خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ، ولا حجام وطبيب وبيطار لم تجن أيديهم، إن عرف حذقهم].
الإجارة إذا وقعت بين الطرفين لم تخل من حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون على السلامة، فتستأجر الأجير فيقوم بالعمل على الوجه المطلوب دون حدوث أي ضرر من هذه الإجارة، فحينئذ لا إشكال.
والحالة الثانية: أن تستأجر الأجير، وأثناء قيامه بمهمة الإجارة المطلوبة يحدث الضرر، كأن تستأجر عاملاً ليقوم بعمل فيصلح شيئاً في الدار أو نحو ذلك، فيكسر ذلك الشيء، فيتلفه بالكلية أو يتلف بعضه ويعطل المنافع الموجودة فيه، ففي هذه الحالة يرد السؤال: هل الأجير يتحمل المسئولية عن العين التي تطلب منه المنفعة بإصلاحها والقيام عليها؟
وهذا يشمل كثيراً من الإجارات، سواء كان ذلك في الأشخاص أو كان في الحيوانات، أو كان في المركوبات أو كان في العقارات، فأنت إذا استأجرته ربما أنه يستأجر لإصلاح الإنسان -كالطبيب يقوم على إصلاح بدن الإنسان- فيحدث ضرراً بطبه، فيعطل منفعة العضو الذي يراد علاجه، أو يحدث ضرراً في مكان آخر، فيكون -بإذن الله عز وجل- سبباً في علاج موضع ولكن يحدث الضرر في موضع آخر، هذا في إصلاح الآدميين، وربما تستأجره لإصلاح حيوان كالبيطار، فيقوم بعلاج الدابة فيفسدها، أو تعتل صحتها بسبب الأدوية والعقاقير أو نحو ذلك، أو تستأجره لإصلاح جدار فينهدم أثناء إصلاحه، أو إصلاح زجاج فينكسر ويتهشم، أو إصلاح الأمور الأخرى من المرافق المتعلقة بالبيوت والدور ونحو ذلك.
فكل هذه صور قد تقع في بعض الأحيان، فالإجارة إما سلامة وإما ضرر، ففي حال السلامة لا يسأل السائل، ولكن يرد السؤال في حال الضرر، وحالات الضرر تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، فمسائل الضمان في الإجارة لا تختص بالأجير، بل لربما أنك تستأجر سيارة للنقل فيكون في السيارة ضرر يؤثر على صحة الراكب، أو تستأجر شيئاً من أجل أن تقضي مصلحة منه، فيخرج ذلك الشيء من المصلحة إلى المضرة، وكل هذه المسائل تسمى بمسائل الضمان في الإجارة، وتعم بها البلوى، وتكثر منها الأسئلة والشكوى، ويحتاج طالب العلم إلى معرفة أحكامها وموقف الشريعة الإسلامية الذي أنصفت فيه الطرفين: فأعطت الأجير حقه، وأعطت المالك حقه.
فيرد السؤال: ما هي الضوابط؟ وما هي الأمور المعتبرة التي ينبغي العمل بها في مسائل الضمان؟
فشرع رحمه الله في بيان هذه المسائل؛ لأن بيان الإجارة يستلزم بيان الآثار المترتبة على الإجارة، وقد تكون هذه الإتلافات والأضرار الناجمة تعطل الإجارة فيما بقي من المدة، وكل هذا يبحثه العلماء ويبين مسائله الفقهاء رحمهم الله برحمته الواسعة، فشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه المسائل والدلالة على هذه الأحكام.
فقوله: (ولا يضمن).
الضمان: غرامة الشيء التالف إما بمثله أو بقيمته، فالعلماء رحمهم الله إذا قالوا: عليه الضمان. بمعنى: أنه يأتي بمثل الشيء الذي أتلفه إن كان له مثلي، أو يأتي بقيمته إن تعذر وجود المثلي.
وتوضيح ذلك: أن الضمان يفتقر إلى وجود إتلاف وضرر، وهذا الإتلاف سواء كان كلياً أو كان جزئياً فإنه إذا فعل شخص بمال غير بدون حق فإن الله عز وجل ألزمه أن يضمن لأخيه المسلم حقه، فمن أتلف الشيء حتى تعطلت منافعه بالكلية ولم يمكن الارتفاق به على وجه، وأصبح تالفاً بدون وجه حق، نقول له: اضمن مال أخيك. وذلك لأنه إذا أتلف الشيء على هذا الوجه فقد تعدى وظلم، فيجب عليه ضمان تعديه وظلمه، فعلى اليد أن تضمن جنايتها كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
[المدثر:38] فلما اكتسب الجناية وأتلف مال غيره وجب عليه أن يضمن ذلك المال، وتعين عليه أن يقوم برد مثل ذلك المال.
فمثلاً: لو أتلف سيارة لأخيه المسلم بدون وجه حق، نقول له: تأتي بمثل هذه السيارة في مواصفاتها، وبمثلها في شكلها وتعطيها لأخيك. فإن تعذر وجود مثل هذه السيارة نقول: تضمن بقيمتها.
