شرح زاد المستقنع باب دخول مكة [1]


الحلقة مفرغة

السنة في جهة الدخول إلى مكة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [باب دخول مكة].

هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة دخوله في حجه وعمرته لمكة، وما هو الهدي الذي ينبغي على الحاج أن يحافظ عليه، وكذلك على المعتمر إذا دخل مكة -زادها الله شرفاً وكرامةً-، ونظراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه هذه السنة، فقد اعتنى العلماء رحمهم الله بتخصيص الدخول إلى مكة ببيان جملةٍ من أحكامه ومسائله، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.

قوله: (باب دخول مكة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفة الدخول إلى مكة، والدخول إلى البيت من أجل الطواف.

قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها] .

أي: يسنّ الدخول إلى مكة من أعلاها، والمراد بأعلاها من جهة ثنية كداء، وهي الثنية التي عند قبور المعلاة، ومنها ينصب الداخل على البطحاء، ثم يستقبل باب البيت، وهذا المدخل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة أنه دخل مكة منه.

وللعلماء رحمهم الله في هذا الدخول وجوه:

الوجه الأول: منهم من قال: هذا الدخول كما لا يخفى بالنسبة لأهل المدينة فيه رفقٌ بهم، فيأتي الحاج والمعتمر من جهة التنعيم، ثم إلى الحجون، ثم ينحرف ذات اليسار مع الحجون حتى ينصب إلى الثنية، ويدخل من جهة القبور، ولا يزال الطريق موجوداً إلى الآن، وهو الطريق الذي يفصل قبور المعلاة وينصب من بينها، فهذا هو مدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثنية كداء.

قال هؤلاء العلماء: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من هذا الموضع، وهو أعلى مكة؛ لأنه خرج من مكة متخفياً بالليل، فدخلها من أعلاها إعزازاً للإسلام وإعلاءً لشأنه، فالتمس أرفع المواضع، وأعلى المواطن حتى تظهر شوكة الإسلام وعزته، وهذا يدل على أن الله تعالى تكفل بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ليلاً، فأدخله الله إليها في وضح النهار، في يومٍ أعز الله فيه دينه، ونصر فيه عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.

فأدخله الله عز وجل في وضح النهار معززاً مكرماً، بين أصحابه الذين يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، خرج منها كالوحيد ليس معه إلا أبو بكر والدليل، وأدخله الله مع ثمانية آلاف يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذا كله يدل على ما كان لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الدين عند الله عز وجل من شأنٍ.

الوجه الثاني: ومنهم من قال: إنه دخل من هذا الموضع لأن حسان رضي الله عنه قال:

عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء

في قصيدته المشهورة:

عفت ذات الأصابع فالـدلاء إلى عذراء موضعها خلاء

ديارٌ من بني حسحاس قصرٌ تعفيها الروامس والدلاء

فلما ذكر هذا الموضع -أي: كداء- أصدق النبي صلى الله عليه وسلم وعده، وحافظ على الدخول من جهة ثنية المعلاء.

الوجه الثالث: التشريف، وهذا أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله بالشرح، وأشار إليه غيره، أن هذا الموضع إذا دخل منه الحاج والمعتمر يدخل على القبور، ومن جهة القبور على البطحاء، ثم على جهة الصفا والمروة، فيستقبل باب البيت، فكأنهم يرون وجه مكة من هذه الجهة، وحينئذٍ قالوا: إنه يستقبل باب البيت، ففي هذا تشريفٌ للبيت وتكريم، وكذلك أيضاً يستقبل وجه مكة، ولذلك لما خرج عليه الصلاة والسلام خرج من ثنية كداء، وهي بأسفل مكة، فكان مدخله من الأعلى ومخرجه من الأسفل، فلهذا يقولون: إنه تشريف للبيت، والملوك تُأتى من أبوابها، وهذا من باب التشريف لبيت الله عز وجل، فيؤتى من جهة بابه، ولذلك يُقصد الدخول من باب بني شيبة، كما ثبتت في ذلك الأحاديث الصحيحة في صفة دخوله عليه الصلاة والسلام.

