شرح زاد المستقنع باب فروض الوضوء وصفته [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والنية شرط لطهارة الأحداث كلها].

النية مأخوذة من قولهم: نوى الشيء ينويه نِيَّةً ونِيَةً بالتخفيف والتشديد.

والنيَّة في لغة العرب معناها: القصد، تقول: نويتُ الشيء، إذا قصدتَه، سواءً كان ذلك في القول أو في الفعل.

وقول العلماء رحمهم الله: النية شرط في طهارة الأحداث.

مرادهم بذلك: أن يقصد المكلف العبادة، ويكون قصده مشتملاً على التقرب لله جَلَّ وعَلا.

والأصل في وجوب النيَّة ولزومها في العبادات قول الله تعالى مخاطباً نبيه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر:2].

فقوله تعالى: (فَاعْبُدِ) أمر.

وقوله: (مُخْلِصَاً) أي: حال كونك مخلصاً.

وقوله: (لَهُ الدِّيْنَ) أي: لتكن عبادتك خالصة لله جَلَّ وعَلا.

ومن المعلوم أنه لا يتحقق الإخلاص إلا بتجريد النية لله.

وبناءً على ذلك: يتوقف اعتبار العبادة على نية القربة، فلو أن إنساناً وقف يصلي، وأثناء وقوفه لم يستشعر العبادة لله جَلَّ وعَلا، أو فعل أفعال الصلاة وقصد بها رياضة البدن، فإنها لا تعتبر عبادة مجزئة.

إذاً: لابد في العبادة من قصد القربة لله سبحانه وتعالى، فلو أن إنساناً أعطى غيره مالاً، فإن قصد به الزكاة كان زكاة، وإن قصد به المحاباة كان محاباة، وإن قصد به الهبة والهدية كان هبة وهدية.

و قد أجمع العلماء رحمهم الله على أن العبادات لا تصح إلا بنية، وقد قرر الشاطبي رحمه الله مبحثاً نفيساً، ينبغي على طالب العلم أن يرجع إليه -وهو يعتبر إماماً في المقاصد والنيات-، في كتابه: الموافقات، في الجزء الأول في كتاب المقاصد، عقد فصلاً كاملاً لتقرير وجوب النية ولزومها في العبادات، وبيَّن وجه اعتبار الشرع لها، ووجه التزام المكلف بها.

الشاهد من هذا: أنه لا يصح إيقاع الوضوء ولا الغسل من الجنابة على الوجه المعتبر شرعاً، إلا إذا نوى الإنسان به الغسل والوضوء، فلو أن إنساناً اغتسل وغسل جميع بدنه قاصداً التبرد أو نظافة البدن، وكانت عليه جنابة، لم يجزئه ذلك الغسل، إلا إذا نوى رفع الجنابة.

وكذلك الحال فيما لو أن إنساناً كانت عليه جنابة أو امرأة طهُرت من حيضها، ثم انغمس كل منهما في بركة، وكان قصدهما التبرد في فصل الصيف مثلاً، فإن هذه النية لا تجزئهما عن رفع حدث الحيض وكذلك حدث الجنابة.

إذاً: فلا بد من نية الوضوء ونية الغسل، ويستوي في ذلك الطهارة الصغرى والكبرى.

وهذا الذي عبر عنه المصنف رحمه الله بقوله: (لطهارة الأحداث)، والأحداث تقدم تعريفها لغةً واصطلاحاً.

وقول المصنف رحمه الله: (والنية شرط) الشرط في اللغة: العلامة. وأما في اصطلاح العلماء: فهو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود ولا العدم لذاته.

مثال ذلك: عندما نقول: الوضوء شرط لصحة الصلاة، فإنه يلزم من عدم الوضوء عدم صحة الصلاة؛ لأن الوضوء شرط لصحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الوضوء وجود الصلاة، فإن الإنسان قد يتوضأ ولا يصلي.

هذا معنى قولهم: الشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود.

وقوله: (والنية شرط لطهارة الأحداث كلها) هذه مسألة خلافية، اختلف فيها جمهور العلماء مع الإمام أبي حنيفة وأصحابه.

فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية يرون أن الوضوء والغسل لا يصح إلا بالنية، فمن اغتسل للنظافة أو للتبرد وكان عليه حدث جنابة أو حيض لم يجزئه، وكذلك من توضأ وكان عليه حدث أصغر، فإنه لا يجزئه إذا نوى بوضوئه التبرد في الصيف مثلاً.

وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول بعض السلف إلى أن الوضوء والغسل يصح كل منهما بدون نية، ولو كان قاصداً النظافة، فإنه يجزئه ويصح.

واحتج الجمهور بدليل الكتاب والسنة والعقل:

أما دليل الكتاب: فقوله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر:2]، وجه الدلالة: أن الوضوء عبادة وديانة، فلا يصح إلا بإخلاصه ونيته.

وكذلك قوله سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، قالوا: الوضوء عبادة، والدليل على كونه عبادة: أنه غسل لأعضاء على صفة مخصوصة، ولذلك أمر بغسل بعض الأعضاء ومسح بعضها، ولو كان عبادة معقولة المعنى لما تأتى فيه ذلك، فقالوا: إنه عبادة لا يُعقل معناها، فلا تصح بدون نية.

وأما دليل السنة: فحديث عمر في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ووجه الدلالة: أن الوضوء عمل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن صحة الأعمال موقوفة على النية، والوضوء عمل، فلا يصح إلا بنية.

وأما دليلهم من النظر الصحيح: قالوا: تجب النية في الوضوء كما تجب في التيمم، وتجب النية في الغُسل كما تجب في التيمم، لجامعِ كونِ كلٍّ منهما طهارة من حدث.

هذا حاصل ما استدل به الجمهور من دليل النقل والعقل.

أما الإمام أبو حنيفة -رحمة الله عليه- وأصحابه فدليلهم العقل: قالوا: إن الوضوء أو الغسل كل منهما عبادة معقولة المعنى، وهو وسيلة وليس بغاية، والوسائل لا تشترط لها النية، ولذلك قالوا: يصح الوضوء بدون نية.

ومعنى قولهم: لا يشترط في الوسائل النية أنك لو أردت أن تذهب إلى المسجد -مثلاً- وركبت السيارة، فإنه لا يلزمك في هذه الوسيلة التي تتوصل بها إلى العبادة أن تنوي بها الوصول للعبادة، فلو ركبت السيارة مجرداً عن النية، ثم بلغت بها المسجد، لصح خروجك ذلك عبادةً وطاعةً لله جل وعلا، فقالوا: هو من الوسائل، ومن العبادات المعقولة المعنى.

والصحيح: مذهب الجمهور، أن الوضوء لا يصح إلا بالنية، وكذلك الغسل من الجنابة؛ لما ذكرنا من دليل النقل والعقل.

هذه النية لها ضوابط:

تقدم النية على العبادة

أولاً: أنه ينبغي أن تقع قبل البداءة بالعبادة، أو عند البداءة بها مصاحبة؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وغسل الوجه لا يتأتى إلا بعد نيته، ويكون مصاحباً لأول مفروض، فإذا قام الإنسان من النوم كانت بداية النية عند غسله لكفيه، وإن كان في النهار فيلزمه وجود النية عند غسله لوجهه، أي: باعتبار كونها شرطاً لصحة الوضوء، فلو عَزَبَت عنه قبل ذلك لصح وضوءه؛ لأنها تجب عند أول مفروض.

ولكن بالنسبة لما قبل المفروض الأول فلا يتحقق فيه الثواب، على الأصل الذي قرره العلماء رحمة الله عليهم.

أحوال اندراج النية في الوضوء

ثانياً: النية في الوضوء لها أحوال:

إما أن ينوي الأعلى، ويندرج تحته الأدنى.

أو ينوي الأدنى، فلا يندرج تحته الأعلى.

وإما أن ينوي المساوي.

وفيه تفصيل:

فالحالة الأولى: أن ينوي الأعلى ويندرج تحته الأدنى، وهذا يتأتى في نية رفع الحدث المطلقة، كأن يأتي إنسان إلى مكان ما أو يُحضِر الماء للتطهر، ناوياً به رفع الحدث الذي تلبس به، فينوي الطهارة الصغرى والكبرى، فيجزئه أن يصلي جميع الصلوات، وأن يستبيح جميع العبادات التي يُشترط الوضوء لصحتها: من طواف بالبيت، وصلاة على الجنائز، ومس للمصحف، وغير ذلك مما تشترط له الطهارة. هذا إذا نوى رفع الحدث، بمعنى أن يكون رافعاً للحدث الذي هو متلبس به.

ويتأتى اندراج الأدنى تحت الأعلى أيضاً فيما لو نوى عبادةً بعينها، كأن ينوي أن يتوضأ لصلاة الظهر، أو يتوضأ لصلاة العصر، وهي صلاة مفروضة، فإذا نوى الفرض اندرجت تحته النوافل، وصح منه أن يصلي الرواتب القبلية والبعدية وسائر النوافل.

الحالة الثانية: وهي نية الأدنى، وتكون بنية النافلة أو ما دون النافلة، ينوي النافلة كأن يتوضأ من أجل أن يصلي ركعتي الضحى، أو يتوضأ من أجل أن يصلي ركعتين فيستخير الله جل وعلا، فينوي وضوءه من أجل هذه الصلاة، فيكون نوى بوضوئه الأدنى، وهكذا لو نوى ما هو أدنى من النافلة، كأن يتوضأ من أجل أن يمس المصحف، كما لو رأى مصحفاً فأراد أن يرفعه أو يحفظه، فتذكر أنه محدث، فقام فتوضأ من أجل أن يستبيح مس هذا المصحف ليرفعه، فقد نوى الأدنى، الذي هو أدنى من الفرض والنافلة.

فإن نوى الأعلى، أو نوى النية المطلقة لرفع الأحداث، فإنه يجزئه أن يصلي ما شاء.

وإن نوى الأدنى، الذي هو النافلة، فلا يصلي فرضاً.

وهل يتأقت ذلك بالنافلة نفسها بعينها، فلا يصلي من النوافل، أو لا يتأقت في النوافل -وهو أقوى-؟

وجهان للعلماء.

وإن نوى الأدنى وهو مس المصحف فلا يستبيح به الصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

قال العلماء: إن هذا الحديث دليل لهذا التفصيل، فمن نوى رفع الحدث ارتفع حدثه، ومن نوى نافلةً خُصَّ رفع الحدث بالنافلة، أي: أنه يستبيح فعل النافلة، فيُنَزَّل منزلة التيمم، وقد عهدنا من الشرع طهارةً يستباح بها فعل العبادات: من مس للمصحف، وطواف بالبيت، وصلاة ونحوها، وهي التيمم.

وبناءً على ذلك: لا تصح الصلاة إذا نوى الأدنى، وكانت الصلاة التي يُراد أداؤها صلاةَ فرض ونحوها.

ضرورة نية رفع الحدث الأصغر أو الأكبر

قال رحمه الله: [فينوي رفع الحدث].

أي: أن الإنسان إذا انتقض وضوءه ببول أو غائط أو ريح أو نوم فإنه يوصف بكونه محدِثاً، فينوي رفع هذا الحدث، فإن نام أو بال، أو خرج منه ريح، فإنه ينوي رفع الحدث الأصغر، وإذا خرج منه مَنِي، فإنه ينوي رفع الحدث الأكبر، وهكذا.

تحديد النية في الطهارة

قال رحمه الله: [أو الطهارة لما لا يباح إلا بها].

قوله: (أو الطهارة) أي: ينوي الطهارة.

قوله: (لما) أي: لشيء.

قوله: (لا يباح إلا بها) أي: لا يباح هذا الشيء إلا بالطهارة، مثل: الصلاة، والطواف بالبيت، وكذلك مس المصحف؛ على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم.

النية فيما تسن له الطهارة

قال رحمه الله: [فإن نوى ما تُسَنُّ له الطهارة كقراءةٍ أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه ارتفع].

قوله: (فإن نوى) الفاء: للتفريع، فبعد أن قرر الأصل بدأ يفرِّع على ذلك الأحكامَ.

قوله: (ما تُسُنُّ له الطهارة) أي: لا تجب، بمعنى: أن ينوي شيئاً ضعيفاً.

فهذا على سبيل النفل لا على سبيل الوجوب، فتكون نيتُه نيةً ضعيفة، بخلاف ما إذا نوى الذي تقدم من الصلاة المفروضة، والطواف بالبيت، فهذه نيةٌ لواجب.

فالوضوء:

إما أن يكون لمسنون.

وإما أن يكون لواجب.

حكم الاكتفاء بالمسنون عن الواجب في الطهارة

قال رحمه الله: [وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب].

أي: إن نسي حدثه ارتفع الحدث لوقوع الوضوء بعد حدث سابق؛ لأنه لما نوى المسنون وجدت فيه نية العبادة، وهي نية الوضوء، فصح إيقاع الوضوء، ووقع الوضوء بعد حدث، فيزول ذلك الحدث بوجود موجب زواله.

وقال بعض العلماء: إنما يعتبر مبيحاً لا رافعاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى) فيستبيح المحظور الذي يُسَنُّ له الوضوء، ولا يعتبر حدثُه مرتفعاً، وهذا اختيار بعض العلماء رحمة الله عليهم، وهو أحوط كما قلنا، وسبق بيان دليلهم من حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين.

فعندنا للعلماء في هذه المسألة وجهان:

بعض العلماء يقول: إذا وقع الوضوء المسنون والأدنى ناسياً حَدَثَه ارتفع الحدث، ويستبيح بذلك ما شاء من الصلوات المفروضة والنافلة.

ومنهم من يحدد ويقول: إذا نوى المسنون صار وضوءه للاستباحة، كالتيمم، وإن نوى الفرض أو نوى رفع الحدث فإنه يعتبر وضوءه مبيحاً لسائر العبادات التي يشترط لها الوضوء، سواءً كانت واجبة أو كانت نافلة.

وهذا القول الثاني قلنا: إنه أقوى، كما أشار إليه بعض الفضلاء بقوله:

ولينوِ رفعَ حَدَثٍ أو مفترَض أو استباحةً لممنوعٍِ عَرَض

وهي ثلاثة أحوال:

ينوي رفعَ حَدَثٍ: وهي أعلاها.

أو مفترَض: في حكم الأعلى.

أو استباحةً لممنوعٍِ عَرَض.

فجعل المسنون في حكم الاستباحة، وهذا هو المذهب الأقوى، أنه يُنَزَّل منزلة التيمم، فيستبيح به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى)، فهذا نوى الأدنى، فلا يصح حمله على الأعلى؛ لأن ظاهر السنة التي احتُج بها على وجوب النية في الوضوء مقيدة للنية على حسب ما نوى، سواءً كان الأدنى أو الأعلى.

صحة اندراج الحدث الأدنى تحت الأعلى

قال رحمه الله: [وكذا عكسُه]

يعني: لو نوى الأعلى لاندرج تحته الأدنى، قولاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.

الخلاف: فيما إذا نوى الأدنى، فهل يرفع الحدث فيستبيح الأعلى أو لا؟

قلنا: الصحيح: أنه لا يستبيح.

وإن نوى الأعلى واندرج تحته الأدنى صح له أن يصلي ما دونه، كأن ينوي صلاة الظهر، فيجوز له أن يأتي بالنوافل قبلها وبعدها.

ارتفاع سائر الأحداث بارتفاع أحدها

قال رحمه الله: [وإن اجتمعت أحداث توجب وضوءاً أو غُسلاً فنوى بطهارته أحدَها ارتفع سائرُها].

هذا على الأصل عند بعض العلماء حيث يرى وجود الطهارة بعد الحدث رافعاً للحدث، ولا يفصِّل، يقول: المهم أن الله أمرنا بالوضوء بعد الحدث، فإذا وقع الوضوء بعد الحدث رفع الحدث، ولا يفصِّل بين كونه يبيح أو كونه يرفع.

والحقيقة أن هذا المذهب وسط بين من ألغى النية بالكلية، وبين من اعتبر النية واعتبر معها صفة النية، ولا شك أن الدليل الذي دل على لزوم النية في الوضوء: (إنما الأعمال بالنيات) دل بمقطعه الأول على أن صحة الوضوء موقوفة على النية، ودل بمقطعه الثاني على الحصر: (وإنما لكل امرئ ما نوى) يقول العلماء: مفهومه أن من لم ينوِ شيئاً لا يكون له، فهذا نوى الأدنى، فكيف نقول: يستبيح به الأعلى؟

ومنطوقه: أن من نوى شيئاً كان له.

هذا هو وجه من يقول بأن الأدنى لا يجزئ في استباحة الأعلى، وهو كما قلنا: أقوى القولين.

إن اجتمعت أغسالٌ، مثل: المرأة يكون عليها الحيض وتكون عليها الجنابة، فجاءت ونوت الغسل للحيض، فإنها ترتفع الجنابة، أما لو كان جنس الحدث مكرراً وقصد رفع الحدث نفسه، بغض النظر عن كونه يستبيح صلاة مفروضة أو غير مفروضة، صح الرفع في حالة نية رفع الحدث وهي الحالة العليا، فتشمل هذه النية ما عيَّن وما لم يعيِّن، مثال ذلك: رجل بال وتغوط وخرج منه الريح ونام، أربعة أحداث، فإن هذا لا نقول له: إن نويت رفع البول ارتفع، وبقي عليك حدث النوم والغائط، إنما نقول: نيتك لواحد منها كنيتك لسائرها. وهكذا لو تعددت الأحداث من جنس واحد، كأن ينام مرات متتابعة، ينام ويستيقظ، ثم ينام ويستيقظ، ثم ينام ويستيقظ، فهو حدث واحد؛ لأن الحدث لا يتجدد ولا يوصف بالتعدد، وإنما يعتبر حكماً واحداً، فينتقض الوضوء بالأول منه، ويرتفع هذا الحدث بالوضوء بعده، هذا هو وجهُ إذا لم ينوِ الأحداث بعينها، فقال: أنا أريد أن أرفع هذا الحدث عني، فتوضأ أو اغتسل صح وضوءه وغُسله، ويعتبر ذلك موجباً لارتفاع جنابته وأحداثه الصغرى.

وجوب النية عند أول واجبات الطهارة

قال رحمه الله: [ويجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة]

بعد أن بين نوعية النية، والشيء الذي تقع له النية، شرع رحمه الله في بيان موضع النية ومكان النية، فقال رحمه الله: (ويجب الإتيان بها) أي: يجب الإتيان بالنية.

قوله: (عند أول واجبات الطهارة) فأول واجبات الوضوء:

إن كان مستيقظاً من النوم فأول واجب عليه أن يغسل كفيه ثلاثاً، فيجب عليه أن يأتي بالنية عند أول هذا الواجب.

وإن قلنا بوجوب المضمضة والاستنشاق، فإنه في حالة ما إذا كان مستيقظاً تكون نيته عند إرادته المضمضة والاستنشاق.

وإن قلنا بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق، فإن أول مفروض واجب بالإجماع هو الوجه، فيكون إتيانه للنية واستحضاره لها عند غسله للوجه.

فإن سبقت النية هذا الواجب، فلا يخلو سبقُها من أمور:

إما أن يكون بفاصل يسير غير مؤثر.

وإما أن يكون بفاصل مؤثر.

وتوضيح ذلك: لو استيقظ إنسان من نومه، ثم نوى أن يتوضأ، وأحضر الإناء، وصحِبت نيتُه سكبَ الماء في الإناء، ثم غسل يديه وشرع في وضوئه، فإن هذا الفاصل: إحضار الإناء ووضع الماء فيه، فاصل يسير، فهذا الفاصل غير مؤثر، فهو مع أنه أثناء غسله لكفه لم يستحضر نية الوضوء صح وضوءه؛ لأن الفاصل غير مؤثر، أما لو كان الفاصل بين الواجب وبين النية فاصلاً مؤثراً، فإنه يلزمه أن يعيد وضوءه، كمن لم ينوِِ؛ لأن الفاصل إذا طال اعتبرت النية لاغيةً بسببه، كالحال في الصلاة ونحوها من العبادات.

قال رحمه الله: [وهو التسمية]

أي: تجب النية عند التسمية، ونحن قلنا: إن الصحيح أن التسمية ليست بواجبة، لكن المصنف اختار وجوبها.

وبناءً على القول بوجوب التسمية، تكون النية عند التسمية.

وهناك قول في وجوب التسمية يفصِّل بين نسيانها وعدم نسيانها، فإن نسيها عند غسله لكفيه صح وضوءه، على القول بأن نسيانه يسقط المطالبة والمؤاخذة.

إذاً: للنية حالتان:

تجب عند أول واجب، ويختلف ذلك باختلاف العلماء:

فإن قلتَ: التسمية واجبة عند الوضوء، فينظر: فإن كان بين التسمية والوضوء فاصل مؤثر لم تعتبر نيته ولا تسميته، وإن كان الفاصل غير مؤثر اعتبرت تسميته ونيته.

وإن قلنا: أن أول الواجبات هو المضمضة والاستنشاق، فتكون نيته عند إرادة المضمضة والاستنشاق.

وإن قلنا: إن أول واجب هو غسل الوجه، كانت نيته واجبة عند ابتدائه بغسل وجهه.

سنية النية عند أول مسنونات الطهارة

قال رحمه الله: [وتُسَنُّ عند أول مسنوناتها إن وجد قبل واجب]

كيف يتأتى هذا؟

يتأتى هذا في غسل الكفين لغير المستيقظ من نومه، فإنه إذا لم يسمِّ إلا عند المضمضة والاستنشاق، تكون قد وقعت التسمية -التي هي أول الواجبات- بعد غسل الكفين وهو أول المسنونات.

وبناءً على ذلك: يُسَنُّ له أن ينوي عند ابتداء غسل كفيه، فإن عزبت عنه النية، لزمه أن ينوي عند ابتداء المضمضة.

استصحاب النية في الطهارة

قال رحمه الله: [واستصحاب ذكرها في جميعها ويجب استصحاب حكمها].

الاستصحاب للنية بمعنى: أنه أثناء غسله ليده وعند صبه للماء يستشعر أن هذا الغسل يُقصد به رفع الحدث، ثم إذا تمضمض وأراد إدخال الماء استشعر نية التعبد؛ لأنه قد يُدْخل الماء إلى فمه لنظافته ونقائه، ولذلك قالوا: لا بد أن يكون عنده نوع من الاستصحاب، وهذا الاستصحابُ في الحقيقة يفتح باباً عظيماً من الوسوسة، ولذلك لا ينبغي على الإنسان أن يشدد فيه، فالأمر وسط والدين دين يُسر ورحمة.

ولذلك بمجرد كون الإنسان يبتدئ وضوءه وهو مستشعرٌ لهذه العبادة، فإنه يجزئه ذلك إلى ختم عبادته، ويُعتبر فقط -على ما ذكره المحققون من العلماء- أن لا يأتي عارض يرفع النية، بمعنى: أن لا تختلف النية، أو يختلج في نفسه ما يوجب رفع نيته، كأن يكون أثناء غسله ليده أراد التنظيف، فيخرج عن كونه متوضئاً، وتكون هنا المصاحَبة لازمة، ويعتبر ملزماً بإعادة غسله ليده؛ لكن كوننا نقول: يلزمه عند كل عضو أن يكون مستشعراً، فهذا الأمر يفتح باباً عظيماً من الوسوسة.

ولذلك فإن المعتبر أن لا يُدخِل ما ينقض النية، وهذا سهل؛ لأن الإنسان بمجرد إحضاره للماء عُرِف أنه يقصد الوضوء، وبمجرد بداءته بغسل كفيه، ومراعاته لأمر الشرع يعتبر هذا دليلاً على المصاحبة.

ولذلك فإن العلماء سلكوا مسلكين:

منهم من يقول: أعتبر دلالة الحال مغنية وكافية.

ومنهم من يقول: لا، بل لا بد أن تصحبه النية؛ ولا تكفي دلالة الحال.

ولذلك فإن المعتبر أن لا يأتي الناقض لهذه النية والرافع لها، كأن يكون أثناء غسله لوجهه أعجبه برد الماء في الصيف فقصد بذلك التبرُّد، فهذا يعتبر ناقضاً لنيته للعبادة، أما إذا لم يوجد الناقض فهو متوضئ، ولا حاجة إلى التشديد في هذا؛ لأنه يفتح باباً من الوسوسة ويعظُم معه البلاء على كثير من الناس.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.