شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ باب ما يختلف به عدد الطلاق ].

تقدم معنا أن الطلاق له ألفاظٌ مخصوصة، وهذه الألفاظ تارةً تكون صريحةً في الدلالة على الطلاق بحيث لا تحتمل معنىً غير اللفظ، ولا تحتمل معنىً غير الطلاق، وقد تكون هذه الألفاظ محتملة، وبيَّنا حكم كلٍّ من الصريح والمحتمل.

وبعد هذا شرع المصنف -رحمه الله- في بيان ما يختلف فيه عدد الطلاق، فالمطلق تارةً يأتي بلفظ الطلاق الذي هو صريح لفظ الطلاق، ويأتي بجزء اللفظ كأن يقول: أنتِ طالقٌ نصف طلقة أو ربع طلقة، أو بعض طلقة أو يجزِّئ المرأة نفسها فيقول: يدك طالق، ورجلك طالق، وروحك طالق، وشعرك طالق، ونحو ذلك؛ ثم هذا اللفظ تارةً يكون بصريح الطلاق الذي يدل على عدد معين كأن يصرح بالتحديد فيقول: أنتِ طالق طلقةً واحدة، وتارةً يأتي بلفظ يحتمل أكثر، فيقول: أنت الطلاق، أو يلزمني منك الطلاق، ونحو ذلك.

فكل هذه ألفاظ يختلف فيها الحكم، ومن حيث الأصل: تارةً تكون النيةُ موافقةً للفظ وتارةً تكون النيةُ مخالفةً للفظ وكل هذا من مباحث بابنا: (باب ما يختلف به عدد الطلاق)، كأن المصنف -رحمه الله- يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بلفظ الطلاق، يختلف الحكم فيها من حيث العدد، فيُحكم تارةً بأن الطلقة واحدة، وتارةً يحكم بأنها أكثر من واحدة.

الخلاف في تشطير الطلاق على العبد

قال رحمه الله: [ يملك من كله حرٌ أو بعضه ثلاثاً ].

هذه المسألة تعرف بمسألة تشطير الطلاق، فهناك الأحرار وهناك العبيد، والشرع حينما حكم بضرب الرق على العبد أو على الأمة بسبب الكفر لا يتقيد هذا بلون ولا بجنس ولا بطائفة، فمن كفر بالله عز وجل وعادى الله وحارب دين الله عز وجل وضُرِب عليه الرق ضُرِب عليه عقوبةً من الله عز وجل، ونَقَصَ عن مستوى الآدمية حتى يباع كالمتاع؛ لأن الله يقول: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44]، فلا يمكن أن نسوي مَن حكم الله عز وجل بانتقاصه ونزوله إلى هذه المرتبة بمنزلة مَن كان على صراط سوي، وآمن بالله وشرعِ الله عز وجل! فوُجِدت أحكامٌ في الشريعة شُطِّر فيها الحكم بالنسبة للأرقاء، واختلف الحكم بالنسبة للحر والعبد، وأعداء الإسلام قد يقولون: إن الإسلام فيه عنصرية أو حزازية بأذية الأرقاء أو نحو ذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يقيمون للإيمان وزناً، والإسلام قائمٌ على الإيمان والعقيدة، فلما كفر الكافر بالله وضُرِب عليه الرق عوقب من الله عز وجل بهذه العقوبة، ولا يمكن أن يسوى بين من آمن ومن كفر، فالله عز وجل حكم ويحكم ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41].

فنص الله في كتابه على أن عقوبة الأحرار ضعف عقوبة الإماء والعبيد: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25].

وبين أن الحكم في العقوبة والمؤاخذة في الزنا يختلف رقاً وحرية، واختلف العلماء رحمهم الله: هل يقاس على مسألة العقوبة غيرها من المسائل أو لا يقاس؟

فجاءت القضايا والسنن عن الصحابة -رضوان الله عليهم- ومنهم الأئمة المأمور باتباع سنتهم كـعمر وعثمان بمسألة التشطير، فشطَّروا للعبد كما شطَّروا له بالنسبة للنساء، فجعلوا الحكم مطرداً قياساً، والقياس حجةٌ في الشرع، وقامت الأدلة على أنه حجة، وقد بسط الإمام ابن القيم رحمه الله مسألة حجية القياس في كتابه النفيس: (أعلام الموقعين) وبيَّن حجج السنة الكثيرة وقضايا الصحابة على حجية القياس، فكأن الشرع نبه بالمثل على مثله، فإذا نُصَّ في العقوبة والحدود على التشطير قالوا: يقاس عليها غيرها، فجاء قضاء بعض الصحابة -كما ذكرنا- بتشطير الطلاق للعبد وإذا قلنا بالتشطير يرد السؤال: هل العبرة بالزوج، أو العبرة بالزوجة، أو العبرة بواحدٍ منهما؟

توضيح ذلك: أنه يباح للرجل أن ينكح أمةً إذا خشي العنت ولم يجد حرة، كما هو ظاهر آية إباحة الإماء إذا لم يجد حرةً: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ إلى أن قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25]، فجاء بشرطين: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا : أي: إذا لم يكن عنده قدرة على أن يتزوج حرة، وخاف على نفسه الزنا يباح له أن يتزوج أمة، فإذا أصبحت زوجةً له، فحينئذٍ نقول: إن الرق يؤثر في عدد الطلاق، لكن هل العبرة بالرجل ولا يتشطر الطلاق، لأن الزوجة أمة وما دام أن الرجل حر يمتلك العدد فالعبرة به؟ هذا قول عمر وعثمان وابن عباس وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو أشبه بمذهب الجمهور، فجمهور العلماء على أن العبرة في التشطير بالرجل، فإن كان الزوج حراً فإنه حينئذٍ لا يتشطر الطلاق حتى ولو كانت زوجته أمة.

