عين، وهو أيضاً خادم.

وقلت: عند هذا القول يدخل فيه قولان يبقى ضمن القول الثاني المراد من الحفدة قيل: الأولاد الكبار؛ لأن الخدمة فيهم أقوى، وقيل: الأولاد الصغار، فالبنون هم مطلق الأولاد الذكور، والحفدة الأولاد الصغار؛ لأن الخدمة فيهم أسرع، ذاك أقوى، وهذا أسرع.

والمعنى الثالث: أولاد الأولاد؛ لأنه بسبب الأزواج، أيضاً يخدمونك كما يخدمك أولادك وهكذا أولاد أولادك.

المعنى الرابع: والحفدة هم أولاد المرأة من زوج آخر، فهم يخدمونك لأنك زوج أمهم، وهم بمثابة أولادك، فتنتفع بهم وترتفق بهم في هذه الحياة.

والمعنى الخامس: المراد الأختان وهم القرابات من جهة الزوجة، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72]، بنين تنجبهم هذه الزوجة لك، وأيضاً قرابات ليساعدوك وتأنس بهم، وتستعين بهم بعد الله جل وعلا في هذه الحياة، وهم أهل الزوجة، وقلت: إن لفظ الأختان يتوسع به أيضاً في الاستعمال فيطلق على القرابات من الزوجين، وإن كان في الأصل على القرابات من جهة الزوجة، وقلت: سبب تسميتهم أختاناً: أن الصلة بيننا وبينهم بسبب التقاء الختانين.

والمعنى السادس: المراد من الحفدة: الخدم والأعوان، وعليه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ [النحل:72] ، على القول الخامس والسادس: وجعل لكم أيضاً بسبب أزواجكم أختاناً يساعدونكم، وجعل لكم أيضاً من يخدمكم في هذه الآية من الخدم والأعوان وإن لم يكونوا بسبب الزوجة، وهذا من جملة نعم الله على عباده.

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72]، إخوتي الكرام! تقدم معنا الكلام على هذه الآية الكريمة، وفيها تقرير لهذا المقصد الخامس من مقاصد النكاح، ألا وهو ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهله وقرابته، فهنا تحصل من هذه الزوجة الأولاد، والزوجة تساعدك، وأهلها يساعدونك، وأنت تساعدها، وأهلك أيضاً يساعدونها ويساعدون أهلها، ويحدث ارتباط بين هذا العالم عن طريق النكاح الذي أحله الله جل وعلا.

خامس الآيات إخوتي الكرام وسأختم الكلام بها على هذه الثمرة الخامسة وهذا المقصد الخامس، وهي من سورة النور، وفيها يقول ربنا العزيز الغفور: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] .

النكاح كما قلت سبب لارتفاق كل من الزوجين بصاحبه، وسيأتينا أن من أسباب الغنى النكاح، وسبب كون النكاح سبباً للغنى له عدة اعتبارات سأقررها ضمن عشرة اعتبارات: أن المتزوج يحصل يساراً وغنىً وفضلاً، من جملة هذه الأسباب أنه يكون عن طريق غنى زوجتك، عن طريق غنى أهلها، وكم من إنسان فقير يتزوج من أسرة غنية فيصبح من الأغنياء الكبار، وهم يرون أن صهرهم بحاجة، وليس من المروءة أن يتركوا صهرهم بلا مساعدة، وكم من إنسان غني يتزوج من أسرة فقيرة، فيصبح الغنى في تلك الأسرة الفقيرة بسبب هذا الزواج المبارك لهذا الصهر الطيب المبارك، إذاً هذا كما قلت يحصل فيه ارتفاق: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].

معنى النكاح في اللغة والاصطلاح

قبل أن أقرر الشاهد من الآية وأن الآية فيها عدة كريمة من رب كريم لإغناء المتزوجين والله خير الرازقين، يحسن بنا أن نقف وقفةً يسيرةً عند مفردات الآية ومعانيها لننتقل بعد ذلك إلى بيان المقصود منها ضمن بحثنا إن شاء الله.

