خطب ومحاضرات
وقفات مع سورة ق
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم:
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15].
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فهذه السورة مكية، وهي موسومة باسم الحرف الأول منها تعرف باسم "سورة ق" وهو الحرف الذي بدأت به هكذا "ق" وشأن هذا الحرف كشأن غيره من الحروف المقطعة في أوائل السور كـ(الم) (الر) (كهيعص) (ص)... إلى غير ذلك.
(ق) فيها أقوال كثيرة أقربها وأحسنها: أن يكون ذكر هذا الحرف إشارة إلى قضية الإعجاز والتحدي للعرب؛ أن هذا القرآن حروفه من جنس الحروف التي بها تنطقون، ومع ذلك فأنتم عن الإتيان بمثله عاجزون، بل بسورة من مثله، بل بشيء من مثله، فهذا أحسن ما قيل فيها، ولذلك غالباً ما يذكر بعد هذه الحروف المقطعة في القرآن مقروءاً أو مكتوباً: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1] ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] فهذا قد يدل على رجحان ذلك المعنى.
ثم إن هذه السورة العظيمة تُعنى بإثبات وبيان عقيدة البعث التي كانت موضع شك وإشكال عند العرب الذي بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقضية البعث قضية جوهرية، وهي مفرق طريق بين الإيمان والكفر، وبين التزام الشريعة والانحراف عنها، فالذي يؤمن بالبعث سوف يدخل مسألة البعث ضمن حساباته.
بمعنى أنه في كل مسألة تعرض له سيراعي عواقبها بعد البعث؛ لأنه يؤمن بالبعث ويعلم أنه صائر إليه، فسينظر في أي مسألة أو قضية تعرض له؛ هل هي تنفعه في يوم البعث أو تضره، والذي لا يؤمن لن يلتفت إلى ذلك أصلاً، بل يكون قصارى موضع النظر عنده الحياة الدنيا، فإذا وجد أن المسألة دنيوياً مربحة ومفيدة، فإنه يقدم عليها؛ لأنه ليس عنده حسابات أخروية، وبالتالي فالفرق بين المؤمن بالبعث والكافر بالبعث كبير جداً، بل هو فرق بين الإيمان والكفر.
درجات الإيمان بالبعث
هناك إيمان ذهني عقلي مجرد، مثل ما إذا إنسان نظر وحسب فوجد نتيجة الحسابات أنه لا بد من البعث، لكن هذه النتيجة التي توصل إليها عقله لم يستشعرها قلبه، فلم تتحول عنده إلى عقيدة، وإيمان، وخشية، وخوف، بل ظلت قناعة ذهنية مجردة، وكما يقتنع بأي نتيجة رياضية اقتنع بهذا، ولهذا فرَّق الله تعالى بينهما، فمثلاً وصف الله تعالى المؤمنين المصلين في سورة المعارج فقال: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26] فهذا الأمر مجرد التصديق بأن هناك يوماً اسمه يوم الدين، ثم أعقبه بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28] فليست القضية مجرد تصديق، بل مع التصديق إشفاق وخوف من عذاب الله تعالى، ومن يوم الدين.
وكلما ازداد الإنسان استعداداً ليوم الدين، زاد خوفاً منه، وكلما قل إعداده واستعداده قلَّ خوفه منه، ولهذا تجد أن المؤمن جمع إحساناً وخوفاً كما قال الحسن البصري -رحمه الله- وأما المنافق فجمع إساءة وأمنا، فتجد الإنسان المفرط يمني نفسه بالمنازل العليا في الجنة، ولا تتحرك في رأسه شعرة من ذكر العذاب، وتجد المؤمن، بل تجد المبشرين بالجنة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -ورضي الله عنهم_ تجدهم يخافون أن تحبط أعمالهم.
إذاً: الإيمان بيوم الحساب، والإيمان بالبعث على درجتين:
الدرجة الأولى: الإيمان الذهني المجرد، وهذا قد نمثل له ببعض الذين عُرف عنهم الإيمان ولم يؤثر فيهم، مثل أمية بن أبي الصلت فـأمية بن أبي الصلت كل شعره تخويف من النار، وترغيب في الجنة، ومع ذلك آمن لسانه وكفر قلبه.