فإذاً الضمان: غرامة الشيء التالف -أي: أنه لابد من وجود شيء تالف- إما بمثله إن كان له مثلي، ويضمن المثلي بالكيل كيلاً وبالوزن وزناً، فإذا كان مكيلاً يضمن بمثله كيلاً وبمثله وزناً وبمثله جودة ورداءة وغلاءً ورخصاً... إلى آخره كما سيأتي -إن شاء الله- في الضمان.
وقوله: [ولا يضمن أجير خاص].
الأجير ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يسمى بالأجير الخاص، والقسم الثاني: ما يسمى بالأجير المشترك.
فأما الأجير الخاص -ويسميه بعض العلماء الأجير المنفرد-: فهو الذي تعاقدت معه على مدة معلومة تستحق منفعة هذا الأجير خلال المدة كلها، كأن تستأجر شخصاً ليعمل عندك في بيتك أو مزرعتك شهراً، فإنه يسمى بالأجير الخاص، فإنه خلال الشهر تكون مدة الشهر كاملة مستحقة لك أنت، ولا يجوز له أن يصرف هذا الاستحقاق والمنفعة لشخص آخر؛ فصار مختصاً بك، فيقال له: الأجير الخاص.
وهناك نوع ثان: وهو الأجير العام والمشترك، مثل: الخياط الذي يخيط الثياب فهو ليس مختصاً بك، وإنما يقوم بعمل لك ولغيرك، ومثل: النجار والحداد ونحوهم ممن يقومون بإجارة العمل، ولذلك يقول العلماء: غالباً ما يكون الفرق بين الأجير الخاص والعام: أن الأجير الخاص ينصب العقد ويتعلق بالمدد، وأما الأجير العام فإنه يتعلق بالأعمال. فالأجير العام غالباً ما يكون في الأعمال مثل الحدادة والنجارة والمقاولات ونحوها، هذا أجير عام؛ لأنه يعمل لك ولغيرك، وبإمكانه أن يشتغل لثلاثة أشخاص في يوم واحد، بل ولربما لعشرين أو لثلاثين شخصاً، فهو لا يختص بشخص معين، إنما لك عليه أن يقوم لك بالعمل فقط، فهذا أجير مشترك، ولا يستوجب عليه أن يكون مفرغاً لك بعينك، أما الأجير الخاص فلابد أن يكون مختصاً بك.
هناك فرق بين الاثنين في الضمان: فالأجير الخاص فيه شبهة من جهة كونه مختصاً بك والغالب في قيامه بالأعمال أن يكون وكيلاً عنك، وتعلمون -كما تقدم معنا في الوكالة- أن الوكيل أمين لا يضمن إلا إذا فرط، فيصبح فقه المسألة في الأجير الخاص: أنك إذا جئت بعامل أو خادم إلى البيت، فإن هذا الخادم أو العامل إذا عمل في البيت صار كالوكيل عنك في الأعمال التي طلبت، بخلاف الأجير المشترك، فإن الأجير المشترك ليس فيه هذا المعنى، وإن كان فيه خصوص التوكيل للعمل نفسه لكن فيه ضمان.
ففرق طائفة من العلماء رحمهم الله في مسائل الضمان في الإجارة بين الأجير الخاص والأجير المشترك، فقال رحمه الله:
(ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ).
مثل: الخدامة في البيت، لو أنها قامت بإصلاح مكان طلب منها إصلاحه، فقامت بعملها على الوجه المطلوب فانكسر الزجاج أو تهشم أو انكسر الباب، فإنها إذا قفلت الباب -مثلاً- بالقفل المعتاد، ولكن سقط الباب وعلمنا أنه سقط قدراً أكثر من سقوطه فعلاً، فنقول: لا تضمن. كما لو أنها مسحت فانكسر؛ لأنك وكلت، فهي في كونها مستحقة خلال المدة وأعمالها هذه منحبسة لك صارت كالوكيلة عنك؛ ولذلك لا تضمن، لكن هناك شروط لعدم ضمان العامل.
لو جئت بعامل في مزرعة فقام على مكينتها لإدارة الماء، فأدار المكينة بالطريقة المعتادة المتبعة عند أهل الخبرة فانكسرت المكينة أو حدث بها عطل، نقول: كما لو أدرتها بنفسك فتعطلت؛ لأنه في هذه الحالة ليس هناك تأخير، فالعمل الذي قام به قام به بأمرك، فأنت الذي أمرته، فحينئذٍ كما لو أنك أنت الذي أدرته، فلو قلت له: أنت في المزرعة تقوم على مصالحها وتؤدي مصالحها. فقام بها على الوجه المعتبر، فكل عمل يقوم به على الوجه المعتبر كأنك قائم مكانه، فما يضمن إلا إذا تعدت يده أو فرطت، فإن تعدت يده أو فرطت خرج عن كونه وكيلاً لك إلى كونه متعدياً مفرطاً؛ فيضمن.