وقال طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- منهم علي بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود وهو مذهب الحنفية: أن العبرة بالمرأة لأنها هي محل الطلاق ويتعلق الطلاق بها، فإن كانت حرةً طلقت ثلاثاً وملك زوجها التطليق ثلاثاً، وإن كانت أمةً فإنه يطلقها طلقتين، وتكون بائنة بها.

وهناك مذهب ثالث لـعثمان البتي قال: العبرة بواحدٍ منهما: فإذا كان الرجل عبداً والمرأة حرة تشطر الطلاق، وإن كانت المرأة رقيقة وزوجها حر تشطر الطلاق.

والصحيح: مذهب الجمهور؛ لأن الله خاطب بالطلاق الرجال، وجعل الطلاق بيد الرجال وهو مسند إلى الرجل، فإذا كان يتشطر فالعبرة بالرجل لا بالمرأة.

فإذا قلنا: إن الطلاق يتشطر، وإن العبرة بالرجل، فحينئذٍ يرد السؤال: كيف يتشطر الطلاق؟ هل يقال: طلقة ونصف؟! الجواب: الطلاق لا يتشطر، بمعنى: أن المطلق لا يقول: نصف طلقة، بل لو طلق طلقتين وهو رقيق: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فيكون كالحر إذا طلق ثلاثاً، وأما على القول: أنها لا تتشطر وأن الطلاق لا يتشطر، فحينئذٍ يملك ثلاثاً، بغض النظر عن كونه حراً أو رقيقاً.

يقول رحمه الله: [ يملك من كله حرٌ ].

(يملك) يعني: من حقه أن يطلق.

(من كله حرٌ) يعني: إذا كان الزوج كله حر وليس فيه شبهة الرق.

(أو بعضه).

البعضية مثلاً: رجل بين رجلين، يعني: عبد يملك بين رجلين، وهذان الرجلان أحدهما أعتق نصفه وبقي نصف العبد مملوكاً، فيصبح في هذه الحالة نصفه حراً ونصفه مملوكاً، فيومٌ يكون فيه عبداً يخدم سيده، ويومٌ هو حر يفعل ما يشاء، فنصفه حرٌ ونصفه عبد، وربما كان بين ثلاثة أشخاص، فأعتق أحدهم الثلث، وبقي ثلثاه مملوكاً فيومٌ حر ويومان رقيق، يوم يخدم فيه الأول ويوم يخدم فيه الثاني، فلو كان الرقيق بهذه الصفة يقول المصنف -رحمه الله- بمعنى كلامه: أنه لو كان فيه شائبة الحرية -ولو كان المعتق منه أقل- فإنه يملك الثلاث، وقال بعض العلماء: العبرة بأكثره، فإن كان أكثره حراً فإنه حينئذٍ يملك الثلاث، وإن كان أكثره الرق فإنه لا يملكها ويتشطر.

(ثلاثاً)

أي: ثلاث تطليقات، فإن طلق ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وقالوا: العبرة بالحرية.

قال رحمه الله: (والعبد اثنتي).

والعبد يملك اثنتين، يعني: إذا كان الرجل أو الزوج رقيقاً فيملك اثنتين؛ لأنه ليس هناك طلقة ونصف.

قال رحمه الله: (حرةً كانت زوجتاهما أو أمة).

خلافاً لـعثمان البتي رحمه الله حيث خالف الجماهير وقال: إن العبرة بواحدٍ منهما سواء كان الرجل أو المرأة.

قال رحمه الله: [ يملك من كله حرٌ أو بعضه ثلاثاً ].

هذه المسألة تعرف بمسألة تشطير الطلاق، فهناك الأحرار وهناك العبيد، والشرع حينما حكم بضرب الرق على العبد أو على الأمة بسبب الكفر لا يتقيد هذا بلون ولا بجنس ولا بطائفة، فمن كفر بالله عز وجل وعادى الله وحارب دين الله عز وجل وضُرِب عليه الرق ضُرِب عليه عقوبةً من الله عز وجل، ونَقَصَ عن مستوى الآدمية حتى يباع كالمتاع؛ لأن الله يقول: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44]، فلا يمكن أن نسوي مَن حكم الله عز وجل بانتقاصه ونزوله إلى هذه المرتبة بمنزلة مَن كان على صراط سوي، وآمن بالله وشرعِ الله عز وجل! فوُجِدت أحكامٌ في الشريعة شُطِّر فيها الحكم بالنسبة للأرقاء، واختلف الحكم بالنسبة للحر والعبد، وأعداء الإسلام قد يقولون: إن الإسلام فيه عنصرية أو حزازية بأذية الأرقاء أو نحو ذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يقيمون للإيمان وزناً، والإسلام قائمٌ على الإيمان والعقيدة، فلما كفر الكافر بالله وضُرِب عليه الرق عوقب من الله عز وجل بهذه العقوبة، ولا يمكن أن يسوى بين من آمن ومن كفر، فالله عز وجل حكم ويحكم ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41].

فنص الله في كتابه على أن عقوبة الأحرار ضعف عقوبة الإماء والعبيد: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25].

