شرح زاد المستقنع باب حكم المرتد [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد ذكر الإمام المصنف رحمه الله هذا الباب، وترجم له بقوله: (باب حكم المرتد) وهذا الباب يتعلق بعقوبة جناية من الجنايات، وهي راجعة إلى أصل الدين، وهي أعظم جناية وأعظم حدٍ ينتهكه العبد فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ومناسبة هذا الباب لما قبله واضحة ظاهرة، فإنه بعد أن بين حكم الخروج عن جماعة المسلمين شرع في بيان حكم الخروج عن الإسلام والدين.

وهنا يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان عقوبة المرتد، ومتى يحكم بردة الإنسان وما يسميه أهل العلم بالموجبات وبنواقض الإسلام، ثم ما الذي يترتب على ذلك من عقوبة، ثم يبحثون في توبة المرتد.

فهذه ثلاثة عناصر يبحثها العلماء والأئمة رحمهم الله في باب الردة، ويعتنون بالجانب الفقهي العملي، وإن كان تفصيل المسائل ومباحثها يعتني به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد.

وقوله رحمه الله: (باب حكم المرتد) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالردة، فهي عقوبة شرعية يستباح بها دم الإنسان وماله، ولذلك تزول عنه عصمة الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث -وذكر منها- التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا هو المرتد.

والأصل أن الردة محرمة بإجماع العلماء رحمهم الله، وهي الذنب الأعظم، والخلل الذي ليس بعده خلل، ولذلك قال العلماء: ليس بعد الكفر ذنب، والأصل في ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217] فحرم الله الردة، وأخبر أن صاحبها قد حبط عمله في الدنيا والآخرة، وأنه قد خسر خسارة لا ربح وراءها أبداً، قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] فهذا الخسران الذي ليس بعده خسارة.

وكذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين حكم المرتد، وأنه مباح الدم كما في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فبين حرمة الردة، وأنها موجبة لزوال العصمة عن الإنسان.

وأجمع العلماء رحمهم الله على حرمة الردة عن الدين، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا المعنى كثيرة، ولكن أردنا أن نشير إلى هذا الأصل، حيث قال العلماء إنه قد اتفقت عليه نصوص الكتاب والسنة والإجماع.

ومدار بحث المصنف رحمه الله في ثلاثة جوانب:

الجانب الأول: في حقيقة الردة وبم تكون؟ وهذا ما يسمى بموجبات الردة، وأسباب الردة، ويعبر العلماء عنه بقولهم: نواقض الإسلام.

والجانب الثاني: عقوبة المرتد، وهذا هو الذي يركز عليه الفقهاء رحمهم الله، وأما في مسائل الاعتقاد فيركز العلماء المعنيون بها على بيان أسباب الردة على سبيل التفصيل والبيان الواضح، وقد اعتنى أئمة الإسلام رحمهم الله قديماً وحديثاً بهذا الباب العظيم، ومن أنفس من كتب في ذلك من العلماء المتقدمين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى، حيث بين نواقض الإسلام، ونواقض العقيدة، وكذلك أيضاً اعتنى به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد ومباحثها، حتى جاء شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله برحمته الواسعة، وكان في عصره قد تفشى في الناس الكفر والشرك؛ حتى أصبح البعض ينسب الأمور المحرمة إلى الدين والشرع، وهو منها براء، فأصبح الناس يتخذون القبور والمشاهد والأولياء يطوفون بها، ويصرفون حقوق الله عز وجل إلى أصحابها، ومن دخل تلك الأماكن فنظر أو سمع أو شاهد أحوال أهلها بكى على الإسلام بكاءً من صميم قلبه، وأحس بغربة الإسلام الحقيقية، حتى إنه ليسمع الرجل ويسمع المرأة تضفي على صاحب القبر من التقديس والمهابة والإجلال والصفات ما لا يجوز صرفه إلا لله وحده لا شريك له.

كما يصرف لتلك القبور ولأصحابها من السجود والطواف والذبح والنذر ما تشيب منه الرءوس، ومن هنا سلط الله على المسلمين الذلة، وأصبحوا بحالٍ -كما يشاهد الإنسان- يرثى له بسبب انهدام أصل الدين، ووجود هذه النواقض التي تضاد شرع الله عز وجل، وما أنزل الله كتبه ولا أرسل رسله إلا لكي يكون الناس عباداً لله لا عباداً لخلقه، وتكلم رحمه الله في كتبه عن نواقض الإسلام، وجاء العلماء من بعد ذلك فشرحوا وفصلوا ذلك وبينوه، وسيبين المصنف رحمه الله جملة من هذه النواقض، وهل للمرتد من توبة على اختلاف أنواع الردة؟ كل هذا ما سيفسره وسيبينه رحمه الله في هذا الموضع.

فاعتنى في الباب الأول بالجزئيتين الأوليين: بيان حقيقة الردة وعقوبة المرتد، وذكر في الجزئية الثانية: ماذا ينبغي أن يفعل بالمرتد من تمام العقوبة، وهل للمرتد من توبة، أو ليست له توبة.

قال رحمه الله تعالى: [ وهو الذي يكفر بعد إسلامه ]

قوله: (وهو) الضمير عائد إلى المرتد، والردة مأخوذة من الرجوع في لسان العرب، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الردة في اللغة هي الرجوع، فمصادر اللغة كلها متفقة على أن مادة الردة راجعة إلى مادة الرجوع عن الشيء.

وأما في الاصطلاح: فاختلفت عبارات العلماء رحمهم الله في حقيقة الردة والمرتد:

فبعض العلماء يقول: الردة هي الرجوع عن الإيمان كما يعبر فقهاء الحنفية رحمهم الله.

وبعضهم يقول: كفر المسلم، كما عبر به طائفة من العلماء ومنهم فقهاء المالكية.

وبعضهم يقول: قطع الإسلام، كما يعبر فقهاء الشافعية.

وبعضهم يجمع بينها كما اختاره الإمام ابن قدامة رحمه الله فقال: المرتد هو الراجع عن الإسلام إلى الكفر، فجمع بين الاثنين، والمعنى واحد.

ومن هنا نجد التعاريف الاصطلاحية تختلف ألفاظها وتتفق معانيها، فكلهم اتفقوا على وصف الردة بكونها رجوعاً عن الإسلام، وهذا هو ظاهر القرآن: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [البقرة:217] فظاهره أنه يرجع بعد إسلامه إلى الكفر، نعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعوذ بوجه الله العظيم أن يسلب الإسلام منا بعد أن وضعه في قلوبنا، ونسأله أن يزيدنا ولا ينقصنا منه.

فتعريف المرتد بأنه: هو الراجع عن الإسلام، أو الراجع عن الإيمان، أو الرجوع عن الإيمان، أو كفر المسلم؛ المعنى كله واحد، وهذا الرجوع له أسباب ودلائل وأمارات وعلامات، منها ما يرجع إلى الاعتقاد، ومنها ما يرجع إلى الأقوال، ومنها ما يرجع إلى الأعمال، وتكون هذه الاعتقادات والكلمات والأعمال موجبة للحكم بكفر صاحبها.

المظهر الأول: الشرك بالله

قال رحمه الله: [ فمن أشرك بالله ].

الفاء للتفريع، والشرك أصله مأخوذ من قولهم: شرك الشيء بالشيء إذا جمعه وخلطه به، فالشِرك والشُرك والشَرك مثلثة هي الخلطة، والأصل أن تكون فيما فيه الاختصاص، فيجمع بين من اختص بالشيء وبين غيره، فحينئذٍ يكون قد شرّك أو شرك به غيره.

والمشرك من جعل لله نداً، سواء كان ذلك في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته، فالذي يعتقد أن هناك خالقاً مع الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فهو يقول: الله خالق، ولكن أيضاً الطبيعة تخلق مع الله. فهذا جعل مع الله نداً، وهذا شرك في الربوبية، وهكذا إذا اعتقد أن هناك من يرزق، وأن هناك من يصور المخلوقات ويوجدها، ويقدر الأشياء، فإن هذا كله شركٌ في الربوبية.

وإذا أشرك مع الله غيره في ربوبيته أشرك مع الله غيره في ألوهيته، فاستغاث بغير الله، واستجار بغير الله، واعتقد أن هناك من يصرف الكون مع الله، وأنه ينبغي الرجوع إليه والاستغاثة به، والتقرب إليه -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- كما يفعل البعض ممن يعتقد أن للجن نفوذاً وتصرفاً في الكون، ولذلك يستغيثون بهم ويستجيرون بهم ويذبحون لهم، نسأل الله السلامة والعافية.

والله تعالى يقول عن خلقه الضعيف -الجن- الذين يعظمونهم ويذبحون لهم: وَأَنَّا ظَنَنَّا [الجن:5] أي: أيقنا، وهنا استعمال الظن بمعنى اليقين والحكاية هنا عن عظماء الجن: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا [الجن:12] فلا يستطيع أحد أن يخرج عن قهر الله سبحانه وتعالى؟! فالجن خلق الله ولا يجوز اعتقاد أن هؤلاء الجن يدبرون ويتصرفون.

ويستوي في شرك الألوهية دعاء الجن أو دعاء رجل صالح أو طالح في قبره، أو دعاء وثن أو الاستغاثة به مع الله، نسأل الله السلامة والعافية.

النوع الثالث: أن يكون شركاً في الأسماء والصفات، فيجعل صفات الله عز وجل لغيره، فيصرفها لغير الله عز وجل أو يثبتها لمخلوق مع الله عز وجل، كمن يعتقد في بعض الناس أنه يعلم الغيب ويعلم ما سيكون، كما وقع في أئمة طوائف الضلال حين عظموا أئمتهم، واعتقدوا أنهم يعلمون ما يكون ويحدث في الكون، والله عز وجل أخبر في كتابه ونص على أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] فعلم الغيب هذا مما استأثر الله به، وهو سبحانه موصوف بأنه عالم الغيب والشهادة، جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا اعتقد أن الشيخ أو أن الولي الفلاني يعلم ما يكون وما يحدث؛ فإنه قد صرف ما لله لغير الله.

قوله: (فمن أشرك) أي: بناقض من نواقض الإسلام، وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] وهي الموجبة الكبرى التي توجب لصاحبها الخلود في النار، وحلول غضب الله عز وجل عليه أبد الآبدين.

ويستوي في ذلك أن يجعل لله نداً من الصالحين أو غيرهم؛ كقوم نوح الذين جعلوا أنداداً مع الله عز وجل، من ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقد كانوا قوماً صالحين، فجاء الشيطان قومهم وقال لهم لما ماتوا: إنهم كانوا قوماً صالحين، فلو أنكم صورتم صورهم وفعلتم لهم تماثيل تذكركم عبادتهم وصلاحهم واستقامتهم، فتجتهدون إذا رأيتموهم، ففعلوا ذلك، فاجتهد الجيل الأول في العبادة، فلما انقرضوا خلف من بعدهم خلوف، فقال لهم الشيطان: إنه لم يصور آباؤكم هؤلاء إلا ليعبدوهم، فعبدوهم، فوقع الشرك -والعياذ بالله- مع أنهم قومٌ صالحون.

وقد قال الله تعالى عمن يشرك الصالحين مع الله عز وجل من الأنبياء وغيرهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] أي: هؤلاء الذين تدعونهم كعيسى حين تعبده النصارى مع الله عز وجل، وتعتقد أنه ثالث ثلاثة، وأنه ابن الله وأنه هو الله، وهو أصلاً يدعو ربه، ويستغيث بالله عز وجل، ويسأل الله سبحانه وتعالى، فعتب الله عليهم أن صرفوا حقه لهؤلاء الصالحين.

فالشاهد أنه إذا صرف العبد حق الله عز وجل لغيره فقد أشرك، سواء كان الغير وثناً لصالح أو لطالح، كل ذلك يوجب الحكم بردته وخروجه عن الإسلام.

المظهر الثاني: جحد الربوبية والوحدانية لله تعالى

قال المصنف رحمه الله: [ أو جحد ربوبيته أو وحدانيته ]

فلو قال: إن الله ليس برب. وهذا ما يعتقده الدهريون وأهل الطبيعة الذين يقولون: لا يوجد رب لهذا الوجود! والحياة أوجدت نفسها، والطبيعة هي التي أجرت الأنهار والرياح، وهي التي أخرجت الثمار، وهي التي والتي.. فكل شيء للطبيعة، حتى إنك تجد من بعض المسلمين من يقول: من خيرات الطبيعة! أي طبيعة يزعمون؟ أفٍ لهم ولما يدعون.

وصدق الله حيث قال: وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67] يخلقه ربه ويطعمه ويسقيه، ثم يزعم أنه لا رب ولا خالق لهذا الوجود، فهؤلاء لا يريدون أن ينسبوا المخلوقات لخالقها سبحانه، والله يقول: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [فاطر:3]؟ الجواب: لا، فلا خالق إلا هو سبحانه، وهم يقولون: الطبيعة.

بل انظر كيف ينزل ذلك الكفور إلى مستوى الحضيض، حيث يكرمه ربه فيهين نفسه، ويرفعه ربه فيضع نفسه، فالله عز وجل يقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] ويأتيك بالحق على أجمل وأجل وأكمل ما يكون من إتيان، فيبين لك أن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد لله ملائكته، فكرمه وشرفه وفضله فيقول سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] ثم يأتي الشقي التعيس المنكوس ويقول: إن الإنسان أصله قرد! أي حضيض وصل إليه؟ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء:67]، وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] هذه الجاهلية وهذا الهبوط من الكفران.

ثم بين الله سبحانه وتعالى في نصوص الكتاب أنه خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وأنه قسم أرزاقهم فلم ينس منهم أحداً، وأنه تولى أمورهم فرداً فرداً، جل جلاله وتقسدت أسماؤه، فإذا بهم يشرِّكون بين المخلوق والخالق، وإذا بهم يصرفون أبناء المسلمين عن هذه الفطرة إلى الكفر بأساليب شتى، وألاعيب مكذوبة وأغاليط لا تنطلي إلا على السذج، وأهواء وترهات لا تعقل، حتى إن الأرزاق التي وضعها الله عز وجل وسخرها لعباده ولإمائه ولخلقه في هذا الكون كان الأصل أن تصرفهم إلى الاعتقاد بالله، لا للاعتقاد بغير الله، وإليكم مثال بسيط على ما سبق:

يقولون وهم يتحدثون عن تاريخ البترول: إنه منذ ألف مليون سنة كان هناك حيوان يقال له: الديناصور -معروف طبعاً أن الديناصور انقرض- ثم توالت عليه أطباق الأرض فمات، وبفعل الحرارة ثم بفعل الضغط ... إلخ فانظر ما عندهم من قياسات، وبالإمكان أن يعطوك عدد الأطباق التي نزل إليها هذا الديناصور حتى أصبح بترولاً.

إن الإنسان إذا جاء يكذب يأتي بشيء يستساغ كما يقولون، فالديناصور من ذكائه ما وجد مكاناً يموت فيه إلا في الخليج، أو في عرض البحر، هم يقولون كل شيء إلا أن يقال: إن الله خالق كل شيء، ويجوز عندهم كل شيء إلا أن يصرف حق الله لله وحده لا شريك له، هذا حتى يعلم الإنسان مدى تمرد الكافر على ربه والعياذ بالله!

وانظر إلى التشريف والتكريم الذي يكرم الله عز وجل به بني آدم، وانظر كيف ينصرف المخلوق عن خالقه، يعمل مع الشياطين كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ [الأنعام:71] فهو في الحيرة والضلال والحضيض؛ لأن الله يقول: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18] فكل من كفر بالله، وجحد ربوبية الله عز وجل، أو جحد حقاً من حقوق الله عز وجل ليذيقنه الله الذلة والصغار، حياً وميتاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأذن أن يصرف حقه عنه جل جلاله.

فهم يقولون: لا يوجد خالق! -والعياذ بالله- وكل شيء يلقن إلى أبناء المسلمين على أن الأشياء كلها طبيعة، وأنه ليس هناك إله، ومن هنا جاءت العناية في دعوة هؤلاء، والعناية بنصوص الكتاب والسنة، ومن أعظمها نصوص الآيات الجميلة الجليلة البديعة -وكل آيات الله جميلة جليلة بديعة- التي أخذت بمجامع القلوب في القرآن، فلفتت نظر الإنسان إلى السماء فوقه، وإلى الأرض تحته، وإلى الأشجار والثمار والأنهار والرياح المرسلة التي تسبح بحمد ربها، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، تسبح بحمد ربها وتقدس له جل جلاله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44].

فمن جحد ربوبيته يقول: ليس هناك خالق، ولا رازق، وينفي عن الله عز وجل أنه يخلق الخلق، أو يرزقهم، فإذا جحد بالربوبية كفر بالله عز وجل، وحكم بردته.

المظهر الثالث: سب الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم

قال المصنف رحمه الله: [ أو سب الله أو رسوله ]

السب: الانتقاص والاستخفاف، وقد تكلم العلماء في ضابط السب، وأشار إليه القاضي عياض رحمه الله في الشفا عند حكم سب النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء، وأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول؛ لكن من أجمع ما ذكروه أن السب هو الانتقاص والاستخفاف، فمن انتقص إنساناً، أو استخف به؛ فقد سبه، وهذا هو ضابط السب، الذي به يحكم أن الكلام يعتبر سباً أو لا يعتبر.

وسب الله عز وجل جريمة وجرأة عظيمة على حدود الله عز وجل، وما أحلم الله سبحانه وتعالى، وعزة ربي لو أذن الله للأرض أن تفتك بهذا الكافر الفاجر الظالم الذي يسب ربه ما أبقت منه شيئاً، لخسفت به ولتزلزل فيها، ولو أذن سبحانه للسماء لأرسلت عليه قاصفة، فأخذت عمره، وأخرست لسانه، ولكن الله حليم، ولذلك على المؤمن إذا سبه أو آذاه أو انتقصه الناس، أن يتعزى بصفوة خلقه من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، الذين نالهم من ذلك الشيء الكثير.

فموسى عليه السلام اشتكى إلى ربه حين تكلم الناس فيه، فقال الله: يا موسى! إني أنا ربهم، أطعمهم وأرزقهم، ثم يدعون أن لي صاحبة وأن لي ولداً.

فهذا عزاء لكل مسلم، أن يتعزى إذا جاءه البلاء، ومن حلم الله ورحمته أن يوفق للتوبة من فعل هذا الأمر.

والسب لله موجب للكفر والردة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.

قوله: [أو رسوله]

من سب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يحكم بكفره، وحكى الإجماع غير واحد من الأئمة والمحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله القاضي عياض، وغيرهم رحمة الله عليهم، فأجمعوا على أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم كافر ومرتد، وانتقاص النبي صلى الله عليه وسلم وسبه ولعنه -بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه- موجب للكفر؛ لأن هذا مضاد تماماً لأمر الله سبحانه وتعالى.

قالوا: لأنه يتعلق بالدين، وسبه وانتقاصه عليه الصلاة والسلام انتقاص للدين، ولذلك فالعلماء رحمهم الله يدققون في هذه المسائل، وتجد أن الكلام في الأنبياء وفي رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم محرم، وحرمتهم مبنية على حرمة الشرع؛ لأنهم رسل الله، وصفوة الله من خلقه.

ومن هنا ننزل الكلام في العلماء والأئمة أنه طعن في الدين، كما يفعل بعض الفساق إذا قيل لهم: إن العلماء يفتون بكذا وكذا؛ فإنه يسبهم أو يشتمهم -والعياذ بالله- وهذا أمر خطير جداً؛ لأن هؤلاء العلماء تكلموا بالشرع، ونطقوا ونصحوا به، فالكلام فيهم يعتبر كلاماً في الشرع وانتقاصاً فيه، ومن هنا قال العلماء: لو أن الخصم -وسيأتينيا إن شاء الله- سب القاضي في مجلس القضاء فإنه يؤدب ولو سامحه القاضي؛ لأن هناك حقاً للشرع، فإذا القاضي تسامح بحقه فقد بقي حق الله عز وجل في حرمة مجلس القضاء، ولأن انتقاص القضاة انتقاص للدين وحكمه، وكذلك انتقاص العلماء كما قال صاحب التحفة:

