شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنايات [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [مثل أن يجرحه بما له مور في البدن، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطاً، أو يلقيه من شاهق].

تقدم معنا في المجلس الماضي أن القتل يكون على صورتين، إذا كان قتل عمدٍ يوجب القصاص والقود:

الصورة الأولى: أن يكون القتل مباشرة.

والحالة الثانية: أن يكون بالسبب، بمعنى: أن يتعاطى فعل شيء يؤثر في حصول القتل، وهذا ما يسميه العلماء رحمهم الله: بقتل السببية. وقد ذكر المصنف رحمه الله النوعين: القتل المباشر، والقتل بالسببية، والقتل المباشر ينقسم إلى قسمين أيضاً:

فإما أن يكون بآلة جارحة لها مور ونفوذ في البدن، مثل: السكاكين، والسيوف، والخناجر، ونحوها كما ذكرنا في المجلس الماضي.

وإما أن يكون بغير المحدد، مثل: الضرب بالآلات التي لا تجرح ولكن تقتل، كتكرار الضرب بالخشب الذي يقتل مثله غالباً إن كُرر الضرب به، ومثل ما ذكر المصنف رحمه الله: الضرب والرمي بالحجر القاتل يعتبر من قتل العمد، وقد فصلنا في هذه المسألة.

ثم بعد ذلك ذكر المصنف رحمه الله عبارة: (أو يلقي عليه حائطاً)، وقد ذكرنا أن إلقاء الحائط على الشخص مثل الضرب بالحجر، من جهة المقاربة في القتل بهما، والمقاربة بينهما من جهة كون العلماء رحمهم الله ذكروا الصخرة الكبيرة، فقالوا: إن قتل الحجر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

فإما أن يكون بحجر صغير، وقد ذكرنا أنه لا يعتبر قتل عمد إلا إذا ضربه بحجر صغير في مقتل، يقتل مثله غالباً، أو كان الشخص الذي ضُرب بهذا الحجر الذي لا يقتل مثله غالباً مريضاً، أو طفلاً صغيراً، أو شيخاً كبيراً يتأثر بمثل هذا الحجر.

والحجر الكبير فيه تفصيل، فتارة يرمى، مثل حجر المنجنيق في القديم، وتارة يدحرج على الشخص، مثلما يقع في الصخرة الكبيرة التي يكون تحتها شخص، أو يكون في موضع وفوقه صخرة فيأتي شخص ويدحرجها عليه، فيكون هذا مثل إلقاء الحجر، فمن دقة المصنف رحمه الله أنه لم يقل: ودحرج عليه صخرة، ولكن قال: (أو يلقي عليه حائطاً)، وإلقاء الحائط بناءً على هذا يتبع القتل المباشر، لكن العلماء في الأصل ذكروه من باب السببية؛ لأن من بنى حائطاً ثم جاء الغير ودفعه على الغير، ففيه سببية ومباشرة، السببية من جهة أنه من بناء الحائط، والمباشرة بالنسبة لمن دفعه على الغير.

شروط الحكم بأن القتل بإلقاء الحائط قتل عمد

قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطاً].

يشترط أولاً: أن يكون الحائط كبيراً يقتل مثله في أغلب الأحوال، بحيث لو سقط على آدمي ففي الغالب أنه يقتله.

الشرط الثاني: أن يكون الشخص لا علم عنده، أي: لا يعلم أن هناك من يريد أن يدفع عليه الحائط، أو غرر به شخص فأجلسه تحت الحائط ثم ختله وخدعه فألقى عليه الحائط.

فلو كان الحائط صغيراً لا يقتل مثله فإننا ننظر في الشخص الذي سقط عليه الحائط ونفصل فيه: فإن كان كبيراً، والحائط لا يقتل مثله غالباً، فهذا ليس بقتل عمد؛ لأن الغالب أن الحائط لا يقتله، وإن كان الشخص صغيراً كالطفل الرضيع والصغير والصبي، فسِنُّه وحجمه الغالب أنه لو سقط عليه لقتله، وإن كان لا يقتل غالب الناس لكنه يقتل مثل هذا، فإنه قتل عمد، وهكذا لو كان الذي قُتل شيخاً كبيراً أو مريضاً يقتل بأقل شيء، فإلقاء الحائط الصغير عليه قتل عمد يوجب القصاص.

إذاً: يشترط أن يكون الحائط مثله يقتل، وإذا كان مثله لا يقتل في غالب الأحوال وغالب الناس فنفصل في الشخص الذي ألقي عليه الحائط.

أما الشرط الثاني: فهو أن يكون المقتول لا يعلم، فإن كان يعلم أنه سيلقى عليه الحائط نظرنا وفصلنا: فإن كان بإمكانه الهرب والدفع عن نفسه ولم يهرب ولم يدفع عن نفسه، فإنه حينئذٍ لا قصاص؛ لأنه قصر في حفظ نفسه، فلا يكون هذا قتل عمد، كالذي أمر غيره أن يقتله؛ لأنه في هذه الحالة بإمكانه أن يهرب، وبإمكانه أن يدفع الضرر عن نفسه، فتقصيره في ذلك وامتناعه من الهرب والنجاة بنفسه كمن قال لغيره: اقتلني، وفيه تفصيل: فمن قال لغيره: اقتلني، فإنه لا يقتل القاتل، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، فليس هذا بقتل عمد.

ومسألتنا الآن: أن يعلم، وبقدرته وبإمكانه أن يفر ويهرب فلا يحصل القتل، فقصر في ذلك، فلا قصاص على القاتل، وحينئذٍ يتحمل الشخص -كما ذكرنا- المسئولية، لكن لو أنه علم وتعاطى أسباب الهرب وأسباب الفرار، ولكنه لم يفلح شيء من ذلك فقتل، فإنه يعتبر مقتولاً قتلاً عمداً، ويجب القصاص على القاتل؛ لأن علمه لم يؤثر، وقد تعاطى الأسباب ولكنها لم تؤثر، فحينئذٍ وجود العلم وعدمه على حد سواء.

