خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/68"> الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/68?sub=33614"> شرح كتاب زاد المستقنع
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وأن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة، كالبغل والحمار ودود القزِّ وبزره، والفيل، وسباع البهائم التي تصلح للصيد]، ثم استثنى فقال: [إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة].
فشرع المصنف رحمه الله في بيان ما يستثنى من المبيعات، وهذه المبيعات التي تستثنى حُكم بحرمة بيعها، وقد بيّن لنا ما فيه منافع مباحة، وذكر الأمثلة على ذلك، وقد ذكر أمثلتها من الحيوانات والحشرات، فلما فرغ من بيان المباح شرع في بيان غير المباح.
وإذا حكم بعدم جواز البيع للعين، فذلك إمّا أن يكون السبب نجاسة العين، وإمّا أن يكون السبب استثناء من الشرع لهذه العين، فحكم بعدم جواز بيعها، وإمّا أن يكون استنباطاً فهمه الفقيه من خلال نصوص الشرع، أو كان فيه أثر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم باستثنائه.
ولا بد أن نقعِّد قاعدة وهي: (أن الأصل في الأعيان الطاهرة أنه يجوز بيعها)، فلو سُئلت عن بيع القماش فالجواب: هذه عين طاهرة فالأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن بيع الخشب قلت: هذه عين طاهرة الأصل جواز بيعها، وإذا سُئلت عن جواز بيع الحديد والنحاس والنيكل والألمنيوم وغيرها من سائر المبيعات والأعيان الطاهرة فقل: هذه أعيان طاهرة يجوز بيعها.
فالمصنف رحمه الله بعد أن بيّن لنا ما فيه منفعة مباحة شرع في الاستثناء، وإذا استثنيت الأعيان التي فيها منافع مباحة، فإنها:
إمّا أن تستثني لورود نص من الشرع، فتقول: الشرع قال هذه العين لا تباع.
وإما أن تستثني نظراً إلى المنفعة الموجودة في هذه العين لا يلتفت إليها الشرع، أي: لا يقيم لها وزناً لأنها غير مقصودة، فإذا لم يقم الشرع لهذه المنفعة قيمة، فمعنى ذلك أنه لا يجوز دفع المال في مقابلها؛ لأنك إذا دفعت المال لقاء الشيء الذي لا قيمة له فهو من السرف الذي نهى الشرع عنه، ومن السفه الذي لا يليق بالمسلم أن يتعاطاه ويفعله؛ لأنه من إضاعة المال.
وإمّا أن تكون العين نجسة، فإذا كانت العين نجسة، وهي قسمان: النجاسة في الحيوانات، والنجاسة في غير الحيوانات، فلنأخذ هذه الأربعة الأقسام:
- فأمّا ما استثني من الشرع، أي: ما كان أصله مباحاً ثم استثني، فإنه يشمل نوعين: الكلب والحشرات، فإن الأصل في الحيوانات جواز البيع؛ لأن الله سخرها لمنافع يُحصّلها الآدمي، وخلقها الله من أجل أن ينتفع بها الآدمي، فالأصل في منافعها الموجودة فيها أن الآدمي يرتفق بها، فلو دفع المال لقاءها فقد حصّل مقصود الشرع.
فالإبل -مثلاً- جعل الله فيها منفعة الركوب، وجعل الله فيها منفعة الأكل من لحمها، وجعل الله فيها منفعة الصوف وما يكون عليها من الوبر، وجعل فيها منفعة حمل الأثقال، فإذا جئت تشتري الإبل لقاء هذه المنافع فأنت تدفع المال لقاء منفعة مقصودة معتبرةٍ شرعاً.
إذاً: الحيوانات في الأصل سخرّها الله لمنافع للآدمي؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] ، سخرَّه كلَّه لابن آدم؛ تكريماً وتشريفاً لهذا الآدمي حتى يحمده سبحانه ويشكره على ما أسدى، وقال: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13].
فالله عز وجل جعل لنا هذه الأعيان لننتفع بما فيها ونرتفق بتلك المنافع. فإذاً نضع قاعدة وهي:
أن الحيوانات الأصل أنه يجوز بيعها لمنافعها، فتقول: استثني من الحيوانات الأحياء نوعان؛ لأن الحيوان: إمّا حيّ، وإمّا ميت، فاستثني الحيوان الذي ورد النص بتحريم بيعه وهو الكلب، كما جاء في الأحاديث الثابتة في الصحيحين وفي غيرهما عن عقبة بن عامر البدري وعن جابر بن عبد الله ورافع بن خديج وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، وكلها أحاديث صحيحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الكلب، وحرم بيعه.
إذاً نقول: الأصل في الحيوانات جواز بيعها؛ لكن يستثنى الكلب فلا يجوز بيعه. وفيه خلاف سنذكره، وهذا النوع الأول.
والنوع الثاني: يُستثنى الحشرات؛ لأن الحشرات ليست فيها منفعة مقصودة، فهي لا تؤكل، ولا يُنتفع بها انتفاعاً مقصوداً، وهذا في الزمن القديم؛ لكن لو احتيج إلى نوع خاص، وهي الحشرات التي كانوا يستخدمونها عُلقاً للدم، أي: كان الأطباء يستخدمون نوعاً من الحشرات في الجروح الملوثة، يُدخلون فيها هذا النوع فيسحب الجراثيم الموجودة، ثم تُرفع هذه العلق الموجودة وعليها الجراثيم الموجودة فيتنظف الجرح، وهذا مما علمه الله عز وجل ابن آدم دفعاً لمفسدة الجرح وضرره على البدن.
فهذا النوع من العلق لو بيع جاز بيعه؛ لأن درء مفسدة المرض مقصودة شرعاً.
كذلك أيضاً: لو أنك اشتريت حشرات تريدها غذاءً للطيور فإنه يجوز؛ لأن حياة الطير مقصودة، ومنفعتك من بقاء الطير مقصودة. أو اشتريت حشرات طعاماً للأسماك فيجوز.
المقصود: أن الحشرات من حيث النظرة الغالبة فيها أنه ليس فيها منفعة؛ لكن كونها في بعض الأحيان تستثنى فإنه يستثنى منها بقدر، فالعلماء يقولون: (والحشرات)، فجمعوا لنا بين صنفين: الكلب والحشرات. وهنا سؤال: لماذا قدّم المصنف الكلب وأخّر الحشرات؟
الجواب: لأن النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحريم في الكلب أقوى منه في الحشرات، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الحشرات؛ لكن العلة في تحريم بيع الحشرات أن تقول: أحرمها لأنه لا منفعة فيها، ودفع المال لقاءها سفه، وقد نهى الله عز وجل عن السفه وقال: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ [النساء:5] ، فجعل السفه صفةً موجبةً للحجر، وذلك يدلُّ على حرمة إضاعة المال.