إذاً: فقه المسألة في الأجير الخاص: إذا أقمته للقيام بعمل لمدة معينة في مزرعة أو دار أو غير ذلك، فإنه لا يضمن إلا إذا حصل منه التعدي أو التفريط.
وعلى هذا: قال المصنف رحمه الله:
أن يكون عمل الأجير مأذوناً له فيه
وهذا قول جماهير العلماء، وهناك من خالف وقال بتضمين الأجير مطلقاً، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه، حتى إنه أثر عن علي رضي الله عنه أنه ضمن الأجراء وقال: لا يصلح للناس إلا هذا. أي: كأنه يرى أن حقوق الناس لو قيل: إن الأجراء لا يضمنون؛ تلفت أموال الناس، لكن حين يقال: إن الأجير يضمن؛ فيكون هناك نوع من الصيانة.
ولكن الأثر عنه مرسل، والصحيح عنه رضي الله عنه أنه لم يضمن الأجير الخاص، وعلى هذا: فإن العمل على أن الأجير الخاص لا يضمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) وهذا النص له مفهوم -سنبينه إن شاء الله- يدل على أن من قام بالأعمال على الوجه المعتبر، وكان ذلك بدون تفريط وبدون تقصير، فإنه لا يلزم بضمان ما وقع من يده؛ لأنه الأشبه فيه أنه قضاء وقدر، وإذا كان خاصاً ففيه شبهة الوكالة، ولذلك النظر الصحيح والأصل الصحيح من كونه وكيلاً -كما قررناه في كتاب الوكالة- يقتضي عدم تضمين أمثال هؤلاء.
أن ينتج الإتلاف عن خطأ لا عن تعدٍ أو إهمال
(ما جنت يده خطأً) فهناك الخطأ وهناك التعمد وهو القصد للإتلاف والضرر، فإذا قلت: لا يضمن. يترتب أمران، وإذا قلت: يضمن. يترتب أمران أيضاً.
إذا قلت: لا يضمن. أسقطت عنه المؤاخذة من المكلفين -هذا الأمر الأول- وأسقطت عنه المؤاخذة من رب العالمين، فالشخص الذي تقيمه للقيام بعمل معين في مزرعة أو أرض -وهو الأجير الخاص- ونصح لك واتقى الله فيما أمرته، وأدى ذلك الشيء الذي أمرته به على الوجه المعتبر؛ فإنه إذا وقع منه خطأ بدون قصد ولا تعد ولا تفريط؛ فليس من حقك أن توبخه أو تسبه أو تشتمه، فإن فعلت ذلك فقد ظلمته؛ لأنه غير ضامن أصلاً، وما من وجه شرعي يخولك الأذية والإضرار، فيصبح سبه وشتمه وقهره وأذيته وتوبيخه من الاستطالة في عرض المسلم واستباحتها بدون حق.
وهذا أمر يفرط فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، ونحب أن ننبه عليه إن كثيراً من أصحاب الأعمال بمجرد ما يقع الخطأ من عامله بدون تقصير يقوم بتوبيخة وسبه وشتمه، وهذا لا يجوز، وكل هذا السب والشتم إما حسنات تؤخذ منه أو سيئات -والعياذ بالله- يحملها على ظهره، فلا يجوز أن يستباح عرض العامل أو الأجير ما لم يفرط، فإن الله تعالى يقول: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
[النساء:148] وصاحب العمل غير مظلوم، فحينئذ ليس من حقه أن يظلم أخاه المسلم بالسوء، هذا بالنسبة للمخلوق، وأما بالنسبة لحكم الله عز وجل وشرعه فإنه لا يطالب بالضمان في الدنيا، ولا أيضاً تتعلق مسئولية الآخرة؛ لأنه إذا أدى ما وجب عليه خليت نفسه وبرئت ذمته من الإثم في الآخرة كما برئت ذمته من تبعة الدنيا لسقوط الضمان عنه.
فقوله: (خطأً) خرج القصد كما ذكرنا، فلو جاء -مثلاً- بالزجاج ومسحه بطريقة عفوية فانكسر الزجاج، قلنا في هذه الحالة: لا يضمن. لكن لو جاء بالزجاج قاصداً وكسره، نقول: يضمن؛ لأنه في الحالة الأولى أخطأ، وفي الحالة الثانية تعمد.
من مسائل الخطأ أيضاً: لو أنه حمل الزجاج فزلجت يده وسقط الزجاج وانكسر، أو تهشم بعضه، أو حصل منه ضرر على فراش أو نحوه، أو حمل مائعاً فانكب على فراش فأفسده أو أتلفه أو أضر به، وكان هذا الحال كله على سبيل الخطأ، إن زلجت يده ولم يتعاط أسباب التفريط، لكن لو كانت يده مبلولة وفيها لزوجة، أو غسل الزجاج بمادة لزجة، ثم جاء بعد لزوجته وأخذه، فهنا نوع من التساهل والتفريط له حكمه الخاص الذي سيأتي.