اللفظ الأول إخوتي الكرام: وَأَنكِحُوا [النور:32] لفظ النكاح معناه في اللغة بمعنى: الجمع والضم، جمع وضم، ومنه قول القائل:

ضممت إلى صدري معطر صدرها كما نكحت أم الغلام صبيها

معنى نكحت: جمعت وضمت، التي عندها غلام تريد أن ترضعه تضمه وتلتزمه إليها، فهذا معنى النكاح: الضم والجمع.

ضممت إلى صدر معطر صدرها: عن طريق الالتقاء بين الزوجين الذي أحله الله، ثم قال: هذا الضم يكون كما تضم أم الغلام صبيها ووليدها، فمعنى (نكحت) هنا ضمت وجمعت، هذا معنى النكاح في اللغة.

وأما المراد منه في الاصطلاح فلأئمتنا في ذلك ثلاثة أقوال:

قول الحنفية في معنى النكاح في الشرع

القول الأول: ذهب إليه السادة الحنفية، كما في الفتح القدير للإمام الكمال بن الهمام (3/185): النكاح عندنا بمعنى الوطء، ويطلق على العقد مجازاً، لكن عندنا في الاصطلاح النكاح معناه: الوطء، وهذا قرره أئمتنا أيضاً بأدلة كثيرة واستعمل في كلام العرب، يقول بعض الشعراء في هجو فرقة من الناس سفهاء:

التاركين على طهر نساءهم والناكحين بشطي دجلة البقرة

أي: نساؤهم طاهرات ليس فيهن آفة، ويتركون نساءهم ثم يفعلون الرذيلة مع البقر، فهنا المراد من النكاح الوطء.

يقول: هذا النكاح يأتي بمعنى الوطء، وقد غلطهم الزجاج في ذلك على زعمه وقال: ما جاء النكاح بمعنى الوطء في الكتاب ولا في السنة ولا في لسان العرب، وهو من أئمة اللغة لكنه واهم في الأمور الثلاثة، جاء النكاح بمعنى الوطء في كتاب الله عز وجل، فالله يقول في سورة البقرة في قصة المطلقة إذا طلقت في المرة الثالثة: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] ، ثم قال الله جل وعلا: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] ، ما المراد بالنكاح العقد أم الوطء؟ الوطء قطعاً وجزماً، وعقد الثاني عليها لا يحلها للأول إذا طلقها بعد العقد حتى يدخل بها، وحتى يباشرها كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد والصحيحين، والحديث رواه الإمام النسائي والترمذي وابن ماجه ، ورواه الإمام الطبري في تفسيره، وعبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة في مصنفه، ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى، وفي غير ذلك من دواوين السنة، والحديث في أعلى درجات الصحة، فهو في الصحيحين من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها في قصة الصحابية الجليلة زوجة رفاعة القرظي ، عندما طلقها زوجها رفاعة القرظي ثلاث، وبانت منه، وتزوجها عبد الرحمن بن الزبير ، وجاءت تشكو حاله إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، وأنها لا تريد أن تبقى مع زوجها الثاني، قال: ( لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك )، فقوله: (حتى تنكح زوجاً غيره) المراد منه الوطء، وهذا باتفاق أئمتنا، وما أعلم أحداً من المسلمين خالف في هذا إلا سعيد بن المسيب عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقال أئمتنا: لعل الأثر لم يبلغه مع أنه أعلم التابعين بمسائل النكاح والطلاق، وقال: عقد الثاني على المطلقة ثلاثاً يحلها للأول إذا طلقها وإن لم يدخل بها، وكما قلت: هذا يصادم الدليل الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة.

إخوتي الكرام! وهذا الذي ذكرته لكم عن الإمام سعيد بن المسيب عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كنت قرأته من فترة طويلة في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة ربنا، ينقله عن الإمام سعيد بن المسيب ويلتمس العذر له في أنه لم يبلغه الدليل، وقد قرر أئمتنا هذا في كتب الفقه وبينوا أنه لم يأخذ بقول سعيد أحد من أئمتنا الكرام.