الدرجة الثانية من درجات الإيمان بالبعث: أن يتحول هذا الإيمان إلى عقيدة في القلب، وخوف ووجل، وهذا هو الذي يردع وينفع، ويحدو الإنسان إلى العمل الصالح ويردعه عن المعصية.
رد الله تعالى على من أنكر البعث
فلقد لهم أساس، ولهذا رد الله عز وجل على هذا الاستبعاد بردين:
الإيمان بالبعث نفسه على درجتين:
هناك إيمان ذهني عقلي مجرد، مثل ما إذا إنسان نظر وحسب فوجد نتيجة الحسابات أنه لا بد من البعث، لكن هذه النتيجة التي توصل إليها عقله لم يستشعرها قلبه، فلم تتحول عنده إلى عقيدة، وإيمان، وخشية، وخوف، بل ظلت قناعة ذهنية مجردة، وكما يقتنع بأي نتيجة رياضية اقتنع بهذا، ولهذا فرَّق الله تعالى بينهما، فمثلاً وصف الله تعالى المؤمنين المصلين في سورة المعارج فقال: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26] فهذا الأمر مجرد التصديق بأن هناك يوماً اسمه يوم الدين، ثم أعقبه بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28] فليست القضية مجرد تصديق، بل مع التصديق إشفاق وخوف من عذاب الله تعالى، ومن يوم الدين.
وكلما ازداد الإنسان استعداداً ليوم الدين، زاد خوفاً منه، وكلما قل إعداده واستعداده قلَّ خوفه منه، ولهذا تجد أن المؤمن جمع إحساناً وخوفاً كما قال الحسن البصري -رحمه الله- وأما المنافق فجمع إساءة وأمنا، فتجد الإنسان المفرط يمني نفسه بالمنازل العليا في الجنة، ولا تتحرك في رأسه شعرة من ذكر العذاب، وتجد المؤمن، بل تجد المبشرين بالجنة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -ورضي الله عنهم_ تجدهم يخافون أن تحبط أعمالهم.
إذاً: الإيمان بيوم الحساب، والإيمان بالبعث على درجتين:
الدرجة الأولى: الإيمان الذهني المجرد، وهذا قد نمثل له ببعض الذين عُرف عنهم الإيمان ولم يؤثر فيهم، مثل أمية بن أبي الصلت فـأمية بن أبي الصلت كل شعره تخويف من النار، وترغيب في الجنة، ومع ذلك آمن لسانه وكفر قلبه.
الدرجة الثانية من درجات الإيمان بالبعث: أن يتحول هذا الإيمان إلى عقيدة في القلب، وخوف ووجل، وهذا هو الذي يردع وينفع، ويحدو الإنسان إلى العمل الصالح ويردعه عن المعصية.
إذاً فسورة (ق) تدور حول محور البعث، فأول آية فهيا بعد: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ[ق:1] تشير إلى عجب المشركين واستبعادهم البعث: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ[ق:3] فهم ينكرون البعث، والغريب؛ أن حجتهم في إنكار البعث هي مجرد تصفيف الألفاظ والاستبعاد العادي، ليس استبعاداً عقلياً، ولكنه استبعاد بحكم العادة: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ هو مستعبد، لكن على أي أساس.
فلقد لهم أساس، ولهذا رد الله عز وجل على هذا الاستبعاد بردين:
الأول رد للمؤمنين الذين يكفيهم أن يقرر، أو يبين الله تعالى مسألة ليؤمنوا بها، فلا يحتاجون إلى دليل آخر، بل أعظم دليل عندهم هو كلام الله، فكلام الله عندهم يستدل به ولا يحتاج إلى أمر آخر، فهؤلاء يكفيهم أقل الكلام، لأن قلوبهم مشرقة، فاكتفى بقوله: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] فهذه للمؤمن كافية، البعث حق ولا غرابة فيه، ولا بُعد، لأن الله تعالى عالم بكل شيء، حتى عملية أكل الأرض لأجساد هؤلاء الموتى: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً [ق:3] تحول الجسد إلى تراب أمر معلوم لله تعالى، ومسجل عنده: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق:4] تأكل وتأخذ منهم شيئاً فشيئاً وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] وهو اللوح المحفوظ الذي سجل الله تعالى فيه مقادير الخلائق كلها، قبل أن يخلق السماوات والأرض، وهنا انتهى الأمر بالنسبة للمؤمن والمسلم الذي لا يحتاج بعد هذا الكلام الإلهي إلى دليل آخر، فهذا هو الدليل الذي نستطع أن نسميه الدليل النقلي: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] فإذا كان ذلك كذلك فلا بعد، ويكفي أن الله تعالى قرر ذلك وأثبته.