إذاً: لابد من أن يكون ذلك من قبيل الخطأ، وألا يكون قصده الضرر، وثانياً: ألا يفرط؛ لأنه قد يخطئ وهو مفرط، الآن مثلاً: يأتي العامل وتقول له: إذا جاء المساء فعليك أن تقفل باب المزرعة. ولكنه ترك الباب مفتوحاً، فهذا تساهل وتقصير؛ فحينئذ نقول: إنه مقصر، فهو إما أن يتعدى وإما أن يقصر. وعكسها -عدم التعدي- الخطأ، وعدم التقصير إذا أدى العمل على وجه معتبر فجاء شيء وأتلفه قضاء وقدراً.
إذاً على هذا: الأجير الخاص لا يمكن أن تحمله المسئولية إلا إذا تعدى أو قصر.
(ما جنت يده) يعني: ما وقع بسبب فعله، لكن بشرط: أن يكون مأذوناً له في هذا الفعل، فمثلاً: لو أن عاملاً قام بعمل في نخل، وقد قلت له: هذه النخلة لا تفعل فيها شيئاً، فجاء وفعل، فإنه يضمن؛ لأنه ليس عنده الإذن الذي يكون به وكيلاً يسقط عنه الضمان فتكون يده يد أمانة، فلما عصاك وتجاوز حينئذ نقول: يضمن. وعلى هذا نقول: لا يضمن إذا قام بما طلب منه، وكان قيامه على الوجه المعتبر الذي لا إفراط فيه ولا تعد، وعلى هذا يعتبر الأجير الخاص غير ضامن.
وهذا قول جماهير العلماء، وهناك من خالف وقال بتضمين الأجير مطلقاً، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه، حتى إنه أثر عن علي رضي الله عنه أنه ضمن الأجراء وقال: لا يصلح للناس إلا هذا. أي: كأنه يرى أن حقوق الناس لو قيل: إن الأجراء لا يضمنون؛ تلفت أموال الناس، لكن حين يقال: إن الأجير يضمن؛ فيكون هناك نوع من الصيانة.
ولكن الأثر عنه مرسل، والصحيح عنه رضي الله عنه أنه لم يضمن الأجير الخاص، وعلى هذا: فإن العمل على أن الأجير الخاص لا يضمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن) وهذا النص له مفهوم -سنبينه إن شاء الله- يدل على أن من قام بالأعمال على الوجه المعتبر، وكان ذلك بدون تفريط وبدون تقصير، فإنه لا يلزم بضمان ما وقع من يده؛ لأنه الأشبه فيه أنه قضاء وقدر، وإذا كان خاصاً ففيه شبهة الوكالة، ولذلك النظر الصحيح والأصل الصحيح من كونه وكيلاً -كما قررناه في كتاب الوكالة- يقتضي عدم تضمين أمثال هؤلاء.
وقوله: [ولا يضمن أجير خاص ما جنته يده خطأً].
(ما جنت يده خطأً) فهناك الخطأ وهناك التعمد وهو القصد للإتلاف والضرر، فإذا قلت: لا يضمن. يترتب أمران، وإذا قلت: يضمن. يترتب أمران أيضاً.
إذا قلت: لا يضمن. أسقطت عنه المؤاخذة من المكلفين -هذا الأمر الأول- وأسقطت عنه المؤاخذة من رب العالمين، فالشخص الذي تقيمه للقيام بعمل معين في مزرعة أو أرض -وهو الأجير الخاص- ونصح لك واتقى الله فيما أمرته، وأدى ذلك الشيء الذي أمرته به على الوجه المعتبر؛ فإنه إذا وقع منه خطأ بدون قصد ولا تعد ولا تفريط؛ فليس من حقك أن توبخه أو تسبه أو تشتمه، فإن فعلت ذلك فقد ظلمته؛ لأنه غير ضامن أصلاً، وما من وجه شرعي يخولك الأذية والإضرار، فيصبح سبه وشتمه وقهره وأذيته وتوبيخه من الاستطالة في عرض المسلم واستباحتها بدون حق.
وهذا أمر يفرط فيه كثير من الناس إلا من رحم الله، ونحب أن ننبه عليه إن كثيراً من أصحاب الأعمال بمجرد ما يقع الخطأ من عامله بدون تقصير يقوم بتوبيخة وسبه وشتمه، وهذا لا يجوز، وكل هذا السب والشتم إما حسنات تؤخذ منه أو سيئات -والعياذ بالله- يحملها على ظهره، فلا يجوز أن يستباح عرض العامل أو الأجير ما لم يفرط، فإن الله تعالى يقول: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
[النساء:148] وصاحب العمل غير مظلوم، فحينئذ ليس من حقه أن يظلم أخاه المسلم بالسوء، هذا بالنسبة للمخلوق، وأما بالنسبة لحكم الله عز وجل وشرعه فإنه لا يطالب بالضمان في الدنيا، ولا أيضاً تتعلق مسئولية الآخرة؛ لأنه إذا أدى ما وجب عليه خليت نفسه وبرئت ذمته من الإثم في الآخرة كما برئت ذمته من تبعة الدنيا لسقوط الضمان عنه.