إذاً: يشترط أن يكون الحائط يقتل مثله غالباً في أغلب الأحوال، وأن يكون الشخص لا علم عنده بذلك.

الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق وخروج الروح والموت بعد إلقاء الحائط مباشرة، أو يكون مستتبعاً لحكم قتل الحائط.

وبناءً على ذلك نفصل: فإن دفع الحائط عليه فسقط الحائط ومات الشخص مباشرة، فوجهاً واحداً أنه قتل عمد ويوجب القصاص، وأما إذا عاش بعد سقوط الحائط عليه فننظر فيه: فإن كان حاله كحال الذي أنفذت مقاتله، وصار بحالة مثل حالة من أصابته السكرات، أو حالة المقارب للموت، فإن القاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، فهو ميت بالجدار لا بغيره، ويحكم بالقصاص والقود، ولا يؤثر هذا التأخير؛ لأنه في حكم الميت.

لكن لو أنه بقي بعد سقوط الحائط عليه وبه جراحات يمكن علاجه وتداويه ونجاته، فيفصل فيه بالتفصيل الذي ذكره العلماء رحمهم الله، فهل بإمكانه تعاطي المعالجات أو ليس بإمكانه؟ وهل يوجد من يعالجه أو لا ؟ فتحكم على حسب تقصيره وعدمه فهو قتل عمد، فإذا كان مثلاً في برية وليس هناك من ينقذه ولا من يقوم به، ونزفت جراحاته حتى هلك فهو قتل عمد؛ لأن الزهوق حصل بسراية الجرح، ولم يوجد في البرية عنده أحد، ولا يمكنه الصراخ، ولا يمكنه الاستغاثة بعد الله بأحد، فحينئذٍ يكون قتل عمد.

قوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطاً) في حكم إلقاء الحائط: إسقاط الخرسانات في زماننا، فمثلاً: لو رفع خرسانة ثم رماها على نائم فقتله، فإنه كإلقاء الحائط عليه، وفيه تفصيل: فإذا كان يعلم وجاء ونام وهو يعلم أنه سيقتل، فقد فرط في حفظ نفسه، وإذا كان علم وصرخ عليه أحد ونبهه ولكنه تساهل وتلاعب في حفظ نفسه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في إلقاء الحائط.

وفي حكم إلقاء الحائط أيضاً سقوط السقف على الشخص، وفي زماننا الجرافات، فلو أنه يعلم أن في هذه الغرفة شخصاً أو أشخاصاً، فجاء بالجرافة وهدم قواعد البيت أو أركان الغرفة فسقطت عليهم فقتلتهم، فإنه كإلقاء الحائط والقتل بالحائط، وحينئذٍ يكون قتل عمد، ويفصل فيه بنفس التفصيل السابق.

وفي حكم إلقاء الحائط أيضاً أن يسلط الماء على أساس الغرف والبناء، فتختل قواعد ذلك المسكن حتى يخر على من بداخله السقف ويقتله، فكل هذه الصور في حكم إلقاء الحائط على الشخص، وفيها التفصيل الذي ذكرناه، فإذا تبين هذا فإنه لابد من النظر في الشيء الذي يلقى، والشخص الذي يلقى عليه، والحالة التي حصل بها الزهوق والقتل.

حكم من بنى حائطاً فجاء شخص فدفعه على آخر فمات

لقد بينا أنه لو جاء شخص ودفع الحائط على غيره فقتله فإنه قاتل، ويبقى السؤال في الشخص الذي بنى حائطاً: هل عليه مسئولية؟ وهل عليه شيء؟

الجواب: من العلماء من أطلق الحكم فقال: لا شيء عليه، ومن بنى حائطاً فمن حقه أن يبني؛ ولا شيء عليه، صحيح أن الحائط سبب في القتل والزهوق، ولكن المباشرة لفعل الجريمة أسقط حكم السببية، فإن القاعدة المعروفة تقول: (المباشرة تسقط حكم السببية)، وسنبين أن هذه المسألة فيها ثلاث صور، وهي اجتماع السببية والمباشرة: فتارة تقدم السببية، وتارة تقدم المباشرة، وتارة يجمع بين المتسبب والمباشر، وسيأتي -إن شاء الله- تفسيرها في صور السببية.

فالشاهد: أن من بنى الحائط إذا بناه وجاء شخص ودفعه، فإن الجريمة وقعت بالدفع ولم تقع ببناء الحائط، والقتل والزهوق حصل بالفعل المؤثر فيه وهو الدفع وليس بناء الحائط؛ لأن بناء الحوائط لا يقتل الأنفس، ولا يوجب زهوق الأرواح، ولذلك لا يؤثر.

لكن لو أنه بناه من أجل أن يقتل به الغير، فهذا فيه تفصيل في مسألة قتل الجماعة والاشتراك بتعاطي الأسباب؛ لأنه إذا اجتمع أشخاص على قتل شخص، فتارة تكون المباشرة من واحد والسببية من غيره، وتارة تكون المباشرة من اثنين وتكون السببية من أقل عدداً أو من عدد مساوي، وسيأتي تفصيلها -إن شاء الله- في قتل الجماعة.

وقوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطاً) حائطاً: نكرة، والحائط: هو الجدار يكون من اللبن، ويكون من الحجر، ويكون من الأسمنت في زماننا، فهو قال: (يلقي عليه حائطاً) وعمم؛ لأن النكرة تفيد العموم، لكن التفصيل هو ما ذكرناه.

ما يشترط لإلحاق الإلقاء من شاهق بالقتل العمد

قال رحمه الله: [أو يلقيه من شاهق].