يقول الإمام ابن قدامة في المغني (8/471): ولا خلاف بينهم في أن المطلقة ثلاثاً بعد الدخول لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، لقول الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] ، ثم ذكر الأحاديث في ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام في ذوق العسيلة، ثم قال: وفي إجماع أهل العلم على هذا غنية عن الإطالة فيه، وجمهور أهل العلم على أنها لا تحل للأول حتى يطأها الزوج الثاني وطئاً يوجد فيه التقاء الختانين، إلا أن سعيد بن المسيب من بينهم قال: إذا تزوجها زواجاً صحيحاً لا يريد به تحليلاً فلا بأس أن يتزوجها الأول، قال الإمام ابن المنذر : لا نعلم أحداً من أهل العلم قال بقول سعيد بن المسيب هذا إلا الخوارج، أخذوا بظاهر قوله سبحانه وتعالى: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، ومع تصريح النبي صلى الله عليه وسلم ببيان المراد من كتاب الله تعالى، وأنها لا تحل للأول حتى يذوق الثاني عسيلتها وتذوق عسيلته، لا يعرج على شيء سواه، ولا يسوغ لأحد المصير إلى غيره مع ما عليه جملة أهل العلم منهم علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وممن بعدهم مسروق والزهري ومالك وأهل المدينة والثوري وأصحاب الرأي والأوزاعي وأهل الشام والشافعي وأبو عبيد وغيرهم رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

وهذا الحديث إخوتي الكرام صحيح مروي عن عدة من الصحابة الكرام، مروي عن أنس وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم، انظروا الروايات المفصلة في ذلك في الدر المنثور (1/283)، فهذا شاهد من كتاب الله إلا على أن النكاح بمعنى الوطء، وهذا ثابت أيضاً في سنة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام.

وتقدم معنا إخوتي الكرام حديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر كنت ذكرته عند معاشرة نبينا عليه الصلاة والسلام لنسائه، كيف كان يعاشرهن عليه الصلاة والسلام ويقترب منهن في حال حيضهن، وقلت: إنه في المسند والكتب الستة إلا صحيح البخاري ، فهو في صحيح مسلم والسنن الأربع، ورواه أبو داود الطيالسي والبيهقي في السنن الكبرى من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها، يعني في البيوت )، و(يجامعوها) المراد منه يجتمع معها ويسكن معها، إنما كانوا يعزلونها عنهم، فلا يسكنون معها في حجرة واحدة، فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، ما المراد بالنكاح؟ الوطء، الوطء ليس المرد منه العقد.

( اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فقام أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين فقالوا: يا رسول الله عليه الصلاة والسلام أفلا نجامعهن؟ يعني نكايةً في اليهود، هم يبتعدون عن الحائض ابتعاداً تاماً ونحن نصنع كل شيء إلا النكاح، حتى النكاح وهو الوطء نفعله نكاية في اليهود لنخالفهم مخالفةً تامة؟ فتغير وجه النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجبهما بشيء، وسكت عنهما فظنا أنه وجد عليهما، فخرجا ليطيب خاطر النبي عليه الصلاة والسلام ثم يسترضيانه بعد ذلك، فجاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام هدية من لبن فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعلما أنه عليه الصلاة والسلام لم يتأثر منهما ولم يجد في قلبه عليهما ).

الشاهد هنا: ( أفلا نجامعهن؟ )، وهنا: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) المراد منه الوطء.

وثبت هذا في لسان العرب كما تقدم من الشعر، وقال بأن النكاح بمعنى الوطء جم غفير من سلفنا، وفي مقدمتهم سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وهو عربي قح، فعندنا يفسر النكاح بالوطء، هذا دليل على أن هذا اللفظ مستعمل في لغة العرب، رواه عنه الإمام الثوري في تفسيره بسند صحيح كما قال الإمام ابن كثير في تفسيره (3/362)، وروي هذا التفسير في الآية التي سأذكرها عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ، والضحاك ومكحول وعن غيرهم من أئمة التابعين، ويقول هؤلاء: إن النكاح بمعنى الوطء لقول الله جل وعلا في أوائل سورة النور: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] ، فسر عبد الله بن عباس رضي الله عنهم ومن معهم من التابعين النكاح هنا بمعنى الوطء، وعليه الآية ليس معناها معنى التزويج.