وبين أن الحكم في العقوبة والمؤاخذة في الزنا يختلف رقاً وحرية، واختلف العلماء رحمهم الله: هل يقاس على مسألة العقوبة غيرها من المسائل أو لا يقاس؟

فجاءت القضايا والسنن عن الصحابة -رضوان الله عليهم- ومنهم الأئمة المأمور باتباع سنتهم كـعمر وعثمان بمسألة التشطير، فشطَّروا للعبد كما شطَّروا له بالنسبة للنساء، فجعلوا الحكم مطرداً قياساً، والقياس حجةٌ في الشرع، وقامت الأدلة على أنه حجة، وقد بسط الإمام ابن القيم رحمه الله مسألة حجية القياس في كتابه النفيس: (أعلام الموقعين) وبيَّن حجج السنة الكثيرة وقضايا الصحابة على حجية القياس، فكأن الشرع نبه بالمثل على مثله، فإذا نُصَّ في العقوبة والحدود على التشطير قالوا: يقاس عليها غيرها، فجاء قضاء بعض الصحابة -كما ذكرنا- بتشطير الطلاق للعبد وإذا قلنا بالتشطير يرد السؤال: هل العبرة بالزوج، أو العبرة بالزوجة، أو العبرة بواحدٍ منهما؟

توضيح ذلك: أنه يباح للرجل أن ينكح أمةً إذا خشي العنت ولم يجد حرة، كما هو ظاهر آية إباحة الإماء إذا لم يجد حرةً: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ إلى أن قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25]، فجاء بشرطين: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا : أي: إذا لم يكن عنده قدرة على أن يتزوج حرة، وخاف على نفسه الزنا يباح له أن يتزوج أمة، فإذا أصبحت زوجةً له، فحينئذٍ نقول: إن الرق يؤثر في عدد الطلاق، لكن هل العبرة بالرجل ولا يتشطر الطلاق، لأن الزوجة أمة وما دام أن الرجل حر يمتلك العدد فالعبرة به؟ هذا قول عمر وعثمان وابن عباس وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو أشبه بمذهب الجمهور، فجمهور العلماء على أن العبرة في التشطير بالرجل، فإن كان الزوج حراً فإنه حينئذٍ لا يتشطر الطلاق حتى ولو كانت زوجته أمة.

وقال طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- منهم علي بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود وهو مذهب الحنفية: أن العبرة بالمرأة لأنها هي محل الطلاق ويتعلق الطلاق بها، فإن كانت حرةً طلقت ثلاثاً وملك زوجها التطليق ثلاثاً، وإن كانت أمةً فإنه يطلقها طلقتين، وتكون بائنة بها.

وهناك مذهب ثالث لـعثمان البتي قال: العبرة بواحدٍ منهما: فإذا كان الرجل عبداً والمرأة حرة تشطر الطلاق، وإن كانت المرأة رقيقة وزوجها حر تشطر الطلاق.

والصحيح: مذهب الجمهور؛ لأن الله خاطب بالطلاق الرجال، وجعل الطلاق بيد الرجال وهو مسند إلى الرجل، فإذا كان يتشطر فالعبرة بالرجل لا بالمرأة.

فإذا قلنا: إن الطلاق يتشطر، وإن العبرة بالرجل، فحينئذٍ يرد السؤال: كيف يتشطر الطلاق؟ هل يقال: طلقة ونصف؟! الجواب: الطلاق لا يتشطر، بمعنى: أن المطلق لا يقول: نصف طلقة، بل لو طلق طلقتين وهو رقيق: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فيكون كالحر إذا طلق ثلاثاً، وأما على القول: أنها لا تتشطر وأن الطلاق لا يتشطر، فحينئذٍ يملك ثلاثاً، بغض النظر عن كونه حراً أو رقيقاً.

يقول رحمه الله: [ يملك من كله حرٌ ].

(يملك) يعني: من حقه أن يطلق.

(من كله حرٌ) يعني: إذا كان الزوج كله حر وليس فيه شبهة الرق.

(أو بعضه).

البعضية مثلاً: رجل بين رجلين، يعني: عبد يملك بين رجلين، وهذان الرجلان أحدهما أعتق نصفه وبقي نصف العبد مملوكاً، فيصبح في هذه الحالة نصفه حراً ونصفه مملوكاً، فيومٌ يكون فيه عبداً يخدم سيده، ويومٌ هو حر يفعل ما يشاء، فنصفه حرٌ ونصفه عبد، وربما كان بين ثلاثة أشخاص، فأعتق أحدهم الثلث، وبقي ثلثاه مملوكاً فيومٌ حر ويومان رقيق، يوم يخدم فيه الأول ويوم يخدم فيه الثاني، فلو كان الرقيق بهذه الصفة يقول المصنف -رحمه الله- بمعنى كلامه: أنه لو كان فيه شائبة الحرية -ولو كان المعتق منه أقل- فإنه يملك الثلاث، وقال بعض العلماء: العبرة بأكثره، فإن كان أكثره حراً فإنه حينئذٍ يملك الثلاث، وإن كان أكثره الرق فإنه لا يملكها ويتشطر.

(ثلاثاً)

أي: ثلاث تطليقات، فإن طلق ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وقالوا: العبرة بالحرية.

قال رحمه الله: (والعبد اثنتي).

والعبد يملك اثنتين، يعني: إذا كان الرجل أو الزوج رقيقاً فيملك اثنتين؛ لأنه ليس هناك طلقة ونصف.

قال رحمه الله: (حرةً كانت زوجتاهما أو أمة).

خلافاً لـعثمان البتي رحمه الله حيث خالف الجماهير وقال: إن العبرة بواحدٍ منهما سواء كان الرجل أو المرأة.