قوله: (أو يلقيه) أي: يلقي المقتول، (من شاهق) الشاهق: هو المكان المرتفع، والمكان المرتفع في القديم مثل: قمم الجبال العالية وأطرافها أيضاً، فلا يشترط أن يصل إلى القمة، بل العبرة أن يكون المكان الذي حصل منه الدفع والرمي عالياً لو سقط منه الإنسان لهلك، وفي حكم قمم الجبال أسطح المنازل، وفي زماننا أسطح العمائر، والأدوار العالية، وأبراج الحديد، كما لو صعد به إلى برج عالٍ فدفعه، فكل هذا يعتبر من الشواهق، لكن الشرط: أن يكون ارتفاعه يوجب الزهوق، أي: أن من سقط من هذا الارتفاع فالغالب فيه أنه يهلك، فإن كان مثله لا يقتل بأن كان قريباً لا يوجب الزهوق، وقد ينجو منه الإنسان غالباً، فيفصل فيه بالنسبة للشخص: فمن رمى طفلاً رضيعاً من فوق سطح غرفة، فقد يموت الرضيع؛ لأن مثله لا يتحمل هذه المسافة، بخلاف الرجل السوي لو ألقي من فوق غرفة ثلاثة أمتار قد لا يقتل ولا يموت، ومن رمى شيخاً كبيراً ضعيف البنية حطمة، أو رمى مريضاً به مرض وبه آفة، ولكن هذا المرض أقل شيء يحصل معه الزهوق والموت، فهذا يفصل فيه إذا كان الارتفاع غير شاهق، لكن المصنف قال: (من شاهق) وهذا من دقة المصنف رحمه الله؛ لأنه راعى أغلب ما يحصل به الزهوق، ولكن هذا لا يمنع في المسائل الخاصة والأحوال الخاصة أن يفصل فيها كما ذكرنا، ومحل ذلك هو كتب المطولات.

وقوله: (أو يلقيه من شاهق) سواء ألقاه بالرمي، كأن يكتفه ويربطه ثم يأتي ويرميه من شاهق، أو يلقيه بالدفع، كأن يتركه على غفلة ثم يدفعه من شاهق؛ أو يلقيه بالمغالبة، كأن يشتبكا ويتدافعا فيدفع المغلوب ويموت.

وأيضاً في حكم الشواهق: ما يقع من الطائرات، فلو أنه ألقاه من طائرة وكانت على ارتفاع يقتل مثله، فحينئذٍ يعتبر قتل عمد، وهذه الصور كلها الشرط فيها تحقق أن يكون الارتفاع يقتل غالباً.

إذاً: الشرط الأول: أن يكون الارتفاع مؤثراً.

الشرط الثاني: ألا يعلم الشخص الملقي أنه سيلقى، كأن يأخذه على غرة، أو غافله بشيء ينظر إليه ثم دفعه -والعياذ بالله- ورماه، أو كان يعلم ولكنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كمن حُمل مكتفاً إلى سطح العمارة ثم رمي، فإنه يعلم أنه سيرمى، لكنه لا يملك أن يدفع عن نفسه، فعلمه وجهله على حد سواء، ولا تأثير له في الحكم.

إذاً: يشترط ألا يعلم، أو أن يكون عالماً عاجزاً عن الدفع وصرف البلاء عنه.

الشرط الثالث: أن يكون القتل والزهوق والموت حصل بالارتطام أو بالتردي من الشاهق لا بشيء آخر، وهذه ما يسمونها: مسألة الحائل، وتفصيل ذلك: أنه أخذه وصعد به إلى سطح العمارة، سواء رماه من طرف العمارة، أو رماه من داخل العمارة مثل ما يقع في المناور، فليس شرطاً أن يرميه إلى الشارع من أي مكان، مادام أنه يهوي به إلى مكان يقتل مثله غالباً فلا إشكال.

فإذا رماه من الموضع العالي وارتطم بالأرض ميتاً، فقتل عمد؛ لأنه تمحض زهوق الروح وخروج الروح بالارتطام على الأرض، أو بفعل التردي مثل ما يقع على الجبال الشاهقة، فلو أنه صعد به على جبل ثم غرر به ودفعه، فإنه يتردى ويتدحرج على نتوء الجبال، وهذه تقتل؛ لأنها قد تصيب مقتلاً فيقتل قبل أن يصل إلى الأرض، فالقتل في تلك الصورتين حصل بالتردي، إما مآلاً حينما سقط على الأرض وارتطم، وإما بالتردي نفسه قبل أن يصل إلى مآل التردي، ففي تلك الصورتين قتل عمد؛ وذلك لأن الموت والزهوق وخروج الروح حصل بالارتطام، وهذا سببه المؤثر فيه، أو حصل بالتردي والاصطدام بنتوء الجبل أو تعاريج الجبل، مثل ما يقع في الزوائد في العمائر ونحوها، إذا هشمت أعضاءه وقتلته، فهذا لا إشكال فيه أن الموت حصل بهذا التردي.

تعارض السببية والمباشرة في القتل

لكن لو أن الموت والزهوق حصل بسبب آخر، مثل ما ذكر الأئمة والعلماء رحمهم الله: أن يلقيه من شاهق، وقبل أن يصل إلى الأرض يتعرضه شخص بسيفه فيقده نصفين، وهذا يقع في بعض الأحيان، كأن يجعل السيف في خاصرته أو في موضع الوسط من الجسم، فينزل الساقط على السيف فيقسم، فيقال: قده بالسيف، إذا قطعه فمات، فيكون الموت والزهوق بالقد لا بالتردي ولا بالارتطام، فحينئذٍ القاتل هو صاحب السيف وليس المرُدِي.

