خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/157"> الشيخ سلمان العودة . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/157?sub=2"> خطب عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
الشباب والغريزة
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وليس من قبيل المجاملة أو سلوك الطرق التقليدية في بداية الحديث؛ أن أقول لكم: إنني مسرور بالاستماع إليكم، ومسرور بمشاهدة وجوهكم المشرقة النيرة، وإن هذا شعور يلاقينا كلما رأينا ثلة من شباب هذه الأمة، نقرأ في وجوههم -إن شاء الله- حب الخير والتطلع إليه، والبحث عن الطريق المستقيم.
وأنا ألحظ في وجوهكم، وفي عيونكم ونظراتكم، وفي صمتكم الدال على الرغبة في الخير والبحث عنه، وتلمس الطريق المستقيم، أقرأ من وراء ذلك خيراً كثيراً، لا أقول هذا مجاملة في بداية الحديث، ولكني أقوله تعبيراً عن شعور في قلبي.
أيضاً أشكر أخي سعادة الأستاذ صالح التويجري مدير المعهد، والإخوة الأساتذة الذين كانوا -بعد الله تعالى- وراء هذا النجاح الكبير الذي يحظى به المعهد بتوفيق الله، سواء على المستوى الأخلاقي والديني، وهذا بالدرجة الأولى، أو على المستوى العلمي والفني، وهذا مطلب مهم باعتباره من أهم أو هو أهم أهداف إنشاء هذا المعهد.
وهم -أيضاً- كانوا وراء حضوري إلى هذا المكان، فقد كان لحرصهم -جزاهم الله خيراً- ورغبتهم، السبب في مجيئي إليكم وحديثي معكم.
أحبتي الشباب! قبل أن أدخل في الموضوع الذي حددت أن أتكلم معكم فيه، أقول: لفت نظري في قراءة الأخ للآيات وصفان ذكرهما الله تعالى في وصف المنحرفين عن الصراط، فهو سماهم مرة بالكافرين، فقال: (َ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59] وسماهم مرة أخرى بالمتكبرين، فقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60] وهذا فعلاً ملفت للنظر.
معنى الكفر
إذاً الكفر في أصل اللغة هو الستر والتغطية، ومنه يسمى المزارع أو تسمى الزراعة أو القرية بالكفر؛ لأنهم يبذرون الحب ويدفنونه في التربة.
سبب تسمية المنحرف عن الصراط بالكافر
سماه كافراً لأن الفطرة عنده موجودة، والعقل عنده موجود، والمعرفة عنده في النهاية موجودة، ولكنه يستر هذه الحقائق الموجودة بنفسه، بمعنى أنه يغالط نفسه ويضحك على نفسه، فالحق معروف لديه، وعندما تجادله توصله إلى طريق مسدود وتحرجه فعلاً، ولكنه يخادع نفسه، ويسلك الطريق المنحرف، وبعد ما يسلك الطريق المنحرف يقول: لا أريد أن أثبت للناس أنني أعرف الحق وأتركه، وأنني أسلك طريق الباطل على رغم أنني أعرف أنه خطأ، لا أريد أن يفهم الناس عني هذا، لأن هذا دليل على أنني ضعيف الهمة.
إذاً: ما الحل؟
الحل هو أن يقول الإنسان: إن هذا الطريق الذي سلكته -وهو يعرف أنه طريق خطأ- يقول: لا هذا صواب! وذاك الطريق الذي تركه -وهو يعرف في الواقع أنه طريق الحق- يقول: لا! هذا خطأ. هذا أصل معنى كلمة الكفر، وقد تجد إنساناً يسلك طريق الخطأ، لكنه صادق مع نفسه وصريح، عندما تقول له: يا أخي! لماذا أنت على هذه الحال؟
يقول لك: يا أخي! أنا أعلم، ولا أحتاج أن تقول لي إن هذا خطأ، وأنه غير لائق مني، لكن يا أخي عسى الله أن يهديني، وعسى الله أن يأخذ بيدي، وأنا عندي ضعف همة، والسبب سوء التربية في الطفولة، وعدم وجود من يوجهني، وو... إلى آخره.
أمثلة للإعراض عن الحق
من الصور الموجودة في مجتمعنا: صور المغنين والغناء، والمجتمع يتكلم عن الغناء على أنه نوع من الفن كما يسمونه، وتكتب عنه الصحف في الملاحق الفنية، وذلك لأن الفن عندنا -وفي كل مكان- له دور كبير في تخدير المشاعر، وصرف الناس عن الاهتمامات الحقيقية التي ينبغي أن تشغل عقولهم، إلى اهتمامات أخرى ثانوية أو ساقطة أحياناً.
فالفن -كما نعلم في الغالب- يخاطب غرائز الإنسان، ويتكلم عن العشق، والحب، واللقاء، والوصال، والهجر، وصفات المحبوبة، ولون شعرها، ولون رمشها ووجهها ونظرتها، وضحكتها إلى آخره.
هذا اللون من الفن وما يصحبه كما تعرفون من الموسيقى والغناء وتحسين الأصوات، وظهور أصوات الرجال تسمعها النساء فتتكسر قلوبهن، أو ظهور أصوات النساء يسمعها الرجال.. إلى آخره.
هذا الفن قد تواجه اثنين واقعين فيه، يشتغلان بالغناء، أنا رأيت اثنين منهم- كتاب - أحدهم لاحظت في رأسه شيباً، وهو لا يزال في مقتبل العمر، فقلت له: لماذا ظهر فيك الشيب على رغم صغر سنك؟ قال لي: أقول لك بصراحة، ظهر الشيب علي وأنا في مقتبل عمري، وذهبت للأطباء وسألتهم، فقالوا لي: إنك تواجه مشكلة نفسية، ووضعاً قلقاً وعدم ارتياح، أنت غير مقتنع بالوضع الذي أنت فيه.
وقال: أنا بصراحة غير مقتنع ولا أشعر أني خلقت لأكون مغنياً، ولا لأن أصدح بهذه الكلمات في آذان الناس، أنا أحس أنني شيء آخر غير هذا.
فقلت له: إذاً ما الذي جاء بك إلى هذا المجال؟
فقال: أنا بصراحة أعتبر المسئول الأول والأكبر عن هذا الموضوع هو والدي رحمه الله؛ لأنه غفل عني، ولم يهتم بي ولم يوجهني، بل ربما كان يشجعني، حتى كبرت ووجدت نفسي في هذا الأمر، ووجدت نفسي محاطاً بصداقات، وعلاقات، ومعرفة، وارتباطات، ومواعيد، وأمور، وشهرة، وسمعة، وأشياء كثيرة كسبتها من وراء مثل هذا الأمر، فلم يعد من السهل أن أسحب نفسي.
وليست القضية قضية أن أترك المجال فقط، القضية تتطلب قدراً من قوة العزيمة والإرادة، والصبر والتحمل، قد لا أملكها الآن، لكن لو عرفت من البداية لكان من السهل أن أتراجع.
انظر! هذا إنسان سالك طريق خطأ، طريق الغناء، لكن سلوكه هذا الطريق ما جعله يقول: لا يا أخي ليس في هذا شيء، لماذا أنتم تبالغون كثيراً؟
الغناء ليس فيه بأس، فهو لم يسلك الطريق هذا، إنما سلك طريق الوضوح والصراحة حتى مع نفسه.
تأتي لإنسان آخر يسلك نفس الطريق، فعندما تتحدث معه، تجد أنه يركز كثيراً ويقول لك: يا أخي الغناء لا شيء فيه، الغناء أمر مباح، وقد كان فلان يسمع الغناء، وكان فلان من العلماء يـبيح الغناء، ويحاول أن يفلسف لك الخطأ حتى يتحول الخطأ إلى صواب..!
لاحظ الفرق الكبير!! الثاني يستر الحقيقة والأول يكشفها، وسبحان الله! ما من إنسان -غالباً- إلا وعنده شعور وميزان داخلي يستطيع أن يهتدي به إلى شيء من الحق، ولهذا يقول الله تعالى، كما في الحديث القدسي: {إني خلقت عبادي كلهم حنفاء} أي: على الفطرة المستقيمة الواضحة البينة، بحيث أي إنسان لو تُرِكَ وشأنه، لاهتدى إلى الله عز وجل، أي إنسان لو تركته وشأنه لاهتدى إلى الله تعالى، صحيح أنه لا يستطيع أن يعرف الدين، ولا يستطيع أن يعرف الإسلام، لا يستطيع أن يعرف أن هناك خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن هناك نبياً اسمه محمد عليه الصلاة والسلام بعث إلى الأمة، وأن هناك كتاباً اسمه القرآن، وأن هناك شهراً اسمه رمضان يصام، وأن هناك حجا، وصفة الحج كذا، هذه التفاصيل بالتأكيد لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الوحي؛ لأنها من الله.
لكن شعوره بأن الله موجود، وأن الله هو المعبود الحق، وأنه يجب أن يتوجه ويتأله بالقلب إلى الله، هذا يعرفه بفطرته، كيف لا يعرفه والحيوان يعرفه يا أخي؟!
إذاً: الله تعالى عندما يسمي المنحرفين عن الصراط المستقيم كفاراً، إنما يسميهم كفاراً لأنهم يسترون الحقيقة التي يعرفونها في قلوبهم، أي يضحكون على أنفسهم ويخادعون أنفسهم، فيصورون أن ما وقعوا فيه من الخطأ أنه صواب، وأن ما تركوه من الصواب أنه خطأ، ولهذا سماهم الله كفاراً.
معنى الاستكبار
إذاً: الاستكبار ما هو؟
أعظم ألوان الاستكبار هو الاستكبار عن الحق، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} وقال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
أساس العبودية لله التذلل له
انظر إلى العبادة كيف هي، أعز ما في الإنسان، وأكرم ما عليه وجهه، ولهذا الإنسان إذا أراد أن يهين آخر، يسيء إليه في وجهه، بحركة أو بقول أو بكلام أو بضرب، ولهذا من باب تكريم الإسلام للوجه وللإنسان، أن الرسول عليه السلام قال: {إذا قاتل أحدكم أخاه -أي ضاربه- فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته} أي لا تضرب الإنسان في وجهه، حتى لو أردت أن تؤدب ولدك، أو من هو أصغر منك تؤدبه، لكن لا تضربه على الوجه، اضربه في أي موضع آخر، الوجه له تقدير وتكريم، لأن الله تعالى كرم الإنسان، فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] وأجمل وأحسن وأعلى ما في الإنسان وجهه، وهو لذلك مجمع الحواس، فالسمع، والبصر، والذوق، والشم، وكذلك العقل الذي يفكر به الإنسان، كلها تجتمع في رأس الإنسان.
إن العبادة التي يطالب المسلم أن يعملها، تتعمد أن يذل هذا الإنسان أعز ما فيه -وهو هذا الجزء المهم من جسمه - بذله لله فقط؛ لأن الذل لله تعالى عز، ولن تجد في الدنيا كلها عزاً أعظم من أن تذل لله تعالى.
إذاً: رحى العبادة تدور على الذل، فتجد أن الإنسان إذا صلى فأول ما يفعله أن يطرق رأسه مطأطئه، لا ينظر يميناً ويساراً، وفوق وتحت؛ بل تجد أن المصلي العابد حقاً وجهه في الأرض، ينظر للأرض، عيونه مثبتة في موضع السجود، لا يلتفت يمينه ويساره، ونهى الرسول عليه السلام عن الالتفات، وقال: {هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد} هذا وهو واقف.
فإذا ركع تجده يطأطئ رأسه، والقيام والركوع في الصلاة تمهيد لغاية الانكسار لله وهو السجود، حيث يهبط الإنسان ويهوي إلى الأرض فيجعل جبهته على التراب -ليس شرطاً على التراب- إنما على الأرض، على فراش أو على شيء يسجد عليه، المهم أنه جعل أعز ما فيه أسفل شيء من جسده -وهو وجهه- جعله على الأرض، ثم يقول: سبحان ربي الأعلى.
أي: في الوقت الذي أنا فيه ساجد، إنما جعلت جسمي كله في الأرض اعترافاً بألوهية العلي الأعلى، واعترافاً بأنه هو المستحق وحده للعبادة.
الذل لله عز وجل
أحد العلماء سجن، وحكم عليه بالإعدام، فجاءه بعض الناس يتوسطون، وقالوا له: نريد منك أن تكتب كلمة واحدة تعتذر فيها إلى الحاكم؛ من أجل أن يطلق سراحك ويعفو عنك.
فقال: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله، لا يمكن أن تخط كلمة واحدةً تقر بها حكم طاغوت ورضي -فعلاً- أن يقتل، ويعلق على المشنقة وهو يبتسم؛ لأنه يرى أن المسلم أعز من أن يسترحم للباطل أو يذل له.
المسلم الحق قد يموت ولا يمد يده لأحد يسأله، ولهذا جاء جماعة من الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأسلموا وأوصاهم بأشياء، فكان من ضمن ما أوصاهم به عليه الصلاة والسلام أن قال لهم: {لا تسألوا الناس شيئاً} فكان أحدهم -لاحظ التطبيق- يسقط السوط من يده وهو على البعير، فلا يقول لأحد: أعطني السوط؛بل ينـزل ويأخذ السوط ثم يصعد مرة أخرى، حتى كلمة اعطني السوط لا يقولها!
إذاً الذل لله تعالى هو العز، والفقر إلى الله تعالى هو الغنى، وهذه قضية أساسية في الدين، فالعبادة تقوم على الذل، وكل حب يقوم على الذل، فالعشاق -مثلاً- والمحبون، تجد أن أبرز صفات العاشق -في التاريخ والأدب والواقع- تجده ذليلاً لمن يحب، حتى لو طلب منه أن يعمل أبشع الأعمال وأسوأ وأحط الأعمال، فإنه يفعلها من أجله ولا يتردد، بل يعتبر هذا شرفاً له، لماذا؟ لأنه يعتبر هذا من التعبير عن الحب، ولهذا يقول الشاعر:
مساكينُ أهلُ الحب حتى قبورُهم عليها غبارُ الذل بين المقابر |
فإذا كان العبد يحب الله تعالى، فمعناه أنه لا بد أن يعترف له بالذل، أنه ذليل بين يديه، منكسر ومفتقرٌ إليه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] ليس الفقر في المال فقط؛ بل هذا النَّفَسُ الذي هو سر حياتك الذي يدخل ويخرج، هو يتحرك بإدارة الله تعالى، ولو شاء الله تعالى لحجزه وانتهت حياتك، فالفقر فطري في الإنسان.
ما معنى الكافر في لغة العرب؟ وأنتم أهل الزراعة تعرفون كما قال الله تعالى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] كما قال في الآية الأخرى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20] فالمزارع يحفر الأرض والتربة، ويضع فيها الحب ثم يدفنه، ولذلك ما زالت القرى الصغيرة في عدد من البلاد في مصر وغيرها، يسمونها (كفور) كفركذا، أو كفر كذا، أي: قرية كذا أو مجموعة من المزارع.
إذاً الكفر في أصل اللغة هو الستر والتغطية، ومنه يسمى المزارع أو تسمى الزراعة أو القرية بالكفر؛ لأنهم يبذرون الحب ويدفنونه في التربة.
إذاً لماذا سمى الله الذي ينحرف عن الطريق المستقيم كافراً؟ يجب أن نسأل أنفسنا هذا السؤال.
سماه كافراً لأن الفطرة عنده موجودة، والعقل عنده موجود، والمعرفة عنده في النهاية موجودة، ولكنه يستر هذه الحقائق الموجودة بنفسه، بمعنى أنه يغالط نفسه ويضحك على نفسه، فالحق معروف لديه، وعندما تجادله توصله إلى طريق مسدود وتحرجه فعلاً، ولكنه يخادع نفسه، ويسلك الطريق المنحرف، وبعد ما يسلك الطريق المنحرف يقول: لا أريد أن أثبت للناس أنني أعرف الحق وأتركه، وأنني أسلك طريق الباطل على رغم أنني أعرف أنه خطأ، لا أريد أن يفهم الناس عني هذا، لأن هذا دليل على أنني ضعيف الهمة.
إذاً: ما الحل؟
الحل هو أن يقول الإنسان: إن هذا الطريق الذي سلكته -وهو يعرف أنه طريق خطأ- يقول: لا هذا صواب! وذاك الطريق الذي تركه -وهو يعرف في الواقع أنه طريق الحق- يقول: لا! هذا خطأ. هذا أصل معنى كلمة الكفر، وقد تجد إنساناً يسلك طريق الخطأ، لكنه صادق مع نفسه وصريح، عندما تقول له: يا أخي! لماذا أنت على هذه الحال؟
يقول لك: يا أخي! أنا أعلم، ولا أحتاج أن تقول لي إن هذا خطأ، وأنه غير لائق مني، لكن يا أخي عسى الله أن يهديني، وعسى الله أن يأخذ بيدي، وأنا عندي ضعف همة، والسبب سوء التربية في الطفولة، وعدم وجود من يوجهني، وو... إلى آخره.
وأضرب لكم مثالين قريبين لا يتعلقان بموضوع الكفر، لكن يتعلقان بأن الإنسان في كثير من الأحيان يعرف الحق، ولكنه إما إن يعرض عنه ضعفاً، أو لغير ذلك من الأسباب، ثم من الناس من إذا ترك الحق حاول أن يجعل الحق باطلاً، ويجعل الباطل حقاً:
من الصور الموجودة في مجتمعنا: صور المغنين والغناء، والمجتمع يتكلم عن الغناء على أنه نوع من الفن كما يسمونه، وتكتب عنه الصحف في الملاحق الفنية، وذلك لأن الفن عندنا -وفي كل مكان- له دور كبير في تخدير المشاعر، وصرف الناس عن الاهتمامات الحقيقية التي ينبغي أن تشغل عقولهم، إلى اهتمامات أخرى ثانوية أو ساقطة أحياناً.
فالفن -كما نعلم في الغالب- يخاطب غرائز الإنسان، ويتكلم عن العشق، والحب، واللقاء، والوصال، والهجر، وصفات المحبوبة، ولون شعرها، ولون رمشها ووجهها ونظرتها، وضحكتها إلى آخره.
هذا اللون من الفن وما يصحبه كما تعرفون من الموسيقى والغناء وتحسين الأصوات، وظهور أصوات الرجال تسمعها النساء فتتكسر قلوبهن، أو ظهور أصوات النساء يسمعها الرجال.. إلى آخره.
هذا الفن قد تواجه اثنين واقعين فيه، يشتغلان بالغناء، أنا رأيت اثنين منهم- كتاب - أحدهم لاحظت في رأسه شيباً، وهو لا يزال في مقتبل العمر، فقلت له: لماذا ظهر فيك الشيب على رغم صغر سنك؟ قال لي: أقول لك بصراحة، ظهر الشيب علي وأنا في مقتبل عمري، وذهبت للأطباء وسألتهم، فقالوا لي: إنك تواجه مشكلة نفسية، ووضعاً قلقاً وعدم ارتياح، أنت غير مقتنع بالوضع الذي أنت فيه.
وقال: أنا بصراحة غير مقتنع ولا أشعر أني خلقت لأكون مغنياً، ولا لأن أصدح بهذه الكلمات في آذان الناس، أنا أحس أنني شيء آخر غير هذا.
فقلت له: إذاً ما الذي جاء بك إلى هذا المجال؟
فقال: أنا بصراحة أعتبر المسئول الأول والأكبر عن هذا الموضوع هو والدي رحمه الله؛ لأنه غفل عني، ولم يهتم بي ولم يوجهني، بل ربما كان يشجعني، حتى كبرت ووجدت نفسي في هذا الأمر، ووجدت نفسي محاطاً بصداقات، وعلاقات، ومعرفة، وارتباطات، ومواعيد، وأمور، وشهرة، وسمعة، وأشياء كثيرة كسبتها من وراء مثل هذا الأمر، فلم يعد من السهل أن أسحب نفسي.
وليست القضية قضية أن أترك المجال فقط، القضية تتطلب قدراً من قوة العزيمة والإرادة، والصبر والتحمل، قد لا أملكها الآن، لكن لو عرفت من البداية لكان من السهل أن أتراجع.
انظر! هذا إنسان سالك طريق خطأ، طريق الغناء، لكن سلوكه هذا الطريق ما جعله يقول: لا يا أخي ليس في هذا شيء، لماذا أنتم تبالغون كثيراً؟
الغناء ليس فيه بأس، فهو لم يسلك الطريق هذا، إنما سلك طريق الوضوح والصراحة حتى مع نفسه.
تأتي لإنسان آخر يسلك نفس الطريق، فعندما تتحدث معه، تجد أنه يركز كثيراً ويقول لك: يا أخي الغناء لا شيء فيه، الغناء أمر مباح، وقد كان فلان يسمع الغناء، وكان فلان من العلماء يـبيح الغناء، ويحاول أن يفلسف لك الخطأ حتى يتحول الخطأ إلى صواب..!
لاحظ الفرق الكبير!! الثاني يستر الحقيقة والأول يكشفها، وسبحان الله! ما من إنسان -غالباً- إلا وعنده شعور وميزان داخلي يستطيع أن يهتدي به إلى شيء من الحق، ولهذا يقول الله تعالى، كما في الحديث القدسي: {إني خلقت عبادي كلهم حنفاء} أي: على الفطرة المستقيمة الواضحة البينة، بحيث أي إنسان لو تُرِكَ وشأنه، لاهتدى إلى الله عز وجل، أي إنسان لو تركته وشأنه لاهتدى إلى الله تعالى، صحيح أنه لا يستطيع أن يعرف الدين، ولا يستطيع أن يعرف الإسلام، لا يستطيع أن يعرف أن هناك خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن هناك نبياً اسمه محمد عليه الصلاة والسلام بعث إلى الأمة، وأن هناك كتاباً اسمه القرآن، وأن هناك شهراً اسمه رمضان يصام، وأن هناك حجا، وصفة الحج كذا، هذه التفاصيل بالتأكيد لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الوحي؛ لأنها من الله.
لكن شعوره بأن الله موجود، وأن الله هو المعبود الحق، وأنه يجب أن يتوجه ويتأله بالقلب إلى الله، هذا يعرفه بفطرته، كيف لا يعرفه والحيوان يعرفه يا أخي؟!
إذاً: الله تعالى عندما يسمي المنحرفين عن الصراط المستقيم كفاراً، إنما يسميهم كفاراً لأنهم يسترون الحقيقة التي يعرفونها في قلوبهم، أي يضحكون على أنفسهم ويخادعون أنفسهم، فيصورون أن ما وقعوا فيه من الخطأ أنه صواب، وأن ما تركوه من الصواب أنه خطأ، ولهذا سماهم الله كفاراً.
لاحظ الوصف الثاني الذي سماهم الله به، وهو وصف المتكبرين قال تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60] وفي الآية الأخرى: الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23].
إذاً: الاستكبار ما هو؟
أعظم ألوان الاستكبار هو الاستكبار عن الحق، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} وقال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
ومن هنا نلاحظ أن أساس العبادة وصلبها يقوم على أساس أنه يوجد إنسان ذليل، وهناك رب عزيز، فالذي ليس عنده استعداد؛ لأن يذل نفسه، لا يمكن أن يكون عابداً أبداً، ولا يمكن أن يكون مسلماً أبداً، لكن لا يذل نفسه للشهوة ولا للطاغوت ولا للناس مهما كانوا، إنما يذل نفسه لواحد فقط وهو الله.
انظر إلى العبادة كيف هي، أعز ما في الإنسان، وأكرم ما عليه وجهه، ولهذا الإنسان إذا أراد أن يهين آخر، يسيء إليه في وجهه، بحركة أو بقول أو بكلام أو بضرب، ولهذا من باب تكريم الإسلام للوجه وللإنسان، أن الرسول عليه السلام قال: {إذا قاتل أحدكم أخاه -أي ضاربه- فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته} أي لا تضرب الإنسان في وجهه، حتى لو أردت أن تؤدب ولدك، أو من هو أصغر منك تؤدبه، لكن لا تضربه على الوجه، اضربه في أي موضع آخر، الوجه له تقدير وتكريم، لأن الله تعالى كرم الإنسان، فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] وأجمل وأحسن وأعلى ما في الإنسان وجهه، وهو لذلك مجمع الحواس، فالسمع، والبصر، والذوق، والشم، وكذلك العقل الذي يفكر به الإنسان، كلها تجتمع في رأس الإنسان.
إن العبادة التي يطالب المسلم أن يعملها، تتعمد أن يذل هذا الإنسان أعز ما فيه -وهو هذا الجزء المهم من جسمه - بذله لله فقط؛ لأن الذل لله تعالى عز، ولن تجد في الدنيا كلها عزاً أعظم من أن تذل لله تعالى.
إذاً: رحى العبادة تدور على الذل، فتجد أن الإنسان إذا صلى فأول ما يفعله أن يطرق رأسه مطأطئه، لا ينظر يميناً ويساراً، وفوق وتحت؛ بل تجد أن المصلي العابد حقاً وجهه في الأرض، ينظر للأرض، عيونه مثبتة في موضع السجود، لا يلتفت يمينه ويساره، ونهى الرسول عليه السلام عن الالتفات، وقال: {هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد} هذا وهو واقف.
فإذا ركع تجده يطأطئ رأسه، والقيام والركوع في الصلاة تمهيد لغاية الانكسار لله وهو السجود، حيث يهبط الإنسان ويهوي إلى الأرض فيجعل جبهته على التراب -ليس شرطاً على التراب- إنما على الأرض، على فراش أو على شيء يسجد عليه، المهم أنه جعل أعز ما فيه أسفل شيء من جسده -وهو وجهه- جعله على الأرض، ثم يقول: سبحان ربي الأعلى.
أي: في الوقت الذي أنا فيه ساجد، إنما جعلت جسمي كله في الأرض اعترافاً بألوهية العلي الأعلى، واعترافاً بأنه هو المستحق وحده للعبادة.
ولذلك تجد هذا الإنسان الذي يعبد ربه بهذه الطريقة، بقدر ما هو ذليل لله، تجده عزيزاً عند الناس، عزيزاً بشكل لا يمكن أن يخطر في بالك، يمكن أن تذهب روحه ولا يذل نفسه.
أحد العلماء سجن، وحكم عليه بالإعدام، فجاءه بعض الناس يتوسطون، وقالوا له: نريد منك أن تكتب كلمة واحدة تعتذر فيها إلى الحاكم؛ من أجل أن يطلق سراحك ويعفو عنك.
فقال: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله، لا يمكن أن تخط كلمة واحدةً تقر بها حكم طاغوت ورضي -فعلاً- أن يقتل، ويعلق على المشنقة وهو يبتسم؛ لأنه يرى أن المسلم أعز من أن يسترحم للباطل أو يذل له.
المسلم الحق قد يموت ولا يمد يده لأحد يسأله، ولهذا جاء جماعة من الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأسلموا وأوصاهم بأشياء، فكان من ضمن ما أوصاهم به عليه الصلاة والسلام أن قال لهم: {لا تسألوا الناس شيئاً} فكان أحدهم -لاحظ التطبيق- يسقط السوط من يده وهو على البعير، فلا يقول لأحد: أعطني السوط؛بل ينـزل ويأخذ السوط ثم يصعد مرة أخرى، حتى كلمة اعطني السوط لا يقولها!
إذاً الذل لله تعالى هو العز، والفقر إلى الله تعالى هو الغنى، وهذه قضية أساسية في الدين، فالعبادة تقوم على الذل، وكل حب يقوم على الذل، فالعشاق -مثلاً- والمحبون، تجد أن أبرز صفات العاشق -في التاريخ والأدب والواقع- تجده ذليلاً لمن يحب، حتى لو طلب منه أن يعمل أبشع الأعمال وأسوأ وأحط الأعمال، فإنه يفعلها من أجله ولا يتردد، بل يعتبر هذا شرفاً له، لماذا؟ لأنه يعتبر هذا من التعبير عن الحب، ولهذا يقول الشاعر:
مساكينُ أهلُ الحب حتى قبورُهم عليها غبارُ الذل بين المقابر |
فإذا كان العبد يحب الله تعالى، فمعناه أنه لا بد أن يعترف له بالذل، أنه ذليل بين يديه، منكسر ومفتقرٌ إليه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] ليس الفقر في المال فقط؛ بل هذا النَّفَسُ الذي هو سر حياتك الذي يدخل ويخرج، هو يتحرك بإدارة الله تعالى، ولو شاء الله تعالى لحجزه وانتهت حياتك، فالفقر فطري في الإنسان.