إذاً عندنا نوعان: النوع الأول: الكلاب.
والنوع الثاني: الحشرات.
بعد هذا عندنا شيء يستثنى لمعنى قريب من معنى الحشرات: وهو أن تكون المنفعة التي تقصد قد منع الشرع من بيعها مع أن المنفعة موجودة في العين، كالمصحف؛ فإنه لا يجوز للمسلم أن يبيع كلام الله على أنه يأخذ الثمن لقاء هذا، أي: كمكافأة على كتاب الله عز وجل وكلامه، حتى قالوا في العلم والتدريس ونحو ذلك: إذا قصد أن تكون قيمةً لكلامه، فلا يجوز.
لكن من حيث الأصل؛ حينما تنظر إلى ورق الكتاب الذي فيه المصحف وفيه كلام الله تجد أنه مما يجوز بيعه، فالكتاب بذاته يجوز بيعه؛ لكن لما كان المقصود من الكتاب قراءة ما فيه من الآيات، وكأن أمرها مغلظاً وحرمتها عظيمة، وليست من الأعراض التي تباع، بحيث يجعلها الإنسان ممتهنة مبتذلةً للبيع، فلذلك تقول: أمنعها لهذا المعنى.
وهذا المعنى يلتفت فيه إلى المنفعة؛ لأن المقصود من المصحف -الأوراق- كلام الله عز وجل، والمقصود من كلام الله الاهتداء، والاهتداء لا يؤخذ عليه أجر: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57].
وقال الله عز وجل عن أنبيائه نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب ولوط عليهم السلام؛ كلهم قالوا كما في سورة الشعراء: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:109].
فنفى سبحانه أن تكون الرسالة لقاء مال أو لقاء عرضٍ من الدنيا، والقرآن هو رسالة الله عز وجل إلى خلقه، فهو كلام الله عز وجل الذي تكلم به سبحانه وأوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الكلام لا يجوز لأحد أن يبيع نفس الكلام قاصداً بيع الكلام نفسه؛ لأن مثله أعظم وأجل من أن يباع.
فإذا ثبت هذا فإننا إنما نظرنا إلى جهة المنفعة، وهذا من الناحية الفقهية ومن ناحية الاصطلاح الذي رتبناه وذكرناه.
فذكر المصنف رحمه الله بيع المصاحف بعد الحشرات من جهة المنفعة، فإن الحشرات منفعتها غير مقصودة، والمصاحف المنفعة منها أن يهتدي الخلق بكلام الله عز وجل، وهذه الهداية لا تباع ولا تُشترى، وليست محلاً للبيع والشراء.
بقي النوع الأخير وهو الميتة والنجاسات:
فالميتة والنجاسات ورد فيها النص، ولها أصول معينة سنتكلم عليها، فاستثنى المصنف رحمه الله هذه التي نصّ عليها: (إلاّ الكلب، والحشرات، والمصحف، والميتة).
فقدم الكلب؛ لأن النصّ في تحريمه صحيح صريح، وهو حديث الصحيحين.
ثم أتبع الكلب بجنسه وهي الحشرات لأنها لا منفعة فيها، ثم أتبع بالمصاحف؛ والسبب في هذا أن دليل تحريم المصاحف أضعف من دليل تحريم بيع الكلاب، وكذلك بيع الحشرات؛ لأنه إنما أُثر عن بعض الصحابة وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وأتبع بالميتة؛ لأن لها تفصيلات في أنواع النجس والمتنجس، وسنذكرها إن شاء الله.
شروط الكلب المعلم
القسم الأول: ما فيه منفعة مأذون بها شرعاً، وهو كلب الصيد والحرث والماشية، فجعل الله الكلب للصيد رفقاً بالناس، ولا يكون الكلب كلب صيد إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يشليه فينشلي.
الشرط الثاني: أن يدعوه فيجيب.
الشرط الثالث: أن يزجره فينزجر.
ومعنى (أن يشليه فينشلي) أي: يحرشه على الفريسة، فيكون بينه وبين الكلب صوت معين، فإذا صاح به انطلق الكلب على الفريسة، بحيث يكون الكلب جالساً، حتى لو مرت الفريسة من أمامه لا يتحرك من طاعته وتعلمه، ولا يمكن أن يرتسل إلى الفريسة إلاّ بإذن سيده، فإذا أشار سيده إلى الفريسة ذهب ليأتي بها، وإذا أشار له إلى قطعة قماش ذهب ليأتي بها.
والإشلاء في لغة العرب يطلق بمعنى: التحريش، ويطلق بمعنى الدعوة، أي أنه من الأضداد؛ فمعناه: أن تدفع الشيء وأن تدعو الشيء، ومن هنا ورد استخدامه بمعنى التحريش، ومنه قول الشاعر:
أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ
فهذا رجل بخيل جاءه أصحابه للزيارة، فإذا به خاف من كلفة الضيافة، فأشلى عليهم الكلاب، فقال قائلهم:
أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ
(فأشلى) أي: حرّش الكلاب علينا.
ويستعمل الإشلاء بمعنى الدعوة، ومنه قول الشاعر:
أَشْلَيْتُ عَنْزِيْ وَمَسَحْتُ قعبي ثُمَّ انْثَنَيْتُ وَشَرِبْتُ قَأْبِيْ
(أشليت عنزي) أي: دعوتها، يناديها حتى تأتي، (ومسحت قعبي) القعب: هو القدر الذي يريد أن يحلب فيه الإناء؛ لأنه يريد أن يحلب.
(ثم انثنيت) أي: بعد ما حلبتها، (وشربت قأبي)، يقال: (قبّه) إذا لم يُبْقِ فيه شيئاً، هذا معنى البيت.
الشاهد: استخدام الإشلاء بمعنى الدعوة.
إذاً الإشلاء إذا ذكره العلماء فيقصدون به التحريش، ويقصدون به الدعوة، وهذان شرطان لا بد وأن يوجدا في الكلب.