وهذه من الصور التي قدمت فيها المباشرة على السببية؛ لأن التردية سببية، والتعرض بالسلاح هو الذي حصل به الموت.. صحيح أنه لو وصل إلى الأرض لمات وهلك، ولكن هذا الاعتراض هو الذي أزهق الروح، وحينئذٍ يكون هذا من تقديم المباشرة على السببية، وقد ذكرنا أنه تارة تقدم السببية على المباشرة، وتارة تقدم المباشرة على السببية، وتارة يحكم بالاثنين، ومن تقديم المباشرة على السببية هذه المسألة، فإن الذي باشر القتل هو صاحب السيف.

وفي زماننا لو أطلق عليه ناراً قبل أن يصل إلى الأرض، كشخصين أخذا شخصاً يريدان قتله، وحرص كلٌ منهما على قتله، فأما الأول فدفعه من فوق العمارة مثلاً، وأما الثاني فأطلق عليه النار، فيُنظر: فإن كان طلق النار قد أصابه في مقتل الغالب أنه يزهق الروح قبل الوصول إلى الأرض، فالقاتل هو صاحب الطلق، وإن كان الذي أصابه من الطلق في مكان لا يقتل، فالذي قتل هو الارتطام بالأرض، وهناك مسألة وهي مسألة الجرح؛ لأنه جرحه قبل موته.

ومن هنا ينتبه إلى ترابط الفقه، فهذه المسألة في القتل مثلها في الصيد، كما لو أنه رأى شاة ساقطة من فوق الجبل، وقبل أن تصل إلى الأرض أطلق عليها النار، فإنه إذا أصابها في مقتل وقتلها فيحل أكلها، وإن أصابها في غير مقتل وارتطمت بالأرض فإنها متردية، والله قد حرم المتردية والنطيحة والميتة، فهذا راجع إلى استقرار النفس، فإذا كان استقرار النفس واقع مع حصول هذا الطلق والعيار الناري، فحينئذٍ يحكم بأن القتل وقع بالارتطام لا بالطلق، والعكس بالعكس، فإن كان في مقتل فإنه يكون حينئذٍ القاتل هو المباشر وليس الذي ألقاه من الشاهق.

والسببية والمباشرة إذا اجتمعا تقدم المباشرة على السببية، كما في مسألة القد بالسيف فيمن رمي من شاهق، وكما في مسألة من حفر بئراً وجاء شخص ودحرج الغير فيه فمات، فإن الذي حفر متسبب، والذي دفع مباشر، فتقدم المباشرة على السببية، ومن هنا قالوا في القاعدة: إن المباشرة تسقط حكم السببية، في مسألة بناء الجدار، وحفر البئر، ومسألة القد بالسيف في التردية.

ومن الصور التي تقدم فيها السببية على المباشرة وهي العكس: أن يشهد شهود بالزور على شخص أنه زانٍ محصن، فيرجم فيقتل، ثم يرجعون عن شهادتهم، ويقولون: نحن تعمدنا قتله، فحينئذٍ الذي تسبب في القتل هم الشهود، والذي باشر القتل هو القاضي بالحكم والمنفذ لحكم القاضي، فحينئذٍ القاضي والمنفذ لا يتحملان مسئولية مع أنهما باشرا القتل، لكن الذي يُقتل هم الشهود الذين قالوا: تعمدنا قتله؛ لأنها سببية، ولكنها أقوى من المباشرة.

ومن الصور التي تجتمع فيها السببية مع المباشرة ويكون الاثنان مسئولان وقاتلان: مثل أن يهدد شخص شخصاً ويقول له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك، وهذا هو الإكراه، فحمل السلاح عليه وقال له: إن لم تقتل فلاناً أقتلك، فقام المكرهَ -المهدَد- وقتل من طُلِب منه قتله، فحينئذٍ يقتل الآمر والمأمور، يقتل الآمر لأنها سببية مؤثرة موجبة للزهوق ومحصلة للزهوق، والمنفذ لأنه فدى نفسه بقتل أخيه فليس بمكره؛ لأنه شرط الإكراه: أن يهدَد بشيء أكبر، كما سيأتينا -إن شاء الله- في مسألة قتل المكره، ففي هذه الحالة اجتمعت السببية والمباشرة، فوجب القصاص على المتسبب وعلى المباشر.

إذاً: الشرط الأول: أن يكون الشاهق يقتل مثله، الشرط الثاني: ألا يمكن للشخص الفرار والنجاة، الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالارتطام بالأرض لا بسبب عارض كما ذكرنا في السيف.

الشرط الرابع: أن يموت بعد الارتطام مباشرة، فيكون موته بالتردي والارتطام، فلو عاش بعد التردي فننظر: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وصار في عداد الأموات فعاش قليلاً ثم مات، فإنه قتل عمد يوجب القصاص، وبقاؤه بعد التردي وبعد الارتطام وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأنه في حكم الميت، وأما إن بقي وعاش ثم بعد ذلك مات فننظر فإن كان من جراح تنزف، وبسبب اعتلال الجسم حتى استنفذت مقاتله وهلك، فإنه في حكم ما تقدم، وينسب لأقرب حادث، فهناك قاعدة تقول: ينسب لأقرب حادث، ولها فروع كثيرة في العبادات والمعاملات.

ففي العبادات مثلاً: لو أن شخصاً رأى على ثيابه المني وهو لا يتذكر متى احتلم، فينسب إلى أقرب حادث، أي: إلى آخر نومة نامها، فيغتسل ويعيد الصلاة منها، فلو نام بعد العصر، ونام بعد الفجر، ونام في الليل، ووجد المني في المغرب؛ فإنه إذا نام بعد الظهر ينسب إلى نومة الظهر، فإذا نام بعد العصر ينسب إلى نومة العصر، المهم أنه ينسب إلى أقرب نومة نامها، ويعيد الصلاة من آخر نومة نامها، وهذا في العبادات، وفي الجنايات فهنا ينسب لأقرب حادث، فإذا استنفذت مقاتله ومات فأقرب حادث هو الارتطام، وحينئذٍ يحكم بأنه مقتول قتل عمد، ويجب القصاص على قاتله.

