مصير المترفين


الحلقة مفرغة

دعوة لمعاونة الدعاة:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، لقد وافقت هذه الدعوة الكريمة التي تقدم بها الإخوة في مكتب الدعوة إليَّ لزيارة هذا البلد الكريم وافقت شغلاً في وقتي، ولكنني لم أكن لأستطيع أن أعتذر وأنا أسمع ما يقوم به الإخوة من جهد مبارك في هذا البلد، وما يبذلونه من أوقاتهم وجهودهم وإمكانياتهم في مجال الدعوة إلى الله والعلم والتعليم، وتحفيظ القرآن الكريم، وجمع الشباب على الكتاب والسنة، فرأيت أن مشاركتي في هذه الزيارة، وإن كانت مشاركةً محدودة، إلا أنها لا تعدو أن تكون تعبيراً عن ضرورة التعاون على البر والتقوى، ودعم مسيرة هؤلاء الإخوة.

وإنني أقول بهذه المناسبة: إن من واجبكم -أيها الإخوة- أن تضعوا أيديكم في أيديهم، وأن تعينوهم على ما هم بصدده، وأن تدركوا أن من علامات المجتمع الصالح أنه يبارك ويوالي كل مجهود يبذل في سبيل الله عز وجل، وهذا بحمد الله ما لمسناه وسمعناه من الإخوة في تعاون إخوانهم معهم، ومدهم لهم بما يحتاجون وشدهم لأزرهم، وليس هذا بغريب، فإن أمة الإسلام هي التي حملت مشعل الإسلام أول مرة، وهي التي تفزع، وتقوم كلما نـزلت بالإسلام نازلة، فتشمر عن سواعد الجد، وتبذل ما تستطيع.

أما عن مصير المترفين؛ وهو موضوعنا في هذه الليلة، فإن الكلام فيه يطول، وأرجو الله عز وجل أن يوفقني لإيجازه بما ينفع ولا يخل.

إن الدنيا دار ابتلاء وامتحان يبتلي الله عز وجل فيها الأمم، والأفراد بأنواع الابتلاءات؛ ليعلم الله عز وجل من يشكر ممن يكفر؛ ومن رحمته وحكمته جل وعلا أنه يوقظ الأمم والأفراد من غفلتهم، بشتى الوسائل والطرائق.

إهلاك الجيران للعبرة بهم

فمن الطرق التي يوقظ الله بها الأمم، والأسباب التي يدفع بها عنها النقم أنه عز وجل يهلك جيرانهم حتى يعتبروا بهم، كما قال عز وجل: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27] فانظر إلى هذه الأمم والدول والشعوب التي أهلكها الله عز وجل، وتبصر بسبب هلاكهم حتى تتجنب هذه الأسباب، فالسعيد من وعظ بغيره، ولذلك كان من دعاء بعض الصالحين، أنه كان يقول: اللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا، لأنه كما أن الله عز وجل يهلك غيرنا لنعتبر، فلا مانع أن يهلكنا الله عز وجل، ليعتبر بنا غيرنا، فإنه ليس بين الله عز وجل وبين خلقه سبب إلا التقوى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27] وهذا السبب من الأمور التي قد رفعها الله عنا حتى الآن، فإننا نعلم في هذه الأزمنة المتأخرة أن هذه البلاد لا تزال محفوظة من المصائب العامة، والنكبات الشاملة على حين أن الأمم تتخطف من حولنا وكل يوم نسمع عن نكبة.

فلسطين:

قبل عشرات السنين سمعنا مأساة فلسطين، وكيف أن اليهود احتلوها ودخلوها، وشردوا أهلها ومزقوهم كل ممزق، وفعلوا بهم الأفاعيل حتى أصبح الفلسطينيون في أنحاء الدنيا، لا وطن لهم، ولا مستقر لهم بل هم مشردون، إما في أنحاء الدنيا، وإما مشردون في خيام ومخيمات تجود بها عليهم المنظمات العالمية، وشأنها كما قيل:

في خيمة من نسيج الوهم لفقها      ضمير باغٍ على الإسلام يأتمر

أوهى وأوهن خيطاً من سياسته     لو مسها الضوء لافقدت به الستر

تعدوا الرياح بها نشوى مقهقهة     كأنها بشقوق الرمل تنحدر

لا شيء يقيهم من الحر والقر، والريح ويتكففون هذه المنظمات العالمية أن تمدهم بما يحتاجون إليه من الكساء أو كسرة الخبز أو غيرها.

أفغانستان:

وبعد ذلك سمعنا بمآسي المسلمين في بلاد أخرى، كما سمعنا بمأساة المسلمين في أفغانستان، وكيف فعل بهم الروس وعملاؤهم من أهل البلد الأصليين، وكيف أن أكثر من مليوني مهاجر خرجوا هائمين على وجوههم لا يدرون إلى أين، أكثر من مليونين في باكستان، وربما عدد كبير في إيران، ودع عنك أعداداً غفيرة من الأفغان الموجودين في أنحاء الدنيا، حيثما يممت من بلاد الله وجدت ذلك المسلم الأفغاني لا مستقر له، ولقد ألتقيت بأحد كبار قادتهم منذ زمن ليس بالقصير في مناسبة الحج، وهو من الشيوخ، فكان يقول لي: والله إننا نعلم أنه ما أصابنا الذي أصابنا إلا بسبب تقصيرنا في أمر الله، وتركنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لبنان:

بعد ذلك جاءت، بل قبله وبعده ومعه، جاءت قضية لبنان، وتسامع الناس كيف أن الله تعالى أحرقها بنار الحرب التي لا تبقي ولا تذر، واستمرت على مدى أكثر من عشر سنين، حرب ضارية طاحنة أتت على الأخضر واليابس، وهذا البلد الذي كان ميداناً للسياحة بالأمس، وكان الناس يذهبون إليه في الاصطياف وللعلاج ولغير ذلك، وكانت مكان طباعة الكتب والتصدير إلى غير ذلك، هذا البلد أحرقتها الحرب، فأصبحت قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، ولا تزال الحرب تفعل فعلها في هذا البلد، ومثل ذلك في كشمير وغيرها، ولعل آخر العنقود وليس بالأخير هو ما جرى لـ الـكويت.