فقوله: (خطأً) خرج القصد كما ذكرنا، فلو جاء -مثلاً- بالزجاج ومسحه بطريقة عفوية فانكسر الزجاج، قلنا في هذه الحالة: لا يضمن. لكن لو جاء بالزجاج قاصداً وكسره، نقول: يضمن؛ لأنه في الحالة الأولى أخطأ، وفي الحالة الثانية تعمد.
من مسائل الخطأ أيضاً: لو أنه حمل الزجاج فزلجت يده وسقط الزجاج وانكسر، أو تهشم بعضه، أو حصل منه ضرر على فراش أو نحوه، أو حمل مائعاً فانكب على فراش فأفسده أو أتلفه أو أضر به، وكان هذا الحال كله على سبيل الخطأ، إن زلجت يده ولم يتعاط أسباب التفريط، لكن لو كانت يده مبلولة وفيها لزوجة، أو غسل الزجاج بمادة لزجة، ثم جاء بعد لزوجته وأخذه، فهنا نوع من التساهل والتفريط له حكمه الخاص الذي سيأتي.
إذاً: لابد من أن يكون ذلك من قبيل الخطأ، وألا يكون قصده الضرر، وثانياً: ألا يفرط؛ لأنه قد يخطئ وهو مفرط، الآن مثلاً: يأتي العامل وتقول له: إذا جاء المساء فعليك أن تقفل باب المزرعة. ولكنه ترك الباب مفتوحاً، فهذا تساهل وتقصير؛ فحينئذ نقول: إنه مقصر، فهو إما أن يتعدى وإما أن يقصر. وعكسها -عدم التعدي- الخطأ، وعدم التقصير إذا أدى العمل على وجه معتبر فجاء شيء وأتلفه قضاء وقدراً.
إذاً على هذا: الأجير الخاص لا يمكن أن تحمله المسئولية إلا إذا تعدى أو قصر.
ومعنى (يتعدى): يجاوز الحدود، كأن يأتي إلى شيء يحمل برفق فيحمله بعنف، أو يأتي إلى شيء يوضع برفق فيضعه بقوة، نحن نعلم في هذه الحالة لو أنه حمل كتباً ثم جاء ورماها بقوة، فتمزقت الكتب، فهذا تعد وإساءة، فنقول له حينئذ: تضمنها؛ لأن هذا من باب التعدي. فلو حملت المرضع أو الخادم الصبي ثم رمته بقوة، فنقول: إن هذا تعد واعتداء؛ لأن مثل هذا ما يوضع بقوة، وإنما يوضع برفق، فمسائل الضمان لا تنحصر من حيث الصور والأمثلة، وإنما نذكر نحن أمثلة على حسب اختلاف الإجارات، وإلا القاعدة فيها: ألا يوجد تعد وألا يوجد تقصير، فإذا وجد التعدي أو التقصير فقد فتح العامل والأجير على نفسه باب المسئولية، ويتحمل تبعة كل ما ينشأ على تعديه وكل ما ينشأ على تقصيره.
(ما جنت يده خطأ) ما لم يتعد أيضاً؛ لأنه سيأتي إن شاء الله ذكره في الحجام والبيطار، وهذه الأمور -يعني: القول: إن الأجير لم يتعد ولم يقصر- تضبط بضوابط معينة، أي: أمر تصدره للأجير فإن مقتضى عقد الإجارة يلزمه بالتقيد بذلك الأمر، فلو طلبت منه أن يفتح شيئاً في حدود معينة ففتحه أكثر من ذلك الحد أو أقل وترتب على ذلك ضرر ضمن؛ لأنه في هذه الحالة قصر؛ فإن فعل ذلك وكان -والعياذ بالله- عن قصد ونية، أي: لو أنه فتحه أكثر مما يستحق عن قصد فترتب الضرر، فحينئذ -والعياذ بالله- يكون جناية وعدواناً، لكن إذا فتح الشيء وهو غافل ففتحه أكثر مما يستحق، أو أنقصه عما يستحق فحصل الضرر، فنقول: يضمن.