وهناك وجهٌ رابع أنه دخل هكذا اتفاقاً، أي: أنه تيسر له أن يدخل من جهة المدينة، فكان دخوله من هذا الموضع، ولكن هذا القول يشكل عليه دخوله عليه الصلاة والسلام في عمرة الجعرانة، وسلوكه عليه الصلاة والسلام في مدخله في جميع دخوله إلى مكة هذا الموضع، فدل على أنه مقصود وليس بأمرٍ اتفاقي.

وفائدة الخلاف بين كونه مقصوداً أو اتفاقاً: أننا لو قلنا: إنه مقصود، فيشرع للحاج والمعتمر أن ينحرف إذا جاء من غير هذه الجهة، كأهل جدة -مثلاً- إذا أرادوا إصابة السُنَّة فإنهم ينحرفون إلى طريق المدينة، ويدخلون من جهة الحجون؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا غيرهم إذا قلنا: إنها سنةٌ مقصودة.

أما إذا قلنا: إنها سنةٌ اتفاقية، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن هذا أرفق وأيسر له، فالأمر يسير ولا إشكال فيه.

وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من موضعٍ وخرج من موضع؛ تكثيراً للخطى في طاعة الله عز وجل، ولكي تشهد الأرض للعبد بما يكون له من الخير، ولذلك ذهب إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر، ومضى إلى عرفاتٍ من طريق ضب -وهو الطريق الأيمن- ودفع إلى مزدلفة من طريق المأزمين بين الجبال، فقالوا: هذا كله لتكثير الخطا، ولكي تشهد الأرض له بالخير.

فاستحبوا -على هذا الوجه الثاني- لمن دخل مكة من موضع أن يخرج منها من موضعٍ آخر، فتكون السنة إجمالياً من حيث تكثير الخطا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في نص الكتاب والسنة أن الأرض تشهد بما يُعمل عليها من خيرٍ وشر، كما قال تعالى:يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5].

قال العلماء: تتحدث بأخبارها، أي: بما عمل عليها من خيرٍ وشر، وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12].

وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يا بني سلمة! ديارَكم تُكتبْ آثارُكم)، وهذا يدل على أن الأفضل أن الإنسان يمضي في الطاعة من سبيل ويرجع من سبيلٍ آخر.

فالسنة أن يدخل مكة من أعلاها -كما نص عليه المصنف- ويكاد يتفق العلماء رحمة الله عليهم أن مدخل الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أعلى مكة، وهذا الدخول يستوي أن يكون بالليل ويكون بالنهار، فيدخل الحاج في الليل ويدخل في النهار، وأكثر دخوله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة كان بالنهار، ودخلها ليلاً في عمرة الجِعرَّانة أو الجِعرَانة، لما فتح الطائف وقسم الغنائم -غنائم حنين-، ثم نزل واعتمر عمرته المشهورة، قالوا: وقعت ليلاً منه صلوات الله وسلامه عليه، ورجع إلى الجعرانة وبات بها، كما يقول أهل السير، فهذا هو مدخله بالليل.

وأما بقية عمره عليه الصلاة والسلام، وكذلك فتحه لمكة، وكذلك حجة الوداع فكل ذلك وقع منه صلوات الله وسلامه عليه بالنهار.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه إذا كان الإنسان يقتدى به كالعالم ونحوه، فالأفضل أن يدخل في النهار، وهكذا طالب العلم؛ لأنه ربما وافق الجاهل الذي لا يعرف السنن فيعلمه، أو يراه يفعل السنة فيتأسى به، فاستحبوا له الدخول بالنهار؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشارت أم المؤمنين إلى هذا، قالوا: فنظراً إلى حاجة الناس إلى معرفة هديه عليه الصلاة والسلام وقع دخوله نهاراً، ولم يقع ليلاً إلا في العمرة التي ذكرنا، فاستحبوا لطالب العلم وللعالم أن يكون دخوله بالنهار، وأن يكون إيقاعه لطواف عمرته، وكذلك طواف القدوم في حجه، أو طواف التمتع -إذا كان متمتعاً في حجه- أن يكون بالنهار؛ لكي يُتأسى به.

وقت الدخول وحالة الداخل

ولا حرج أن يقع الدخول ليلاً، ولكن السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بات بذي طوى، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قدم إلى مكة يبيت في ذي طوى كما ثبت عنه في صحيح البخاري، وموطأ مالك: أنه كان إذا دخل مكة قطع تلبيته عند الحرار، ثم بات بذي طوى، ثم أصبح واغتسل بذي طوى، ثم مضى إلى البيت، وكان يفعل ذلك وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال العلماء: قد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عُمَرِه صلوات الله وسلامه عليه.

والسنة إذا دخل مكة -آفاقياً أو غيره- أن يستشعر حرمة هذا البلد الذي حرمه الله عز وجل، وشرفه وكرمه، وجعل فيه بيته، وجعل فيه المسجد الحرام الذي جعل الصلاة فيه مفضلةً على سائر بقاع الأرض، ولا شك أن تخصيص الله تعالى لهذا البلد بهذه الفضائل يوجب على المسلم إذا دخله أن يستشعر هذه الحرمة، ولذلك لما دخل صلوات الله وسلامه عليه يوم الفتح وقد أعزه الله عز وجل، وأجله وأكرمه ونصره، طأطأ رأسه تواضعاً لله سبحانه وتعالى.

وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كانت لحيته تكاد تمس قربوس سرجه، وهو يوم فتح ويوم عزة وتمكين، كل ذلك إكراماً لهذا البلد الآمن، وتشريفاً له، واستشعاراً لحرمته، ولذلك لما خطب الناس في اليوم الثاني أكد هذه الحرمة فقال: (ومن ترخص لكم بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أحلها لنبيه، إنها لا تحل لأحدٍ من بعدي، وإنما أحلت لي ساعةً من نهار)، وهذا يدل على عظيم حرمة هذا البلد، وأنه ينبغي لمن دخله زائراً أو كان من أهله أن يستشعر حرمته، وأن يرعى هذه الحرمة بفعل طاعة الله والبعد عن حرمات الله عز وجل، فيدخلها دخول المستشعر لحرمتها؛ حتى يكون ذلك أدعى لحفظ حدود الله، وأدعى أيضاً لمحافظته على طاعة الله عز وجل.

فإن من دخل مكة وفي قلبه تعظيمها وإجلالها وهيبتها وفقه الله عز وجل للطاعة والخير والبر، ومن دخلها مستهيناً بحُرمتها أهانه الله عز وجل، وقد يبتلى -والعياذ بالله- بتعدي حدود الله والوقوع في محارم الله في حرم الله، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بوجهه العظيم من الخذلان.

قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها ودخول المسجد من باب بني شيبة].

أي: ويسن الدخول للمسجد من باب بني شيبة.

فالسنة لمن دخل مكة وأراد دخول الحرم أن يدخل من باب بني شيبة، وهذا -كما ذكرنا- أن من العلماء من يقول: إنه شيءٌ اتفاقي، ومنهم من يقول: إنه شيءٌ مقصود، ولو فعله الإنسان متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل من حيث دخل، وقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خير، ومأجور على ذلك؛ لأنه ما فعل ذلك إلا تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وباب بني شيبة هو الباب الذي بحذاء الصفا -جهة الصفا- وهذا الدخول ليس بواجب، أي: أن دخوله من هذا الباب ليس بلازم، والسنة له إذا دخل أن يقول ما ورد في الدخول إلى المساجد عموماً، وورد في بعض الأحاديث -ولكنهم تكلموا في سنده- أنه يكبر عند رؤية البيت، كما سيذكر المصنف رحمه الله، وسيأتي الكلام على هذا.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المؤلف عليه رحمة الله: [باب دخول مكة].

هذا الباب قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة دخوله في حجه وعمرته لمكة، وما هو الهدي الذي ينبغي على الحاج أن يحافظ عليه، وكذلك على المعتمر إذا دخل مكة -زادها الله شرفاً وكرامةً-، ونظراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه هذه السنة، فقد اعتنى العلماء رحمهم الله بتخصيص الدخول إلى مكة ببيان جملةٍ من أحكامه ومسائله، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.

قوله: (باب دخول مكة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفة الدخول إلى مكة، والدخول إلى البيت من أجل الطواف.

قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها] .

أي: يسنّ الدخول إلى مكة من أعلاها، والمراد بأعلاها من جهة ثنية كداء، وهي الثنية التي عند قبور المعلاة، ومنها ينصب الداخل على البطحاء، ثم يستقبل باب البيت، وهذا المدخل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت عنه الأحاديث الصحيحة أنه دخل مكة منه.

وللعلماء رحمهم الله في هذا الدخول وجوه:

الوجه الأول: منهم من قال: هذا الدخول كما لا يخفى بالنسبة لأهل المدينة فيه رفقٌ بهم، فيأتي الحاج والمعتمر من جهة التنعيم، ثم إلى الحجون، ثم ينحرف ذات اليسار مع الحجون حتى ينصب إلى الثنية، ويدخل من جهة القبور، ولا يزال الطريق موجوداً إلى الآن، وهو الطريق الذي يفصل قبور المعلاة وينصب من بينها، فهذا هو مدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثنية كداء.

قال هؤلاء العلماء: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من هذا الموضع، وهو أعلى مكة؛ لأنه خرج من مكة متخفياً بالليل، فدخلها من أعلاها إعزازاً للإسلام وإعلاءً لشأنه، فالتمس أرفع المواضع، وأعلى المواطن حتى تظهر شوكة الإسلام وعزته، وهذا يدل على أن الله تعالى تكفل بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ليلاً، فأدخله الله إليها في وضح النهار، في يومٍ أعز الله فيه دينه، ونصر فيه عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.

فأدخله الله عز وجل في وضح النهار معززاً مكرماً، بين أصحابه الذين يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، خرج منها كالوحيد ليس معه إلا أبو بكر والدليل، وأدخله الله مع ثمانية آلاف يفدونه بأرواحهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذا كله يدل على ما كان لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الدين عند الله عز وجل من شأنٍ.

الوجه الثاني: ومنهم من قال: إنه دخل من هذا الموضع لأن حسان رضي الله عنه قال:

عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء

في قصيدته المشهورة:

عفت ذات الأصابع فالـدلاء إلى عذراء موضعها خلاء

ديارٌ من بني حسحاس قصرٌ تعفيها الروامس والدلاء

فلما ذكر هذا الموضع -أي: كداء- أصدق النبي صلى الله عليه وسلم وعده، وحافظ على الدخول من جهة ثنية المعلاء.

الوجه الثالث: التشريف، وهذا أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله بالشرح، وأشار إليه غيره، أن هذا الموضع إذا دخل منه الحاج والمعتمر يدخل على القبور، ومن جهة القبور على البطحاء، ثم على جهة الصفا والمروة، فيستقبل باب البيت، فكأنهم يرون وجه مكة من هذه الجهة، وحينئذٍ قالوا: إنه يستقبل باب البيت، ففي هذا تشريفٌ للبيت وتكريم، وكذلك أيضاً يستقبل وجه مكة، ولذلك لما خرج عليه الصلاة والسلام خرج من ثنية كداء، وهي بأسفل مكة، فكان مدخله من الأعلى ومخرجه من الأسفل، فلهذا يقولون: إنه تشريف للبيت، والملوك تُأتى من أبوابها، وهذا من باب التشريف لبيت الله عز وجل، فيؤتى من جهة بابه، ولذلك يُقصد الدخول من باب بني شيبة، كما ثبتت في ذلك الأحاديث الصحيحة في صفة دخوله عليه الصلاة والسلام.

وهناك وجهٌ رابع أنه دخل هكذا اتفاقاً، أي: أنه تيسر له أن يدخل من جهة المدينة، فكان دخوله من هذا الموضع، ولكن هذا القول يشكل عليه دخوله عليه الصلاة والسلام في عمرة الجعرانة، وسلوكه عليه الصلاة والسلام في مدخله في جميع دخوله إلى مكة هذا الموضع، فدل على أنه مقصود وليس بأمرٍ اتفاقي.

وفائدة الخلاف بين كونه مقصوداً أو اتفاقاً: أننا لو قلنا: إنه مقصود، فيشرع للحاج والمعتمر أن ينحرف إذا جاء من غير هذه الجهة، كأهل جدة -مثلاً- إذا أرادوا إصابة السُنَّة فإنهم ينحرفون إلى طريق المدينة، ويدخلون من جهة الحجون؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا غيرهم إذا قلنا: إنها سنةٌ مقصودة.

أما إذا قلنا: إنها سنةٌ اتفاقية، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن هذا أرفق وأيسر له، فالأمر يسير ولا إشكال فيه.

وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من موضعٍ وخرج من موضع؛ تكثيراً للخطى في طاعة الله عز وجل، ولكي تشهد الأرض للعبد بما يكون له من الخير، ولذلك ذهب إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر، ومضى إلى عرفاتٍ من طريق ضب -وهو الطريق الأيمن- ودفع إلى مزدلفة من طريق المأزمين بين الجبال، فقالوا: هذا كله لتكثير الخطا، ولكي تشهد الأرض له بالخير.

فاستحبوا -على هذا الوجه الثاني- لمن دخل مكة من موضع أن يخرج منها من موضعٍ آخر، فتكون السنة إجمالياً من حيث تكثير الخطا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في نص الكتاب والسنة أن الأرض تشهد بما يُعمل عليها من خيرٍ وشر، كما قال تعالى:يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5].

قال العلماء: تتحدث بأخبارها، أي: بما عمل عليها من خيرٍ وشر، وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12].

وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يا بني سلمة! ديارَكم تُكتبْ آثارُكم)، وهذا يدل على أن الأفضل أن الإنسان يمضي في الطاعة من سبيل ويرجع من سبيلٍ آخر.

فالسنة أن يدخل مكة من أعلاها -كما نص عليه المصنف- ويكاد يتفق العلماء رحمة الله عليهم أن مدخل الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أعلى مكة، وهذا الدخول يستوي أن يكون بالليل ويكون بالنهار، فيدخل الحاج في الليل ويدخل في النهار، وأكثر دخوله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة كان بالنهار، ودخلها ليلاً في عمرة الجِعرَّانة أو الجِعرَانة، لما فتح الطائف وقسم الغنائم -غنائم حنين-، ثم نزل واعتمر عمرته المشهورة، قالوا: وقعت ليلاً منه صلوات الله وسلامه عليه، ورجع إلى الجعرانة وبات بها، كما يقول أهل السير، فهذا هو مدخله بالليل.

وأما بقية عمره عليه الصلاة والسلام، وكذلك فتحه لمكة، وكذلك حجة الوداع فكل ذلك وقع منه صلوات الله وسلامه عليه بالنهار.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه إذا كان الإنسان يقتدى به كالعالم ونحوه، فالأفضل أن يدخل في النهار، وهكذا طالب العلم؛ لأنه ربما وافق الجاهل الذي لا يعرف السنن فيعلمه، أو يراه يفعل السنة فيتأسى به، فاستحبوا له الدخول بالنهار؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشارت أم المؤمنين إلى هذا، قالوا: فنظراً إلى حاجة الناس إلى معرفة هديه عليه الصلاة والسلام وقع دخوله نهاراً، ولم يقع ليلاً إلا في العمرة التي ذكرنا، فاستحبوا لطالب العلم وللعالم أن يكون دخوله بالنهار، وأن يكون إيقاعه لطواف عمرته، وكذلك طواف القدوم في حجه، أو طواف التمتع -إذا كان متمتعاً في حجه- أن يكون بالنهار؛ لكي يُتأسى به.

ولا حرج أن يقع الدخول ليلاً، ولكن السنة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بات بذي طوى، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قدم إلى مكة يبيت في ذي طوى كما ثبت عنه في صحيح البخاري، وموطأ مالك: أنه كان إذا دخل مكة قطع تلبيته عند الحرار، ثم بات بذي طوى، ثم أصبح واغتسل بذي طوى، ثم مضى إلى البيت، وكان يفعل ذلك وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال العلماء: قد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عُمَرِه صلوات الله وسلامه عليه.

والسنة إذا دخل مكة -آفاقياً أو غيره- أن يستشعر حرمة هذا البلد الذي حرمه الله عز وجل، وشرفه وكرمه، وجعل فيه بيته، وجعل فيه المسجد الحرام الذي جعل الصلاة فيه مفضلةً على سائر بقاع الأرض، ولا شك أن تخصيص الله تعالى لهذا البلد بهذه الفضائل يوجب على المسلم إذا دخله أن يستشعر هذه الحرمة، ولذلك لما دخل صلوات الله وسلامه عليه يوم الفتح وقد أعزه الله عز وجل، وأجله وأكرمه ونصره، طأطأ رأسه تواضعاً لله سبحانه وتعالى.

وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كانت لحيته تكاد تمس قربوس سرجه، وهو يوم فتح ويوم عزة وتمكين، كل ذلك إكراماً لهذا البلد الآمن، وتشريفاً له، واستشعاراً لحرمته، ولذلك لما خطب الناس في اليوم الثاني أكد هذه الحرمة فقال: (ومن ترخص لكم بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أحلها لنبيه، إنها لا تحل لأحدٍ من بعدي، وإنما أحلت لي ساعةً من نهار)، وهذا يدل على عظيم حرمة هذا البلد، وأنه ينبغي لمن دخله زائراً أو كان من أهله أن يستشعر حرمته، وأن يرعى هذه الحرمة بفعل طاعة الله والبعد عن حرمات الله عز وجل، فيدخلها دخول المستشعر لحرمتها؛ حتى يكون ذلك أدعى لحفظ حدود الله، وأدعى أيضاً لمحافظته على طاعة الله عز وجل.

فإن من دخل مكة وفي قلبه تعظيمها وإجلالها وهيبتها وفقه الله عز وجل للطاعة والخير والبر، ومن دخلها مستهيناً بحُرمتها أهانه الله عز وجل، وقد يبتلى -والعياذ بالله- بتعدي حدود الله والوقوع في محارم الله في حرم الله، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بوجهه العظيم من الخذلان.

قال رحمه الله تعالى: [يسن من أعلاها ودخول المسجد من باب بني شيبة].

أي: ويسن الدخول للمسجد من باب بني شيبة.

فالسنة لمن دخل مكة وأراد دخول الحرم أن يدخل من باب بني شيبة، وهذا -كما ذكرنا- أن من العلماء من يقول: إنه شيءٌ اتفاقي، ومنهم من يقول: إنه شيءٌ مقصود، ولو فعله الإنسان متأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل من حيث دخل، وقصد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خير، ومأجور على ذلك؛ لأنه ما فعل ذلك إلا تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وباب بني شيبة هو الباب الذي بحذاء الصفا -جهة الصفا- وهذا الدخول ليس بواجب، أي: أن دخوله من هذا الباب ليس بلازم، والسنة له إذا دخل أن يقول ما ورد في الدخول إلى المساجد عموماً، وورد في بعض الأحاديث -ولكنهم تكلموا في سنده- أنه يكبر عند رؤية البيت، كما سيذكر المصنف رحمه الله، وسيأتي الكلام على هذا.

رؤية البيت ودخوله وما ورد في ذلك

[فإذا رأى البيت رفع يديه وقال ما ورد].

إذا دخل فالسنة أن يقدم رجله اليمنى ويؤخر اليسرى، كالدخول في سائر المساجد، ويسمي الله تعالى، ويسأل الله تعالى أن يفتح له أبواب رحمته، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وذلك بعد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإذا قال الدعاء الوارد في الدخول فليبتدئ بالطواف.

والدعاء الوارد الذي يشير إليه المصنف جملتان:

الأولى: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، حيَّنا ربنا بالسلام)، وقد أُثر هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مرفوع وفيه كلام.

الجملة الثانية: (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيما ومهابةً وبراً، وزد من شَرَّفه وكَرَّمه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابةً وبراً)، وهذا الحديث رواه الطبراني ، وكذلك الشافعي في مسنده، ولكن فيه كلام، وهو من رواية عاصم القوزي وهو كذاب، ولذلك فالعمل عند بعض العلماء أن يقول الدعاء المحفوظ في الدخول إلى المساجد عموماً، وما دام أن الحديث لم يثبت ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يتعبد بما هو من اختلاق الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يقول ما ورد في الدخول إلى المساجد عموماً.

وأما التكبير عند رؤية البيت فقد تسامح فيه بعض العلماء، ونقله شيخ الإسلام رحمه الله عن الإمام أحمد ، وعن بعض السلف، ولكن ليس فيه شيءٌ صحيح، وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يضعفه، ويقول: لا أستحبه ولا أكرهه، فقوله: لا أستحبه؛ لأنه لم يثبت فيه شيءٌ صحيح، وقوله: لا أكرهه، كأنه خفف فيه؛ لأن فيه رواية مرسلة، ورواية عن سعيد بن المسيب ، ويروى أيضاً عن عمر رضي الله عنه وأرضاه.

وإذا دخل البيت فإنه يمضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند دخوله، وبعض الناس يقف للدعاء، ويرفع يديه مستقبلاً البيت، وهذا لم يثبت فيه شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وحفظت سنته، وحفظ هديه صلوات الله وسلامه عليه، فتكلف الوقوف ورفع اليدين بالدعاء لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام، والعلماء رحمة الله عليهم -خاصة السلف- يشددون في هذا فيرون أنه لا يشرع فعلُ أفعالٍ مخصوصة في المواضع المخصوصة، خاصةً في المناسك والمشاعر التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن الصحابي كان يحفظ لنا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اختلف عن عادته.

كقول جابر رضي الله عنه لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب بين عرفات ومزدلفة: (فتوضأ وضوءاً خفيفاً) فانظر إلى دقة الصحابة وحفظهم لكل شيء في هديه صلى الله عليه وسلم، حتى لو رفع إصبعه، أو رفع بصره ذكروا رفعه لبصره وإصبعه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لحفظهم ودقتهم، فثبتت الأحاديث الصحيحة كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله في عمرته وحجه، ولم يذكر عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت وقف وقوفاً طويلاً، أو تكلف الدعاء، أو تكلف رفع اليد، أو تكلف فعلاً معيناً، وإنما دخل كما يدخل في سائر المساجد، وهذا يدل على أن السنة والهدي أن يُتأسى به عليه الصلاة والسلام في هذا، وألا يتعبد الإنسان ربه إلا بشيءٍ له أصل يعتمد عليه من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.