ومن كان يظن أن ما جرى للكويت كان يجري، لو كان بالقياس العقلي، والنظر المجرد أن يقال لك: أن أهل الكويت وهم فيما هم فيه من النعيم والرفاهية والقصور الفارهة والأموال الكثيرة والأمن والأمان والرخاء ورغد العيش؛ لو قيل لك قبل أسبوع من الحادثة أن ما جرى سوف يجري لعددته ضرباً من المحال، ومن الطريف أنه في اليوم الذي يتلو، بل في اليوم الذي حصلت فيه الأزمة صلى معي رجل من الناس، فقال لي: هل سمعت ما جرى في الكويت؟ قلت له وماذا جرى؟ قال لي: إن العراق قد اجتاح الكويت، وطرد حكومتها وأهلها واحتلها، فوالله الذي لا إله غيره إني ما تجرأت على نشر الخبر أياماً، إلا أنني قلت: أن هذا أمرٌ فيه بعد، وأخشى أن يكون الذي أخبرني لم يتثبت، فلا أحب أن أتسرع بنقل الأمر، وقد لا يكون صحيحاً، لأن الأمر كان في غاية الغرابة، قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27] فهذا سبب من أسباب إيقاظ الله عز وجل للأمم لعلهم يرجعون.

الأخذ بالمحنة والشدة والبأساء والضراء

السبب الثاني: هو أن الله عز وجل قد يأخذ الناس بالمحنة والشدة والبأساء والضراء لعلهم يتذكرون ويرجعون إلى ربهم كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:42-43] وقوله: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ [الأنعام:42] البأساء من البؤس، وهي الشدة والفقر وقلة ذات اليد، والضراء من الضر والآفة والمصيبة والمرض وما شابه ذلك، فأخذهم الله عز وجل بالفقر، والشدائد، وبالآفات والأمراض، لعلهم يتضرعون ويشعرون بحاجاتهم إلى الله عز وجل، فينكسرون بين يديه، لكنهم لم يفعلوا بل قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، ويقول عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94] فهكذا سنة الله عز وجل في كل القرى والأمم، وفي كل الشعوب إذا أصروا وكذبوا؛ عاقبهم الله عز وجل بالبأساء والضراء، وهذا من رحمته بهم، أنه لا يعاجلهم بعقوبة تستأصلهم وتنهيهم، كلا. ولا يمهل لهم، ويملي لهم في النعيم منذ البداية حتى يغتروا، كلا. بل البداية أن الله عز وجل قد يأخذ جيرانهم، فإذا لم يتعظوا، أظهر الله عز وجل لهم بعض الشدة وبعض البأساء لعلهم يضرعون.

يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [الأعراف:130] والسنين جمع سنة: وهي القحط والجدب والسماء لا تمطر، والأرض لا تنبت حتى تموت الزروع والضروع والحيوانات، ويصيب الناس القحط والجفاف هذه السنين: وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:130] بسبب القحط والجدب، وبسبب نـزع البركة، فتنقص الثمرات عندهم: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:130] ويقول في آية أخرى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133] هذا نموذج مما أخذهم الله به من الآفات: وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133] ولكن مع ذلك كله استكبروا فهذه هي المسألة الثانية التي يأخذ الله عز وجل بها الأمم لعلهم يتضرعون، لأن هذا ليس عقاباً نهائياً ليبيدهم ويستأصلهم عن آخرهم، بل هذا عقاب مؤقت لعلهم يرجعون، ويتذكرون، فإذا أصروا واستكبروا، كما استكبر الذين من قبلهم، كما فعل قوم فرعون وسواهم، فإن الله عز وجل يعاملهم بأسلوب آخر.

فإن الله عز وجل، قد يبتلي الأمم بالأمراض، وكم من أمة ظهر فيها من الآفات والأمراض ما لم يكن يظهر فيمن قبلهم، ولو نظرنا في واقعنا الآن لوجدنا أن الناس أصبحوا يتسامعون بأمراض لم يكن الأولون يعرفونها.

ما يسمى بالجلطة: التي تصيب الإنسان وهو نائم أو قاعد أو يأكل أو يشرب في لحظة فينقل مغمى عليه، ثم غالباً ما يخرج من سرير المستشفى إلى نعش الموتى، كذلك لم يكن الناس يسمعون بالسرطان ولا يسمعون بالهربس والإيدز وغيرها من الأمراض الجديدة التي وقف الطب حائراً أمامها.

فهذه ألوان من الآفات والمصائب، والمحن التي يأخذ الله بها الناس في كل زمن، ولها سبب كما سوف يتضح، وأحياناً يأخذ الله عز وجل الأمم بنقص البركات والثمرات، وهذا -أيضاً- مشاهد.

والأمم الإسلامية اليوم بالذات تعيش تأخراً وتراجعاً في مسألة الاقتصاد، في يوم من الأيام كان عند الناس ما يسمى بطفرة اقتصادية، ولذلك كثير من الناس قاموا بمشاريع ومؤسسات وشركات، وأسسوا وعمروا وبنوا، لكن تأخر ذلك وتراجع كثيراً، وأنت لو تأتي إلى إنسان اقتصادي لقال لك: ذلك بسبب أمور، وذهب يعدد لك أسباباً كثيرة، وقد تكون هذه الأسباب صحيحة لكن نحن نقول وراء هذه الأسباب كلها السبب الشرعي قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] إذاً: تراجع الاقتصاد، والأمراض، والمصائب، واختلال الأمن كل ذلك من الأمور التي ينبه الله تبارك وتعالى بها عباده لعلهم يرجعون.