لا ينكحها: يعني لا يطؤها، وليس المراد لا يتزوجها على هذا التفسير، لا ينكحها أي: لا يطؤها، أي: لا يزني بها إلا خبيث مثلها زانٍ أو مشرك لا يرى تحريم الزنا، وهذا أحد القولين في تفسير الآية، وقيل: إن النكاح هنا بمعنى عقد التزويج، وذهب شيخنا إلى إعمال المعنيين في هذه الكريمة وليس هذا محل بسط ذلك.

وخلاصة القول في ذلك إخوتي الكرام: أن ما ورد من آثار في سبب نزول هذه الآية الكريمة: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، تفيد أن النكاح هنا بمعنى عقد التزويج، كما ثبت ذلك في سنن الترمذي وحسنه، والحديث رواه أبو داود والإمام النسائي والبيهقي وابن المنذر والحاكم في المستدرك من رواية عمرو بن شعيب في قصة مرثد بن أبي مرثد الغنوي عندما أراد أن ينكح عناق وكانت بغية، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] إلى آخر الآية الكريمة، انظروا الأثر إخوتي الكرام في جامع الأصول (2/246) وثبت أيضاً في تفسير ابن جرير ومستدرك الحاكم (2/396)، وصححه وأقره عليه الذهبي أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين، قال: كن نساءً معلومات، فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه فنهوا عن ذلك.

هذه الآثار وما شاكلها تدل على أن المراد من النكاح في الآية بمعنى عقد التزويج، لكن ذكر المشرك والمشركة في الآية لا يلائمه تفسير النكاح بمعنى عقد التزويج؛ لأنه لا يحل للمسلم أن يتزوج المشركة، ولا يحل للمسلمة أن يتزوجها مشرك، ولذلك فسر عبد الله بن عباس ومن معه رضي الله عنهم أجمعين النكاح هنا بمعنى الوطء، قال شيخنا عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة ربنا: هذه الآية الكريمة من أصعب الآيات تحقيقاً، ولا أعلم مخرجاً واضحاً من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسر، وهو أن أصح الأقوال عند الأصوليين وما حرره الإمام ابن تيمية وعزاه لأجلاء علماء المذاهب الأربعة من جواز حمل المشترك على معنييه أو على معانيه المتعددة، فإذا قلت: غدا اللصوص على عين زيد، يصح أن تريد أنهم عوروا عينه الناظرة وغوروا عينه الجارية، وسرقوا ذهبه الذي هو بمعنى العين.

والنكاح أيضاً مشترك بين معنى الوطء وبين عقد التزويج، وعليه نقول: الزاني لا ينكح أي: لا يتزوج إلا زانيةً مثله، وعندما نأتي للفظ المشركة هنا أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] نقول: الزاني لا يطأ وطئاً محرماً إلا مشركةً لا ترى تحريم الزنى، والزانية لا ينكحها أي: لا يتزوجها إلا زان ولا يطؤها بعد ذلك إلا مشرك وطئاً محرماً لا يعتقد تحريم الزنا، وعليه إذا فسرنا النكاح بمعنى الوطء فهذا يكون في حق المشرك والمشركة دون عقد التزويج، وإذا فسرناه بمعنى عقد التزويج فيكون في حق الزانية والزاني من المسلمين، والعلم عند رب العالمين، هذا خلاصة ما قرره شيخنا في أضواء البيان عليه وعلى أئمتنا رحمة ذي الجلال والإكرام.

الشاهد أنه ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير النكاح هنا بمعنى الوطء، وما قاله الحنفية: النكاح بمعنى الوطء في الشرع هذا مستعمل في لغة العرب وفي القرآن وفي سنة نبينا عليه الصلاة والسلام.