ولما قال: (أو يلقيه من شاهق) شرع في القتل بالسببية كما ذكرنا، والصور الأولى وهي: أن يجرحه بما له مور، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطاً، هذه كلها مباشرة، فلما قال: (أو يلقيه من شاهق)، شرع في القتل بالسببية، وهذه الصورة يعتبرها العلماء من صور الإلقاء في التهلكة.

وقتل السببية يقوم على: قتل بالشرط، أو قتل بالعلة، أو قتل بالتغرير، وكلها صور لقتل عمد، وفيها تفصيل، لكن قتل السببية هنا من صوره الإلقاء في المهلكة، والإلقاء في المهلكة يشمل: الإلقاء من شاهق والإلقاء في نار تحرق ويهلك فيها، والإلقاء في ماء يغرقه، والإلقاء في زريبة أسد أو في جحر فيه أسد، أو فيه حية أو عقرب سامة قاتلة ولا يستطيع الفرار، فهذه كلها صور يصفها العلماء بالإلقاء في المهلكة، فشرع رحمة الله بأن يلقيه من شاهق.

شروط الحكم بأن القتل بالنار قتل عمد

قال رحمه الله: [أو في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما].

قوله: (أو في نار) النار معروفة، والإلقاء في النار يشترط فيه: أن تكون النار قاتلة أو يقتل مثلها، وهي النار التي تزهق الروح غالباً، إما مباشرة مثل النار الشديدة والمتأججة والقوية، أو أن تقتل ببطء، وهي أشد عذاباً -والعياذ بالله-، وتكون المدة التي استغرقها بقاؤه في النار تحت ضغط القاتل ومحاصرته كافية لإزهاق الروح.

إذاً: يشترط في النار أن تكون قاتلة غالباً، وإذا لم يكن مثلها قاتلاً غالباً بأن كانت ضعيفة نظرنا في المدة التي مكثها فيها، وهذه أمور يعرفها ما يسمى بالطب الشرعي، وعلم السموم في الطب هو علم خاص يتخصص فيه بعض الأطباء في هذه الأشياء القاتلة، فهم أهل الخبرة وهم الذين يرجع إليهم القاضي، ويرجع إليهم للقول بأنه هل هذه النار تزهق أو لا تزهق؟ درجة النار، طبيعتها، المواد المشتعلة.. هذا كله أمر ليس مرتجلاً، إنما يكون بضوابط، ولابد من الرجوع فيه لأهل الخبرة.

إذاً: يشترط في النار أن يقتل مثلها، فإن كان مثلها لا يقتل نظرنا في المدة التي حبس فيها الشخص حتى قتلته النار، وأيضاً نظرنا في الشخص نفسه، فقد يكون طفلاً رضيعاً ألقي في نار صغيرة الغالب في مثلها أن يقتل مثل هذا الطفل، فحينئذٍ لا نشترط أن تكون النار كبيرة على كل حال، إنما نشترط أن تكون النار مثلها يقتل في غالب الناس، لكن لا يمنع هذا -كما ذكرنا في الحائط- في صغار السن، وفي المرضى، وفي كبار السن ونحو ذلك ممن تكون لهم ظروف معينة، وكذلك أيضاً النار في الصيف والشتاء تختلف، فنار الشتاء أضعف من نار الصيف، والقتل بنار الصيف ليس كالقتل بنار الشتاء.

الشرط الثاني: ألا يستطيع الشخص الفرار أو الاستغاثة أو الخروج من النار أو المدافعة، فإذا أمكنه أن يدفع عن نفسه أو يستغيث ولم يفعل شيئاً من ذلك، فهذا لا يحكم فيه بالقصاص والقود عند جمهور العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من فصل تفصيلاً دقيقاً وقال: إن النار إذا كان الشخص يمكنه أن يستغيث أو يتعاطى سبباً فننظر في الشخص نفسه: فإن كان مثله فيه دهشة وفيه ضعف، وما يحسن التصرف في الأمور، بحيث بوغت بالنار فأشكلت عليه الأمور ولم يستطع أن يتعاطى أسباب النجاة بسبب الدهش والمفاجأة، ففي هذه الحالة يكون قتل عمد؛ لأن وجود القدرة على تعاطي الأسباب زال تأثيره بنوعية الشخص؛ لأن الشخص فيه نوع من الضعف، مثلما يكون في بعض الناس من الغفلة، وبعض الناس فيهم ذعر شديد بحيث أنه إذا فوجئ بالشيء فلا يحسن التصرف، فتجعله الصدمة لا يحسن النظر في الخروج والهرب، فبعضهم يفصل بهذا التفصيل، لكن الذي جعل العلماء يجعلون القاعدة للغالب: أن من استطاع أن ينجو من النار ولم ينجُ فإنه يتحمل مسئولية نفسه، بغض النظر عن التفصيل الذي ذكروه.

الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق بالاحتراق بالنار، أو ما هو مستتبع لها مثل دخان النار نفسها، وانكتام نفسه في النار التي وضعوه فيها، فإذا حصل الزهوق بحرق النار، بأن كانت النار تشويه، وقوة الشوي أجهز عليه وقتله، أو كان الزهوق بفعل الدخان الذي كتم نفسه، وإن كانت الأعضاء التي احترقت ليست بتلك التي يزهق مثلها، فالمهم أن الزهوق حصل بالحبس في النار والإلقاء فيها، فإذا كان القتل على هذا الوجه فهو قتل عمد موجب للقصاص.

الشرط الرابع: أن يموت في النار، أو يموت بعد خروجه منها مباشرة، بحيث ينسب لها، فإن عاش وأمكن بقاؤه بحيث ينسب لسبب آخر في علاجه ونحوه، فليس بعمد في مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.