ثم عقب الله ببيان أن الضلال الذي وقع فيه المشركون هو بسبب إعراضهم عن هذا الحق الذي قرره فقال: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] فهذا هو الحق الذي كذبوا به، كذبوا بالبعث، كذبوا بعلم الله عز وجل، وأن لديه كتاباً حفيظاً، كذبوا بالنبوة، فليسوا على قاعدة يستقرون عليها، فلذا قال: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] والأمر المريج هو المختلط المضطرب، مِنْ مرج الشيء: إذا دخل في شيء آخر، كما في قوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [الرحمن:19] فالمروج يدل على دخول الشيء في شيء، ومعناه أيضاً الاضطراب والاختلاط، إذا دخل فيه، فقد اختلط به واضطرب هذا مع هذا، فهذه تصور حال المشركين ليس في زمن النبوة فقط، بل في كل زمان أنهم فقدوا القاعدة التي يستقرون عليها، وهي قاعدة الإيمان بوحي الله، فاضطرب أمرهم.
وفي هذه الآية دليل على أن من ترك الكتاب والسنة فإنه لا يستقر على حال، ولا يهتدي إلى الخير، ولا إلى صواب، لأن النص الشرعي والوحي الإلهي هو أعظم نعمة أنعم الله بها على الناس، فإذا تركوها وأهملوها أو كذبوا بها، فيضطرب أمرهم، اضطرب أمر العلم عندهم -مثلاً- لأنه علم دنيوي مبني على الحدس والتخمين، لا على الحق واليقين، واضطرب أمر اجتماعهم، واضطرب أمر اقتصادهم، وأمر سياستهم، وحربهم وسلمهم، وعلمهم؛ لأنهم تركوا القاعدة اليقينية، وهي قاعدة الحق: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ [ق:5] الذي نـزلت به الكتب وبعثت به الرسل، وبالمقابل إذا كان الإنسان يقتبس من الوحي، فأمره مستقر، لأن الله تعالى بيّن كل شيء، فلا يكون عنده اضطراب.
إذاً: اضطرب المشركون لأنهم كذبوا بالوحي، وكان من اضطرابهم استبعادهم للبعث بعد الموت استبعاداً مجرداً عن الدليل، لكن عقولهم لم تتعود على ذلك، فلما سمعته استغربت، فلما استغربت استنكرت وأنكرت.
فهذا هو الدليل النقلي ثابت، فالوحي حق، والبعث حق: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] وهكذا هنا: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4] هذا الكلام لا يقنع الكفار بطبيعة الحال، لأنهم يجادلون فيه هو -أيضاً- فهم يجادلون في الله، ويجادلون في آياته، ويجادلون في علمه، ويجادلون في اللوح المحفوظ فلا ينفعهم هذا.
ولذلك انتقل إلى ما يمكن أن نسيمه بالدليل العقلي على مسالة البعث، فذكر لهم أربعة أدلة:
أولاً: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6] فهذا الدليل خلق السماء بما فيه من قوة وجمال.
ثانياً: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:7-8] فهذه الأرض أيضاً بما بسطها الله تعالى، ومدها، وجعل فيها من الاستقرار لصلاحيتها للحياة عليها، واستخدامها في البناء، وفي الإنبات والزرع، وفي غير ذلك.
ثالثاً: وَنـزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:9-11] فالدليل الثالث هو إحياء الأرض بالمطر بعد موتها، وهي ظاهرة مرئية، فأنت ترى الأرض يابسة هامدة، فإذا أنـزل الله عليها الماء انقلبت إلى خضراء تهتز بألوان النباتات، فهذا اُستُدِلَ به في القرآن الكريم لأمرين:
الأول: إثبات البعث كما أن هذه الأرض بالأمس كانت ميتة فنـزل المطر فأحياها الله تعالى به بعد موتها، فكذلك الإنسان يُحيا بعد موته، بل ويُحيا بالمطر، فقد جاء في حديث البعث: {إن الله تعالى ينـزل من السماء ماء فتنبت به جثثهم، فكل ما في الإنسان يبلى إلا عجب الذنب ... إلى أن قال: ومنه يعود مرة أخرى {
الثاني: اُستدل عليه بهذا، وهو حياة القلب بعد موته، فإنَّ القلب يموت بالإعراض عن الله وآياته، حتى يظن الناس أن هذا القلب لا حياة فيه.
وقبل يومين حدثني إنسان عن شخص، فذكر ما فيه من الضلال والانحراف، فقلت: لعل الله أن يهديه، قال: مستحيل أن يهتدي هذا الإنسان! قالها هكذا دون أن يفكر في معناها (مستحيل!) سبحان الله! نعم لو قلنا: إنك أنت الذي ستهديه ربما نصدق هذا، لكن إذا قلنا: إن الله يمكن أن يهديه فلا مستحيل على الله جل وعلا فقد هدى من هو شر منه، ولهذا تعرفون الموضع الذي نبه الله تعالى فيه على أنه كما تحيا الأرض بالمطر، كذلك القلوب تحيا بعد موتها بالوحي والإيمان، في سورة الحديد: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نـزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] فهذه دعوة إلى إيقاظ القلوب بالخشوع لله تعالى وعدم القسوة، فأعقب ذلك إشارة إلى أنه كما أن الأرض تحيا بالمطر، فكذلك القلوب تحيا بالوحي، فلا ييئس الإنسان من إمكانية أن يعود ويؤوب قلبه إلى الهدى، ويلين بعد أن كان قلباً قاسياً أو منحرفاً... ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحديد وغيره، وهو مأخذ حسن، وهاهنا في سورة (ق) ذكر الله تعالى إحياء الأرض بالمطر وَنـزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [ق:9-11] كل ذلك أتبعه بقوله: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11] كما تحيا الأرض بالمطر وينبت منها هذا الخير الكثير، كذلك يكون خروج الناس يوم القيامة.
من الأدلة العقلية للبعث قوله تعالى : ( كذلك الخروج)
الأول منهما: إثبات البعث، فيكون هذا من باب القياس، قياس الأمر الخفي المستقبل الذي لم يحدث على الأمر الظاهر الواقع الحادث الآن، فقاس أمر البعث الأخروي على هذا الأمر المشاهد بحياة الأرض بعد موتها.
الأمر الثاني: بيان صفة البعث يوم القيامة، وقد فصَّله النبي صلى الله عليه وسلم في {أن الله تعالى ينـزل من السماء ماءً، فينبت الناس منه، ثم ينفخ في الصور، فتطير الأرواح إلى أجسادها} فيكون قوله أيضاً: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11] يعني من حيث الصفة.
فهذه ثلاثة أدلة: السماء، والأرض، والمطر النازل من السماء للأرض، وهي أدلة متقاربة، فالدليل الأول يوجه أنظارهم إلى السماء فوقهم، والدليل الثاني يوجه أنظارهم إلى الأرض تحتهم، والدليل الثالث يذكر أمراً متراوحاً بين السماء والأرض، وهو المطر الذي ينـزل من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها، وهذا الدليل يذكره الله كثيراً؛ وأنه حجة على البعث وهو دليل واضح، وإنما ذكره الله عز وجل لأنه مما لم يكن للإنسان فيه يد، فالله تعالى هو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً، وهو الذي يبسطه في السماء كيف يشاء، وهو الذي ينـزل المطر، وينـزل الغيث من بعد ما قنطوا، وهو الذي ينبت الأرض دون أن يضع الإنسان فيها الحب، والزرع، والبذر، فهي أعجوبة كبيرة وإن كانت مألوفة للناس، وكونهم ألفوها قد يقلل من وقعها عليهم.
ولهذا تجد الناس إذا جاء وقت الربيع واخضرت الأرض، يمشون في مسافات بعيدة وطويلة خضراء، فيتعجبون من خضرة الأرض فقط، وهو أمر عادي عندهم، وقد يأتون إلى مدن وقرى ودول خضراء طول العام، فيمرون عليها وهم عنها معرضون، لكن لو جاء أحدهم للأرض في وقت الخريف، وقد يبست الأشجار، ثم وجد في وسط هذا الهشيم اليابس شجرة خضراء تهتز، تعجَّب واندهش وقال: سبحان الله! ما أعظم قدرة الله! فأدرك القدرة بهذه الشجرة لأنها مخالفة لمألوفه، أكثر مما أدرك القدرة بحياة الأرض كلها في وقت الربيع والخضرة، لأن هذا أمر مألوف عنده، وهذا من غفلة الإنسان التي تحتاج إلى إيقاظ، ولذلك تجدون الإنسان الذي يتعامل مع الأرض أحسن وأصدق إيماناً، وأقرب للفطرة من الإنسان الذي يتعامل مع بعض ما صنعه الناس، فالغالب أن الفلاح والمزارع أصدق إيماناً، وأسلم وأقرب للفطرة من الصانع، لأن المزارع يتعامل مع خلق الله تعالى مباشرة، فهو يلاحظ نـزول المطر، ويلاحظ انشقاق الحبة عن النبات، وانفراج الأرض عنها، ويلحظ في ذلك القدرة الإلهية: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] فيكون في قلبه تعظيم لله عز وجل ومحبة، خاصة إذا اهتدى بهداية السماء، أما الصانع فهو يتعامل مع الأدلة التي هي من صناعة أخيه الإنسان، فبينه وبين التعامل مع ما يلاحظ فيه قدرة الله تعالى واسطة أو وسائط أحياناً تزيده بعداً عن الله، لأنه ينظر في هذه الأدلة فيرى فيها شيئاً عجيباً من الصنع، وهذا الصنع من عمل يد أخيه الإنسان، فتجده يتحول إعجابه إلى إعجاب بالإنسان الذي صنع هذه الآلة مثلاً، وقوة عقله وحدة ذهنه، وما أشبه ذلك لأنه يتعامل معها مباشرة، ولو أنه كان أكثر ذكاء ولو بدرجة، لتذكر أن هذه الحدة في ذهن الإنسان، وهذه القوة والذكاء حصل له من الله، فرجعت القضية إلى صنع الله الذي أتقن كل شيء، لكنها في الحالة الأولى حالة الزرع مباشرة، وفي الحالة الثانية في حالة الصناعة غير مباشرة.
من الأدلة العقلية للبعث : الاعتبار بالأمم السابقة
نأتي لليهود والنصارى، اليهود والنصارى يؤمنون بالبعث، فيلتمسون أسباب خلاف بين الرسول عليه الصلاة السلام وبين ما كان عليه أهل الكتاب، ولهذا قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:6-7].
ويقصدون بالملة الأخرى النصرانية ففي مثل هذا الجو يوحون للسذج والعوام أن هذا لا يهمكم في شيء، هذا رجل يأتي بأمور غريبة والدنيا كلها ضده، والعالم كله يرفض هذه الأشياء التي يقولها، وقد أتى بشيء خالفنا ولم يوافق فيه أهل الكتاب، فلذلك هذا موضوع سينتهي قريباً، وهذه البلبلة الحادثة من جراء ظهور الدعوة في مكة سوف تحسم، وينتهي أمر الدعوة، وينتهي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام في زعمهم، فالله عز وجل ينقلهم وينقل المؤمنين الذين قد يؤثر فيهم هذا الكلام أيضاً إذا سمعوه، خاصة الذين يكون إيمانهم قريباً -حدثاء العهد بالإيمان- ينقلهم إلى ميدان أوسع وأرحب من مجرد التفكير في مكة وما حولها، أو حتى في العالم الموجود آنذاك، وأنه عالم كافر، ينقلهم إلى التاريخ، فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ [ق:12-14] وهذه ثمان حالات يُذكِّر الله تعالى بها كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14] أي: أن السنة جارية، فالذي جرى على قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وغيرهم يجرى على كل المكذبين، ولهذا قال: فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14] أي: حق وعيدي على هؤلاء المكذبين بالعقوبة الدنيوية والأخروية، والوعيد حاصل ولو تغيرت صورته، فإن الله تعالى دفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال الذي أهلك به أمماً من أمم الأنبياء السابقين لكفرها وتكذيبها.