لكن متى يكون الكلب كلب صيد حتى يجوز لك بيعه -إذا قيل: بجواز بيعه عند من يستثنيه - ويجوز لك أكل صيده؟
يشترط أن تشليه ثلاث مرات ويطيعك، وتزجره ثلاث مرات ويطيعك، وتدعوه ثلاث مرات ويطيعك، فمثلاً: رميت شيئاً فحرشته عليه فذهب وجاء به، ثم رميت شيئاً آخر فذهب وجاء به، ثم رميت قطعة لحم مثلاً فذهب وجاء بها، فهذه ثلاث مرات، إذاً: تم الشرط الأول وهو الإشلاء أو التحريش.
بعد ذلك تنتقل للشرط الثاني: وهو أن يكون في مكان ثم تدعوه فيأتيك، ثم تتركه ساعة أو نصف ساعة أو قدراً من الزمن ثم تدعوه بالصوت نفسه فيأتيك، ثم المرة الثالثة فيأتيك، فإذا جاءك ثلاث مرات انطبق الشرط الثاني: وهو أن تدعوه فيجيب.
ثم بعد ذلك تنتقل للشرط الثالث وهو: أن تزجره فينزجر، كأن تضع أمامه قطعة لحم، فيأكل منها، فتصيح عليه صيحة معينة فيكف ويقف، فإذا فعلها المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة تحقق الشرط الثالث.
فلو سنح لك ظبي فأرسلته وذكرت اسم الله، فصاده، وجاء به ميتاً من صيده حلَّ لك أكله؛ لأنه قد انطبقت الشروط الثلاثة بالتعليم ثلاث مرات.
وبعض الأحيان قد لا يأخذ تعليم الكلب إلا نصف ساعة، أو ساعة إلا ربع، وهذا يختلف بحسب نوعية الكلب المعلّم، وطريقة التعليم، وطبيعته في استجابته للإنسان، وحبّه أن يكون تحت يده وتحت سلطانه.
وكذلك في كلب الحرث، وكلب الماشية، هذه الثلاثة أذن الشرع بها.
القسم الثاني: الكلاب المطلقة.
أقوال العلماء في بيع الكلاب وأدلتهم
القول الأول: لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، وهذا القول هو مذهب التحريم المطلق، وبهذا القول قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرويٌّ عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وقال به بعض التابعين: كـالحسن البصري وحماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك قال به ربيعة الرأي والأوزاعي فقيه الشام، وهو مذهب المالكية في المشهور، والشافعية والحنابلة وأهل الحديث والظاهرية.
وتستطيع أن تقول: مذهب الجمهور أنه لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، سواء كان كلب صيدٍ، أو حرثٍ، أو ماشيةٍ، أو كلباً مطلقاً، سواءً كان كلباً صغيراً، أو كلباً كبيراً، ولا يجوز دفع المال لقاء الكلب.
القول الثاني: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً، أي: عكس القول الأول تماماً، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً سواءً كان كلب صيدٍ، أو ماشية، أو حرثٍ، وسواء كان كلباً صغيراً، أو كبيراً، فيجوز أن تبيعه لما فيه من المنافع.
القول الثالث: يجوز بيع الكلب إلاّ الكلب العقور، فيوافق القول الثاني؛ لكن يستثنى الكلب العقور، وهو الذي يهجم على الناس ويؤذيهم ويقطع عليهم طرقهم، فكلما أرادوا قضاء مصالحهم آذاهم وتحرّش بهم، وهذا النوع من الكلاب استثناه القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله.
القول الرابع: لا يجوز بيع الكلب إلاّ كلب الصيد والماشية والزرع التي هي الكلاب المرخص بها، وهذا القول مأثور عن بعض الصحابة، قال به جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك قال به إبراهيم النخعي ، وزيد بن علي بن الحسين الفقيه المشهور.
القول الخامس: وهو في مذهب الإمام مالك رحمه الله: يجوز بيع الكلب لمن يأكله؛ أي: لمن يريد أن يأكله، لأن هناك قولاً في مذهب الإمام مالك أنه يجوز أكل الكلب؛ لأنه طاهر.
والمالكية يرون أن الكلب طاهر، ويستدلون على طهارته بجواز أكل صيده، قالوا: ولو كان غير طاهر لما حلَّ أكل صيده؛ لأنه ينهش بفمه، فلو كان نجساً لما حلَّ أكله.
قالوا: وأمّا الأمر بغسل الإناء سبعاً منه فهذا أمرٌ تعبدي، ولو كان للنجاسة لكان ثلاثاً، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطهارة، وبيّنا أن الصحيح أن الكلب نجس العين.
فالحاصل أنه على الرواية التي تقول إن الكلب يجوز أكله، يجوز بيعه لمن يأكله؛ لأنه إذا اشتراه من أجل الأكل فإنها منفعة مقصودة، وليس مراده أن يبقيه، وهذا عند أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وهي من مفردات مذهب المالكية، ولذلك يقول الزمخشري -عامله الله بما يستحق-:
وإن مالكي قلت قالوا بأنني أبيح لهم لحم الكلاب وهمْ همُ
إذاً: عندنا خمسة أقوال: قولٌ بالتحريم، وقولٌ بالجواز، وقولٌ باستثناء الكلب العقور من الجواز، وقولٌ بالتحريم باستثناء كلب الصيد والحرث والماشية من التحريم، وقول بجواز البيع لمن يريد أن يأكله.
فأما الذين قالوا بالتحريم المطلق فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أولها: حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب سحت)، وهذا حديث متفق عليه، ووجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثمن الكلب سحتاً، والسحت حرام، فلا يجوز بيع الكلاب، وأثمانها محرمة.
الدليل الثاني: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه، وهو في الصحيح أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث)، فهذا الحديث الصحيح نصَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ثمن الكلب خبيث، ومعنى ذلك أن ثمن الكلب محرم؛ لأن الله حرم على هذه الأمة الخبائث، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الثمن بكونه خبيثاً، إذاً فالبيع محرم، وهذا هو مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من وصفه بالخبث.
الدليل الثالث: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم: أنه لما سُئل عن بيع الكلب والسِّنَور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه) والسنور: هو القط، ويطلق على القط البرَّي والقط الأهلي المستأنس.
فأمّا القط البرّي المتوحش فهذا يفسد الزرع، ويعدو على الدجاج وعلى الطيور، ويؤذي بني آدم، وإذا خلا بالإنسان فإنه يؤذيه، وقد يتغذى بالخبائث، ويؤذي الطريق كثيراً، فهذا النوع هو الذي قصده جابر عندما قيل له: (والسنور).