مذهب الشافعي في معنى النكاح في الشرع

وذهب الإمام الشافعي إلى عكس هذا القول فقال: إنه حقيقة في العقد مجاز في الوط.

وحقيقةً أكثر آيات القرآن استعمل فيها النكاح بمعنى عقد التزويج، ومنه هذه الآية: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] المراد: زوجوا من ليس له زوجة، والأيم سيأتينا أنه كل من ليس له زوج من أحد الصنفين، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32] أي: زوجوا.

وآيات كثيرة النكاح فيها بمعنى عقد التزويج، ومن تلك النصوص التي فيها استعمال النكاح بمعنى عقد التزويج قول الله جل وعلا في سورة النور التي نتدارس آيةً منها: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، فالمراد من النكاح هنا الذين لا يتيسر لهم أن يتزوجوا ولا أن يعقدوا الزواج الذي أحله الله، وليس المراد منه الوطء.

وهكذا كما تقدم معنا أيضاً إخوتي الكرام من حديث نبينا عليه الصلاة والسلام وهو ثابت في المسند والكتب الستة إلا سنن الترمذي ، ورواه ابن حبان والبيهقي في السنن الكبرى، كما رواه الإمام الدارمي وأبو نعيم في الحلية، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )، فالمراد من تنكح أي: تزوج، والناس يرغبون فيها لهذه الأمور.

وهذا الحديث روي أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين، كما روي مرسلاً من طريق مكحول ويحيى بن جعدة ، وذكرت قصةً طريفةً حوله للإمام سفيان بن عيينة في حلية الأولياء (7/290).

مذهب المالكية والحنابلة في معنى النكاح

ولذلك القول الثالث يجمع القولين وهو قول المالكية والحنابلة قالوا: إنه حقيقة فيهما، فيطلق النكاح على عقد التزويج كما يطلق على الوطء، وعليه فالنكاح يستعمل بمعنى عقد التزويج وبمعنى الوطء أيضاً، وهو حقيقةً فيهما عند هذين المذهبين المباركين: مذهب الإمام مالك ومذهب الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا.

الحنفية قالوا: إن قولنا أقوى من هذا، قالوا: لأنه أصالةً في الوطء، وأطلق على عقد التزويج؛ لأنه يؤدي إلى الوطء، فهو سبب للوطء، فأطلق عليه ما يطلق على ما يترتب عليه وعلى مسببه ألا وهو الوطء، فالعقد سبب للوطء، فلذلك أطلق عليه ذلك.

على كل حال هذه أقوال أئمتنا، والذي يظهر أنه استعمل كما قلت في الكتاب والسنة بالمعنيين، وهذا ما ذهب إليه إمامان من الأئمة الأربعة، وفيه جمع بين القولين أنه يأتي بمعنى عقد التزويج، ويأتي بمعنى الوطء: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، والمراد هنا عقد التزويج الذي يترتب عليه بعد ذلك وطء نافع يخرج عنه أثر شرعي.

معنى (الأيامى) في قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم ...)

اللفظة الثانية: الأَيَامَى [النور:32] جمع أيم، وهو من لا زوج له من الرجال والنساء، فمن ليس عنده زوجة من الرجال زوجوه، من ليس عندها زوج من النساء زوجوها، سواء تزوج قبل ذلك أم لا.

نعم أكثر ما يستعمل لفظ الأيم في حال الفراق بموت أو طلاق، يعني من فارق زوجته أو فارقت زوجها بطلاق أو موت يقال لها: أيم، هذا في الغالب، وهو في النساء أكثر منه في الرجال، لكن لفظ الأيم في اللغة يقال لمن ليس عنده زوج سواء سبق له الزواج أو لا.

اللفظة الثالثة: قوله جل وعلا: مِنْكُمْ [النور:32] قال أئمتنا: مفهوم المخالفة يدل على أن من عدانا ليسوا كذلك، فقوله: (منكم)، أي: معشر المسلمين، وعليه من لم يكن من المسلمين فلا تزوجوه ولا تتزوجوه، وهذا المفهوم صرحت به آيات كثيرة، فقال جل وعلا في حق النساء: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221].