من الأدلة العقلية للبعث : الخلق الأول
وقوله: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11] يدل على أمرين:
الأول منهما: إثبات البعث، فيكون هذا من باب القياس، قياس الأمر الخفي المستقبل الذي لم يحدث على الأمر الظاهر الواقع الحادث الآن، فقاس أمر البعث الأخروي على هذا الأمر المشاهد بحياة الأرض بعد موتها.
الأمر الثاني: بيان صفة البعث يوم القيامة، وقد فصَّله النبي صلى الله عليه وسلم في {أن الله تعالى ينـزل من السماء ماءً، فينبت الناس منه، ثم ينفخ في الصور، فتطير الأرواح إلى أجسادها} فيكون قوله أيضاً: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11] يعني من حيث الصفة.
فهذه ثلاثة أدلة: السماء، والأرض، والمطر النازل من السماء للأرض، وهي أدلة متقاربة، فالدليل الأول يوجه أنظارهم إلى السماء فوقهم، والدليل الثاني يوجه أنظارهم إلى الأرض تحتهم، والدليل الثالث يذكر أمراً متراوحاً بين السماء والأرض، وهو المطر الذي ينـزل من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها، وهذا الدليل يذكره الله كثيراً؛ وأنه حجة على البعث وهو دليل واضح، وإنما ذكره الله عز وجل لأنه مما لم يكن للإنسان فيه يد، فالله تعالى هو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً، وهو الذي يبسطه في السماء كيف يشاء، وهو الذي ينـزل المطر، وينـزل الغيث من بعد ما قنطوا، وهو الذي ينبت الأرض دون أن يضع الإنسان فيها الحب، والزرع، والبذر، فهي أعجوبة كبيرة وإن كانت مألوفة للناس، وكونهم ألفوها قد يقلل من وقعها عليهم.
ولهذا تجد الناس إذا جاء وقت الربيع واخضرت الأرض، يمشون في مسافات بعيدة وطويلة خضراء، فيتعجبون من خضرة الأرض فقط، وهو أمر عادي عندهم، وقد يأتون إلى مدن وقرى ودول خضراء طول العام، فيمرون عليها وهم عنها معرضون، لكن لو جاء أحدهم للأرض في وقت الخريف، وقد يبست الأشجار، ثم وجد في وسط هذا الهشيم اليابس شجرة خضراء تهتز، تعجَّب واندهش وقال: سبحان الله! ما أعظم قدرة الله! فأدرك القدرة بهذه الشجرة لأنها مخالفة لمألوفه، أكثر مما أدرك القدرة بحياة الأرض كلها في وقت الربيع والخضرة، لأن هذا أمر مألوف عنده، وهذا من غفلة الإنسان التي تحتاج إلى إيقاظ، ولذلك تجدون الإنسان الذي يتعامل مع الأرض أحسن وأصدق إيماناً، وأقرب للفطرة من الإنسان الذي يتعامل مع بعض ما صنعه الناس، فالغالب أن الفلاح والمزارع أصدق إيماناً، وأسلم وأقرب للفطرة من الصانع، لأن المزارع يتعامل مع خلق الله تعالى مباشرة، فهو يلاحظ نـزول المطر، ويلاحظ انشقاق الحبة عن النبات، وانفراج الأرض عنها، ويلحظ في ذلك القدرة الإلهية: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] فيكون في قلبه تعظيم لله عز وجل ومحبة، خاصة إذا اهتدى بهداية السماء، أما الصانع فهو يتعامل مع الأدلة التي هي من صناعة أخيه الإنسان، فبينه وبين التعامل مع ما يلاحظ فيه قدرة الله تعالى واسطة أو وسائط أحياناً تزيده بعداً عن الله، لأنه ينظر في هذه الأدلة فيرى فيها شيئاً عجيباً من الصنع، وهذا الصنع من عمل يد أخيه الإنسان، فتجده يتحول إعجابه إلى إعجاب بالإنسان الذي صنع هذه الآلة مثلاً، وقوة عقله وحدة ذهنه، وما أشبه ذلك لأنه يتعامل معها مباشرة، ولو أنه كان أكثر ذكاء ولو بدرجة، لتذكر أن هذه الحدة في ذهن الإنسان، وهذه القوة والذكاء حصل له من الله، فرجعت القضية إلى صنع الله الذي أتقن كل شيء، لكنها في الحالة الأولى حالة الزرع مباشرة، وفي الحالة الثانية في حالة الصناعة غير مباشرة.
فالمقصود أن العرب كانوا أهل زرع وحرث، فكانوا يفقهون مثل هذه المعاني، ومع ذلك أصروا على ما هم عليه من الكفر ولم يؤمنوا، ومن عادة الإنسان أنه ينهمك أحياناً في الواقع المحيط القريب منه، فيتخيل الدنيا كلها من خلال الأوضاع التي تحيط به، فإذا أحاط بالإنسان جو معين أصبح هذا الجو يؤثر في نظراته وتصرفاته، -فمثلاً- أهل مكة -جاءتهم الرسالة- فإذا نظروا خاصة في العهد المكي وجدوا أن أكثرهم كافرون بالبعث غير مصدقين بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نظروا إلى أهل المدينة وأهل الطائف والعرب في الجزيرة العربية، فإذا أكثرهم إن لم يكن كلهم على الشاكلة والطريقة نفسها، فلذلك أعطاهم هذا نوعاً من الإصرار على حرب الرسول عليه الصلاة والسلام، بل الضراوة في حربه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم يقولون: أنت أتيت بشيء لا يوافقك عليه أحد.
نأتي لليهود والنصارى، اليهود والنصارى يؤمنون بالبعث، فيلتمسون أسباب خلاف بين الرسول عليه الصلاة السلام وبين ما كان عليه أهل الكتاب، ولهذا قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:6-7].
ويقصدون بالملة الأخرى النصرانية ففي مثل هذا الجو يوحون للسذج والعوام أن هذا لا يهمكم في شيء، هذا رجل يأتي بأمور غريبة والدنيا كلها ضده، والعالم كله يرفض هذه الأشياء التي يقولها، وقد أتى بشيء خالفنا ولم يوافق فيه أهل الكتاب، فلذلك هذا موضوع سينتهي قريباً، وهذه البلبلة الحادثة من جراء ظهور الدعوة في مكة سوف تحسم، وينتهي أمر الدعوة، وينتهي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام في زعمهم، فالله عز وجل ينقلهم وينقل المؤمنين الذين قد يؤثر فيهم هذا الكلام أيضاً إذا سمعوه، خاصة الذين يكون إيمانهم قريباً -حدثاء العهد بالإيمان- ينقلهم إلى ميدان أوسع وأرحب من مجرد التفكير في مكة وما حولها، أو حتى في العالم الموجود آنذاك، وأنه عالم كافر، ينقلهم إلى التاريخ، فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ [ق:12-14] وهذه ثمان حالات يُذكِّر الله تعالى بها كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14] أي: أن السنة جارية، فالذي جرى على قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وغيرهم يجرى على كل المكذبين، ولهذا قال: فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14] أي: حق وعيدي على هؤلاء المكذبين بالعقوبة الدنيوية والأخروية، والوعيد حاصل ولو تغيرت صورته، فإن الله تعالى دفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال الذي أهلك به أمماً من أمم الأنبياء السابقين لكفرها وتكذيبها.
ثم قال سبحانه: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15] وهذا كالتعقيب على كل ما سبق، ففي الآية: أن الله خلقهم أول مرة -وهذا يمكن أن يعد دليلاً عقلياً رابعاً على أمر البعث- وهو خلق الإنسان أول مرة، فيضاف إلى أمر السماء والأرض والمطر الإنسانُ، وقد أشار الله تعالى إليه إشارة واضحة في آخر سورة (يس): أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77] ففيها موضع عجيب، أي أن الله عز وجل لم يذكر إلا البداية والحال، فالبداية من نطفة والحال الآن أنه خصيم مبين، وبين هذا مراحل، لكن الله تعالى طواها ليظهر العجب في الإنسان، فهو بالأمس نطفة، واليوم خصيم مبين لله جل وعلا: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77] وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] قبل أن يذكر المثل أتى بكلمة محت كل شيء -والمثل الآن لم يذكر في الآية- لكنه قال: وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] هذه الكلمة وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] جملة اعتراضية -كما يقولون- لكنها مسحت كل ما سيقوله الإنسان: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] ولو لم ينس خلقه ما قال هذا لأن مسألة الخلق واحدة، بل في مقياس البشر الإعادة أهون من البدء، فالذي بدأ فإن الإعادة أهون عليه، وإن كان الأمر بالنسبة لله جل وعلا كله هين كما قال في نفس السورة: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] فخلقه بالكلمة سبحانه: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79] فأبرز قضية الاستدلال بخلق الإنسان أول مرة، على الاستدلال بإعادته مرة أخرى، وهاهنا في سورة (ق) قال: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق:15] كلا بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15] أي: التبس الأمر عليهم بالخلق الجديد الذي هو إعادتهم بعد بعثهم.
وفي هذا المقطع فوائد منها:
عظمة القرآن
الاستبعاد ليس دليلاً
لو أن إنساناً عامياً اطلع لأول مرة على حكم من الأحكام الشرعية ربما أنكره لأنه لم يتعود أن يسمعه، وهذا كل ما لديه من الدليل، ولهذا كان من أعظم الأصنام والطواغيت التي حورب بها الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ طاغوت العادة كما سماه الإمام ابن القيم وغيره، العادة التي كثيراً ما ووجهت بها الدعوة ووجه بها الحق، والمؤمن ينبغي أن يكون متجرداً، فليست العادة عنده دليلاً، وإنما الدليل عنده الوحي قرآناً وسنة، وهاأنت ترى المشركين أنكروا أمر البعث بناءً على مجرد الاستبعاد: ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3].
الإقرار بالموت والحساب بعده
كفر الأكثرية بالبعث
من تجاوز الحق فلا قرار له
أحياناً تقرأ ما يسمونه نظرية فيها كلام طويل، ودراسات ومناقشات، وبحوث وأمور، وتجدها مبنية على أمر تافه.
على سبيل المثال الشيوعية كانت نظرية كبيرة، ولها أنصار يعدون بمئات الملايين في العالم، وألفت فيها من الكتب والدراسات عشرات الآلاف، وتبنتها دول وامبراطوريات كاملة، وظن أناس أنه لا زوال لها، وإذا بها تنتهي في لحظة، مجرد وجود سياسي انهار، انهارت معه النظرية، فمن الذي لا يستحيي الآن أنه يتكلم عن الشيوعية؟ أكثر الناس إخلاصاً وولاءً لها يستحيي أن يتكلم عنها، حتى ولو كان عنده شيء سيسكت لفترة حتى ينسى الناس الذي حصل ليتكلم على استحياء أيضاً، حتى إنهم يقولون في أحد المتاحف أو معارض الرسم في ألمانيا أحد الفنانين رسم صورة لـماركس الذي أنشأ هذه النظرية الفاسدة، وهو يعتذر إلى الرفاق -صورة خيالية- ويقول: أعتذر إليكم أنا كنت أمزح -كانت مزحة- يعني هذه النظرية التي ركضوا وراءها وهتفوا لها، وأقاموا عليها دول وكيانات، وحاربوا من أجلها، وأزهقت أرواح، وسالت دماء، وصارت أموراً عظيمة!!
يقول: كانت مجرد مزح، وما ذلك إلا إشارة إلى أنها ليست مبنية على شيء، فهذه عاقبة الإعراض عن الحق، لكن تجد المسلم العادي البعيد عن العلم عنده من الخير والهداية الشيء الكثير الذي لا يملكه أحياناً علماء كبار بعدوا عن هداية الله عز وجل.
استخدام الأدلة العقلية مع النقلية في النفي والإثبات
استخدام القياس
فضيلة الرجوع إلى الحق
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5154 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3873 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |
التخريج بواسطة المعجم المفهرس | 3836 استماع |