إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]
أما بعــــد:
فيا أيها الأحبة..
إنها لفرصةٌ طيبة أن ألتقي بوجوهكم المشرقة بنور الإيمان؛ وأن أتبوأ معكم هذا المجلس، الذي يتنسم منه الإنسان عبق الخير والتقوى، فأسأل الله أن يجعلني وإياكم من المتحابين فيه، وأن يجعلنا من المتواصين بالحق والمتواصين بالصبر، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
عنوان هذه المحاضرة (مقياس الربح والخسارة) وهي تنعقد في هذه الليلة، ليلة الحادي عشر أو الثاني عشر من شهر شعبان لسنة 1413هـ في هذا المسجد العامر، جامع الإسكان بـجدة، وفي مقدمة هذا الحديث مجموعة من العناوين:
تاجر ترك الربا
إن الإنسان دائماً وأبداً يبحث عن الربح، ويتجنب الخسارة، ولكن! أين الربح وأين الخسارة؟! ذلك التاجر الذي أثري من الربا، والكسب الحرام وجمع المال وعدده، وهو يعد نفسه أو يعده الناس من أعظم الرابحين؛ هل تراه -في مقياس الصدق والعدل والحق- رابحاً أم خاسراً؟! ثم هو حين يتوب إلى الله تعالى، ويتخلى عن أمواله الطائلة وقوفاً عند قول الله عز وجل:
فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] دون مقابل، حتى الأجر ربما لا يرجوه، لأنه يتخلص من مالٍ حرام، وكل ما يرجوه هو السلامة من مغبة هذا المال! والنجاة من حوبه يوم الحساب! ينظر إليه الكثيرين نظرة رثاء وإشفاق، ويتأسفون على تلك المبالغ الخيالية، والأرقام الفلكية التي واصل الليل والنهار في جمعها، ثم تخلى عنها في طرفة عين، قال تعالى:
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام:81].
جامع الحلال
بل وذلك الثري الذي جمع المال من الحلال، وتعب في تحصيله مما أذن الله تعالى به؛ ثم أنفقه في الزكاة والصدقة وأعمال الخير والبر، ومشاريع الدعوة، والبذل والجهاد وغيرها، أتراه خاسراً وهو ينفق هذا المال الذي يحبه حباً جما، وهو يحبه حباً شديداً فيدل هذا الإنفاق على صدق التقوى والإيمان، ويبرهن على إيثاره الآخرة على الدنيا، أتراه كان رابحاً بالإنفاق؟ أم كان رابحاً لو ادخر المال وحفظه؟!
الداعية المعذب المحاصر
وذلك المصلح أو الداعية الذي رضي بحياة الشظف والعناء والتضييق، ورضي بالحصار الإعلامي على صوته، وعلى كلمته وعلى دعوته، والحصار الاقتصادي، قال تعالى:
لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7] والحصار الوظيفي، الذي يشترط -في كثيرٍ من البلاد- على الموظف أن يعلن الولاء ليس لله ورسوله والمؤمنين، بل أن يعلن الولاء للأنظمة
العلمانية والدعوات اللادينية.
هذا الداعية الذي ترك ذلك كله، وترك زخرف الدنيا، ورضي عنه بما عند الله تعالى، واستبدل بذلك ما يدخره ليوم الحساب، ولسان حاله يقول:
بل ربما رضي بحياة السجن، وسلب حريته؛ ليس حريته فقط بالحديث والكلام؛ بل ولا حريته في الاجتماع مع الناس فقط، بل ربما قيدت خطواته في بضعة أمتار يذرعها جيئةً وذهاباً، وربما هو أقل من ذلك، وحيل بينه وبين الناس، لا يأخذ منهم، ولا يعطيهم، ولا يملك دعوتهم، ولا تكاد تسمع أذنه إلا وقع الأقدام، ورنين السلاسل
شابٌ ودع حياة الترف
فتاة اشترت الآخرة
طاغيةٌ مستبد
وأخيراً: ذلك الطاغية المتأله المستبد، الذي يقول: "أنا" ولو هلكت الأمة، والذي استأجر الكرسي من الأجنبي باقتصاد بلاده يضخه في بنوكهم، وأعرب عن صدق ولائه؛ بزج عشرات الألوف من المخلصين، والغيورين، والخبراء والعلماء في السجون والمعتقلات، وتعليق آخرين على أعواد المشانق، ومحاربة أي بادرة تغيير أو إصلاح، وتعهَّد بجعل بلاده بلاداً فقيرة متخلفة مستهلكة لضمان سيرها الدائم في ركاب الكافرين؛ فباع الآخرة واشترى الدنيا قال تعالى:
فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38] وباع الحرية واشترى الذل والعبودية، وقد تعس عبد الدرهم، وتعس عبد الدينار، وتعس عبد القطيفة، وتعس عبد الكرسي، أو المنصب، وباع الأمة بثمنٍ بخس دراهم معدودة، فصادر حريتها وكرامتها وإنسانيتها، وجعلها أشباحاً هائمة لا تدافع عن دين، ولا تنفع في دنيا، ولا تحسن إلا الأكل والشرب والجماع، حياةً كحياة البهائم.
ثم يعيش حياته تلاحقه الأشباح؛ أشباح المنكوبين، وهب أنه عاش ما عاش، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207] أتراه ربح أم خسر؟ وما مقياس الربح والخسارة!!