وقال في حق الرجال الذين ليسوا منا: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة:221] .

إذاً هنا (منكم) مفهوم المخالفة معتبر، وصرحت بمعناه آيات أخر، وخص من هذا العموم الكتابيات فقط؛ لقول الله جل وعلا: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [المائدة:5] إلى آخر الآية الكريمة.

فإذاً: يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية، وهي خصوص النصرانية أو اليهودية، والجواز ليس معناه الاستحباب، ومن باب أولى ليس معناه الوجوب، إنما من ناحية الجواز جائز، فإن رأيت مصلحةً في الزواج منها بحيث تسلم هي وأهلها فهو زواج مبارك، وإلا فالأمر ينبغي أن تحتاط لنفسك ولذريتك.

إذاً: هذا العموم يستثنى منه فقط خصوص الكتابية من النساء، وأما العموم في حق الرجال فهو باق على عمومه لم يخص منه شيء، ولا يجوز لمشرك أن يتزوج مؤمنةً مهما كان شأن المشرك.

معنى قوله تعالى: (والصالحين من عبادكم وإمائكم)

اللفظة الرابعة، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] ، لما جاء ذكر العبيد الأرقاء اشترط الصلاح ولم يشترط هذا في الأحرار، وهذا لأمرين معتبرين:

الأمر الأول: الغالب في الأحرار الصلاح، في حر، حر له شأن ثم يفعل الفساد هذا لا يليق بالأحرار، فالغالب فيهم أن يكون كريماً عفيفاً طيباً صالحاً مطيعاً لله، وأما ذاك فلجانب الابتذال الذي يقع فيه، قد يقع في المنكر، والغالب عليه أنه غير صالح، فكان مشركاً ثم بعد ذلك صار في حوزتنا عبداً أو أمة.

فالصلاح هو الغالب في الأحرار منا، وأما ذاك فالغالب عليه خلاف هذا، جاء مثلاً من غزوة من غزوات لنا وفيه ما فيه، ثم بعد ذلك ضبطناه ورتبناه؛ لكن يبقى حاله ليس كحال الحر المسلم الذي نشأ في بلاد الإسلام، ولذلك هنا قال: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، وهذا بناءً على أن المراد من الصلاح الصلاح الشرعي، وأمرنا بإنكاح الصالح أي الطيب التقي الملتزم من العبيد والإماء؛ لنساعدهم على حفظ دينهم، وعلى تمام صلاحهم، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] .

وقيل: إن الحكمة من ذكر الصلاح في حق العبيد والإماء هنا من أجل أن تعطف النفس عليهم، فالإنسان إذا زوج عبده أو أمته هذا سيكلفه إنفاقاً عليهما ورعاية لهما، والأمة كانت عنده فخرجت عنه، وهذا العبد عندما زوجه سينفق عليه وعلى زوجته وعلى أولاده، والنفس على من تعطف؟ تعطف على الصالح، فلو كان هذا فاسداً فاسقاً لا يستحق رعايةً ولا معونةً؛ ولذلك قال الله: إن كان من تملكونه من العبيد والإماء صالحاً فتحملوا نحوه ما تتحملون طلباً للأجر عند الحي القيوم، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32].

وكما قلت: هذا بناءً على أن المراد من الصلاح الصلاح الشرعي، وقيل: إن المراد منه الصلاح اللغوي، وعليه يصبح المعنى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ [النور:32] للنكاح من عبيدكم وإمائكم، أي: الذين يقومون بحقوقه ويقدرون على مزاولته، فإذا كانت أبدانهم تؤهلهم لذلك ويتطلعون إلى هذا فزوجوهم، كما قال الله جل وعلا: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32].

حكم إعفاف الرقيق في الإسلام

قبل أن ننتقل إلى الجملة الخامسة وهي آخر المفردات معنا إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32] وفي هذا تقرير للارتفاق بالنكاح، وأنه سبب للغنى كما سأقرر، قبل هذا إخوتي الكرام يقرر أئمتنا الفقهاء كما هو مذهب الحنابلة قولاً واحداً وهو أحد القولين للإمام الشافعي ، وانظروا هذا في المغني للإمام ابن قدامة (9/315)، أنه يجب على السيد إعفاف مملوكه، فإذا طلب المملوك من عبد أو أمة النكاح وجب على السيد أن يزوجه وجب، وخالف في هذا الإمامان المباركان أبو حنيفة ومالك فقالا: لا يجب على السيد أن يزوج عبده ولا أن يزوج أمته، قالا: لأن في ذلك ضرراً على السيد؛ لأنها تخرج منه، وهو يريدها للخدمة، وهذا أيضاً يحتاج أن ينفق عليه وهو يريده للخدمة، وبعد ذلك سيستقل بزوجته، وسيأتينا إذا تزوج له حقوق، ولذلك يقولان: لا يجب على السيد أن يزوج عبده وأمته، لأن في هذا ضرراً على السيد، وأمر ثان علة ثانية عند هذين الإمامين قالا: لا تتوقف قيام بنية العبد والأمة على النكاح، فهو ليس بحاجة ضرورية.

إنما هذا كما لو طلبا الحلوى، لا يلزم السيد أن يحضر لهما الحلوى ليأكلاها، هو مكلف بإحضار القوت، أما أن يطلب بعد ذلك أشكالاً وألواناً يقول: هات حلوى، وهات تفاح، وهات موزاً، وهات وهات .. فلا يلزم السيد أن يحضر له، إنما يجب عليه أن يقدم له القوت الذي تحتاجه بنيته وجسمه.

وما ذهب إليه الإمام أحمد وهو أحد القولين للشافعي فيما يظهر أظهر وأقوى وأرجح لعدة أمور:

أولها: لظاهر الأمر في الآية: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32] ، وظاهر الأمر يفيد الوجوب، ولا يوجد ما يصرف هذا الأمر عن ظاهره، فإذاً هذا للوجوب، فإذا طلب المملوك الزواج وجب على سيده أن يزوجه.

الأمر الثاني: قالوا: ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من كانت له جارية فلم يزوجها ولم يصبها، يعني يباشرها ليعفها، أو عبد فلم يزوجه، فما صنعا من شيء كان على السيد، أي: إذا كان عنده أمة فزنت إثمها عليه؛ لأنه ما حصنها ولا زوجها، أو عنده عبد فزنى فإثمه عليه على السيد، لأنه ما زوجه وما حصنه وستره.

قال الإمام ابن قدامة في المغني : ولولا وجوب إعفافهما لما وجب الإثم على سيدهما، وهذا دليل ثاني.

دليل ثالث: قالوا: إن العبد والأمة كل منهما مكلف محجور عليه، وهو بحاجة إلى الزواج، فيجب على من حجر عليه وعلى سيده الذي حجر عليه؛ لأن هذا لا يستطيع أن يتصرف في مال فهو لا يملك شيئاً، إنما هو ملك لسيده، يجب على سيده إذاً أن يجيبه إذا طلب الزواج؛ لأنه لو لم يكن محجوراً عليه لزوج نفسه، فبما أنه لا يملك أن يزوج نفسه يجب على سيده أن يزوجه.

الدليل الرابع عندهم: أن الحاجة تدعو إلى النكاح، والإنسان يتضرر بدنه لتركه، وتقدم معنا عند أوائل مباحث النكاح أن أئمتنا بحثوا فيه هل هو قوت أو فاكهة، وقلت: أظهر القولين أنه قوت، ولذلك كان الإمام الجنيد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يقول: أحتاج إلى الجماع كما أحتاج إلى القوت، وتقدم معنا هذا عند أول مقصد من مقاصد النكاح: حفظ النفس البشرية من كل آفة ردية، وقلت: إن ترك النكاح مضر بالصحة كما هو مضر بدين الإنسان، وعليه بما أن الحاجة تدعو إليه فيجب على السيد أن يزوج عبده وأمته.