والإلقاء في النار يستوي فيه أن يكون بالطريقة القديمة، أو بما يوجد في زماننا -والعياذ بالله- مثل: الإلقاء في الأفران، والحبس في الشقق والغرف إذا اشتعلت فيها النار، كما يقع في بعض الجرائم بأن يسكب البنزين أو الحارق على الشقة وفيها إنسان نائم، أو إنسان محبوس في غرفة، ثم تشعل النار، فكل هذه الصور داخلة، فلا يشترط أن يلقيه إلقاءً كما ذكر المصنف؛ فإن هذا فقط تأصيل تبني عليه غيره، وافرض أنه ما ألقاه، كأن يكون إنسانٌ موجوداً في داخل شقة، وجاء شخص وأشعل عليه شقته وهو نائم، وقفل عليه أبواب الشقة ولم يمكنه الهرب، فكل هذه الصور تعتبر من القتل بالنار والتحريق بالنار، وهذا من أشد ما يكون تعذيباً.

وهنا مسألة: إذا أحرق بالنار فهل يكون القصاص بحرقه بالنار أم لا؟ وإذا حرق بالنار فهل ينظر لنفس درجة النار أو تكون أضعف أو تكون أعلى؟ هذا فيه تفصيل عند العلماء سيأتي في مسألة استيفاء القصاص بالمماثلة، وظاهر النصوص أنه يعاقب بمثل ما عاقب به، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيل هذه المسألة.

شروط الحكم بأن الإغراق قتل عمد

وقوله: [أو ماء يغرقه].

كأن يلقي المقتول في ماء يغرق مثله غالباً، سواءً كان بحراً أو نهراً أو سيلاً أو بركة أو مسبحاً أو نحو ذلك، كأن أدخله فوطأ رأسه وغالبه حتى لا يرفع رأسه حتى مات، فلا يشترط الإلقاء كما ذكرنا، إنما المهم أن يحصل زهوق الروح وخروجها بالتغريق.

فالشرط الأول: ألا يمكنه الفرار والنجاة.

الشرط الثاني: أن تكون المدة التي حبسه فيها في الماء كافية لزهوق النفس وخروج الروح.

الشرط الثالث: أن يحصل الموت بالتغريق، بحيث لو أنه خرج فإنه ينظر، ففي بعض الأحيان يخرج وقد امتلأت أحشاؤه بالماء ثم يستنفذ ويهلك، وهذا عند بعض العلماء -كما ذكرنا- ينسب لأقرب حادث.

لكن من أهل العلم من قال: إنه إذا خرج وعلمنا أنه لم يقتل بالغرق فليس بعمد ولا قود فيه؛ لأنه من المعلوم في مسألة الغرق أنها راجعة إلى النفس مثل الخنق، والصحيح في مسألة الخنق -كما سيأتينا إن شاء الله- أنه لو بقي بعد الخنق مدة ومرض فيها بفعل ما فعل به، واستتبعت الأمراض أو الأثر، استتبع أثر الجناية حتى أجهز على الروح، فهو قتل عمد، وهذا القول هو الصحيح في هذه المسألة، أنه حتى ولو خرج وأخرج من البحر، أو أخرج من النهر، أو أخرج من البركة التي غرق فيها، واستنزفه الإعياء والجهد حتى مات بفعل هذا التغريق؛ فإنه يحكم بأنه قتل عمد، ويوجب القصاص، ويشترط ألا يتمكن من الفرار كما ذكرنا والدفع.

ثم فصل العلماء إذا كان يمكنه السباحة، فإذا ألقاه في ماء وأمكنه أن يسبح نُظر: فإن كان الماء الذي ألقاه فيه يعييّ السباح، كأن يلقيه في بحر فإلى متى يسبح؟ فلا شك أنه سيهلك، ومما يذكر أن أبا قلابة رحمه الله التابعي الجليل طُلب للقضاء، فامتنع من ورعه، وهذا من مواقفه، فقيل له: أنت العالم والإمام وتمتنع من القضاء، وعندك العلم بالسنة الفقه؟ فقال: أرأيتم سباحاً ألقي في بحر لجي إلى متى؟ أي: أنه سيسبح ويسبح وأخيراً سوف تعييه السباحة فيهلك.

فلا شك أن الإلقاء في البحر والمكان الواسع الكبير، أو الإلقاء في السيل القوي في حال تضعف فيه المغالبة والسباحة، فإنه يضعف فيها تأثير السباحة، ولا يؤثر في الحكم كون الشخص قادراً على السباحة، ولو كان سباحاً ومنعه من السباحة مثل أن يلقيه مكتفاً، فإذا ألقاه مكتفاً في بحر أو نهر، أو ألقاه -والعياذ بالله- في بركة، وهي فاضية ليس فيها ماء ثم سلط الماء عليها، فإنه ولو كان سباحاً فكونه مكتوفاً فإنه سيغرق لا محالة.

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

فإذا غرقه سواء ألقاه كما ذكر المصنف، كأن ألقاه مربوطاً، أو ألقاه مطلقاً في مكان لا يستطيع فيه أن ينجو، أو ألقاه في بركة ثم فتح الماء عليه، أو وضعه في موضع وسلط الماء عليه، فإن هذا كله من التغريق، ويوجب القصاص والقود، والقتل به -والعياذ بالله- يعتبر من قتل العمد.

وفي حكم التغريق ما يجري مثلاً في الجرائم، فلو أنه اعتدى على سفينة فثقبها أو ضربها بآلة أو طلق ناري حتى غرقت في بحر أو في نهر، فهذا قتل عمد، فلا يشترط أن يلقيه، فقد يكون على مركب فيصيبه بشيءٍ ويغرق المركب، أو يصدم مركبه حتى ينقلب، ففي هذه الحالة يكون كالإلقاء؛ لأن المهم أن يزهق الروح بفعل مؤثر في هذا الإزهاق بحيث تكون السببية موجبة للحكم بالعمدية كما ذكرنا، فلا يشترط أن يلقيه كما ذكرنا، إنما العبرة بحصول الزهوق عن طريق التغريق، سواء باشره كما لو جاء به فوضعه في حوض ثم طأطأ رأسه حتى خرجت روحه، أو ألقاه مكتوفاً، أو ألقاه في مكان واسع لا يمكنه أن يسبح فيه، فهذه كلها تعتبر من صور العمدية الموجبة للقصاص والقود.