تنوع الأحوال على الأمم

الأمر الثالث: هو أن الله عز وجل قد ينوع الأحوال على الأمم، أي أنه يغير حالهم من قحطٍ إلى جدب ومن قحطٍ إلى مطر، ومن مطرٍ إلى جدب، ومن غنى إلى فقر ومن فقر إلى غنى، ومن صحة إلى مرض ومن مرض إلى عافية، وهكذا ينوع الله عز وجل على ابن آدم.

لأن بعض الناس إذا ألفوا حالاً لا يعتبرون، حتى الشدة -والعياذ بالله- إذا ألفها الناس لم يعودوا يعتبرون، ولذلك يقول بعض الخبراء: أن الله عز وجل أصاب بلداً من بلاد الغرب المشهورة بالفجور والدعارة بالزلزال، فكان الزلزال يضرب في جنوب البلد، وأهل الشمال مواصلون فيما هم فيه من اللهو واللعب والخمر والرقص والفساد والفجور، فبعض الناس إذا استمرت عليه الحال حتى ولو كانت حال شدة قسا قلبه، فكيف إذا استمر عليه الرخاء فيقسو قلبه أكثر، ولذلك يغير الله عز وجل الحال على عباده، فيصيبهم بقحط، ثم برخاء، ويصيبهم بنعيم ثم بؤس، ويصيبهم بمرض ثم عافية؛ لعلهم يرجعون، ولذلك يقول الله عز وجل: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168] بالحسنات والسيئات، الحسنات: جمع حسنة وهي ما يصيب الإنسان مما يحبه من الخير والرخاء والنعيم والسرور والصحة والعافية والسلامة، والسيئات: هي ما يكرهه الإنسان من القحط والجدب والجفاف والمرض والفقر والبؤس والهزيمة فأحياناً هكذا وأحياناً هكذا.

قال تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95] سبحان الله، الناس إذا قست قلوبهم كأنه لا حيلة فيهم، حتى حينما يغير الله عز وجل ما بهم، ويبدل أحوالهم حالاً بعد حال، ماذا يقولون؟ يقولون: هذا أمر طبيعي! قد مس آباءنا الضراء والسراء، ما هذه سنة الحياة وطبيعة الحياة، وهذا شأن الأولين، كما قالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:137-138] فيقولون: حتى آباؤنا قد مستهم الضراء والسراء.

تنوع الأحوال وتبدلها ليس خاصاً بنا، فمثلاً: تأتي إلى إنسان قد بُدِّلَ نعيمه بشقاء وبؤس وعذاب، فتقول: يا أخي! تذكر، اتق الله، عد إلى الله، فيقول: يا أخي! هذا أمر طبيعي، الأمر الذي أصابني أمر طبيعي، قد مس آباءنا من قبل، قد أصاب أبي وجدي ما أصابني.

إذاً: لا داعي لأن اعتبر واتعظ، فهذا الأمر الذي وقع لي قد وقع لغيري، والأمر الذي وقع لهذا الجيل قد وقع للجيل الذي قبله وهم يقولون: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95] (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:137-138].

ولذلك يقولون: لا علاقة لهذا الأمر بطاعة، أو كفر، وهذا -مع الأسف الشديد- أصبح نغمة نسمعها اليوم، فأصبحنا نسمع كثيراً من ضعفاء الإيمان أو المنسلخين عن الدين يشككون في أن المعاصي هي سبب ما أصابنا وما أصاب الأمم من حولنا، ويعجزون عن ربط هذا الأمر بقضية الذنوب والمعاصي، يقولون: ما علاقة كون الناس يصلون أو يصومون باحتلال بلد آخر لهم؟! ما علاقة تعاطي الربا بالعقوبات التي تنـزل من السماء، أو تخرج من الأرض؟! وهذا الكلام في الواقع لا يقوله الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، لأنك لو كنت تعلم أن الله عز وجل بالمرصاد، فإنه لا غرابة أن القوم إذا أطاعوا الله عز وجل وكانوا له على ما يريد فإن الله عز وجل يكون لهم بكل خير أسرع، فيدر عليهم عيشهم، ويبسط لهم رزقهم، وينعمهم في الدنيا بألوان النعيم، وإذا عصوه وخالفوا أمره وتمردوا على رسله فإن الله عز وجل يؤدبهم بألوان المصائب والنكبات، لا غرابة في ذلك، عندما يؤمنون بالله عز وجل، لكن من لا يؤمن بالله؛ فإنه يفسر الأمور كلها تفسيراً مادياً بحتاً، ولا قدرة لعقله على أن يتجاوز حدود هذه الدنيا لينظر فيما وراءها، فهم محجوبون بحجاب كثيف عن معرفة ما عند الله عز وجل، أما المؤمنون فيقرءون القرآن، فيجدون من خلاله أن هذه المصائب والنكبات إنما هي بذنوبنا وبما كسبت أيدينا قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

بوادر العذاب ومقدماته

السبب الرابع الذي يوقظ الله عز وجل به عباده: أن الله تعالى قد يظهر لهم بوادر العذاب ومقدماته وأوائله لعلهم يعتبرون، ولعلهم يرجعون ويخافون، ثم يكشف عنهم ذلك، كما قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف:135] أي أنهم لما نـزل بهم العذاب والرجز دعوا ربهم وقالوا: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ [الأعراف:134] أن يكشف عنهم الرجز والعذاب، فلما كشف الله عنهم الرجز، نكثوا عهدهم وميثاقهم ووعدهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، وهذا -والعياذ بالله- أمر قد تبتلى به -أيضاً- الأمم المنتسبة إلى الإسلام، فكم من إنسان إذا نـزلت به مصيبة؛ بكى وصرخ ووعد الله عز وجل أن يتوب، فإذا مد الله تعالى له في العمر ووسع له في الرزق نسى ما كان يدعو إليه من قبل، وعاد إلى ما كان عليه من الفساد والانحراف، وكذلك الحال بالنسبة للأمم والشعوب، ولا أدل على ذلك من أن هذه النكبة التي ابتليت بها الأمة الإسلامية في هذه الأيام لما حدثت وجدت من الناس بعض الإقبال إلى الله عز وجل؛ لأنهم اعتبروها بداية عذاب، وبادرة لما بعدها، فعاد بعضهم إلى الله عز وجل، وزاد عدد المصليين في المساجد، وأصبح بعض الناس يتساءلون هل لنا من توبة، ومنهم من أحرق ما عنده من الصور المحرمة، والأشرطة الفاجرة، ومنهم من تاب من أكل الربا، ومنهم من تاب من العقوق، ومنهم ومنهم...، فلما عادت الأمور واستقرت بعض الشيء رجع كثير منهم إلى ما كانوا عليه.

إن هذا في الواقع من التشبه بالكفار والمشركين؛ لأنهم هم الذين لا يعتبرون ولا يتعظون، كما قال الله عز وجل عنهم، لما ذكر عنهم أنهم إذا عذبوا بالنار ورأوا الجحيم، قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27] يقول الله عز وجل: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28] تصور كيف قسوة القلوب وكثافتها وغلاظتها وجبروتها: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] أي أن قلب إنسان يرى النار بعينيه، ويوقف عليها، ويسمع صوتها وزفيرها، ويرى لهبها يتقطع، ويرى سلاسلها وأغلالها، ويوقف عليها رأي العين وليس خبراً، فيقول: يا ليتنا نرد، فلو رد لعاد لما كان عليه قال تعالى: قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17].

ثم إن الله عز وجل قد يستخلف أمة بعد أمم هالكة حتى يعتبروا بمن كان قبلهم من الأمم، كما قال الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14] أي استخلفكم بعد أمم أهلكها ودثرها؛ لينظر كيف تعملون، أتعتبرون بخبرهم أم لا تعتبرون؟!

وهذه الجزيرة -مثلاً- كم عاش فيها من الأمم، وكم قام فيها من الحضارات، وكم وجد فيها من الشعوب قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [الفجر:6-9] وقال: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:15-17] كل هذه الأمم وغيرها عاشت في هذه البلاد، وعصوا وأخذهم الله عز وجل واستخلفكم في الأرض من بعدهم لينظر كيف تعملون، بل ما لنا نذهب بعيداً، ونحن نذكر أن هذه الجزيرة نفسها، وقبل سنين وقرون ليست بالطويلة أنها عاشت حياة من الفقر والرعب والخوف والشتات، كانت مضرب المثل فيه، وكان المعروف عند أهل هذه البلاد، أنها تلد ولا تطعم، فإذا ولد فيها المولود؛ ذهب ليأكل في السند أو الهند أو الشام أو مصر أو في غيرها من الفقر والجوع، ومن الخوف والشتات، حتى إذا أنعم الله علينا بهذه النعم، وأسرع إلينا بكل خير، ورزقنا رغد العيش، وأخرج لنا هذه الثروات من باطن، الأرض وأنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واستتب لنا الأمن إذا بقوم منا ينسون ويعرضون، فالله عز وجل يقول: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14] ويقول أيضاً: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة:26].

إذاً: هنا كل أرض وطأتها؛ قد مشى فيها قبلك أمم وأجيال وقرون وشعوب كانوا مثلكم، أو أشد منكم قوة، وأكثر منكم صحة، وأمتع منكم في الدنيا، تمتعوا واستمتعوا، أو أكلوا وشربوا وناموا ودرجوا ثم انتهوا وبادوا.

الاستدراج بالنعم

قد يستدرج الله تبارك وتعالى بعض عباده بالنعم بعد هذا كله، إذاً: الله تبارك وتعالى أهلك جيرانك وبدل عليكم الألوان، والأحوال من قحط إلى رخاء، ومن مرض إلى صحة، واستخلفكم عن غيركم، وصرف لكم الآيات ثم لم يعتبر المعتبر، ولم يتعظ المتعظ، هنا تأتي النهاية- ولننظر كيف تكون النهاية.

النهاية: هي أن الله تبارك وتعالى يمد لهؤلاء القوم في الرزق، وينعم عليهم بأنواع النعيم؛ يستدرجهم من حيث لا يعلمون، كما قال الله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56] وقال: وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج:48] أمليت لها وهي ظالمة.

ولذلك قال بعض السلف: إذا رأيت الله عز وجل يملي للعبد، وهو مقيمٌ على معصيته، فاعلم أن هذا استدراج. هذا هو المقياس: إن رأيت النعم تزداد والطاعة تزداد، فهذا من بركات الله تعالى، ومن بركات السماء والأرض، أما إذا رأيت النعم تزداد والمعاصي تزداد فاعلم أن ذلك استدراج قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182] وقال: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178] فيأخذهم الله عز وجل بالتدريج، حتى يسترسلوا مع هذا النعيم، فيأخذون أغفل ما كانوا، وأن الله عز وجل يأخذ الأمم على غفلة ولا يأخذ الأمم وهم في حالة صحو ويقظة، فيأخذهم إما بياتاً وهم نائمون، أو ضحى وهم يلعبون، لأنهم في ألوان النعيم، كل ما يريدونه متوفر، ومع ذلك استرسلوا مع هذا النعيم، وانجروا وراءه وغفلوا، وماتت قلوبهم، أو كادت أن تموت، فأصبحت النذر من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ومن تحتهم، ومع ذلك قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فأصروا وأقاموا على ما كانوا عليه، فحينئذٍ يأخذهم العذاب، وهم أغفل ما كانوا، إما بياتاً وهم نائمون، أو ضحىً وهم يلعبون، فهكذا مكر الله، وتأمل هذا مما يخيف العاقل؛ لأن الأمم إذا مرت فيها النذر كلها، واستنفذت الأسباب كلها، ولم تعتبر ولم تتعظ لم يبق إلا العذاب والعياذ بالله، فنسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يوقظ قلوبنا حتى يكون هذا وقاية لنا من عذابه.

الدنيا لا تساوي شيء:

روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} فالمرحلة مرحلة إملاء، فيملي، ويمد له ويمهله، ويعطيه الدنيا، والدنيا لا تساوي شيئاً عند الله عز وجل، وفي السنن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء} ويقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين {لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ويقول: {لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب} فالدنيا من آدم إلى قيام الساعة لا تساوي شبراً في الجنة، ولا تساوي جناح بعوضة.

إذاً: ذلك لا يمنع أن الله عز وجل أن يملي ويمهل، حتى إنه يعطي الكافر، فتأتي إلى الكافر فتجده منعم، أصح مما كان، وأغنى مما كان وأقوى ما كان، ومع ذلك يكون، والعياذ بالله مثل الشجرة العظيمة التي إذا انجعفت وسقطت سقطت مرة واحدة لا عهد له بالسعادة، ولا بالنعيم من يوم أن يغادر هذه الدنيا وهو في شقاء أبدي سرمدي على النقيض من المؤمن فإنه قد يجد في هذه الدنيا بعض الكدر، لكن إذا غادر الدنيا فارق الأذى.

إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى      وصاروا إلى موعود ما في المصاحف

ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، كانت فاطمة رضي الله عنها، تقول: كما في الصحيح: {واكرب أبتاه} ترى الرسول صلى الله عليه وسلم يتغشاه الكرب وتفصد جبينه من العرق، ويغطي وجهه بخميصة، فإذا أغتم كشفها، فتقول: {واكرب أبتاه فيقول لها صلى الله عليه وسلم: {ليس على أبيكِ كرب بعد اليوم} فهذا آخر ما عليه، وبعدها، ينتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل الآلام، وبعدها لن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا السعادة والنعيم والسرور والفرح والروح والرضا، وإذا كنت تعلم أن عمرك في الدنيا سبعون، أو خمسون أو ستون سنة لكن لو افترضنا أنك عشت الدنيا من آدم إلى قيام الساعة كم الدنيا؟ بعضهم يقول: سبعة الآلاف سنة، ولكن هذا غيب عند الله، لكن لنفترض أنها كذلك عشرة آلاف سنة، أو عشرين ألف سنة، فقس الدنيا كلها إلى الآخرة، موقف الحساب فقط مقداره خمسون ألف سنة قال تعالى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] فما بالك بالآخرة.

إذاً: الدنيا لا تساوي عند الله شيء، ولذلك قد يمد للإنسان، ويعطيه، وينعم الله ويوسع عليه بألوان الرزق وإن كان عليه ساخطاً، فإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولذلك قد تجد الكافر منعماً وقد تجد المؤمن كذلك، وقد تجد الكافر صحيح الجسم والمؤمن كذلك، وقد تجد الكافر غنياً والمؤمن كذلك، وقد تجد الكافر يملك السلطان والجاه والمنـزلة والبلاد العريضة وقد تجد المؤمن كذلك، فهذه الأمور ليست مقياساً، يعطيها الله تعالى المؤمن والكافر، والتقي والفاجر، لكن إذا أخذ الله الظالم لم يفلته، فهذه هي المشكلة: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} فيخشى الإنسان إذا أملي ومد له، يخشى من هذا الأخذ، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

الغفلة عند هذه الأمة:

ويا أحبتي -مرة أخرى- أقول: أليس من المحزن والمخيف أن هناك أناساً كثيرين لا يسمعون هذا الكلام ويعتقدون أن المقصود به غيرهم من الناس، نحن نريد أن نتحادث، فنحن الموجودين في هذا المسجد، كم واحداً منا يشعر أنه المقصود بهذا الكلام؟ هذا هو الأمر الذي يجب أن نفكر فيه، أما أن نعتقد أن المقصود بهذا أناس آخرون غيرنا، وكأن هذا الكلام لا يعنينا، هذا معناه أننا غافلون، والغفلة هي من أسباب العذاب بياتاً وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون، فينبغي للعاقل أن يدرك أنه هو المقصود بهذا الكلام قبل غيره، وأن عليه أن يتعظ بغيره، قبل أن يتعظ به غيره، فاللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا.