قال رحمه الله: [ فإذا قال: أنت الطلاق أو أنت طالق أو علي أو يلزمني وقع ثلاثا بنيتها، وإلا فواحدة ].

قول الرجل لامرأته: (أنتِ الطلاق)

قبل أن ندخل في التفصيلات -نسأل الله لنا ولكم المعونة-.

أولاً: حتى تكون الصورة واضحة، الطلاق إذا وقع فيه اللفظ، فإما أن يتفق مع النية، وإما أن يختلف مع النية فعندنا صورتان:

إما أن يتفق لفظ الطلاق الذي يتلفظ به مع الذي نوى، وإما أن يختلف، فتكون نيته شيئاً ولفظه شيئاً آخر.

الصورة الأولى: أن يتفق لفظ الطلاق ونيته سواءً كان بالأقل أو كان بالأكثر أو بينهما.

مثال: أن يقول للمرأة: أنت طالق طلقةً واحدة وينوي واحدة، فاللفظ واحد والنية واحدة فاتفقت النية مع اللفظ، فإجماعاً تُعد طلقة واحدة أو يقول لها: أنت طالقٌ طلقتين، وينوي الطلقتين، فاتفق اللفظ مع النية، أو يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، وينوي الثلاث، فاتفق اللفظ مع النية.

في هذه الحالة إذا اتفق اللفظ مع النية فلا إشكال أنه ينفذ الطلاق على التفصيل، وجماهير السلف والأئمة من الصحابة والتابعين على الإمضاء؛ لأنه تلفظ بالطلاق ونيته موافقة، فاجتمع دليل الشرع على المؤاخذة؛ لقوله (إنما الأعمال بالنيات)، وهذه مؤاخذة الباطن، وكذلك قوله : فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230]، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231]، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [البقرة:237]، وهو تلفظ بالطلاق، هذا بالنسبة لاجتماع اللفظ مع النية.

صورة أخرى: أن يختلف اللفظ مع النية فتكون نيته شيئاً، ولفظه شيئاً آخر، ونحن لا نتكلم في من لم يَنْوِ الطلاق، إنما نتكلم عن شخص نوى الطلاق واختلفت نيته في العدد، أما مسألة أن يأتي بلفظ يحتمل الطلاق أو غيره، أو ينوي بلفظ يحتمل الطلاق أو بغيره، فقد تقدمت معنا في الكنايات وبينا حكمها في الكنايات.

لكنا هنا أمام رجلٍ يتلفظ بلفظ الطلاق، ولكن يتردد لفظه بين الأقل أو الأكثر فقال: ما يختلف به عدد الطلاق، ولسنا في مسألة: أيمضي الطلاق أو لا يمضي؟! فالأمر مفروغ منه، والطلاق ماضٍ -لا شك في ذلك- لكن هل يمضي ثلاثاً، أو يمضي اثنتين، أو يمضي واحدة؟! فهنا البحث كله منصب على: هل اللفظ يؤخذ بالأكثر أو الأقل؟ فإذا اختلفت نيته -وهي الصورة الثانية- عن لفظه، فإما أن تكون النية للأقل واللفظ للأكثر، أو يكون اللفظ للأقل والنية للأكثر.

توضيح ذلك:

أن تكون نيته لعدد أقل مما تلفظ به: فيقول لها: أنت طالقٌ ثلاثاً، وينوي واحدة، فاللفظ مختلف عن النية، النية تنوي الأقل، واللفظ واقع على الأكثر، هذه الحالة الأولى من الصورة الثانية.

الحالة الثانية من الصورة الثانية: أن يكون العكس، يقول لها: أنت طالقٌ طلقةً واحدة، وينوي الثلاث، أو أنت طالقٌ طلقة، وينوي الثلاث، فاللفظ للأقل والنية للأكثر، ففي جميع هذه الأحوال يرد السؤال: هل نأخذ بالأكثر أو نأخذ بالأقل؟ هل نأخذ بالأكثر؛ لأن لفظ الطلاق خطير والشرع اعتد باللفظ واعتد بالطلاق حتى أمضاه على الهازل، أو نأخذ بالأقل لأن الأصل أنها زوجته والأصل عدم الطلاق حتى يدل الدليل على أنها خرجت من عصمته بالطلاق؟ ففي بعض الأحيان نُغَلِّب النية وبعض الأحيان نُغَلِّب اللفظ، وهذا من مباحث اختلاف الظاهر مع الباطن، فالشرع تارةً يقوي الظاهر على الباطن، وتارةً يقوي الباطن على الظاهر.

ففي الطلاق قوّى الظاهر على الباطن في الهازل، فإن الهازل يمزح مع زوجته ويقول لها: أنت طالق، ولا ينوي الطلاق؛ فاعتبر الشرع لفظه، ولم يلتفت إلى نيته، وهكذا إجماع العلماء في ألفاظ يعتدون فيها بالنية، ويجزئه ذلك ديانةً بينه وبين الله عز وجل كما تقدم معنا.

فالسؤال الآن: إذا قال لها: أنت الطلاق؟

(أنت الطلاق) للعلماء فيها وجهان - من حيث النظر إلى اللفظ- أحدهما: أن المرأة تطلق وتوصف بكونها طالقاً بطلقة واحدة، لكن المشكلة أنه جاء بـ(ال)، فهل نقول: الطلاق، يعني: كل الطلاق، وكأنه جعل جميع الطلاق لها، وحينئذٍ يكون قوله: (ال) في (الطلاق) المراد بها: الاستغراق، فيحمل العدد على أتم الأعداد؟ هذا وجه.

الوجه الثاني: أن قوله: (أنت الطلاق) يتردد بين الاستغراق وبين أقل ما يقع ويسقط عليه الطلاق؛ فنأخذ بالأقل ما لم ينوِ الأكثر، وهذا هو الصحيح، وعليه درج المصنف، أنه لو قال لامرأته: أنت الطلاق سألناه: هل نويت واحدةً فتكون واحدة، أو نويت ثلاثاً فتكون ثلاثاً؟، فإذا قال: لم أنوِ شيئاً، فواحدة، قالوا: ومما يدل على ذلك: أن الشعراء لم يعتبروا المصدر دالاً على الاستغراق في هذا، ولذلك قال أحد الشعراء وكان قد غضب من امرأته، وعاش معها رِدحاً من الزمن حتى ملها وسئم، وقال: إنك شهرت بي أي: يشتكي عشرته معها وأنها بلغت إلى أسوأ الحالات-:

ونوهت باسمي في العالمين وأفنيت عمري عاماً فعاما

فأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثا تماما

فما أبقى لها شيئاً، وجه الدلالة: أنه لم يقل لها: أنت الطلاق واعتدها ثلاثاً، بل كرر اللفظ ثلاث مرات، فدل على أن اللسان العربي يُفهم منه أن (أنت الطلاق) وحدها لا تدل على الثلاث؛ لأنها لو كانت وحدها تدل على الطلاق، لم يقل لها:

وأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثاً تماماً

فلو كان نفس اللفظ يدل على الطلاق لما كرر، فتكراره للفظ يدل على أن هذا المصدر لا يدل على الاستغراق من كل وجه وحينئذٍ تطلق طلقةً واحدة، ويحكم بكونها طالقاً طلقة واحدة إلا إذا نوى أكثر من واحدة، فإذا قال لها: أنت الطلاق، فلا يخلو من حالتين:

إما أن يقول لها: (أنت الطلاق، أنت الطلاق، أنت الطلاق) فيكرر، أو يقول لها: (أنت الطلاق) ويسكت، فإن قال لها: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) وكرر ونوى واحدة فواحدة، وإن قال: (أنت الطلاق، وأنت الطلاق، وأنت الطلاق) ناوياً الثلاث فثلاث، وإن قال: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) ولم ينوِ شيئاً، فللعلماء وجهان كقوله: (أنت طالقٌ طالق طالق) وسيأتي بيانها إن شاء الله.

الخلاصة: أن قوله: أنت الطلاق، لفظ محتمل يتردد بين الاستغراق الموجب للثلاث وبين الدلالة على أقل الطلاق وهي واحدة، وهذا هو الصحيح؛ فإن كرره أو نوى به الثلاث فثلاث وإلا فواحدة.

قول الزوج لزوجته: (أنتِ طالق)

قوله: [ أو طالقٌ ]

إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فأقل ما يصدق على المرأة أنها طالق: طلقة واحدة، فإذا نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، قال العلماء وهو مذهب الجمهور: طالق ثلاثاً، والسبب في هذا أن قوله: أنت طالق، اسم فاعل يقبل الوصف بدليل -عند من يقول: بأن الثلاث تقع، ومذهب جماهير السلف والخلف- أنه لو قال لها: أنت طالق بالثلاث لطلقت ثلاثاً، فأصبح اسم الفاعل بقوله: أنت طالق، يحتمل أن يقصد به الأكثر ويحتمل أن يقصد به الأقل، فنقول: كلمة (أنت طالق) كقوله: أنتِ الطلاق، فأنت طالقٌ إن نوى بها واحدة فتكون واحدة وإن نوى ثلاثاً فتكون ثلاثاً.

قول الرجل: (علي الطلاق) أو (يلزمني الطلاق)

قوله: [ أو عليّ ].

أو (علي الطلاق) أو (يلزمني الطلاق) كله بمعنى.

سؤال: لماذا جعلنا (أنت الطلاق) و(أنت طالق) و(عليّ الطلاق) و(يلزمني الطلاق) الأصل فيها أنها واحدة؟

قالوا: لأنه إذا قال لها: (أنت الطلاق) أو قال لها: (أنت طالق)، فالمرأة التي توصف بكونها طالقاً أقل ما توصف به: الطلقة الواحدة، فإذاً نحن على يقين أنه طلقها طلقةً واحدة، وشككنا هل تقع الثانية أو الثالثة أو لا؟

والأصل بقاء العقد، فلذلك يقال بالبقاء على اليقين، وعليه قالوا: إنها طلقة واحدة ما لم ينو الأكثر.

وقوع الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد وحكمه

قوله: (وقع ثلاثاً بنيتها وإلا فواحدة فأكثر).

(وقع الطلاق ثلاثاً) لكن بشرط نيتها؛ وكان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر على السنة يطلقون طلقة واحدة، ثم يراجعون أو يسرحون بإحسان، ثم يطلقون الثانية بعد، ثم يطلقون الثالثة، فيفرقون الطلاق على السنة فلما جاء عهد عمر ودخل الناس في الإسلام، وكثرت الفتوحات، واختلط الحابل بالنابل، وكثرت المسائل ووجدت النوازل، كثر التطليق ثلاثاً، وأصبح الناس يجمعون طلاق الثلاث في لفظٍ واحد، فـعمر بن الخطاب لما أصبح الأمر منتشراً بين الناس، وانتبه إلى أن الناس كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على السنة وكانوا لا يطلقون إلا طلقةً واحدة، فلما جاء عهد عمر رضي الله عنه كما روى ابن عباس في الصحيحين قال: قام عمر بن الخطاب خطيباً -كعادته رضي الله عنه ما كان يبرم أمراً حتى يستشير الصحابة والناس- فقال رضي الله عنه: ( أرى الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة )، يعني: أن الله عز وجل أعطى المطلق ثلاث تطليقات مرتبة، يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، حتى تكون الثالثة، فالذي يطلق ثلاثاً يستعجل فيما وسع الله عليه، فيبتدع في دين الله ويخالف شرع الله ويضيق على نفسه؛ ويرتكب البدعة -وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله خلافاً للشافعي ، وقد تقدمت معنا هذه المسألة- فقال رضي الله عنه: ( أرى الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناه فلو أنا أمضيناه عليهم) يعني: ما رأيكم هل نبقى على الأصل الشرعي أن من تلفظ بالطلاق نؤاخذه به أو لا؟ لأن الله قد بين له الطلاق، إن شاء طلق ثلاثاً، وإن شاء طلق واحدة، فالله أعطاه ثلاثاً لزوجته، فأمضاه عمر وأمضاه الصحابة معه، ولذلك قضى بالثلاث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده الصحابة؛ ولذلك لما جاء الرجل إلى ابن عمر وقال: إني طلقتُ امرأتي مائةً قال: (ثلاثاً حرمت بهن عليك وسبعٌ وتسعون اتخذت بهن كتاب الله هزواً).

وكذلك ابن عباس رضي الله عنه ثبتت الرواية الصحيحة عنه أنه جاءه رجل وقال له: (إني طلقت امرأتي ألفاً، فقال: تكفيك منها ثلاث، تحرم زوجتك عليك) وعلى هذا مضى الصحابة والتابعون، ومذهب الأئمة الأربعة والظاهرية معهم في المشهور من مذهبهم وأصبح العمل عند أهل العلم -رحمهم الله- على إمضاء الثلاث، يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وحسبك أنه قضاء المحدث الملهم)، أي: حتى لو كان اجتهاداً من عمر فحسبك أن عمر رضي الله عنه كان مُحدّثاً مُلهماً.

وعلى هذا مضى العمل عند أهل العلم -رحمهم الله- أن الثلاث ثلاث وأن المسلم مخير بين أن يقول الثلاث بلفظٍ واحد فيمضي عليه الثلاث، وبين أن يقولها متفرقة ويصيب السنة بالتفرق دون الجمع، فإن جمعها فإنه مبتدع وآثم بجمعه، ولما ابتدع خالف شرع الله فالأنسب فيه عقوبته، وقد قدمنا هذا: أن من ابتدع وخالف السنة في الطلاق فالأشبه بمثله أن يعاقب ويؤاخذ.

وعلى هذا مضى قضاء الأئمة -رحمهم الله- على ذلك، ودرج المصنف -رحمه الله- على هذا القول المشهور عن جماهير السلف والخلف رحمهم الله.

ألفاظ تفيد تعدد الطلاق

قال رحمه الله: [ ويقع بلفظ (كل الطلاق) أو (أكثره) أو (عدد الحصى) أو (الريح) أو نحو ذلك ثلاثاً ولو نوى واحدة ].

قال رحمه الله: (ويقع بلفظ (كل الطلاق).

هنا يكون اللفظ للأكثر، وينوي أن يكون اللفظ للأكثر فيقول: (أنت طالقٌ كل الطلاق) أو يقول: (أنت طالق بالثلاث)، وينوي واحدةً، فإنها ثلاث ولا تؤثر نيته؛ لأن اللفظ لا يحتمل الواحد، وقد جاء باللفظ الصريح الدال على استغراق التطليقات الثلاث؛ فإنه ينفذ عليه كل الطلاق؛ وكلمة: (كل) تفيد العموم، ولذلك لو أن شخصاً قال: والله! لا أكلم كل الناس، فإنه يحنث بتكليمه لأي فردٍ منهم، ونحن في شرع الله نحكم بكونه حانثاً ونلزمه بذلك إذا كلم واحداً منهم، فدل على أن كلمة: (كل) تفيد العموم، حتى أن الأصوليين -رحمهم الله- يقولون: إن من ألفاظ العموم لفظة (كل)، فإذا قال لها: (أنت طالق كل الطلاق) كان كقوله: (أنت طالقٌ بالثلاث).

(أو أكثره).

أو أكثره، الحقيقة أكثر الطلاق هذا مُحكم، أكثر الطلاق مشكل.

ولذلك هذه الصورة الأشبه فيها: أن ينوي الأقل مع احتمالٍ في اللفظ -أي أن نيته الأقل مع تردد في اللفظ-؛ لأن الطلاق فيه أقل وفيه أكثر، وأقل الطلاق كطلقة وأكثر الطلاق ثلاث، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: إن عندنا كثير وأكثر، فهو إذا قال لها: أنت طالقٌ أكثر الطلاق. الواحدة أقل الطلاق، والاثنتان أكثر من الواحدة، لكن لما قال: أكثر صيغة أفعل، فالمراد أكثر من كثير -والكثير اثنتان، فأكثر من الاثنتين الثلاث- فتخرج على هذا الوجه أن تكون ثلاثاً.

(أو عدد الحصى).

أو (أنت طالقٌ عدد الحصى): -هذا ما شاء الله! ما أبقى من الطلاق شيئاً!! فهذا الظاهر أنه مغتاظ من زوجته -نسأل الله السلامة- إذا قال لها: أنت طالق عدد الحصى، معناه: أنه يريد الثلاث قطعاً؛ فتحرم بالثلاث.

(أو الريح).

عدد الريح؛ لأن الريح عددها فوق الثلاث قطعاً، فإذا قال لها: (أنت طالقٌ عدد الريح)، أو (عدد الحصى) أو (عدد الناس) أو (عدد النمل) أو (عدد الجبال) أو (عدد الرمال)... ونحو ذلك، هذا كله واضح أنه يريد الأكثر وهو الثلاث.

(أو نحو ذلك).

أي: أن يأتي بما يدل على الثلاث فأكثر؛ لأن عدد الريح فوق الثلاث، وعدد الحصى فوق الثلاث، وعدد الرمل فوق الثلاث، وكذا عدد الجبال وعدد الناس، فهو إذا قال لها: أنت طالقٌ عدد الحصى أو عدد الريح، كما لو قال لها: أنت طالقٌ ثلاثاً فأكثر.

اعتماد اللفظ الصريح الدال على التعدد وإن خالفته النية

قوله:[ ثلاثاً ولو نوى واحدة ].

(لو نوى) وهذه صورة أخرى: نوى الأقل واللفظ للأكثر، فيلتفت إلى اللفظ ولا يلتفت إلى النية؛ لأن الطلاق في العدد صريح، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ولم يقصد الطلاق وهزل معها، فحينئذٍ نقول: إنها تطلق عليه؛ لأن الشرع جعل صريح اللفظ مؤاخذاً به، قالوا: فإذا قال لها: أنت طالقٌ بالثلاث، ونوى واحدة فإنه يؤاخذ بصريح اللفظ، كالهازل حيث أُخذ بصريح لفظه، وبإيضاح أكثر: إذا قال: نويت واحدةً -وقد طلق صراحةً بالثلاث أو بما يدل على استغراق العدد للثلاث- فإنه لا تنفعه نيته لا قضاءً ولا ديانةً، حتى بينه وبين الله ليست بزوجته؛ لأن اللفظ صريح، ولو لم يَنْوِ ذلك الصريح.

قبل أن ندخل في التفصيلات -نسأل الله لنا ولكم المعونة-.

أولاً: حتى تكون الصورة واضحة، الطلاق إذا وقع فيه اللفظ، فإما أن يتفق مع النية، وإما أن يختلف مع النية فعندنا صورتان:

إما أن يتفق لفظ الطلاق الذي يتلفظ به مع الذي نوى، وإما أن يختلف، فتكون نيته شيئاً ولفظه شيئاً آخر.

الصورة الأولى: أن يتفق لفظ الطلاق ونيته سواءً كان بالأقل أو كان بالأكثر أو بينهما.

مثال: أن يقول للمرأة: أنت طالق طلقةً واحدة وينوي واحدة، فاللفظ واحد والنية واحدة فاتفقت النية مع اللفظ، فإجماعاً تُعد طلقة واحدة أو يقول لها: أنت طالقٌ طلقتين، وينوي الطلقتين، فاتفق اللفظ مع النية، أو يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، وينوي الثلاث، فاتفق اللفظ مع النية.

في هذه الحالة إذا اتفق اللفظ مع النية فلا إشكال أنه ينفذ الطلاق على التفصيل، وجماهير السلف والأئمة من الصحابة والتابعين على الإمضاء؛ لأنه تلفظ بالطلاق ونيته موافقة، فاجتمع دليل الشرع على المؤاخذة؛ لقوله (إنما الأعمال بالنيات)، وهذه مؤاخذة الباطن، وكذلك قوله : فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230]، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231]، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [البقرة:237]، وهو تلفظ بالطلاق، هذا بالنسبة لاجتماع اللفظ مع النية.

صورة أخرى: أن يختلف اللفظ مع النية فتكون نيته شيئاً، ولفظه شيئاً آخر، ونحن لا نتكلم في من لم يَنْوِ الطلاق، إنما نتكلم عن شخص نوى الطلاق واختلفت نيته في العدد، أما مسألة أن يأتي بلفظ يحتمل الطلاق أو غيره، أو ينوي بلفظ يحتمل الطلاق أو بغيره، فقد تقدمت معنا في الكنايات وبينا حكمها في الكنايات.

لكنا هنا أمام رجلٍ يتلفظ بلفظ الطلاق، ولكن يتردد لفظه بين الأقل أو الأكثر فقال: ما يختلف به عدد الطلاق، ولسنا في مسألة: أيمضي الطلاق أو لا يمضي؟! فالأمر مفروغ منه، والطلاق ماضٍ -لا شك في ذلك- لكن هل يمضي ثلاثاً، أو يمضي اثنتين، أو يمضي واحدة؟! فهنا البحث كله منصب على: هل اللفظ يؤخذ بالأكثر أو الأقل؟ فإذا اختلفت نيته -وهي الصورة الثانية- عن لفظه، فإما أن تكون النية للأقل واللفظ للأكثر، أو يكون اللفظ للأقل والنية للأكثر.

توضيح ذلك:

أن تكون نيته لعدد أقل مما تلفظ به: فيقول لها: أنت طالقٌ ثلاثاً، وينوي واحدة، فاللفظ مختلف عن النية، النية تنوي الأقل، واللفظ واقع على الأكثر، هذه الحالة الأولى من الصورة الثانية.

الحالة الثانية من الصورة الثانية: أن يكون العكس، يقول لها: أنت طالقٌ طلقةً واحدة، وينوي الثلاث، أو أنت طالقٌ طلقة، وينوي الثلاث، فاللفظ للأقل والنية للأكثر، ففي جميع هذه الأحوال يرد السؤال: هل نأخذ بالأكثر أو نأخذ بالأقل؟ هل نأخذ بالأكثر؛ لأن لفظ الطلاق خطير والشرع اعتد باللفظ واعتد بالطلاق حتى أمضاه على الهازل، أو نأخذ بالأقل لأن الأصل أنها زوجته والأصل عدم الطلاق حتى يدل الدليل على أنها خرجت من عصمته بالطلاق؟ ففي بعض الأحيان نُغَلِّب النية وبعض الأحيان نُغَلِّب اللفظ، وهذا من مباحث اختلاف الظاهر مع الباطن، فالشرع تارةً يقوي الظاهر على الباطن، وتارةً يقوي الباطن على الظاهر.

ففي الطلاق قوّى الظاهر على الباطن في الهازل، فإن الهازل يمزح مع زوجته ويقول لها: أنت طالق، ولا ينوي الطلاق؛ فاعتبر الشرع لفظه، ولم يلتفت إلى نيته، وهكذا إجماع العلماء في ألفاظ يعتدون فيها بالنية، ويجزئه ذلك ديانةً بينه وبين الله عز وجل كما تقدم معنا.

فالسؤال الآن: إذا قال لها: أنت الطلاق؟

(أنت الطلاق) للعلماء فيها وجهان - من حيث النظر إلى اللفظ- أحدهما: أن المرأة تطلق وتوصف بكونها طالقاً بطلقة واحدة، لكن المشكلة أنه جاء بـ(ال)، فهل نقول: الطلاق، يعني: كل الطلاق، وكأنه جعل جميع الطلاق لها، وحينئذٍ يكون قوله: (ال) في (الطلاق) المراد بها: الاستغراق، فيحمل العدد على أتم الأعداد؟ هذا وجه.

الوجه الثاني: أن قوله: (أنت الطلاق) يتردد بين الاستغراق وبين أقل ما يقع ويسقط عليه الطلاق؛ فنأخذ بالأقل ما لم ينوِ الأكثر، وهذا هو الصحيح، وعليه درج المصنف، أنه لو قال لامرأته: أنت الطلاق سألناه: هل نويت واحدةً فتكون واحدة، أو نويت ثلاثاً فتكون ثلاثاً؟، فإذا قال: لم أنوِ شيئاً، فواحدة، قالوا: ومما يدل على ذلك: أن الشعراء لم يعتبروا المصدر دالاً على الاستغراق في هذا، ولذلك قال أحد الشعراء وكان قد غضب من امرأته، وعاش معها رِدحاً من الزمن حتى ملها وسئم، وقال: إنك شهرت بي أي: يشتكي عشرته معها وأنها بلغت إلى أسوأ الحالات-:

ونوهت باسمي في العالمين وأفنيت عمري عاماً فعاما

فأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثا تماما

فما أبقى لها شيئاً، وجه الدلالة: أنه لم يقل لها: أنت الطلاق واعتدها ثلاثاً، بل كرر اللفظ ثلاث مرات، فدل على أن اللسان العربي يُفهم منه أن (أنت الطلاق) وحدها لا تدل على الثلاث؛ لأنها لو كانت وحدها تدل على الطلاق، لم يقل لها:

وأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثاً تماماً

فلو كان نفس اللفظ يدل على الطلاق لما كرر، فتكراره للفظ يدل على أن هذا المصدر لا يدل على الاستغراق من كل وجه وحينئذٍ تطلق طلقةً واحدة، ويحكم بكونها طالقاً طلقة واحدة إلا إذا نوى أكثر من واحدة، فإذا قال لها: أنت الطلاق، فلا يخلو من حالتين:

إما أن يقول لها: (أنت الطلاق، أنت الطلاق، أنت الطلاق) فيكرر، أو يقول لها: (أنت الطلاق) ويسكت، فإن قال لها: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) وكرر ونوى واحدة فواحدة، وإن قال: (أنت الطلاق، وأنت الطلاق، وأنت الطلاق) ناوياً الثلاث فثلاث، وإن قال: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) ولم ينوِ شيئاً، فللعلماء وجهان كقوله: (أنت طالقٌ طالق طالق) وسيأتي بيانها إن شاء الله.

الخلاصة: أن قوله: أنت الطلاق، لفظ محتمل يتردد بين الاستغراق الموجب للثلاث وبين الدلالة على أقل الطلاق وهي واحدة، وهذا هو الصحيح؛ فإن كرره أو نوى به الثلاث فثلاث وإلا فواحدة.

قوله: [ أو طالقٌ ]

إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فأقل ما يصدق على المرأة أنها طالق: طلقة واحدة، فإذا نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، قال العلماء وهو مذهب الجمهور: طالق ثلاثاً، والسبب في هذا أن قوله: أنت طالق، اسم فاعل يقبل الوصف بدليل -عند من يقول: بأن الثلاث تقع، ومذهب جماهير السلف والخلف- أنه لو قال لها: أنت طالق بالثلاث لطلقت ثلاثاً، فأصبح اسم الفاعل بقوله: أنت طالق، يحتمل أن يقصد به الأكثر ويحتمل أن يقصد به الأقل، فنقول: كلمة (أنت طالق) كقوله: أنتِ الطلاق، فأنت طالقٌ إن نوى بها واحدة فتكون واحدة وإن نوى ثلاثاً فتكون ثلاثاً.