قال أئمتنا الكرام: فإذا طلبت الأمة الزواج هو بالخيار بين أمور ثلاثة: إما أن يحصنها بنفسه وأن يطأها، وإذا ولدت منه فهنيئاً لها، صارت أم ولد لا تباع، وإذا مات السيد صارت حرة، هذه أم ولد صار لها في هذا البيت حجرة وشجرة، فلا تباع، وإذا لم يرد أن يطأها فليزوجها ليحصنها ذاك، وإذا لم يفعل هذا ولا ذاك فهو بين أمرين رغم أنفه: إما أن يعتقها لوجه الله لتصبح حرة وتزوج نفسها، ويزوجها المسئول عن أمور المسلمين، وإما أن يبيعها ليشتريها واحد آخر إما أن يحصنها وإما أن يزوجها، أما امرأة تعطل عن النكاح في البلاد الإسلامية فلا لأنه لا ضرر ولا ضرار.

هذا من حقوق الرقيق في الدولة الإسلامية، إذا قالت لك زوجني وأبيت فلها أن ترفع عليك دعوى في المحكمة الشرعية، يقول القاضي: اختر إما أن تعفها بنفسك ولا نلزمك أن تخرجها عن ملكك، وإما أن تزوجها، وإما أن تعتقها لوجه الله أو تبيعها، وإذا أبيت يبيعها القاضي رغم أنفك، ويخرجها من ملكك من أجل أن تحصن نفسها، هذا في الأمة.

وأما العبد فلا يمكن أن تحصنه أنت، فإذا طلب الزواج فأنت بين أمرين اثنين على رغم أنفك: إما أن تزوجه، وإذا لم تزوجه فإما أن تعتقه وإما أن تبيعه، يعني إما أن يخرج عن ملكك وإما أن تزوجه، إذا زوجته يجب عليك أن تنفق عليه وعلى زوجته، قال أئمتنا: فإذا غربت الشمس لا يجوز أن تستعمله في خدمة، تقول: اذهب الآن يذهب إلى زوجته ليعاشرها وليستأنس بها.

ما شاء الله على حقوق الرقيق في الإسلام لعل كثيراً من الأحرار لا يحصلونها في البلاد التي تنادي بالحرية في هذه الأيام، هذا حق الرقيق عندنا، تزوجه وتنفق عليه وعلى زوجته، وإذا جاء المغرب فليس لك حق أن تقول له: هات لي قدحاً من ماء، بل يذهب إلى زوجته ليعاشرها وليأت الأولاد تنفق عليهم جميعاً، فأنت مسئول عنهم.

إخوتي الكرام! هذه هي حقوق الرقيق في الإسلام، ولذلك: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32].

قبل أن أقرر الشاهد من الآية وأن الآية فيها عدة كريمة من رب كريم لإغناء المتزوجين والله خير الرازقين، يحسن بنا أن نقف وقفةً يسيرةً عند مفردات الآية ومعانيها لننتقل بعد ذلك إلى بيان المقصود منها ضمن بحثنا إن شاء الله.

اللفظ الأول إخوتي الكرام: وَأَنكِحُوا [النور:32] لفظ النكاح معناه في اللغة بمعنى: الجمع والضم، جمع وضم، ومنه قول القائل:

ضممت إلى صدري معطر صدرها كما نكحت أم الغلام صبيها

معنى نكحت: جمعت وضمت، التي عندها غلام تريد أن ترضعه تضمه وتلتزمه إليها، فهذا معنى النكاح: الضم والجمع.

ضممت إلى صدر معطر صدرها: عن طريق الالتقاء بين الزوجين الذي أحله الله، ثم قال: هذا الضم يكون كما تضم أم الغلام صبيها ووليدها، فمعنى (نكحت) هنا ضمت وجمعت، هذا معنى النكاح في اللغة.

وأما المراد منه في الاصطلاح فلأئمتنا في ذلك ثلاثة أقوال: