شرح زاد المستقنع باب التيمم [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب التيمم].

التيمم مأخوذ من قولهم: تيمم الشيء إذا قصده، ومنه قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267] أي: ولا تقصدوا رديء التمر والخارج من الأرض لتنفقوا منه زكاة أموالكم، ومن ذلك قول الشاعر:

تيممتها من أذرعات وأهلُها بيثرب أدنى دارها نَظَرٌ عالي

أي: قصدتها. فالتيمم القصد.

وأما في الاصطلاح: فإنه القصد إلى الصعيد الطيب بضرب اليدين ومسح الوجه والكفين بنية استباحة الصلاة ونحوها مما تشترط له الطهارة.

والمراد بالصعيد الطيب: ما على وجه الأرض، سواءً كان تراباً أو غيره، وسواء كان جامداً -كالحجارة ونحوها- أو كان غير جامد.

فقولهم: القصد إلى الصعيد الطيب، المراد به كل ما صعد على وجه الأرض، والعلماء -رحمهم الله- اختلفوا في هذه المسألة، فمنهم من يقول: لا يقصد إلا إلى شيء مخصوص، وهو التراب إذا كان له غبار، وأما إذا لم يكن له غبار فإنه لا يتيمم به.

وقالت طائفة من العلماء: إنه يتيمم بكل ما على وجه الأرض، من الجامد، وغير الجامد كالنباتات التي تغتذي بالماء، قالوا: يجوز أن يتيمم بها ما دامت متصلة بالأرض، كما هو مذهب مالك رحمه الله.

ومنهم من خصّ التيمم بكل ما على وجه الأرض، لكن خصه بما كان من جنس الأرض، فيشمل الحجارة والطين والجصّ والنورة وغير ذلك.

(بضرب اليدين) أي: يقصد إلى الصعيد الطيب مع ضربه اليدين على ذلك الصعيد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لـعمار : (إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ثم ضرب عليه الصلاة والسلام بكفيه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه، فدل هذا على أنه يشرع التيمم على هذه الصفة، فقولهم: القصد إلى الصعيد الطيب بمسح الوجه والكفين: المراد به قصد مخصوص، وقولهم: بنية استباحة الصلاة، هو أحد أقوال العلماء، والقول الثاني: بنية رفع الحدث، والقول بنية استباحة الصلاة هو الأقوى؛ لأن التيمم مبيح وليس برافع.

شرع الله التيمم في كتابه بقوله سبحانه وتعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43] في آيتي النساء والمائدة، وشرعه عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن عماراً لما خرج في السرية -وكانت في زمان بارد- وأصابته الجنابة قال: فتمعكت كما تمعك الدابة -وكان يخشى على نفسه لو اغتسل أن يموت- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما صنع. فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه).

وثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على رجل لم يصلِّ في القوم، فقال: ما منعك أن تصلي في القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. فقال عليه الصلاة والسلام: عليك بالصعيد الطيب، فإنه يكفيك) وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) وفي الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي -ومنها قوله:- وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فدلت هذه الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن التيمم مشروع.

وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية التيمم.

أما بالنسبة لمناسبة هذا الباب لما قبله: فقد كان المصنف رحمه الله في باب الغسل ثم شرع في باب التيمم، فما هو الرابط بين باب الغسل وباب التيمم؟

تكلم المصنف رحمه الله في الباب السابق عن الغسل والوضوء ونواقض الوضوء، فجمع بذلك بين الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى، ولكن كان حديثه عن الطهارة بالماء التي هي أصل، ثم شرع هنا في طهارة التراب التي هي بدل، ولذلك قالوا: إن الكلام عن البدل مفرّع عن الكلام على المبدل منه، فبعد أن بين رحمه الله حكم الطهارة بالأصل -وهو الماء- شرع في بيان حكم الطهارة بالبدل، وهو التراب.

قال رحمه الله: [وهو بدل طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة].

(وهو) أي: التيمم. (بدل طهارة الماء) أي: أنه ليس بأصل، وإنما شرع على صورة مخصوصة، وفي أحوال مخصوصة، ولذلك يمكن للفقيه أن يقول للمكلف: تيمم إذا وجد موجبات الرخصة، وممكن أن يقول له: لا تتيمم إذا لم تتوفر موجبات الرخصة، ولذلك قال: وهو بدل، والبدل يحتاج منك إلى أن تعرف شروطه والقيود التي وضعها الشرع لجواز هذا البدل عن المبدل منه، فالتيمم بدل عن طهارة الماء، وهذه البدلية تشمل الطهارة الصغرى -وهي الوضوء- والطهارة الكبرى -وهي الغسل من الجنابة- فيقع التيمم بدلاً عن الوضوء ويقع بدلاً عن الغسل من الجنابة، وللمكلف إذا تيمم أن يستبيح الصلاة مباشرة، ويقع التيمم بدلاً عن طهارة الخبث كما هو قول طائفة من العلماء، فمن وقعت عليه نجاسة ولم يجد ماء يغسل به تلك النجاسة يتيمم لوجود النجاسة ببدنه، فجعلوا التيمم بدلاً عن الطهارة بنوعيها: طهارة الحدث وهذا بالإجماع، فيقع بدلاً عن الطهارة الصغرى وهي الوضوء والطهارة الكبرى وهي الغسل وطهارة الخبث، فإذا سئلت عن بدليته فقل: عن ثلاثة: عن الوضوء والغسل وطهارة الخبث.

أما على القول الثاني الذي يقول: إن من لم يجد الماء ووقعت عليه النجاسة فإنه لا يتيمم، فيصبح التيمم بدلاً عن الطهارة الصغرى والكبرى فقط.

قال رحمه الله: [وهو بدل طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة].

وقوله: (وهو بدل طهارة الماء) عمم المصنف فقال: هذا التيمم بدل عن طهارة الماء، فشمل طهارة الحدث -أي: طهارة الوضوء وطهارة الغسل- وشمل طهارة الخبث، فأصبح بدلاً على العموم.

حكم التيمم للفريضة قبل دخول وقتها

(وهو بدل عن طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة) إذا دخل: هذا شرط، والشروط في المتون الفقهية يعتبر مفهومها، وإن كان بعض العلماء له مصطلح في المفاهيم التي يذكرها في متنه. ومعنى قولنا: إن الشروط تعتبر مفاهيمها، أنه مثلاً: إذا قال لك: إذا دخل وقت فريضة، فمفهومه أنه إذا لم يدخل وقت الفريضة فإنه لا يتيمم لها، لكن لو تيمم لغير الفريضة كأن يتيمم لمس مصحف إذا كان جنباً أو يتيمم للطواف بالبيت فلا حرج عليه.

إذاً: قوله: (إذا دخل وقت فريضة) أي: أنك تتيمم وتستبيح رخصة التيمم للفريضة بشرط أن يدخل وقتها، فلو أن إنساناً سألك وقال: لم أجد الماء فتيممت قبل أذان الظهر ثم دخل وقت الظهر فصليت؟ فتجيب: لا يصح التيمم ولا يستباح بهذا التيمم فعل الصلاة؛ لأن شرط التيمم أن يدخل وقت الفريضة. هذا بالنسبة لمعنى العبارة.

أما الدليل الذي يدل على اشتراط دخول الوقت للتيمم، فقالوا: إنه الأصل في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] إلى أن قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6] هذه الآية وجه دلالتها على اشتراط دخول الوقت -وهذا يحتاج إلى دقة في الفهم والتركيز- أنه في أول الإسلام كان يجب على المكلف إذا دخل وقت الفريضة أن يتوضأ، حتى ولو كان متوضئاً، وكانوا يصلون كل فريضة بعد دخول وقتها بوضوئها، أي: في الوقت، ثم نسخ ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أهل العلم من قيّد النسخ بفعله عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه لم يصلِّ العصر حتى غربت الشمس، كما في الصحيحين من حديث عمر : (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال عليه الصلاة والسلام: والله ما صليتها، قوموا بنا إلى بطحان، قال: فتوضأ ثم صلى العصر والمغرب والعشاء) قالوا: هذا نسخ وجوب الوضوء عند دخول الوقت، ودل على أنه يشرع للمكلف أن يجمع بوضوء واحد بين عدة صلوات ولا حرج عليه في ذلك، فأصبح الوضوء رافعاً للحدث، وبناءً على ذلك قالوا: نُسخ الحكم في الوضوء وبقي التيمم على الأصل من كونه مطالباً بالتيمم عند دخول الوقت، وهذا صحيح؛ لأنه إن ورد النص على العموم إلا أن سياق الآية يقيد الطهارة بدخول الوقت إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] ولا يقام لفعل الصلاة المفروضة إلا بعد دخول وقتها، فلما جاء الناسخ في الوضوء بقي غيره على الأصل، قالوا: فبقي التيمم على الأصل، ومن هنا لا يتيمم إلا عند دخول وقت الفريضة، وتفرّع على هذا أن التيمم مبيح لا رافع، أي: أن التيمم يبيح لك فعل الصلاة لا أنه يرفع الحدث، إذ لو كان رافعاً للحدث لما احتجت بعد تيممك الأول إلى تجديده بدخول وقت الفريضة الثاني.

مسألة: التيمم رافع أم مبيح

وهذه مسألة خلاف: هل التيمم مبيح أم رافع؟

أصح القولين عند العلماء رحمهم الله: أن التيمم مبيح، ويشهد لذلك -كما قلنا- ظاهر التنزيل، وأيضاً ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رجلاً لم يصلِّ -وفي رواية: أنها صلاة الفجر، كما في حديث عمران في الصحيحين- فقال: ما منعك أن تصلي في القوم؟ قال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك) وفي رواية: (ثم وجد الماء فبعث به إلى الرجل) فوجه الدلالة: أن الرجل حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالصعيد الطيب) سيتيمم للصلاة مباشرة، ولا شك أن تيممه قد وقع قبل وجود الماء؛ لأن الوقت الذي وقع بين وجود النبي صلى الله عليه وسلم للماء وبين فراقه للرجل وقت كافٍ للتيمم قطعاً، وقد توجّه عليه الحكم أن يتيمم، فتيمم الرجل لإدراك الفريضة الواجبة عليه، فلما تيمم قال: (فبعث به إلى الرجل) وجه الدلالة: أن هذا يدل على أن التيمم يبيح فعل الصلاة لا أنه رافع للحدث فيصح فعل الصلاة مطلقاً.

التيمم لأداء نافلة

قال رحمه الله: [أو أبيحت نافلة].

عندنا صلاتان: الصلاة المفروضة، والصلاة النافلة، فإن قلت: إن التيمم لا يكون إلا عند دخول وقت الصلاة، فقيده بصلاة الفريضة بوقتها، فتقول: يتيمم لصلاة الظهر بعد زوال الشمس، ويتيمم لصلاة المغرب بعد غروب الشمس... إلخ، وإن كانت الصلاة نافلة اعتبرت فيها الأوقات المنهي عنها، فتقول: يتيمم في وقت تباح فيه النافلة، فلو أنه تيمم بعد صلاة الصبح أو بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس لِفِعْلِ نافلة مطلقة؛ فإنه لا يصح تيممه لوقوعه في غير الوقت المعتبر لإجزاء التيمم في الصلاة.

التيمم عند انعدام الماء

قال رحمه الله: [وعَدِمَ الماء أو زاد على ثمنه].

(وعدم الماء) هذا شرط؛ دل عليه قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] فمن عدم الماء كأن يسافر سفراً ثم ينتهي الماء الذي معه ولا يجد ماء لا لغسل جنابة ولا لوضوء، فإنه في هذه الحالة يعتبر فاقداً للماء.

(عَدِمَ الماء) للعلماء في عدْم الماء قولان:

منهم من يقول: عدم الماء يبيح التيمم كلياً، أي: على العموم سواءً وقع ذلك العدم في سفر أو وقع في حضر، فكل من لم يجد الماء في سفر أو حضر أبيح له أن يتيمم، ومنهم من قيده بالسفر، والصحيح: أن الحكم عام يشمل من كان

عادماً للماء في السفر أو في الحضر.

وعدم الماء يتحقق بأمرين:

الأمر الأول: إما يقين تقطع فيه بعدم وجود الماء، وهذا بلا إشكال أنه يعتبر مبيحاً لك أن تتيمم، مثال ذلك: أن يخرج الإنسان إلى مكان يعلم أنه لا يوجد فيه ماء أصلاً، ولا يشك أبداً أن الماء غير موجود، فهذا يقين من المكلف بفقد الماء، فيستبيح التيمم مباشرة.

الأمر الثاني: أن يغلب على ظنه الفقد، بمعنى: أن يكون احتمال وجود الماء ضئيلاً، فإذا كان احتمال وجود الماء ضئيلاً فإن العبرة بغالب الظن لا بنادر الظنون؛ لأن الشريعة معلقة على الغالب لا على النادر، ومن قواعدها: (النادر لا حكم له)، ومن قواعد الفقه: (الغالب كالمحقق)، فلما كان غالب ظنك أن الماء غير موجود في هذا الموضع أو في هذا المكان؛ فإنه يعتبر كالقطع بعدم وجوده، فينزل غالب ظنك منزلة يقين عدم الوجود؛ وبناءً على ذلك تستبيح التيمم باليقين وبغلبة الظن، وتبقى لدينا حالة وهي: أن تشك في وجوده، أي: يستوي عندك احتمال وجوده وعدم وجوده، مثال ذلك: نزلت في موضع وأنت مسافر، ولا تدري هل الموضع هذا فيه ماء أو لا ماء فيه، فإن مثل هذه يعتبر شكاً، حيث إن احتمال وجود الماء كاحتمال فقد الماء، ففي هذه الحالة تطالب بالبحث والتحري حتى تصل إلى غالب الظن بالفقد،أو إلى القطع بالفقد فحينئذٍ تأخذ حكم الرخصة ويباح لك أن تترخص بالتيمم.

التيمم عند تعسر شراء الماء

قال رحمه الله: [أو زاد على ثمنه كثيراً أو ثمن يعجزه].

(أو زاد على ثمنه) أما إذا لم يجد الماء فقول واحد عند العلماء أنه يتيمم، وإن كان هناك خلاف في التفريق بين السفر والحضر، لكنه خلاف ضعيف، فإذا فقد الماء فإنه يتيمم لدليلين:

الدليل الأول: قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] وكذلك من السنة: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) فهذان النصان من الكتاب والسنة نصّا على استباحة رخصة التيمم عند فقد الماء.

الدليل الثاني: أنه إذا فقد الماء تعذّر عليه أن يغتسل أو أن يتوضأ، والتكليف إنما يكون بما يمكن، أي: أن الله يكلف المكلف بما في وسعه لا بما ليس في وسعه، فلما كان ليس بوسعه أن يوجد ما ليس بموجود سقط عنه التكليف بطلب الماء، وأصبح مرخصاً له أن يتيمم.

وقوله: (أو ثمن يعجزه).

في هذه المسألة: الماء موجود، ولكنه لا يبذل للمكلف إلا بمبلغ كبير، كأن يقال له: هذه الزجاجة من الماء ثمنها مائة ريال، فإن المائة قد تعجزه، ولا يستطيع دفع هذا المبلغ الذي هو قيمتها، أو يستطيع دفع المبلغ لكنه يعتبر ثمناً كثيراً في مقابل الماء، فعندنا حالتان في قيم الماء:

الحالة الأولى: أن يكون الماء موجوداً وقيمته باهظة، ولكن عنده القدرة على الشراء كأن يكون ثرياً غنياً.

الحالة الثانية: أن يكون الماء موجوداً، ولكن القيمة التي يباع بها هذا الماء سواءً كانت باهظة أو غير باهظة ليست موجودة عنده، فإن فقد القيمة وكانت غير موجودة عنده فهو كالفقد الحسي للماء، ويسمونه الفقد الحكمي، قالوا: فلما كان عاجزاً عن شرائه فكأنه ليس بيده، فهذا لا إشكال في أنه يتيمم ويعدل إلى التيمم.

أما الحالة الأولى لو قال له البائع: لا أعطيك هذا الماء أو هذه الزجاجة من الماء إلا بمبلغ كبير، فقال بعض العلماء: إن إجحافه بالمال ينزل منزلة الفقد، وهذا قول مرجوح، والصحيح: أنه إذا كان ثرياً قادراً على دفع المال فيجب عليه دفعه، فإن أمر الصلاة أمر عظيم، ولا يستكثر أن يدفع المكلف مقابل ركن من أركان دينه هذا المبلغ من المال، ولذلك تقدّم مصلحة الصلاة على مصلحة المال، ولا يعتبر هذا الإجحاف عذراً شرعياً؛ لأن الله عز وجل قال: فَلَمْ تَجِدُوا [المائدة:6] وهذا ليس بفاقد للماء، لا حكماً ولا حقيقة.

التيمم عند خوف الضرر من استعمال الماء

قال رحمه الله: [أو خاف باستعماله أو طلبه ضرر بدنه].

(أو خاف باستعماله ضرر بدنه) صورة ذلك: أن يكون الإنسان مريضاً، فإذا اغتسل أصابته الأمراض أو زاد عليه مرضه، أو أن يكون في زمان شديد البرد، فلو اغتسل خاف على نفسه المرض أو الموت أو الهلاك؛ ففي هذه الحالة يرخص له أن يعدل من الغسل إلى التيمم، وهكذا لو كان الوضوء يضر به وينتهي به إلى تلف نفسه أو حصول ضرر بجسمه جاز له أن يعدل إلى التيمم، وهذا اختيار المحققين، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية فقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لو زاد به الزكام أو حصل له الزكام فمن حقه أن يعدل إلى التيمم؛ لما فيه من وجود الضرر، والله عز وجل كلّف العباد بما لا ضرر فيه، لا بما ينتهي بهم إلى ضرر أنفسهم أو أجسادهم، ولذلك قالوا: إذا كان استعماله للماء يفضي إلى تلف النفس أو حصول ضرر بالنفس أو زيادة سقم ومرض جاز له أن يعدل إلى الرخصة ويتيمم، وقال بعض العلماء: إنه لا يجوز له ذلك إلا إذا خاف الهلاك على نفسه.

فأما دليل الترخص عند خوفه على نفسه وخوفه على جسده فحديث عمار رضي الله عنه وأرضاه وفيه: (أنه كان في زمان برد قال: فخفت على نفسي أو خشيت على نفسي فتيممت) فلذلك قالوا: إن هذا يدل على مشروعية التيمم للبرد الشديد، وظاهر الروايات أنه لم يجد الماء.

والضرر يتحقق بنشوء المرض، سواءً كان نشوء المرض ابتداءً أو بالزيادة فيه، كأن يكون مريضاً بالزكام مثلاً، فلو اغتسل زاد عليه زكامه، فحينئذٍ قالوا: إذا كان مفضياً إلى الزيادة فيستبيح به رخصة التيمم.

التيمم عند خوف الضرر على الرفقة في حال استعمال الماء

قال رحمه الله: [أو على رفيقه].

كذلك أيضاً إذا خاف على رفيقه من استعمال أو طلب، مثال ذلك: أن يكون الإنسان عنده ماء وهو محدث، وهذا الماء لو توضأ به احتاج إليه رفيقه لشرب، فحينئذٍ قالوا: لو قلنا له: توضأ بهذا الماء أو اغتسل بهذا الماء هلك رفيقه، أو تضرر رفيقه بعدم وجود الماء، فقالوا: يحل له إذا خاف على رفيقه الهلاك أن يعدل عن الاغتسال بالماء والوضوء به إلى التيمم، وهذا يسمى: فقداً حكمياً، فإن الماء موجود، ولكنه في حكم المفقود؛ نظراً لما يترتب على استعماله من وجود الضرر بالنفس المحرمة.

وكذلك أيضاً إذا خفت على رفقتك، كأن تكون معك جماعة، وهذا الماء الموجود هو سقاؤهم، فلو أنك اغتسلت بهذا الماء الموجود فإن غالب ظنك أن رفاقك سيتعرضون للهلاك؛ فحينئذٍ نقول: تعدل عن اغتسالك أو وضوئك إلى تيممك؛ لأن خوف هلاك الأنفس المحرمة كخوف الإنسان هلاك نفسه، ولذلك يباح له أن يترخص.

وقوله: (أو طلبه).

الماء قد يكون موجوداً، ولكن يحتاج منك إلى أن تبحث عنه، وعندك رفاق -سواء كانوا من الرجال أو النساء أو الصبيان الضعفة، ولو غبت عنهم خشيت عليهم الضرر، كأن تكون في أرض لا تأمن فيها عدواً أو فاسقاً، فحينئذٍ يكون الخوف على العرض أو على الأطفال من الضرر يوجب الرخصة التي تعدل بها إلى التيمم. فلو غلب على ظنه أن طلب هذا الماء يحتاج إلى أربع ساعات أو خمس ساعات يغيب فيها عن أهله أو حتى يحتاج إلى ساعة أو نصف ساعة والأرض غير مأمونة الضرر بسبب السباع أو الهوام أو ما شابه ذلك؛ فحينئذٍ يتحقق العذر الذي يبيح للمكلف أن يترخص بالتيمم.

التيمم عند العجز عن تحصيل الماء خوفاً على العرض والمال

قال رحمه الله: [أو حرمته أو ماله].

يكون الماء موجود، ولكن يحتاج إلى أن يذهب لجلبه، ويترك سيارته أو صندوقه أو غنمه، حيث لا يستطيع أن يأخذها معه إلى مكان الماء، فحينئذٍ نقول: الخوف على المال يبيح له أن يعدل إلى رخصة التيمم.

قال رحمه الله: [بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه].

كل هذه رخص، فإذا خِفت عليهم الهلاك، أو اعتداء مفسد أو سارق، أو خفت عليهم الضرر من السباع والهوام، فكل هذه من الرخص التي تبيح لك أن تعدل إلى رخصة التيمم.

(ونحوه) أي: أن هذه أصول، ويمكن أن تقيس عليها صوراً من النظائر، فالفقهاء رحمة الله عليهم أعطوك الأصل الذي هو: خوف الضرر على النفس أو على الرفقة أو على المال، وبناءً على ذلك: يجوز للإنسان أن يعدل إلى رخصة التيمم لوجود هذه الأعذار، سواء كانت بالصور الموجودة في زمان العلماء أو بصور جديدة في زماننا هذا.

التيمم عند عدم وجود ما يكفي من الماء للطهارة

قال رحمه الله: [ومن وجد ماء يكفي بعض طهره تيمم بعد استعماله].

هذه المسألة من المسائل التي اختلف العلماء رحمهم الله فيها، وهي: عندك ماء لا يكفي لغسل جميع البدن في طهارة الغسل أو لا يكفي لغسل جميع أعضاء الوضوء في طهارة الوضوء، فالماء موجود ولكنه غير كافٍ لاستيعاب محل الفرض، فقال بعض العلماء: من كان الماء عنده قليلاً بحيث لا يمكن استيعاب محل الفرض به فإنه يعدل إلى التيمم مباشرة.

وقال بعض العلماء: من كان عنده ماء يكفي لبعض الأعضاء دون بعضها؛ غسل البعض ثم تيمم بنية ما بقي، وهذان قولان مشهوران عند أهل العلم.

فالذين قالوا بالعدول إلى التيمم مباشرة، قالوا: لا نعرف في الشريعة الإسلامية الجمع بين الوضوء والتيمم وبين الغسل والتيمم، فالله عز وجل أمرنا بغسل أو تيمم، وأمرنا بوضوء أو تيمم، أما الجمع بينهما فلا نعهده شرعاً، وليس في نصوص الكتاب والسنة ما يدل على الجمع بينهما، ولا يصح لنا أن نجزّئ أعضاء المأمور به، فنقول: يغتسل لبعض ويتيمم لبعض؛ لأن الشريعة جاءت بغسل للجميع وبتيمم عن الجميع، ولا يستطيع أن يحدث الفقيه صورة تجمع بين الأصلين، فيقال له: اغتسل للبعض وتيمم للبعض، ثم قالوا: إن الدليل الذي استدل به على الجمع بينهما إما ضعيف كحديث الشجّة التي تكلم عليه الحافظ الدارقطني في الرجل الذي أصابته شجة، فأشار عليه البعض بأن يغتسل، فمات من ذلك الغسل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا) ثم بيّن عليه الصلاة والسلام أنه كان عليه أن يجمع بين غسله لما استطاع أن يغسل من بدنه وتيممه على جراحه، قالوا: هذا يدل على الجمع بينهما، لكنه حديث ضعيف، ثم أيضاً قالوا: العمومات التي استدل بها لا تصلح أن تكون دليلاً في صور الطهارة المخصوصة، فإن صور الطهارة المخصوصة إما تيمم وإما غسل أو وضوء، فاستحداث صورة ثالثة بالعموم لا يتأتى، ومن العمومات التي استدل بها قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] قالوا: إن هذا بإمكانه أن يغسل بعض الأعضاء ويتيمم للبعض، فيتقي الله بغسل ما استطاع غسله ويتيمم لما بقي.

والذين قالوا بمشروعية الجمع بين التيمم وبين الغسل -كما درج عليه المصنف رحمه الله- يستدلون بظاهر الحديث الذي تكلم في سنده، ثم أيضاً قالوا: إن الله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وهذا باستطاعته أن يمس بدنه الماء ويتيمم لما عجز، وقالوا أيضاً: إن الله عز وجل يقول: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] فإذا تيمم مع وجود الماء لم يتحقق فيه الشرط الشرعي لاستباحة الرخصة، فنقول: لا بد -أولاً- أن يستعمل الماء حتى يتحقق فيه شرط فقده.

هذه أوجه من قال بالجمع بين التيمم والغسل على ما درج عليه المصنف، وإن كان كلا القولين له وجهه، فإن القول بالجمع بينهما له وجه، ويمكن الجواب عن دليل المخالف، والقول بأنه لا يجمع ويقتصر على التيمم له وجه أيضاً.

فالقول الذي يقول بأنه يجمع بينهما تقويه الأصول، ووجه ذلك: أنه إذا توجه الخطاب بمأمور ولم يتأتّ في الكل توجه بقدر ما يستطيع المكلف، وهذا ظاهر قوله تعالى: : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ثم يبقى ما لا يستطاع تحت موجب الرخصة، فتستباح الرخصة، وتكون الصورة الغير معهودة خارجة لندرة الوقوع، يعني: أن الشريعة لم تنص على هذه المسألة -وهي أن يجد ماء لا يكفيه لبعض أجزائه- لندرة وقوعها وأما بالنسبة للقول الذي يقول بأنه لا يجمع فيقويه أن الطهارة عبادة متصلة لا تتجزأ، وبناءً على ذلك يقوى أصلهم بأنه يتيمم مباشرة ويلغي الماء الموجود. والأحوط أنه يغسل الأعضاء حتى يخرج من تبعة ترك الغسل للمأمور بغسله ثم يتيمم لما بقي بنية استباحة الصلاة.

التيمم للجروح

قال رحمه الله: [ ومن جُرح تيمم له وغسل الباقي ].

(ومن جرح تيمم له) الضمير في (له) عائد إلى الجرح، (وغسل الباقي) أي: باقي جسده، ووجه ذلك: أنه يستطيع غسل باقي جسده فبقي على الأصل، والجرح لا يمكنه أن يغسله فرخص له بالتيمم من أجله. وهذه المسألة يصفها العلماء بالجمع بين البدل والمبدل، ويقول بها فقهاء الحنابلة ويوافقهم الشافعية وغيرهم، ويلغز العلماء فيها فيقولون: ما هي صور الجمع بين البدل والمبدل؟

لأن الأصل في البدل والمبدل ألا يجتمعا؛ لأن الضدين لا يجتمعان، فما تستطيع أن تقول: هذا حلو مر، فإما أن تقول: هذا حلو، وإما أن تقول: هذا مر، وبناءً على ذلك قالوا: إن البدل والمبدل كالضدين، فالتيمم لا يستباح إلا عند عدم الماء أو عدم طهارة الماء، وبناءً على ذلك قالوا: لا يجمع بين البدل والمبدل على القاعدة المقرَّرة، إلا في صور تخرج من هذا الأصل، منها هذه المسألة، أي: أن يكون مجروحاً.

وقال بعض العلماء: إذا أمكنه أن يبلّ يده ويمرها على الجرح مبلولة، فإنه يجزئه ذلك ولا حرج عليه فيه، ولا يطلب منه أن يتيمم للجرح إذا أمكنه إمرار يده مبلولة.

(وهو بدل عن طهارة الماء إذا دخل وقت فريضة) إذا دخل: هذا شرط، والشروط في المتون الفقهية يعتبر مفهومها، وإن كان بعض العلماء له مصطلح في المفاهيم التي يذكرها في متنه. ومعنى قولنا: إن الشروط تعتبر مفاهيمها، أنه مثلاً: إذا قال لك: إذا دخل وقت فريضة، فمفهومه أنه إذا لم يدخل وقت الفريضة فإنه لا يتيمم لها، لكن لو تيمم لغير الفريضة كأن يتيمم لمس مصحف إذا كان جنباً أو يتيمم للطواف بالبيت فلا حرج عليه.

إذاً: قوله: (إذا دخل وقت فريضة) أي: أنك تتيمم وتستبيح رخصة التيمم للفريضة بشرط أن يدخل وقتها، فلو أن إنساناً سألك وقال: لم أجد الماء فتيممت قبل أذان الظهر ثم دخل وقت الظهر فصليت؟ فتجيب: لا يصح التيمم ولا يستباح بهذا التيمم فعل الصلاة؛ لأن شرط التيمم أن يدخل وقت الفريضة. هذا بالنسبة لمعنى العبارة.

أما الدليل الذي يدل على اشتراط دخول الوقت للتيمم، فقالوا: إنه الأصل في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] إلى أن قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6] هذه الآية وجه دلالتها على اشتراط دخول الوقت -وهذا يحتاج إلى دقة في الفهم والتركيز- أنه في أول الإسلام كان يجب على المكلف إذا دخل وقت الفريضة أن يتوضأ، حتى ولو كان متوضئاً، وكانوا يصلون كل فريضة بعد دخول وقتها بوضوئها، أي: في الوقت، ثم نسخ ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أهل العلم من قيّد النسخ بفعله عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه لم يصلِّ العصر حتى غربت الشمس، كما في الصحيحين من حديث عمر : (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال عليه الصلاة والسلام: والله ما صليتها، قوموا بنا إلى بطحان، قال: فتوضأ ثم صلى العصر والمغرب والعشاء) قالوا: هذا نسخ وجوب الوضوء عند دخول الوقت، ودل على أنه يشرع للمكلف أن يجمع بوضوء واحد بين عدة صلوات ولا حرج عليه في ذلك، فأصبح الوضوء رافعاً للحدث، وبناءً على ذلك قالوا: نُسخ الحكم في الوضوء وبقي التيمم على الأصل من كونه مطالباً بالتيمم عند دخول الوقت، وهذا صحيح؛ لأنه إن ورد النص على العموم إلا أن سياق الآية يقيد الطهارة بدخول الوقت إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:6] ولا يقام لفعل الصلاة المفروضة إلا بعد دخول وقتها، فلما جاء الناسخ في الوضوء بقي غيره على الأصل، قالوا: فبقي التيمم على الأصل، ومن هنا لا يتيمم إلا عند دخول وقت الفريضة، وتفرّع على هذا أن التيمم مبيح لا رافع، أي: أن التيمم يبيح لك فعل الصلاة لا أنه يرفع الحدث، إذ لو كان رافعاً للحدث لما احتجت بعد تيممك الأول إلى تجديده بدخول وقت الفريضة الثاني.

وهذه مسألة خلاف: هل التيمم مبيح أم رافع؟

أصح القولين عند العلماء رحمهم الله: أن التيمم مبيح، ويشهد لذلك -كما قلنا- ظاهر التنزيل، وأيضاً ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رجلاً لم يصلِّ -وفي رواية: أنها صلاة الفجر، كما في حديث عمران في الصحيحين- فقال: ما منعك أن تصلي في القوم؟ قال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك) وفي رواية: (ثم وجد الماء فبعث به إلى الرجل) فوجه الدلالة: أن الرجل حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالصعيد الطيب) سيتيمم للصلاة مباشرة، ولا شك أن تيممه قد وقع قبل وجود الماء؛ لأن الوقت الذي وقع بين وجود النبي صلى الله عليه وسلم للماء وبين فراقه للرجل وقت كافٍ للتيمم قطعاً، وقد توجّه عليه الحكم أن يتيمم، فتيمم الرجل لإدراك الفريضة الواجبة عليه، فلما تيمم قال: (فبعث به إلى الرجل) وجه الدلالة: أن هذا يدل على أن التيمم يبيح فعل الصلاة لا أنه رافع للحدث فيصح فعل الصلاة مطلقاً.

قال رحمه الله: [أو أبيحت نافلة].

عندنا صلاتان: الصلاة المفروضة، والصلاة النافلة، فإن قلت: إن التيمم لا يكون إلا عند دخول وقت الصلاة، فقيده بصلاة الفريضة بوقتها، فتقول: يتيمم لصلاة الظهر بعد زوال الشمس، ويتيمم لصلاة المغرب بعد غروب الشمس... إلخ، وإن كانت الصلاة نافلة اعتبرت فيها الأوقات المنهي عنها، فتقول: يتيمم في وقت تباح فيه النافلة، فلو أنه تيمم بعد صلاة الصبح أو بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس لِفِعْلِ نافلة مطلقة؛ فإنه لا يصح تيممه لوقوعه في غير الوقت المعتبر لإجزاء التيمم في الصلاة.

قال رحمه الله: [وعَدِمَ الماء أو زاد على ثمنه].

(وعدم الماء) هذا شرط؛ دل عليه قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] فمن عدم الماء كأن يسافر سفراً ثم ينتهي الماء الذي معه ولا يجد ماء لا لغسل جنابة ولا لوضوء، فإنه في هذه الحالة يعتبر فاقداً للماء.

(عَدِمَ الماء) للعلماء في عدْم الماء قولان:

منهم من يقول: عدم الماء يبيح التيمم كلياً، أي: على العموم سواءً وقع ذلك العدم في سفر أو وقع في حضر، فكل من لم يجد الماء في سفر أو حضر أبيح له أن يتيمم، ومنهم من قيده بالسفر، والصحيح: أن الحكم عام يشمل من كان

عادماً للماء في السفر أو في الحضر.

وعدم الماء يتحقق بأمرين:

الأمر الأول: إما يقين تقطع فيه بعدم وجود الماء، وهذا بلا إشكال أنه يعتبر مبيحاً لك أن تتيمم، مثال ذلك: أن يخرج الإنسان إلى مكان يعلم أنه لا يوجد فيه ماء أصلاً، ولا يشك أبداً أن الماء غير موجود، فهذا يقين من المكلف بفقد الماء، فيستبيح التيمم مباشرة.

الأمر الثاني: أن يغلب على ظنه الفقد، بمعنى: أن يكون احتمال وجود الماء ضئيلاً، فإذا كان احتمال وجود الماء ضئيلاً فإن العبرة بغالب الظن لا بنادر الظنون؛ لأن الشريعة معلقة على الغالب لا على النادر، ومن قواعدها: (النادر لا حكم له)، ومن قواعد الفقه: (الغالب كالمحقق)، فلما كان غالب ظنك أن الماء غير موجود في هذا الموضع أو في هذا المكان؛ فإنه يعتبر كالقطع بعدم وجوده، فينزل غالب ظنك منزلة يقين عدم الوجود؛ وبناءً على ذلك تستبيح التيمم باليقين وبغلبة الظن، وتبقى لدينا حالة وهي: أن تشك في وجوده، أي: يستوي عندك احتمال وجوده وعدم وجوده، مثال ذلك: نزلت في موضع وأنت مسافر، ولا تدري هل الموضع هذا فيه ماء أو لا ماء فيه، فإن مثل هذه يعتبر شكاً، حيث إن احتمال وجود الماء كاحتمال فقد الماء، ففي هذه الحالة تطالب بالبحث والتحري حتى تصل إلى غالب الظن بالفقد،أو إلى القطع بالفقد فحينئذٍ تأخذ حكم الرخصة ويباح لك أن تترخص بالتيمم.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3706 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3621 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3444 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3376 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3343 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3321 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3230 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3171 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [2] 3118 استماع