أخرج الترمذي في سننه، وحسنه، وأخرجه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: [[أن رجلاً قال والله لأجدن عهداً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولأكلمنهم، فذهب إلى المدينة في عهد عثمان رضي الله عنه فوجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرين في المدينة فسلم عليهم، وصافحهم وسألهم، وسمع منهم، ثم فقد عبد الرحمن بن عوف، فقال: أين عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا: هو بالجرف -الجرف: مزرعة لـعبد الرحمن بن عوف هو مقيم فيها- فذهب إليه، فلما جاء إليه وجد عبد الرحمن بن عوف قد خلع رداءه وهو يزين الأرض، ويقود الماء بمسحاته، فلما رأى هذا الرجل استحيا منه، فتناول رداءه فلبسه، ثم جاء إليه فسلم عليه، فقال له هذا الرجل: جئت أريد أن أسأل عن أمر؛ فرأيت أمراً أعجب منه، قال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ قال له: يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هل سمعتم ما لم نسمع نحن أو علمتم ما لم نعلم، قال: لا، قال: فإذا لم نسمع إلا ما سمعتم ولم نعلم إلا ما علمتم فما بالكم تزهدوننا في الدنيا، وأنتم ترغبون فيها، وترغبوننا في الجهاد وأنتم لا تخفون إليه، بل ربما تثاقلتم، وأنتم أشرافنا وسادتنا، وأصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وأئمتنا، قال له عبد الرحمن بن عوف: والله ما سمعنا إلا ما سمعت، ولا علمنا إلا ما علمت، ولكنا ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم يضع الحجر على بطنه أياماً من شدة الجوع كانوا يعتقدون أنهم أحسن منهم حالاً يوم أن فتحت عليهم الدنيا، ويوم أن كان -كما ذكر عتبة وسعد وغيرهما- أن الواحد منهم كان في بعض الأحوال يأتي لقضاء حاجته، فإذا حرك الأرض بيده سمع قعقعة شيء، فأخذه، فإذا يبس يأخذه ويحرقه على النار، ثم يستقوي ويشرب عليه الماء، فيستقوي عليه أياماً من شدة الجوع، ويوم أن كان صياح الأطفال، وصراخهم يسمع من وراء الشِعب من الجوع والحرمان، كانوا يحسون أنهم أقوى منهم من يوم أن فتحت عليهم الدنيا ووسع الله تعالى عليهم الرزق، فـعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من تواضعه، وقوة؛ إيمانه كان يقول: [[ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] وهم رضي الله عنهم لم يغيروا ولم يبدلوا، لكن كانوا يحسون بأن ذروة إيمانهم في حال الشدة كانت أقوى وأعظم.

ولذلك -أيضاً- يذكر عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه أنه في مرة من المرات قُرِّبَ له عشاؤه، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنياء الصحابة رضي الله عنهم وكان فيه من ألوان الطعام ما فيه، فلما قرب إليه وضع خده على يده ثم تأمل قليلاً، ثم أجهش بالبكاء حتى رثى له من حوله، وقالوا له: ما لك يرحمك الله؟ فلم يستطع أن يخبرهم، وأمر برفع المائدة، فلما رفعت، وعادت إليه نفسه، قال: إني تذكرت أخي مصعب بن عمير رضي الله عنه كان خيراً مني، ومع ذلك مات ولم يأخذ من أجره شيئاً حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنونه فيه حين مات إلا بردة لا تكاد تستره، إن غطوا رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطوا رجليه ظهر رأسه، يقول: فأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا.

فهو يخشى أن الله عز وجل لم يقبل منه هذا العمل، فرده عليه، وأنعم عليه بهذه الدنيا، ولم يسغ طعاماً في ذلك اليوم.

وبالمناسبة فإن القصة التي قد يتناقلها الناس أحياناً عن عبد الرحمن بن عوف أن عائشة رضي الله عنها، أخبرت أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إنه يدخل الجنة حبواً} هذه القصة باطلة لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمر الإمام أحمد ابنه عبد الله: أن يضرب على هذه القصة، وذلك أنها قصة لا تصح فينبه إلى ذلك، أقول هذا بمناسبة عبد الرحمن بن عوف.

فمن الطرق التي يوقظ الله بها الأمم، والأسباب التي يدفع بها عنها النقم أنه عز وجل يهلك جيرانهم حتى يعتبروا بهم، كما قال عز وجل: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27] فانظر إلى هذه الأمم والدول والشعوب التي أهلكها الله عز وجل، وتبصر بسبب هلاكهم حتى تتجنب هذه الأسباب، فالسعيد من وعظ بغيره، ولذلك كان من دعاء بعض الصالحين، أنه كان يقول: اللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا، لأنه كما أن الله عز وجل يهلك غيرنا لنعتبر، فلا مانع أن يهلكنا الله عز وجل، ليعتبر بنا غيرنا، فإنه ليس بين الله عز وجل وبين خلقه سبب إلا التقوى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27] وهذا السبب من الأمور التي قد رفعها الله عنا حتى الآن، فإننا نعلم في هذه الأزمنة المتأخرة أن هذه البلاد لا تزال محفوظة من المصائب العامة، والنكبات الشاملة على حين أن الأمم تتخطف من حولنا وكل يوم نسمع عن نكبة.

فلسطين:

قبل عشرات السنين سمعنا مأساة فلسطين، وكيف أن اليهود احتلوها ودخلوها، وشردوا أهلها ومزقوهم كل ممزق، وفعلوا بهم الأفاعيل حتى أصبح الفلسطينيون في أنحاء الدنيا، لا وطن لهم، ولا مستقر لهم بل هم مشردون، إما في أنحاء الدنيا، وإما مشردون في خيام ومخيمات تجود بها عليهم المنظمات العالمية، وشأنها كما قيل:

في خيمة من نسيج الوهم لفقها      ضمير باغٍ على الإسلام يأتمر

أوهى وأوهن خيطاً من سياسته     لو مسها الضوء لافقدت به الستر

تعدوا الرياح بها نشوى مقهقهة     كأنها بشقوق الرمل تنحدر

لا شيء يقيهم من الحر والقر، والريح ويتكففون هذه المنظمات العالمية أن تمدهم بما يحتاجون إليه من الكساء أو كسرة الخبز أو غيرها.

أفغانستان:

وبعد ذلك سمعنا بمآسي المسلمين في بلاد أخرى، كما سمعنا بمأساة المسلمين في أفغانستان، وكيف فعل بهم الروس وعملاؤهم من أهل البلد الأصليين، وكيف أن أكثر من مليوني مهاجر خرجوا هائمين على وجوههم لا يدرون إلى أين، أكثر من مليونين في باكستان، وربما عدد كبير في إيران، ودع عنك أعداداً غفيرة من الأفغان الموجودين في أنحاء الدنيا، حيثما يممت من بلاد الله وجدت ذلك المسلم الأفغاني لا مستقر له، ولقد ألتقيت بأحد كبار قادتهم منذ زمن ليس بالقصير في مناسبة الحج، وهو من الشيوخ، فكان يقول لي: والله إننا نعلم أنه ما أصابنا الذي أصابنا إلا بسبب تقصيرنا في أمر الله، وتركنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لبنان:

بعد ذلك جاءت، بل قبله وبعده ومعه، جاءت قضية لبنان، وتسامع الناس كيف أن الله تعالى أحرقها بنار الحرب التي لا تبقي ولا تذر، واستمرت على مدى أكثر من عشر سنين، حرب ضارية طاحنة أتت على الأخضر واليابس، وهذا البلد الذي كان ميداناً للسياحة بالأمس، وكان الناس يذهبون إليه في الاصطياف وللعلاج ولغير ذلك، وكانت مكان طباعة الكتب والتصدير إلى غير ذلك، هذا البلد أحرقتها الحرب، فأصبحت قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، ولا تزال الحرب تفعل فعلها في هذا البلد، ومثل ذلك في كشمير وغيرها، ولعل آخر العنقود وليس بالأخير هو ما جرى لـ الـكويت.

ومن كان يظن أن ما جرى للكويت كان يجري، لو كان بالقياس العقلي، والنظر المجرد أن يقال لك: أن أهل الكويت وهم فيما هم فيه من النعيم والرفاهية والقصور الفارهة والأموال الكثيرة والأمن والأمان والرخاء ورغد العيش؛ لو قيل لك قبل أسبوع من الحادثة أن ما جرى سوف يجري لعددته ضرباً من المحال، ومن الطريف أنه في اليوم الذي يتلو، بل في اليوم الذي حصلت فيه الأزمة صلى معي رجل من الناس، فقال لي: هل سمعت ما جرى في الكويت؟ قلت له وماذا جرى؟ قال لي: إن العراق قد اجتاح الكويت، وطرد حكومتها وأهلها واحتلها، فوالله الذي لا إله غيره إني ما تجرأت على نشر الخبر أياماً، إلا أنني قلت: أن هذا أمرٌ فيه بعد، وأخشى أن يكون الذي أخبرني لم يتثبت، فلا أحب أن أتسرع بنقل الأمر، وقد لا يكون صحيحاً، لأن الأمر كان في غاية الغرابة، قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27] فهذا سبب من أسباب إيقاظ الله عز وجل للأمم لعلهم يرجعون.

السبب الثاني: هو أن الله عز وجل قد يأخذ الناس بالمحنة والشدة والبأساء والضراء لعلهم يتذكرون ويرجعون إلى ربهم كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:42-43] وقوله: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ [الأنعام:42] البأساء من البؤس، وهي الشدة والفقر وقلة ذات اليد، والضراء من الضر والآفة والمصيبة والمرض وما شابه ذلك، فأخذهم الله عز وجل بالفقر، والشدائد، وبالآفات والأمراض، لعلهم يتضرعون ويشعرون بحاجاتهم إلى الله عز وجل، فينكسرون بين يديه، لكنهم لم يفعلوا بل قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، ويقول عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94] فهكذا سنة الله عز وجل في كل القرى والأمم، وفي كل الشعوب إذا أصروا وكذبوا؛ عاقبهم الله عز وجل بالبأساء والضراء، وهذا من رحمته بهم، أنه لا يعاجلهم بعقوبة تستأصلهم وتنهيهم، كلا. ولا يمهل لهم، ويملي لهم في النعيم منذ البداية حتى يغتروا، كلا. بل البداية أن الله عز وجل قد يأخذ جيرانهم، فإذا لم يتعظوا، أظهر الله عز وجل لهم بعض الشدة وبعض البأساء لعلهم يضرعون.

يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [الأعراف:130] والسنين جمع سنة: وهي القحط والجدب والسماء لا تمطر، والأرض لا تنبت حتى تموت الزروع والضروع والحيوانات، ويصيب الناس القحط والجفاف هذه السنين: وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:130] بسبب القحط والجدب، وبسبب نـزع البركة، فتنقص الثمرات عندهم: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:130] ويقول في آية أخرى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133] هذا نموذج مما أخذهم الله به من الآفات: وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133] ولكن مع ذلك كله استكبروا فهذه هي المسألة الثانية التي يأخذ الله عز وجل بها الأمم لعلهم يتضرعون، لأن هذا ليس عقاباً نهائياً ليبيدهم ويستأصلهم عن آخرهم، بل هذا عقاب مؤقت لعلهم يرجعون، ويتذكرون، فإذا أصروا واستكبروا، كما استكبر الذين من قبلهم، كما فعل قوم فرعون وسواهم، فإن الله عز وجل يعاملهم بأسلوب آخر.

فإن الله عز وجل، قد يبتلي الأمم بالأمراض، وكم من أمة ظهر فيها من الآفات والأمراض ما لم يكن يظهر فيمن قبلهم، ولو نظرنا في واقعنا الآن لوجدنا أن الناس أصبحوا يتسامعون بأمراض لم يكن الأولون يعرفونها.

ما يسمى بالجلطة: التي تصيب الإنسان وهو نائم أو قاعد أو يأكل أو يشرب في لحظة فينقل مغمى عليه، ثم غالباً ما يخرج من سرير المستشفى إلى نعش الموتى، كذلك لم يكن الناس يسمعون بالسرطان ولا يسمعون بالهربس والإيدز وغيرها من الأمراض الجديدة التي وقف الطب حائراً أمامها.

فهذه ألوان من الآفات والمصائب، والمحن التي يأخذ الله بها الناس في كل زمن، ولها سبب كما سوف يتضح، وأحياناً يأخذ الله عز وجل الأمم بنقص البركات والثمرات، وهذا -أيضاً- مشاهد.

والأمم الإسلامية اليوم بالذات تعيش تأخراً وتراجعاً في مسألة الاقتصاد، في يوم من الأيام كان عند الناس ما يسمى بطفرة اقتصادية، ولذلك كثير من الناس قاموا بمشاريع ومؤسسات وشركات، وأسسوا وعمروا وبنوا، لكن تأخر ذلك وتراجع كثيراً، وأنت لو تأتي إلى إنسان اقتصادي لقال لك: ذلك بسبب أمور، وذهب يعدد لك أسباباً كثيرة، وقد تكون هذه الأسباب صحيحة لكن نحن نقول وراء هذه الأسباب كلها السبب الشرعي قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] إذاً: تراجع الاقتصاد، والأمراض، والمصائب، واختلال الأمن كل ذلك من الأمور التي ينبه الله تبارك وتعالى بها عباده لعلهم يرجعون.

الأمر الثالث: هو أن الله عز وجل قد ينوع الأحوال على الأمم، أي أنه يغير حالهم من قحطٍ إلى جدب ومن قحطٍ إلى مطر، ومن مطرٍ إلى جدب، ومن غنى إلى فقر ومن فقر إلى غنى، ومن صحة إلى مرض ومن مرض إلى عافية، وهكذا ينوع الله عز وجل على ابن آدم.

لأن بعض الناس إذا ألفوا حالاً لا يعتبرون، حتى الشدة -والعياذ بالله- إذا ألفها الناس لم يعودوا يعتبرون، ولذلك يقول بعض الخبراء: أن الله عز وجل أصاب بلداً من بلاد الغرب المشهورة بالفجور والدعارة بالزلزال، فكان الزلزال يضرب في جنوب البلد، وأهل الشمال مواصلون فيما هم فيه من اللهو واللعب والخمر والرقص والفساد والفجور، فبعض الناس إذا استمرت عليه الحال حتى ولو كانت حال شدة قسا قلبه، فكيف إذا استمر عليه الرخاء فيقسو قلبه أكثر، ولذلك يغير الله عز وجل الحال على عباده، فيصيبهم بقحط، ثم برخاء، ويصيبهم بنعيم ثم بؤس، ويصيبهم بمرض ثم عافية؛ لعلهم يرجعون، ولذلك يقول الله عز وجل: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168] بالحسنات والسيئات، الحسنات: جمع حسنة وهي ما يصيب الإنسان مما يحبه من الخير والرخاء والنعيم والسرور والصحة والعافية والسلامة، والسيئات: هي ما يكرهه الإنسان من القحط والجدب والجفاف والمرض والفقر والبؤس والهزيمة فأحياناً هكذا وأحياناً هكذا.

قال تعالى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95] سبحان الله، الناس إذا قست قلوبهم كأنه لا حيلة فيهم، حتى حينما يغير الله عز وجل ما بهم، ويبدل أحوالهم حالاً بعد حال، ماذا يقولون؟ يقولون: هذا أمر طبيعي! قد مس آباءنا الضراء والسراء، ما هذه سنة الحياة وطبيعة الحياة، وهذا شأن الأولين، كما قالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:137-138] فيقولون: حتى آباؤنا قد مستهم الضراء والسراء.

تنوع الأحوال وتبدلها ليس خاصاً بنا، فمثلاً: تأتي إلى إنسان قد بُدِّلَ نعيمه بشقاء وبؤس وعذاب، فتقول: يا أخي! تذكر، اتق الله، عد إلى الله، فيقول: يا أخي! هذا أمر طبيعي، الأمر الذي أصابني أمر طبيعي، قد مس آباءنا من قبل، قد أصاب أبي وجدي ما أصابني.

إذاً: لا داعي لأن اعتبر واتعظ، فهذا الأمر الذي وقع لي قد وقع لغيري، والأمر الذي وقع لهذا الجيل قد وقع للجيل الذي قبله وهم يقولون: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95] (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء:137-138].

ولذلك يقولون: لا علاقة لهذا الأمر بطاعة، أو كفر، وهذا -مع الأسف الشديد- أصبح نغمة نسمعها اليوم، فأصبحنا نسمع كثيراً من ضعفاء الإيمان أو المنسلخين عن الدين يشككون في أن المعاصي هي سبب ما أصابنا وما أصاب الأمم من حولنا، ويعجزون عن ربط هذا الأمر بقضية الذنوب والمعاصي، يقولون: ما علاقة كون الناس يصلون أو يصومون باحتلال بلد آخر لهم؟! ما علاقة تعاطي الربا بالعقوبات التي تنـزل من السماء، أو تخرج من الأرض؟! وهذا الكلام في الواقع لا يقوله الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، لأنك لو كنت تعلم أن الله عز وجل بالمرصاد، فإنه لا غرابة أن القوم إذا أطاعوا الله عز وجل وكانوا له على ما يريد فإن الله عز وجل يكون لهم بكل خير أسرع، فيدر عليهم عيشهم، ويبسط لهم رزقهم، وينعمهم في الدنيا بألوان النعيم، وإذا عصوه وخالفوا أمره وتمردوا على رسله فإن الله عز وجل يؤدبهم بألوان المصائب والنكبات، لا غرابة في ذلك، عندما يؤمنون بالله عز وجل، لكن من لا يؤمن بالله؛ فإنه يفسر الأمور كلها تفسيراً مادياً بحتاً، ولا قدرة لعقله على أن يتجاوز حدود هذه الدنيا لينظر فيما وراءها، فهم محجوبون بحجاب كثيف عن معرفة ما عند الله عز وجل، أما المؤمنون فيقرءون القرآن، فيجدون من خلاله أن هذه المصائب والنكبات إنما هي بذنوبنا وبما كسبت أيدينا قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5154 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3978 استماع
مقياس الربح والخسارة 3931 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3873 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3836 استماع