أمّا القط الأهلي فقد نقل الإجماع على جواز بيعه، وجماهير العلماء على جواز بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات).
الشاهد: أنه قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: الكلب، وهي صيغة من صيغ التحريم عند الأصوليين، والزجر عن الشيء الطرد والإبعاد عنه، فمعنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن هذا الشيء، ولا يزجر إلاّ عن حرام.
الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عباس في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما نهى عن ثمن الكلب: (فإن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً) أي: إذا جاء يريد أخذ قيمة الكلب فاملأ كفه تراباً، وهذا يدل على حرمة ثمن الكلب، وأنه لا قيمة له، وعلى هذا قال الجمهور: لا يجوز بيع الكلاب مطلقاً.
وقالوا: هذه الأحاديث حينما تأملناها ونظرنا فيها وجدناها لم تفرق بين كلبٍ وآخر، ولم تفرق بين حالةٍ وأخرى، فهي عامة في الكلاب ومطلقة في الأحوال.
عامة في الكلاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الكلب الصغير (الجرو) ولا الكبير، ولم يفرق أيضاً بين كلب الماشية والحرث والصيد وغيرها، وإنما عمم: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم)، (نهى النبي صلى الله عليه وسلم)، (ثمن الكلب خبيث)، (ثمن الكلب سحت)، وهذا كله عام.
وكذلك في الأحوال: لأنك إذا قلت: أريده لحالة معينة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في حالة دون أخرى.
أدلة القول الثاني: الذين قالوا بجواز البيع مطلقاً وهم الحنفية فقد استدلوا:
بأن الكلب مال، والقاعدة عندهم: أنه يجوز بيع المال، والأصل جواز بيع الأموال. والمال عندهم كل شيء فيه منفعة، فيقولون: الكلب كسائر الأموال، ففيه منفعة الصيد، ومنفعة حراسة الحرث والماشية، فلما كانت هذه المنفعة موجودة فيه وهي مقصودة شرعاً، فإنه يجوز أن تبيعه وتأخذ القيمة لقاء هذا الشيء الذي هو فيه من المنافع، وهذا دليل عقلي.
القول الثالث: الذين يوافقون القول الثاني لكنهم يستثنون الكلب العقور؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله كما في الصحيحين: (خمسٌ يقتلنَّ في الحلَّ والحرم، وذكر منها: الكلب العقور).
القول الرابع: الذي استثنى كلب الصيد والماشية والزرع، وهو قول جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي وزيد بن علي رحم الله الجميع. يقولون: دليلنا ما جاء في حديث أبي داود والنسائي والترمذي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب إلاّ الضَّارِيَ سحتٌ) وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلاّ كلب الصيد) قالوا: هذا الحديث يدلُّ على استثناء الكلب الضَّارِيَ وكلب الصيد، وإنما خرجا لمنفعة مخصوصة أُذن بها وهي منفعة الصيد، فنقيس عليها منفعة حراسة الحرث وحراسة الماشية.
القول الخامس والأخير: وهو مذهب الذين قالوا بجواز البيع لمن يأكله، وهم يقولون: إنه طاهر العين مباح المنافع، فيجوز بيعه لهذه المنفعة المباحة وهي أكله.
قيل لهم: الشرع نهى عن اتخاذ الكلاب، قالوا: هذا لا يتخذه؛ لأنه يريد أن يأكله، فحينئذٍ يأخذه ويذبحه مباشرة، فليس هناك اتخاذ محرم.
القول الراجح في حكم بيع الكلاب
أولاً: لصحة دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم، ودلالتها واضحة وصريحة، ولم تفرق بين نوع وآخر.
ثانياً: أمّا قول الحنفية بأن الكلب مال، فنجيب عنه من وجهين:
الوجه الأول: لا نسلم صحة هذا الدليل العقلي؛ لأن الكلب ليس بمالٍ من كل وجه، وإنما هو مال في أشياء معينة مخصوصة جاءت على سبيل الرخصة، فلا يجوز التوسع فيها، لأنك إذا قلت: إنه جاز للصيد وجاز للحرث والماشية، وقلت: يجوز بيعه لأن فيه هذه المنافع؛ فمعنى ذلك أنه جاز للصيد والحرث والماشية والبيع، فتزيد على استثناء الشرع، والشرع إنما استثنى ثلاثة أحوال: أن تجعله لحراسة حرث، أو ماشية، أو تصيد به.
فإذا جاء يبيعه فمعنى ذلك أنه أصبح هناك منفعة رابعة وهي منفعة البيع، فهذا دليل عقلي يعارض الأصل الشرعي، فنقول: إن قولكم: إن فيه منفعة، لا نسلم لكم أن فيه منفعة من كل وجه، ففيه منفعة مخصوصة مرخص فيها ينبغي التقيد بها؛ لأن ما جاء على خلاف الأصل ينبغي أن يتقيد به بالنص الوارد: فالأصل عدم جواز اتخاذ الكلب، وتقيد بهذه الثلاثة الأحوال، فيجوز لمن يريد اتخاذه أن يتخذه على هذه الثلاثة الأحوال المعينة.
أمّا الوجه الثاني فنقول: سلمنا جدلاً أن هذا الدليل العقلي صحيح، وهو أن الكلب مال وفيه منفعة؛ لكننا نقول: هذا اجتهاد مع النصّ، والقاعدة: (لا اجتهاد مع النص). أي: هذا وجه من القياس نسلم به ونقول: هو من ناحية الشكل صحيح لكنه معارضٌ للنص، والقاعدة: أن القياس يقدح فيه من أربعة عشر وجهاً يسمونها قوادح القياس.
وقد ذكرها العلماء رحمهم الله في مبحث العلة في الأصول، وبينوا أوجه نقض القياس، ومنها: فساد الاعتبار، وهو أن يأتي المجتهد ويقيس شيئاً على شيء، فيحكم بالجواز في شيء ورد النص بتحريمه، فتقول:
الكلب مال يجوز بيعه كسائر الأموال بجامع وجود المنفعة في كلٍ، وهذا قياس صحيح من ناحية الشكل وأركانه موجودة؛ ولكنه قياس مصادم للنص، والقاعدة: أنه لا اجتهاد مع النص، وهذا القادح يسمونه (قادح فساد الاعتبار)، أي: فسد اعتبار هذا القياس، وليس له قيمة ما دام أنه صادم النص من الكتاب والسنة.
أمّا القول الثالث: الذي استثنى كلب الصيد، فاستثنوا للحديث الذي ذكرناه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في استثناء الكلب الضاري.
وهذا الحديث نجيب عنه من وجهين:
الوجه الأول: من جهة السند.
الوجه الثاني: من جهة المتن.
أمّا من جهة السند فهو حديث ضعيف، قال النسائي : إنه منكر، وكذلك ضعفه الإمام أحمد والإمام الترمذي رحمهم الله وهم أئمة الشأن، فقالوا: إنه حديث ضعيف؛ لأنه من رواية الحسين بن أبي جعفر الكرابيسي ، وهو ضعيف الرواية، بل جزم النسائي رحمه الله بأنه منكر الرواية.
ولو سلمنا صحة هذا الحديث من ناحية كونه حسناً لغيره بالطرق، أو أن السند قابل للتحسين فإننا نقول: عارضه ما هو أصح فيقدم؛ لأن الحسن لا يحتج به إذا عارض ما هو صحيح، ولذلك يقولون في الحسن:
وَهوَ فِي الْحُجَّةِ كَالصَّحِيْحِ وَدُوْنَهِ إِنْ صِيْرَ للتَّرْجِيْح
أي: لا يمكن أن تصادم حديثاً صحيحاً بحديث حسن، وفائدة تقسيم العلماء الحديث إلى صحيح وحسن هو: أنها إذا تعارضت قدم الصحيح على الحسن.
ثم إن الصحيح قسموه إلى صحيح لذاته وصحيح لغيره؛ لكي يقدم الصحيح لذاته على الصحيح لغيره، وكذلك الحسن لذاته على الحسن لغيره .. إلى آخر مما هو مقرر في علم مصطلح الحديث.
وأما الجواب على المتن: فلو سلمنا فرضاً أن الحديث صحيح من جهة السند؛ لكن من جهة المتن نقول: قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضَّارِيَ) (إلاّ) هنا بمعنى العطف (الواو)، وهذه لغة من لغات العرب وهو أنهم يستعملون حرف الاستثناء (إلاّ) بمعنى العطف، وحملوا عليها قوله تعالى: وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] فقوله: (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) أي: ولا ما قد سلف، ويكون المعنى: أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن.
ومنه أيضاً قوله سبحانه وتعالى، وهو وجه ذكره ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً [النساء:92] أي: (ولا خطأ) بمعنى: أنه لا يتعاطى أسباب التفريط، فمثلاً: لو جاء إلى موضع يريد أن يصيد فيه، وهو يعلم أنه هذا الموضع فيه أناسٌ يرعون، أو فيه خيام لأناس نازلين بهذا المكان، وبمجرد أن يرى فريسة يرميها، فلا يجوز، بل ينبغي أن يتحفظ؛ لأن القتل الخطأ هو أن يقتل بدون أن يقصد القتل كأن يرمي صيداً فيصيب آدمياً، فالله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً [النساء:92] أي: (ولا خطأً)، بمعنى: ألا يتساهل، حتى ولو كان الخطأ معفواً عنه، فلا ينبغي عليه أن يتعاطى أسباب الخطأ، ومنه قول الشاعر:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْهُ لَعَمْرُ أَبِيْكَ إِلاّ الْفَرْقَدَاْنِ
أي: والفرقدان.
وعلى هذا يكون قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضاري) أي: والكلب الضاري، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الكلاب، ولو كانت كلاب صيد) تأكيداً في التحريم، ويكون هذا من باب قلب الدليل؛ لأنه إذا كان في الدليل معنيان: معنىً يعارض، ومعنىً يوافق، فينبغي صرف الحديث إلى المعنى الذي يوافق الأحاديث الأخرى، وحينئذٍ نقول: إن الأصحّ من هذه الأقوال هو القول بعدم جواز بيع الكلب مطلقاً.
أولاً: الكلب، وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما فيه منفعة مأذون بها شرعاً، وهو كلب الصيد والحرث والماشية، فجعل الله الكلب للصيد رفقاً بالناس، ولا يكون الكلب كلب صيد إلا إذا توفرت فيه ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يشليه فينشلي.
الشرط الثاني: أن يدعوه فيجيب.
الشرط الثالث: أن يزجره فينزجر.
ومعنى (أن يشليه فينشلي) أي: يحرشه على الفريسة، فيكون بينه وبين الكلب صوت معين، فإذا صاح به انطلق الكلب على الفريسة، بحيث يكون الكلب جالساً، حتى لو مرت الفريسة من أمامه لا يتحرك من طاعته وتعلمه، ولا يمكن أن يرتسل إلى الفريسة إلاّ بإذن سيده، فإذا أشار سيده إلى الفريسة ذهب ليأتي بها، وإذا أشار له إلى قطعة قماش ذهب ليأتي بها.
والإشلاء في لغة العرب يطلق بمعنى: التحريش، ويطلق بمعنى الدعوة، أي أنه من الأضداد؛ فمعناه: أن تدفع الشيء وأن تدعو الشيء، ومن هنا ورد استخدامه بمعنى التحريش، ومنه قول الشاعر:
أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ
فهذا رجل بخيل جاءه أصحابه للزيارة، فإذا به خاف من كلفة الضيافة، فأشلى عليهم الكلاب، فقال قائلهم:
أَتَيْنَا أَبا عَمْرٍو فَأَشْلَى كِلاَبَهُ عَلَيْنَا فَكِدْنَا بَيْنَ بَيْتَيْهِ نُؤْكَلُ
(فأشلى) أي: حرّش الكلاب علينا.
ويستعمل الإشلاء بمعنى الدعوة، ومنه قول الشاعر:
أَشْلَيْتُ عَنْزِيْ وَمَسَحْتُ قعبي ثُمَّ انْثَنَيْتُ وَشَرِبْتُ قَأْبِيْ
(أشليت عنزي) أي: دعوتها، يناديها حتى تأتي، (ومسحت قعبي) القعب: هو القدر الذي يريد أن يحلب فيه الإناء؛ لأنه يريد أن يحلب.
(ثم انثنيت) أي: بعد ما حلبتها، (وشربت قأبي)، يقال: (قبّه) إذا لم يُبْقِ فيه شيئاً، هذا معنى البيت.
الشاهد: استخدام الإشلاء بمعنى الدعوة.
إذاً الإشلاء إذا ذكره العلماء فيقصدون به التحريش، ويقصدون به الدعوة، وهذان شرطان لا بد وأن يوجدا في الكلب.
لكن متى يكون الكلب كلب صيد حتى يجوز لك بيعه -إذا قيل: بجواز بيعه عند من يستثنيه - ويجوز لك أكل صيده؟
يشترط أن تشليه ثلاث مرات ويطيعك، وتزجره ثلاث مرات ويطيعك، وتدعوه ثلاث مرات ويطيعك، فمثلاً: رميت شيئاً فحرشته عليه فذهب وجاء به، ثم رميت شيئاً آخر فذهب وجاء به، ثم رميت قطعة لحم مثلاً فذهب وجاء بها، فهذه ثلاث مرات، إذاً: تم الشرط الأول وهو الإشلاء أو التحريش.
بعد ذلك تنتقل للشرط الثاني: وهو أن يكون في مكان ثم تدعوه فيأتيك، ثم تتركه ساعة أو نصف ساعة أو قدراً من الزمن ثم تدعوه بالصوت نفسه فيأتيك، ثم المرة الثالثة فيأتيك، فإذا جاءك ثلاث مرات انطبق الشرط الثاني: وهو أن تدعوه فيجيب.
ثم بعد ذلك تنتقل للشرط الثالث وهو: أن تزجره فينزجر، كأن تضع أمامه قطعة لحم، فيأكل منها، فتصيح عليه صيحة معينة فيكف ويقف، فإذا فعلها المرة الأولى والمرة الثانية والمرة الثالثة تحقق الشرط الثالث.
فلو سنح لك ظبي فأرسلته وذكرت اسم الله، فصاده، وجاء به ميتاً من صيده حلَّ لك أكله؛ لأنه قد انطبقت الشروط الثلاثة بالتعليم ثلاث مرات.
وبعض الأحيان قد لا يأخذ تعليم الكلب إلا نصف ساعة، أو ساعة إلا ربع، وهذا يختلف بحسب نوعية الكلب المعلّم، وطريقة التعليم، وطبيعته في استجابته للإنسان، وحبّه أن يكون تحت يده وتحت سلطانه.
وكذلك في كلب الحرث، وكلب الماشية، هذه الثلاثة أذن الشرع بها.
القسم الثاني: الكلاب المطلقة.
اختلف العلماء هل يجوز بيع الكلب، أو لا يجوز؟ وذلك على أقوال:
القول الأول: لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، وهذا القول هو مذهب التحريم المطلق، وبهذا القول قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مرويٌّ عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وقال به بعض التابعين: كـالحسن البصري وحماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك قال به ربيعة الرأي والأوزاعي فقيه الشام، وهو مذهب المالكية في المشهور، والشافعية والحنابلة وأهل الحديث والظاهرية.
وتستطيع أن تقول: مذهب الجمهور أنه لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، سواء كان كلب صيدٍ، أو حرثٍ، أو ماشيةٍ، أو كلباً مطلقاً، سواءً كان كلباً صغيراً، أو كلباً كبيراً، ولا يجوز دفع المال لقاء الكلب.
القول الثاني: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً، أي: عكس القول الأول تماماً، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز بيع الكلب مطلقاً سواءً كان كلب صيدٍ، أو ماشية، أو حرثٍ، وسواء كان كلباً صغيراً، أو كبيراً، فيجوز أن تبيعه لما فيه من المنافع.
القول الثالث: يجوز بيع الكلب إلاّ الكلب العقور، فيوافق القول الثاني؛ لكن يستثنى الكلب العقور، وهو الذي يهجم على الناس ويؤذيهم ويقطع عليهم طرقهم، فكلما أرادوا قضاء مصالحهم آذاهم وتحرّش بهم، وهذا النوع من الكلاب استثناه القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله.
القول الرابع: لا يجوز بيع الكلب إلاّ كلب الصيد والماشية والزرع التي هي الكلاب المرخص بها، وهذا القول مأثور عن بعض الصحابة، قال به جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك قال به إبراهيم النخعي ، وزيد بن علي بن الحسين الفقيه المشهور.
القول الخامس: وهو في مذهب الإمام مالك رحمه الله: يجوز بيع الكلب لمن يأكله؛ أي: لمن يريد أن يأكله، لأن هناك قولاً في مذهب الإمام مالك أنه يجوز أكل الكلب؛ لأنه طاهر.
والمالكية يرون أن الكلب طاهر، ويستدلون على طهارته بجواز أكل صيده، قالوا: ولو كان غير طاهر لما حلَّ أكل صيده؛ لأنه ينهش بفمه، فلو كان نجساً لما حلَّ أكله.
قالوا: وأمّا الأمر بغسل الإناء سبعاً منه فهذا أمرٌ تعبدي، ولو كان للنجاسة لكان ثلاثاً، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطهارة، وبيّنا أن الصحيح أن الكلب نجس العين.
فالحاصل أنه على الرواية التي تقول إن الكلب يجوز أكله، يجوز بيعه لمن يأكله؛ لأنه إذا اشتراه من أجل الأكل فإنها منفعة مقصودة، وليس مراده أن يبقيه، وهذا عند أصحاب الإمام مالك رحمه الله، وهي من مفردات مذهب المالكية، ولذلك يقول الزمخشري -عامله الله بما يستحق-:
وإن مالكي قلت قالوا بأنني أبيح لهم لحم الكلاب وهمْ همُ
إذاً: عندنا خمسة أقوال: قولٌ بالتحريم، وقولٌ بالجواز، وقولٌ باستثناء الكلب العقور من الجواز، وقولٌ بالتحريم باستثناء كلب الصيد والحرث والماشية من التحريم، وقول بجواز البيع لمن يريد أن يأكله.
فأما الذين قالوا بالتحريم المطلق فاحتجوا بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أولها: حديث عقبة بن عامر البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب سحت)، وهذا حديث متفق عليه، ووجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ثمن الكلب سحتاً، والسحت حرام، فلا يجوز بيع الكلاب، وأثمانها محرمة.
الدليل الثاني: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه، وهو في الصحيح أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب خبيث)، فهذا الحديث الصحيح نصَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ثمن الكلب خبيث، ومعنى ذلك أن ثمن الكلب محرم؛ لأن الله حرم على هذه الأمة الخبائث، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الثمن بكونه خبيثاً، إذاً فالبيع محرم، وهذا هو مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من وصفه بالخبث.
الدليل الثالث: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم: أنه لما سُئل عن بيع الكلب والسِّنَور قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه) والسنور: هو القط، ويطلق على القط البرَّي والقط الأهلي المستأنس.
فأمّا القط البرّي المتوحش فهذا يفسد الزرع، ويعدو على الدجاج وعلى الطيور، ويؤذي بني آدم، وإذا خلا بالإنسان فإنه يؤذيه، وقد يتغذى بالخبائث، ويؤذي الطريق كثيراً، فهذا النوع هو الذي قصده جابر عندما قيل له: (والسنور).
أمّا القط الأهلي فقد نقل الإجماع على جواز بيعه، وجماهير العلماء على جواز بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات).
الشاهد: أنه قال: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، أي: الكلب، وهي صيغة من صيغ التحريم عند الأصوليين، والزجر عن الشيء الطرد والإبعاد عنه، فمعنى ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن هذا الشيء، ولا يزجر إلاّ عن حرام.
الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عباس في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لما نهى عن ثمن الكلب: (فإن جاءك يريد ماله فاملأ كفه تراباً) أي: إذا جاء يريد أخذ قيمة الكلب فاملأ كفه تراباً، وهذا يدل على حرمة ثمن الكلب، وأنه لا قيمة له، وعلى هذا قال الجمهور: لا يجوز بيع الكلاب مطلقاً.
وقالوا: هذه الأحاديث حينما تأملناها ونظرنا فيها وجدناها لم تفرق بين كلبٍ وآخر، ولم تفرق بين حالةٍ وأخرى، فهي عامة في الكلاب ومطلقة في الأحوال.
عامة في الكلاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الكلب الصغير (الجرو) ولا الكبير، ولم يفرق أيضاً بين كلب الماشية والحرث والصيد وغيرها، وإنما عمم: (زجر النبي صلى الله عليه وسلم)، (نهى النبي صلى الله عليه وسلم)، (ثمن الكلب خبيث)، (ثمن الكلب سحت)، وهذا كله عام.
وكذلك في الأحوال: لأنك إذا قلت: أريده لحالة معينة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في حالة دون أخرى.
أدلة القول الثاني: الذين قالوا بجواز البيع مطلقاً وهم الحنفية فقد استدلوا:
بأن الكلب مال، والقاعدة عندهم: أنه يجوز بيع المال، والأصل جواز بيع الأموال. والمال عندهم كل شيء فيه منفعة، فيقولون: الكلب كسائر الأموال، ففيه منفعة الصيد، ومنفعة حراسة الحرث والماشية، فلما كانت هذه المنفعة موجودة فيه وهي مقصودة شرعاً، فإنه يجوز أن تبيعه وتأخذ القيمة لقاء هذا الشيء الذي هو فيه من المنافع، وهذا دليل عقلي.
القول الثالث: الذين يوافقون القول الثاني لكنهم يستثنون الكلب العقور؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله كما في الصحيحين: (خمسٌ يقتلنَّ في الحلَّ والحرم، وذكر منها: الكلب العقور).
القول الرابع: الذي استثنى كلب الصيد والماشية والزرع، وهو قول جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي وزيد بن علي رحم الله الجميع. يقولون: دليلنا ما جاء في حديث أبي داود والنسائي والترمذي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثمن الكلب إلاّ الضَّارِيَ سحتٌ) وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلاّ كلب الصيد) قالوا: هذا الحديث يدلُّ على استثناء الكلب الضَّارِيَ وكلب الصيد، وإنما خرجا لمنفعة مخصوصة أُذن بها وهي منفعة الصيد، فنقيس عليها منفعة حراسة الحرث وحراسة الماشية.
القول الخامس والأخير: وهو مذهب الذين قالوا بجواز البيع لمن يأكله، وهم يقولون: إنه طاهر العين مباح المنافع، فيجوز بيعه لهذه المنفعة المباحة وهي أكله.
قيل لهم: الشرع نهى عن اتخاذ الكلاب، قالوا: هذا لا يتخذه؛ لأنه يريد أن يأكله، فحينئذٍ يأخذه ويذبحه مباشرة، فليس هناك اتخاذ محرم.
والذي يترجح في نظري من هذه الأقوال: القول بالتحريم مطلقاً، لعدة أسباب:
أولاً: لصحة دلالة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم، ودلالتها واضحة وصريحة، ولم تفرق بين نوع وآخر.
ثانياً: أمّا قول الحنفية بأن الكلب مال، فنجيب عنه من وجهين:
الوجه الأول: لا نسلم صحة هذا الدليل العقلي؛ لأن الكلب ليس بمالٍ من كل وجه، وإنما هو مال في أشياء معينة مخصوصة جاءت على سبيل الرخصة، فلا يجوز التوسع فيها، لأنك إذا قلت: إنه جاز للصيد وجاز للحرث والماشية، وقلت: يجوز بيعه لأن فيه هذه المنافع؛ فمعنى ذلك أنه جاز للصيد والحرث والماشية والبيع، فتزيد على استثناء الشرع، والشرع إنما استثنى ثلاثة أحوال: أن تجعله لحراسة حرث، أو ماشية، أو تصيد به.
فإذا جاء يبيعه فمعنى ذلك أنه أصبح هناك منفعة رابعة وهي منفعة البيع، فهذا دليل عقلي يعارض الأصل الشرعي، فنقول: إن قولكم: إن فيه منفعة، لا نسلم لكم أن فيه منفعة من كل وجه، ففيه منفعة مخصوصة مرخص فيها ينبغي التقيد بها؛ لأن ما جاء على خلاف الأصل ينبغي أن يتقيد به بالنص الوارد: فالأصل عدم جواز اتخاذ الكلب، وتقيد بهذه الثلاثة الأحوال، فيجوز لمن يريد اتخاذه أن يتخذه على هذه الثلاثة الأحوال المعينة.
أمّا الوجه الثاني فنقول: سلمنا جدلاً أن هذا الدليل العقلي صحيح، وهو أن الكلب مال وفيه منفعة؛ لكننا نقول: هذا اجتهاد مع النصّ، والقاعدة: (لا اجتهاد مع النص). أي: هذا وجه من القياس نسلم به ونقول: هو من ناحية الشكل صحيح لكنه معارضٌ للنص، والقاعدة: أن القياس يقدح فيه من أربعة عشر وجهاً يسمونها قوادح القياس.
وقد ذكرها العلماء رحمهم الله في مبحث العلة في الأصول، وبينوا أوجه نقض القياس، ومنها: فساد الاعتبار، وهو أن يأتي المجتهد ويقيس شيئاً على شيء، فيحكم بالجواز في شيء ورد النص بتحريمه، فتقول:
الكلب مال يجوز بيعه كسائر الأموال بجامع وجود المنفعة في كلٍ، وهذا قياس صحيح من ناحية الشكل وأركانه موجودة؛ ولكنه قياس مصادم للنص، والقاعدة: أنه لا اجتهاد مع النص، وهذا القادح يسمونه (قادح فساد الاعتبار)، أي: فسد اعتبار هذا القياس، وليس له قيمة ما دام أنه صادم النص من الكتاب والسنة.
أمّا القول الثالث: الذي استثنى كلب الصيد، فاستثنوا للحديث الذي ذكرناه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في استثناء الكلب الضاري.
وهذا الحديث نجيب عنه من وجهين:
الوجه الأول: من جهة السند.
الوجه الثاني: من جهة المتن.
أمّا من جهة السند فهو حديث ضعيف، قال النسائي : إنه منكر، وكذلك ضعفه الإمام أحمد والإمام الترمذي رحمهم الله وهم أئمة الشأن، فقالوا: إنه حديث ضعيف؛ لأنه من رواية الحسين بن أبي جعفر الكرابيسي ، وهو ضعيف الرواية، بل جزم النسائي رحمه الله بأنه منكر الرواية.
ولو سلمنا صحة هذا الحديث من ناحية كونه حسناً لغيره بالطرق، أو أن السند قابل للتحسين فإننا نقول: عارضه ما هو أصح فيقدم؛ لأن الحسن لا يحتج به إذا عارض ما هو صحيح، ولذلك يقولون في الحسن:
وَهوَ فِي الْحُجَّةِ كَالصَّحِيْحِ وَدُوْنَهِ إِنْ صِيْرَ للتَّرْجِيْح
أي: لا يمكن أن تصادم حديثاً صحيحاً بحديث حسن، وفائدة تقسيم العلماء الحديث إلى صحيح وحسن هو: أنها إذا تعارضت قدم الصحيح على الحسن.
ثم إن الصحيح قسموه إلى صحيح لذاته وصحيح لغيره؛ لكي يقدم الصحيح لذاته على الصحيح لغيره، وكذلك الحسن لذاته على الحسن لغيره .. إلى آخر مما هو مقرر في علم مصطلح الحديث.
وأما الجواب على المتن: فلو سلمنا فرضاً أن الحديث صحيح من جهة السند؛ لكن من جهة المتن نقول: قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضَّارِيَ) (إلاّ) هنا بمعنى العطف (الواو)، وهذه لغة من لغات العرب وهو أنهم يستعملون حرف الاستثناء (إلاّ) بمعنى العطف، وحملوا عليها قوله تعالى: وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] فقوله: (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) أي: ولا ما قد سلف، ويكون المعنى: أي: لا تبقوهن ولا تستديموا نكاحهن.
ومنه أيضاً قوله سبحانه وتعالى، وهو وجه ذكره ابن العربي في أحكام القرآن في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً [النساء:92] أي: (ولا خطأ) بمعنى: أنه لا يتعاطى أسباب التفريط، فمثلاً: لو جاء إلى موضع يريد أن يصيد فيه، وهو يعلم أنه هذا الموضع فيه أناسٌ يرعون، أو فيه خيام لأناس نازلين بهذا المكان، وبمجرد أن يرى فريسة يرميها، فلا يجوز، بل ينبغي أن يتحفظ؛ لأن القتل الخطأ هو أن يقتل بدون أن يقصد القتل كأن يرمي صيداً فيصيب آدمياً، فالله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً [النساء:92] أي: (ولا خطأً)، بمعنى: ألا يتساهل، حتى ولو كان الخطأ معفواً عنه، فلا ينبغي عليه أن يتعاطى أسباب الخطأ، ومنه قول الشاعر:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوْهُ لَعَمْرُ أَبِيْكَ إِلاّ الْفَرْقَدَاْنِ
أي: والفرقدان.
وعلى هذا يكون قوله: (نهى عن ثمن الكلب إلاّ الكلب الضاري) أي: والكلب الضاري، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الكلاب، ولو كانت كلاب صيد) تأكيداً في التحريم، ويكون هذا من باب قلب الدليل؛ لأنه إذا كان في الدليل معنيان: معنىً يعارض، ومعنىً يوافق، فينبغي صرف الحديث إلى المعنى الذي يوافق الأحاديث الأخرى، وحينئذٍ نقول: إن الأصحّ من هذه الأقوال هو القول بعدم جواز بيع الكلب مطلقاً.
وقوله: [إلا الكلب والحشرات].
(الحشرات) جمع حشرة، وهي الدويبات المعروفة على اختلاف أنواعها، وغالباً ما تكون صغيرة الحجم، سواءً كانت مما يرى أو كانت مما لا يُرى، فهذا النوع لا يجوز بيعه؛ والسبب في هذا -كما قلنا- أنه ليس في الحشرات منفعة مقصودة.
وعليه: فإنه لو جمع حشرات وأراد أن يبيعها فإن البيع غير صحيح؛ لأنه من باب إضاعة المال، ولا قيمة للحشرات.
لكن كيف تقرر التحريم بالدليل؟
تقول: الأصل أنه لا يجوز أكل المال بالباطل؛ لقوله سبحانه: لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29].
ومعنى أكل المال بالباطل أن تأخذ المال بدون وجه حق، أي: بدون استحقاق، فإذا كانت الحشرات لا قيمة لها، وليس فيها منفعة مقصودة، ودفع لشرائها ألف ريال أو مائة ريال أو عشرة ريالات، فإنها أعطيت لغير شيء، وأعطيت لشيء لا قيمة له، فحينئذٍ تكون من أكل المال بالباطل.
لكن إن وجدت فيها منفعة مقصودة كالطعم ونحو ذلك، فحينئذٍ يكون دفع المال لقاء منفعة مقصودة، وأُخذ المال لقاء شيء له قيمة.
إذاً: وجه تحريم بيع الحشرات: أنها إذا كانت خلواً من المنافع وليس فيها منافع مقصودة، فقد خلت وعريت عن القيمة، فدفع المال لقاءها إنما هو من أكل المال بالباطل.