هذا بالنسبة للتعدي في تنفيذ الأوامر، وقد يكون التعدي من جهة العرف، فقد لا تأمره بشيء، فتأتي بشخص يقوم بعمل وأنت لا تعرف هذا العمل، كالكهربائي والنجار والحداد، وما عندك أمر إلا أن تقول له: أصلح لي هذا الشيء. فحينئذ يتعدى إذا خرج عن ضوابط أهل الخبرة في عمله على هذا الشيء الذي يريد إصلاحه، فلو قال أهل الخبرة وأهل الصنعة: إنه يصلح بطريقة معينة، فمثلاً: يمر بمرحلتين، فأصلحه على مرحلة واحدة وتركه، فهذا تقصير، وعليه فلو جئت تشغل الجهاز ففسد فهنا يضمن؛ لأنه قصر في إصلاحه، صحيح أنك لم تخاطبه ولم تقل له: أصلحه على مرحلتين أو افعل فيه كذا وكذا؛ لأنك لا تعلم، لكن العرف يخاطبه وأصول الصنعة ومقتضيات المهنة تلزمه أن يتقيد بهذا العمل، فأنت حينما قلت له: أصلح. كأنك تقول له: أصلح رحمك الله بما جرى عليه العرف؛ ولذلك المسكوت عنه في العقود مردود إلى ما تعارف عليه الناس.
وقد يكون التعدي من جهة -والعياذ بالله- قصد العدوان، فتعطيه أمراً أن يصلح شيئاً وهذا الشيء لا يمكن استصلاحه إلا بالرفق، فجاء بالعنف والقوة قاصداً إتلافه، فإنه يجب عليه ضمان ما ترتب على ذلك القصد السيئ من الضرر، فبعض العمال والأجراء -والعياذ بالله- يقدم على إتلاف الشيء في موقف معين أو عمل معين وهو يريد بذلك أن ينتقم، والله سبحانه وتعالى هو المطلع على الضمائر، وكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
[المدثر:38]...
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
[آل عمران:4] فالله لا تخفى عليه الخوافي، فإذا فعل هذا الفعل عن قصد وأذية فإنه يصبح في هذه الحالة بينه وبين الله مؤاخذ، وبينه وبين الله يجب عليه ضمان هذا الحق كاملاً، وعليه إخبار صاحب الحق عن حقه والتحلل منه، وإلا تحمل مسئوليته، فهو إن لم يضمن في الدنيا فسيضمن في الآخرة، وإذا لم يحلل نفسه في الدنيا فسيعجل الله له عقوبة في الدنيا قبل أن يلقاه في الآخرة.
فلذلك من حيث التعدي قد يكون التعدي بالأوامر فيجاوز هذه الأوامر، أو قد يكون على ما يضبط بالعرف، فهناك أشياء تحفظ بدرجات معينة ونظام معين وترتيب معين، فيخرج العامل عن هذه الأصول فيضمن.
كذلك هناك شيء من الضمان يدخل بسبب الجهل، فكل شخص ادعى صنعة وليس من أهلها، أو كان من أهلها ولكن جاءه عمل خارج أو مجاوز لحدود علمه، فإن أي شيء يترتب من الضرر على فعله يضمنه، وهذا سنقرره -إن شاء الله- في ضمان الأطباء، فمثلاً: لو أن رجلاً ادعى أنه يحسن الكهرباء، فجئت به من أجل إصلاح أجهزة، وهو لا يعرف إصلاحها، فأفسدها وأتلفها أو عطل بعض منافعها، فإنه يضمن تعدى أو لم يتعد، كل ذلك يوجب الضمان عليه، فالجهل موجب للضمان.
كذلك لو كان من أهل هذه الصنعة -كصنعة الكهرباء- وهو يتقن قسماً ولا يتقن قسماً آخر، والقسم الذي لا يتقنه يجب عليه شرعاً أن يقول: لا أعلم هذا الشيء. أما إذا أقحم نفسه فيه فإنه يضمن.
هذا من حيث الأصول العامة: أن الضمان للأجير الخاص إذا وكلته فإن يده يد أمانة، ولا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر.
وعلى هذا: فإنه يجب على المسلم أولاً ألا يحكم بكون الأجير الخاص ضامناً إلا إذا توفرت دواعي الضمان، ووجدت الأمارات والعلامات والشروط التي يجب توفرها للحكم بضمانه.
وقوله: [ولا حجام].
الحجامة هي: إخراج للدم الفاسد من البدن بالمص، ولها مقامعها المعروفة وطريقتها المشهورة، وتكون متعلقة بالأوعية الدموية، وأما الفصد، فإنه يكون للعروق، وكلاهما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرعيته، ودل الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام باعتباره، كما في الحجامة أنه احتجم وأمر بالحجامة (إذا اشتد الحر فاحتجموا، لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم) وكذلك أيضاً الفصد، ثبت عنه في الصحيح أنه أرسل إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيباً، فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه، وهذا يدل على مشروعية الفصد.
فالحجامة صنعة لا ينبغي لأحد أن يقوم بها إلا إذا كان من أهلها، وهي تحتاج إلى معرفة بالطب، وليس كل من أخذ محاجماً فهو حجام، وقد تدخل على الإنسان ضرراً لا يعلمه إلا الله عز وجل! فهي سلاح ذو حدين، إذ أن هناك مواضع في الجسد لو حجمت أهلكت الإنسان، وهناك مواضع في البدن لو حجمت استقامت صحته، وهناك أوقات لا تحسن فيها الحجامة ولا تصلح، وهناك أوقات تصلح فيها الحجامة، فهي علم مستقل. وأطباء المسلمين المتقدمون ألفوا في الحجامة الكتب، فهي ليست صنعة لكل من هب ودب؛ لأنها تتعرض لأخطر الأشياء بعد الدين وهو الجسد؛ لأن أجساد الناس وأرواحهم متوقفة -بعد الله عز وجل- على الطب، ولذلك كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول في الطب: إنه ثلث العلم، وكان يقول: ضيعوا ثلث العلم. وكان يقول رحمه الله قولته المشهورة: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب. فالطب ليس بالسهل، فأرواح الناس وأجسادهم أمانة عند الحجام، فهناك مواضع لو حجمت أذهبت ذاكرة الإنسان، وأصبح -والعياذ بالله- كثير النسيان، وهناك مواضع لو حجمت لربما أصابته بالشلل والعياذ بالله، فهي خطيرة وليست بالسهلة.
فإذاً: لا يجوز لأحد أن يتعاطى الحجامة إلا إذا كان عالماً بالمواضع التي تحجم وكيفية الحجامة، فلابد أولاً من العلم بالمواضع؛ لأنه قد يعرف كيف يحجم، ويعرف لون الدم الفاسد من الصالح، ويعرف زمان الإمكان بسحب المحاجم وتركها، وطريقة التشريط، وطريقة المص، قد يعرف هذا، لكن لا يعرف المواضع، وهذا أكثر ما يقع فيه الجهل، فقد تجد حجاماً يحسن الشرط ويحسن المص، لكن ما يحسن معرفة المواضع، ولذلك ينبغي أن يكون عالماً بهذه المهمة على الوجه المطلوب.
ثانياً: إذا كان عالماً يجب عليه شرعاً أن يؤدي العمل وفق المتبع عند أهل الخبرة؛ لأنه قد يكون عالماً ولكن لا يحسن التطبيق، وقد يكون عالماً ولا يتم التطبيق؛ أي: أنه متساهل، فإذا كان جاهلاً بالصنعة ضمن، وإذا كان عالماً بالصنعة جاهلاً بتطبيقها ضمن، وإذا قام بالصنعة وكان عالماً بتطبيقها ولكنه لم يتم العمل على الوجه المتبع عند أهل الخبرة ضمن.
إذاً: كلها مداخل للضمان؛ لكن إذا أدى الحجامة على الوجه المعتبر، وعرف الموضع الذي يحجم، وأتم الحجامة على الصورة والصفة المعتبرة، فلا ضمان عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في سنن أبي داود وغيره في الحديث الصحيح أنه قال: (من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن) (من تطبب): تفعل، أي: تكلف، مثل: تحلم وتصبر إذا لم يكن من أهل الحلم لكنه تكلف الحلم، وكذلك أيضاً تصبر، هذه الصيغة تدل على أنه تكلف الطب وليس من أهل الطب.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) عام، ولذلك قرر الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله برحمته الواسعة في كتابه النفيس العظيم (الطب النبوي) وهو منتزع من (زاد المعاد في هدي خير العباد) قرر أن قوله: (من تطبب) عام، وأن الطب بجميع فروعه يدخل تحت قوله: (من تطبب)، وأنه من جوامع كلمه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فكل من يقوم بأي مهمة طبية لا يعرفها، أو يعرفها ولكن ليس تمام المعرفة المعتبرة التي تؤهله بشهادة أهل الخبرة للقيام بذلك الشيء الذي قام به فإنه متطبب.
فقال: يمكن أن يكون المتطبب حجاماً. لأنه إذا تعاطى ذلك فإنه قد دخل في الطب، صحيح أن الطب عام، ولكن من الطب الحجامة؛ ولذلك يعتبر متطبباً إذا تعاطى الحجامة ولا يعرفها، وكذلك أيضاً الفصاد، قال: إذا تعاطى الفصد ولا يعرفه فقد تطبب، وكذلك الجراح إذا تعاطى الجراحة وهو لا يعرفها فقد تطبب... وهكذا بقية الأطباء، حتى علم الأعشاب، لو قال -مثلاً-: خذ العشب الفلاني، أو ضع العشب الفلاني، أو افعل بالعشب الفلاني، أو العشبة الفلانية علاج لكذا ودواء لكذا. فإنه تطبب إذا لم يكن على بينة وعلم.
إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب) يدل على تضمين الحجام؛ لأن الحجامة من الطب، وعلاج يتادوى به، ومن مجالات الطب، فيدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (من تطبب).
لا ضمان على الحجام إذا حجم بالصفة والطريقة المعتبرة.
ويشترط في الحجام ما يأتي:
أولاً: أن يكون عالماً بالحجامة.
وثانياً: أن يشهد له أهل الخبرة أنه أهل للقيام بهذا.
وثالثاً: أن يؤدي هذه الحجامة بالطريقة المتبعة عند أهل الخبرة.
فلو أنه كان عالماً، وكان مستطيعاً للتطبيق، وطبق ما علم في حدود أهل الخبرة، ولكنه قام بالعمل بدون إذن صاحبه، فجاء إلى شخص وحجمه بدون إذنه، فهذا يضمن؛ لأن الإذن هو الذي فيه التوكيل الذي يسقط الضمان، فأصبح هناك أربعة شروط لابد من توفرها: العلم بالحجامة، والقدرة على تطبيق ذلك العلم على الوجه الصحيح، وأن يقوم بالمهمة وفق الأصول المتبعة عند أهل العلم بالحجامة، وأن يأذن الشخص المريض أو وليه بفعل الحجامة، وهذا الشروط الأربعة على التفصيل الآتي:
قلنا: أن يكون عالماً. فإذا كان جاهلاً ليس من حقه شرعاً أن يعرض أرواح المسلمين وأجسادهم للتلف، فيضمن.
ثانياً: أن يكون قادراً على التطبيق. الآن ربما تقرأ كتاباً في الحجامة وتتصور الحجامة، وربما تقرأ كتاباً في الجراحة الطبية وتتصورها، لكن لو وقفت أمام الدماء والعروق والأشلاء والقطع لما أحسنت التصرف؛ لأن التطبيق شيء والعلم شيء آخر، ولذلك لابد مع العلم من القدرة على التطبيق، وأن يكون هذا التطبيق الذي طبقه موافقاً للأصول المتبعة عند أهل الخبرة؛ ولذلك نستطيع أن نضمِّن أعرف الناس بالطب إذا خرج عن السبيل المتبع عند أهل الخبرة، فعلمه وقدرته على التطبيق محكومة بالضوابط والأصول المتبعة عند أهل الخبرة، فإذا خرج عنها صار متحملاً للمسئولية، وخارجاً عن السنن الذي جعله الله علاجاً ودواءً للأجساد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تداووا عباد الله؛ فإن الله لم يجعل داءً إلا وجعل له شفاء ودواء) فقال: (جعل له شفاء ودواء) فهذا الجعل نعرفه عن طريق أهل الخبرة والمعرفة، فلما جاء وخرج عن حدود أهل الخبرة وتطبيقاتهم فقد خرج عن السنن الذي جعله الله سبحانه وتعالى علاجاً، فصار مخاطرة ومجازفة واجتهاداً يتحمل مسئوليته وتبعته.
مثال: لو أن المريض يحجم في نقرة الرأس، فجاء وقال: أنا أفضل أن تكون في النقرة اليمنى ولا تكون في الوسط. فانحرف يميناً أو شمالاً، أولاً: هو يعرف كيف يحجم، أي: عنده علم، ثانياً: عنده قدرة على التطبيق، ثالثاً: لم يطبق وفق أصول أهل الخبرة؛ لأن أصول الخبرة تستلزم أن يضع في هذا الموضع.
من أمثلتها أيضاً: أن يحدد الموضع ويحدد المكان للحجامة، فيقوم بالحجامة، ولكن المتبع عند أهل الخبرة أنه يعالج الجرح بعد انتهاء الحجامة وينظفه قبل الحجامة؛ لأنه إذا جاء يجرح ينبغي أن يكون قد قام بتنظيف مكان الجرح، فإذا لم يحتط وعاجل بجرحه قبل تنظيف المكان فتسمم المكان، أو حدث ضرر بسبب هذا التفريط والخروج عن الأصل المتبع عند أهل الخبرة، وهو أنه لا يمكن أن يقوم بحجم موضع إلا بعد تنظيفه وتهيئته للحجامة، فنقول: هذا خروج؛ مع أنه عالم وقادر على التطبيق، وعنده معرفة، ولكن خرج عن السنن المتبع عند أهل الخبرة، وهذه ضوابط مهمة.
الأمر الرابع: أن يوجد الإذن، فإذا وجد الإذن وأذنت له أن يحجم لي فإنني في هذه الحالة وكلته لعلاج نفسي، فكأني أنا الذي أعالج نفسي؛ ولأني إذا أذنت تحملت مسئولية الآلام، ورضيت بالضرر المترتب على وجود الألم والمشقة المترتبة عليه، فإذا لم آذن لم أرض لنفسي هذا الضرر، فعند إقدامه عليه بدون وجود إذن يضمن.
إذاً: لو كان المريض مغمى عليه، أو كان صبياً صغيراً لا يحسن النظر في مصلحة نفسه، يقوم وليه مقامه، فللولي أن يقوم مقامه ويأذن، فإذا جاء وليه وقال له: احجم هذا الصبي. وكان أبوه أو عمه وهو قائم على أمره حينئذ يعتبر إذناً موجباً لسقوط الضمان.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3720 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3631 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3452 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3385 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3347 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3288 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3237 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3194 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3182 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [2] | 3125 استماع |