ومن جفا القاضي فالتأديبُ أو لا وذا لشاهدٍ مطلوب

إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم سباً مباشراً باللعن -والعياذ بالله- أو انتقصه، كأن يصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً ينتقصه به، كأن يقول: إنه بدوي يرعى الغنم، وقصد به التحقير له صلوات الله وسلامه عليه، ونحو ذلك من العبارات؛ فإنه يحكم بكفره، وقد ألف في هذه المسألة وفصل فيها العلماء رحمهم الله، ويعتبر كتاب شيخ الإسلام رحمه الله (الصارم المسلول على شاتم الرسول) صلى الله عليه وسلم من أنفس هذه الكتب، حيث فصل فيها.

ومما يحكى أن شيخ الإسلام رحمه الله كان في مجلس، فسب نصرانيٌ النبي صلى الله عليه وسلم فجرد سيفه وقتله، وبعض العلماء رحمهم الله بينوا هذه المسألة وممن بينها من المتقدمين القاضي عياض في الشفا، وغيره من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية، وحكى غير واحد الإجماع على ردة من سب النبي صلى الله عليه وسلم.

[فقد كفر ] جاء بـ(قد) التي تدل على التحقيق، وقوله: ( كفر ) أي: يحكم بكفره.

المظهر الرابع: جحد ما علم من الدين بالضرورة

يكون الكفر بالاعتقاد كما ذكرنا في الشرك، ويكون بالأقوال: كسب الله عز وجل وسب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا مسألة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتحليل الحرام، أي اعتقاد حل الحرام المجمع عليه، أو عكسه من اعتقاد حرمة الحلال المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، أو الذي قامت الحجة بتحليله أو تحريمه.

يقول رحمه الله: [ومن جحد تحريم الزنا] والزنا من الأمور المعلومة الظاهر تحريمها، وقد اتفقت الشرائع السماوية على تحريم الزنا، وليست هناك شريعة تجيز الزنا، ولذلك لو قال: إن الزنا حلال، ولا شيء فيه، وبعضهم يقال له: إن هذا الرجل زنا بالمرأة، يقول: لا بأس، هذه حرية، وليفعل ما يشاء، والمرأة حرة تفعل ما تشاء، فإن شاءت أن تزني فلها ذلك، وكذلك الرجل فهذا تحليل لما حرم الله، وإذا اعتقد حل ما حرم الله فهو يكذب الله، فإن الله يقول: هذا حرام، وهو يقول: هذا حلال! وحينئذٍ يكون قد ضاد الله في شرعه وحكمه، وتحليل الحرام كتحريم الحلال، وإن كان الشهوات تختلف في تحليل المحرم بخلاف تحريم الحلال، فإن هذا جانب إفراط والثاني جانب تفريط، فالأول يُفْرِط والثاني يفّرط.

قوله: [أو شيئاً من المحرمات الظاهرة] أي: إذا كان الشيء محرماً وظاهر التحريم، ولا يكون ظاهر التحريم ولا واضح الحرمة إلا بالنصوص من الكتاب والسنة، وعند اعتقاده للضد يكون -كما ذكرنا- قد ضاد الله في شرعه، وحينئذٍ يكون موجب التكفير تكذيبه لله عز وجل، وتكذيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأنت ترى الرجل حينما تقول له: إن الله حرم الزنا، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، وعاقب من فعله، فيقول: ليس فيه شيء. فما معنى هذا؟

معناه أنه يكذب الله ويكذب رسوله، لأنه يقول: ليس فيه شيء! والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32] وهو يقول: لا، ليس فيه شيء، وهذه حرية، وهذا انطلاق، أو يأتي بالعكس، فيقول: هذا حكم متحجر، هذا تخلف، لكن بشرط أن يكون معلوماً عنده، أي: لا يكون حاله يوجب العذر لوجود شبهة فيه.

مثلاً: لو أن شخصاً أسلم وكان حديث الإسلام، وبيئته فيها الإباحية -والعياذ بالله- أو بيئة فيها جهل، ويقعون في المحرمات، فيشربون الخمور ويفعلون الزنا، فأسلم ثم شرب الخمر أو فعل الزنا، فقيل له: إن الزنا حرام، قال: لا، الزنا ليس فيه شيء، نقول: إن هذا معذور لجهله، فتقام عليه الحجة، ويعلَّم.

قوله: [المجمع عليها]

أي: كالخمر والربا، ونحو ذلك من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، فإذا قال: ليس فيها شيء، وكذب الله رسوله في حكمه وضادهما في الشرع؛ فإنه يحكم بردته والعياذ بالله.

قوله: (بجهل) أي: إذا كان يجهل الحكم، فهذه من المسائل التي نص العلماء فيها على العذر بالجهل، وذلك أن يكون الشخص حديث عهد بإسلام وقد وقع هذا، ونعرف بعض الحوادث حيث أسلم الشخص وكان حديث العهد بإسلام، ثم قيل له بعض المحرمات الظاهرة، فقال: ليس فيها شيء، ثم قيل له: لا، إن الله عز وجل يقول، ورسوله عليه الصلاة والسلام يقول، والشرع يحرم هذا الشيء؛ فقال: سمعت وأطعت، فمثل هذا كان معذوراً في جهله، وحينما نطق بحكم الحل، فإنه معذور في هذا، ولا يحكم بكفره بذلك.

قوله: (عُرِّف ذلك) أي: أقيمت عليه الحجة، وبُين له نص الكتاب والسنة والأدلة التي تدل على التحريم، أو التحليل إذا حرم حلالاً، كما يفعله الغلاة من الزهاد والمتنطعين والغالين في العبادة، فمن غلا في تحريم شيء ثم قيل له: هذا الشيء أحله الله، وكان حديث عهد بإسلام ولا يعلم هذا التحليل وأقيمت عليه الحجة؛ فإنه حينئذٍ إذا أقيمت عليه الحجة ورجع، لا يحكم بردته وكفره؛ سواء حلل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله.

قوله: [وإن كان مثله لا يجهله كفر] أي: حكم بكفره في الظاهر، كشخص يعيش بين المسلمين، وولد بينهم، ويعرف أحكام الإسلام وشرائعه، وفجأة جاء وقال: إن الزنا حلال! أو إن الخمر حلال، أو إن الربا حلال، فمثل هذا لا يجهل هذه الأمور، وليس بجاهل فيعلم، فإذا توفرت الدواعي وقامت الأمارات، وكان الظاهر على حاله وبيئته أنه يعلم أخذ بهذا الظاهر، وحكم بكفره ظاهراً، كما يقولون: حكم القضاء، وحكم الديانة.

لكن لو أنه بين لنا شبهة واضحة يعذر بها عذرناه، لكن في الظاهر نحكم بكونه كافراً، فلو خرج رجل من بين المسلمين في بيئة إسلامية معلومة فيها شرائع الإسلام وقال: الزنا ليس فيه شيء! هل نقول: إن مثل هذا يعذر بالجهل، أو يؤخر حتى نقيم عليه الحجة؟ هذه أمور ظاهرة وواضحة، فمثل هذا يحكم بكفره في الظاهر.

وأما إذا كان هناك ما يحتمل؛ فإنه ينتظر حتى تقام عليه الحجة، وإذا ثبت جهله، فإنه يعذر بالجهل.

قال رحمه الله: [ فمن أشرك بالله ].

الفاء للتفريع، والشرك أصله مأخوذ من قولهم: شرك الشيء بالشيء إذا جمعه وخلطه به، فالشِرك والشُرك والشَرك مثلثة هي الخلطة، والأصل أن تكون فيما فيه الاختصاص، فيجمع بين من اختص بالشيء وبين غيره، فحينئذٍ يكون قد شرّك أو شرك به غيره.

والمشرك من جعل لله نداً، سواء كان ذلك في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته، فالذي يعتقد أن هناك خالقاً مع الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فهو يقول: الله خالق، ولكن أيضاً الطبيعة تخلق مع الله. فهذا جعل مع الله نداً، وهذا شرك في الربوبية، وهكذا إذا اعتقد أن هناك من يرزق، وأن هناك من يصور المخلوقات ويوجدها، ويقدر الأشياء، فإن هذا كله شركٌ في الربوبية.

وإذا أشرك مع الله غيره في ربوبيته أشرك مع الله غيره في ألوهيته، فاستغاث بغير الله، واستجار بغير الله، واعتقد أن هناك من يصرف الكون مع الله، وأنه ينبغي الرجوع إليه والاستغاثة به، والتقرب إليه -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- كما يفعل البعض ممن يعتقد أن للجن نفوذاً وتصرفاً في الكون، ولذلك يستغيثون بهم ويستجيرون بهم ويذبحون لهم، نسأل الله السلامة والعافية.

والله تعالى يقول عن خلقه الضعيف -الجن- الذين يعظمونهم ويذبحون لهم: وَأَنَّا ظَنَنَّا [الجن:5] أي: أيقنا، وهنا استعمال الظن بمعنى اليقين والحكاية هنا عن عظماء الجن: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا [الجن:12] فلا يستطيع أحد أن يخرج عن قهر الله سبحانه وتعالى؟! فالجن خلق الله ولا يجوز اعتقاد أن هؤلاء الجن يدبرون ويتصرفون.

ويستوي في شرك الألوهية دعاء الجن أو دعاء رجل صالح أو طالح في قبره، أو دعاء وثن أو الاستغاثة به مع الله، نسأل الله السلامة والعافية.

النوع الثالث: أن يكون شركاً في الأسماء والصفات، فيجعل صفات الله عز وجل لغيره، فيصرفها لغير الله عز وجل أو يثبتها لمخلوق مع الله عز وجل، كمن يعتقد في بعض الناس أنه يعلم الغيب ويعلم ما سيكون، كما وقع في أئمة طوائف الضلال حين عظموا أئمتهم، واعتقدوا أنهم يعلمون ما يكون ويحدث في الكون، والله عز وجل أخبر في كتابه ونص على أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] فعلم الغيب هذا مما استأثر الله به، وهو سبحانه موصوف بأنه عالم الغيب والشهادة، جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا اعتقد أن الشيخ أو أن الولي الفلاني يعلم ما يكون وما يحدث؛ فإنه قد صرف ما لله لغير الله.

قوله: (فمن أشرك) أي: بناقض من نواقض الإسلام، وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وقال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] وهي الموجبة الكبرى التي توجب لصاحبها الخلود في النار، وحلول غضب الله عز وجل عليه أبد الآبدين.

ويستوي في ذلك أن يجعل لله نداً من الصالحين أو غيرهم؛ كقوم نوح الذين جعلوا أنداداً مع الله عز وجل، من ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقد كانوا قوماً صالحين، فجاء الشيطان قومهم وقال لهم لما ماتوا: إنهم كانوا قوماً صالحين، فلو أنكم صورتم صورهم وفعلتم لهم تماثيل تذكركم عبادتهم وصلاحهم واستقامتهم، فتجتهدون إذا رأيتموهم، ففعلوا ذلك، فاجتهد الجيل الأول في العبادة، فلما انقرضوا خلف من بعدهم خلوف، فقال لهم الشيطان: إنه لم يصور آباؤكم هؤلاء إلا ليعبدوهم، فعبدوهم، فوقع الشرك -والعياذ بالله- مع أنهم قومٌ صالحون.

وقد قال الله تعالى عمن يشرك الصالحين مع الله عز وجل من الأنبياء وغيرهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] أي: هؤلاء الذين تدعونهم كعيسى حين تعبده النصارى مع الله عز وجل، وتعتقد أنه ثالث ثلاثة، وأنه ابن الله وأنه هو الله، وهو أصلاً يدعو ربه، ويستغيث بالله عز وجل، ويسأل الله سبحانه وتعالى، فعتب الله عليهم أن صرفوا حقه لهؤلاء الصالحين.

فالشاهد أنه إذا صرف العبد حق الله عز وجل لغيره فقد أشرك، سواء كان الغير وثناً لصالح أو لطالح، كل ذلك يوجب الحكم بردته وخروجه عن الإسلام.