ويشترط أن يكون الزهوق -كما ذكرنا- بالتغريق كالحال في القتل بالنار.

قال رحمه الله: [ولا يمكنه التخلص منهما].

قوله: (ولا يمكنه) الضمير عائد إلى المقتول، أي: ليس في إمكانه وقدرته التخلص، ويستوي في ذلك أن يكون التخلص بنفسه أو بمعين بعد الله عز وجل يستغيث به، فإذا أمكنه أن يصرخ، أو أمكنه أن يتصل أو يستغيث بأحد بعد الله عز وجل ولم يفعل ذلك تحمل مسئولية نفسه.

شروط الحكم بأن القتل بالخنق قتل عمد

قال رحمه الله: [أو يخنقه].

الخنق: حبس النفس، والخنق يأتي على صورتين:

الصورة الأول: الخنق المباشر، والصورة الثانية: الخنق بآلة، والخنق بالآلة يشمل الخنق بالحبل، والخنق بالسلك، وبالنايلو، مثل الليات ونحوها، فهذا كله يعتبر من صور القتل العمد، إذا خنقه ومنع النفس عنه بآلة أو بدون آلة.

ونبدأ بالآلة: فيشترط في الآلة التي يخنقه بها أن تكون مانعة للنسم، مثل الحبل القوي، فلو ربط على عنقه حبلاً قوياً وشده، سواء شده بنفسه أو شده إلى عالٍ كما ذكر العلماء، مثلما يحصل في الشنق -والعياذ بالله-، فإذا ربطه في شيء ثم شده حتى حبس نفسه فمات؛ فقتل عمد موجب للقصاص، ويشترط أن يكون الحبل -كما قلنا- قوياً.

ومن ذلك أيضاً لو وضع عليه وسادة، كأن يكون نائماً، فدخل عليه ووضع الوسادة عليه فمنع نسمه حتى مات، فهذا قتل عمد، وقد حدث هذا في قصة أم ورقة الشهيدة رضي الله عنها وأرضاها وهي صحابية جليلة، وقد كانت من النساء اللاتي جاهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، فجاءت تسأله أن تكون معه في الغزو حتى تنال الشهادة، فقال لها: (ستأتيكِ الشهادة)، وفي رواية: (أنتِ شهيدة)، فمكثت رضي الله عنها وأرضاها إلى زمان عثمان ، وكان عندها عبدان، فتركاها حتى إذا نامت أخذا القطيفة وجلسا عليها حتى فارقت الحياة، فكان يقال لها: شهيدة، وهي حية، فتحققت فيها معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفيت رضي الله عنها شهيدة، ولكنه نوع من أنواع الشهادة.

فهذا الخنق بالمخدات والوسائد، والآلات الكاتمة، وفي زماننا يستوي أن يكون الخنق بالمواد المؤثرة، مثل رش المواد السامة التي تمنع النسم وتقتل، أو وضع الآلات المخدرة بكمية قاتلة على المنديل ونحوه وخنق الشخص به، فكل هذا من صور الخنق.

فالخنق بالآلة إذا كان باللي أو كان بالحبل، يشترط أن تكون قاتلة، وهكذا لو أخذ المنديل فهو قاتل إذا حبس النسم، فإذا خنقه ومنع النسم منه فيشترط ألا يستطيع أن يدفع عن نفسه، كما ذكرنا فيما تقدم في السببية، فإذا أمكنه الدفع والمنع عن نفسه ولم يدفع فلا قصاص.

وكذلك أيضاً يشترط أن يكون الزهوق بالخنق، فلو أنه خنقه ومات بعد الخنق بوقت نظرنا: فإن كان قد استنفذت مقاتله، وأصبح نبضه ضعيفاً جداً حتى مات، علمنا أنه مات بفعل الخنق، وحينئذٍ يجب القصاص.

إذاً: لابد من تحقق هذه الشروط: تأثير الآلة الخانقة، وألا يستطيع الدفع، وأن يحصل الموت بالخنق لا بسبب آخر.

والخنق بالسلك فيه بعض التفصيل من جهة أن السلك في بعض الأحيان يوحي بقطع الرقبة، فإن بعض الأسلاك إذا شدت جرحت، وقد يكون الموت بسبب النزيف لا بسبب الشد، فمثلاً: لو أنه شد شداً لا يحبس كل النسم بل يبقي بعض النسم، فسيبقى الميت فترة طويلة؛ لأن النسم موجود، لكن النزيف يكون سبب وفاته، فالنزيف مستتبع لحكم الخنق، وحينئذٍ لا نقول: إن الموت لم يحصل بالخنق، لما قلنا: إنه وقع، لكنه أشبه فيه أن يكون بالجرح لا بالخنق، وفائدة الخلاف تظهر في مسألة الاقتصاص بالمثل.

فالشاهد: أن الخنق من قتل السببية ويوجب القصاص.

قال رحمه الله: [أو يلقي عليه حائطاً].

يشترط أولاً: أن يكون الحائط كبيراً يقتل مثله في أغلب الأحوال، بحيث لو سقط على آدمي ففي الغالب أنه يقتله.

الشرط الثاني: أن يكون الشخص لا علم عنده، أي: لا يعلم أن هناك من يريد أن يدفع عليه الحائط، أو غرر به شخص فأجلسه تحت الحائط ثم ختله وخدعه فألقى عليه الحائط.

فلو كان الحائط صغيراً لا يقتل مثله فإننا ننظر في الشخص الذي سقط عليه الحائط ونفصل فيه: فإن كان كبيراً، والحائط لا يقتل مثله غالباً، فهذا ليس بقتل عمد؛ لأن الغالب أن الحائط لا يقتله، وإن كان الشخص صغيراً كالطفل الرضيع والصغير والصبي، فسِنُّه وحجمه الغالب أنه لو سقط عليه لقتله، وإن كان لا يقتل غالب الناس لكنه يقتل مثل هذا، فإنه قتل عمد، وهكذا لو كان الذي قُتل شيخاً كبيراً أو مريضاً يقتل بأقل شيء، فإلقاء الحائط الصغير عليه قتل عمد يوجب القصاص.

إذاً: يشترط أن يكون الحائط مثله يقتل، وإذا كان مثله لا يقتل في غالب الأحوال وغالب الناس فنفصل في الشخص الذي ألقي عليه الحائط.

أما الشرط الثاني: فهو أن يكون المقتول لا يعلم، فإن كان يعلم أنه سيلقى عليه الحائط نظرنا وفصلنا: فإن كان بإمكانه الهرب والدفع عن نفسه ولم يهرب ولم يدفع عن نفسه، فإنه حينئذٍ لا قصاص؛ لأنه قصر في حفظ نفسه، فلا يكون هذا قتل عمد، كالذي أمر غيره أن يقتله؛ لأنه في هذه الحالة بإمكانه أن يهرب، وبإمكانه أن يدفع الضرر عن نفسه، فتقصيره في ذلك وامتناعه من الهرب والنجاة بنفسه كمن قال لغيره: اقتلني، وفيه تفصيل: فمن قال لغيره: اقتلني، فإنه لا يقتل القاتل، على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، فليس هذا بقتل عمد.

ومسألتنا الآن: أن يعلم، وبقدرته وبإمكانه أن يفر ويهرب فلا يحصل القتل، فقصر في ذلك، فلا قصاص على القاتل، وحينئذٍ يتحمل الشخص -كما ذكرنا- المسئولية، لكن لو أنه علم وتعاطى أسباب الهرب وأسباب الفرار، ولكنه لم يفلح شيء من ذلك فقتل، فإنه يعتبر مقتولاً قتلاً عمداً، ويجب القصاص على القاتل؛ لأن علمه لم يؤثر، وقد تعاطى الأسباب ولكنها لم تؤثر، فحينئذٍ وجود العلم وعدمه على حد سواء.

إذاً: يشترط أن يكون الحائط يقتل مثله غالباً في أغلب الأحوال، وأن يكون الشخص لا علم عنده بذلك.

الشرط الثالث: أن يحصل الزهوق وخروج الروح والموت بعد إلقاء الحائط مباشرة، أو يكون مستتبعاً لحكم قتل الحائط.

وبناءً على ذلك نفصل: فإن دفع الحائط عليه فسقط الحائط ومات الشخص مباشرة، فوجهاً واحداً أنه قتل عمد ويوجب القصاص، وأما إذا عاش بعد سقوط الحائط عليه فننظر فيه: فإن كان حاله كحال الذي أنفذت مقاتله، وصار بحالة مثل حالة من أصابته السكرات، أو حالة المقارب للموت، فإن القاعدة: أنه ينسب لأقرب حادث، فهو ميت بالجدار لا بغيره، ويحكم بالقصاص والقود، ولا يؤثر هذا التأخير؛ لأنه في حكم الميت.

لكن لو أنه بقي بعد سقوط الحائط عليه وبه جراحات يمكن علاجه وتداويه ونجاته، فيفصل فيه بالتفصيل الذي ذكره العلماء رحمهم الله، فهل بإمكانه تعاطي المعالجات أو ليس بإمكانه؟ وهل يوجد من يعالجه أو لا ؟ فتحكم على حسب تقصيره وعدمه فهو قتل عمد، فإذا كان مثلاً في برية وليس هناك من ينقذه ولا من يقوم به، ونزفت جراحاته حتى هلك فهو قتل عمد؛ لأن الزهوق حصل بسراية الجرح، ولم يوجد في البرية عنده أحد، ولا يمكنه الصراخ، ولا يمكنه الاستغاثة بعد الله بأحد، فحينئذٍ يكون قتل عمد.

قوله رحمه الله: (يلقي عليه حائطاً) في حكم إلقاء الحائط: إسقاط الخرسانات في زماننا، فمثلاً: لو رفع خرسانة ثم رماها على نائم فقتله، فإنه كإلقاء الحائط عليه، وفيه تفصيل: فإذا كان يعلم وجاء ونام وهو يعلم أنه سيقتل، فقد فرط في حفظ نفسه، وإذا كان علم وصرخ عليه أحد ونبهه ولكنه تساهل وتلاعب في حفظ نفسه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في إلقاء الحائط.

وفي حكم إلقاء الحائط أيضاً سقوط السقف على الشخص، وفي زماننا الجرافات، فلو أنه يعلم أن في هذه الغرفة شخصاً أو أشخاصاً، فجاء بالجرافة وهدم قواعد البيت أو أركان الغرفة فسقطت عليهم فقتلتهم، فإنه كإلقاء الحائط والقتل بالحائط، وحينئذٍ يكون قتل عمد، ويفصل فيه بنفس التفصيل السابق.

وفي حكم إلقاء الحائط أيضاً أن يسلط الماء على أساس الغرف والبناء، فتختل قواعد ذلك المسكن حتى يخر على من بداخله السقف ويقتله، فكل هذه الصور في حكم إلقاء الحائط على الشخص، وفيها التفصيل الذي ذكرناه، فإذا تبين هذا فإنه لابد من النظر في الشيء الذي يلقى، والشخص الذي يلقى عليه، والحالة التي حصل بها الزهوق والقتل.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع