شرح اعتقاد أهل السنة [6]


الحلقة مفرغة

إن من أهم أمور العقيدة معرفة الله تعالى والإيمان به، وذلك يستدعي الإيمان بوجود الله وبكمال قدرته، وبكمال تصرفه في خلقه، وكذلك الإيمان بأسمائه وصفاته التي هي أسماء حسنى وصفات علا، والتي هي صفات كمال ونعوت جلال، وما سوى ذلك فإنه يعتبر تابعاً لبقية أركان الإيمان، وكذلك أمور العقيدة تابعة للإيمان بالله، وذلك لأن من آمن بالله تعالى وبصفاته وبوحدانيته وبكماله استدعى ذلك عبادته، واستدعى ذلك طاعته وحده، وتصديق رسله الذين بلغوا عنه، واستدعى ذلك وحدانيته وتوحيده، وإخلاص العبادة له، وما يتفرع عن ذلك من الأعمال تابع لهذا الاعتقاد.

قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، كما قال الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29].

ويقولون: لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله، ولا أن يغلب فعله وإرادته مشيئة الله، ولا أن يبدل علم الله، فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو، والقادر لا يغلب.

ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنه كيفما تصرف بقراءة القراء له وبلفظه فإنه كلام الله، وأنه محفوظ في الصدور، متلو بالألسن، مكتوب في المصاحف غير مخلوق، ومن قال بخلق اللفظ في القرآن يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن].

قال المعلق جزاه الله خيراً: مسألة اللفظ في القرآن اضطرب فيها أقوام من أهل الحديث والسنة، قال ابن قتيبة في كتاب (الاختلاف في اللفظ): ثم انتهى بنا القول إلى ذكر غرضنا من هذا الكتاب وغايتنا من اختلاف أهل الحديث في اللفظ بالقرآن وتشانئهم وإكفار بعضهم بعضاً، وليس مما اختلفوا فيه مما يقطع الألفة، ولا مما يوجب الوحشة؛ لأنهم مجموعون على أصل واحد وهو: القرآن كلام الله غير مخلوق.

وقال ابن القيم : وأئمة السنة والحديث يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب، والقرآن عندهم جميعه كلام الله؛ حروفه ومعانيه، وأصوات العباد وحركاتهم وأداؤهم وتلفظهم كل ذلك مخلوق بائن عن الله. إلى أن قال: البخاري أعلم بهذه المسألة، وأولاه بالصواب فيها من جميع من خالفه، وكلامه أوضح وأمتن من كلام أبي عبد الله ، فإن الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفياً وإثباتاً على اللفظ إلى أن قال: والذي قصده أحمد أن اللفظ يراد به أمران:

أحدهما: الملفوظ نفسه، وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له.

الثاني: التلفظ به والأداء له فعل العبد.

فإطلاق الخلق على اللفظ قد يوهم المعنى الأول، وهو خطأ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني، فمنع الإطلاقين، وأبو عبد الله البخاري ميز وفصل، وأشبع الكلام في ذلك، وفرق بين ما قام في الرب وبين ما قام في العبد، وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأكسابهم، ونفى اسم الخلق عن الملفوظ، وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من الله، وسمعه محمد من جبرائيل.

تنبيه: لقد زعم كثير من أهل الأهواء أن الإمام البخاري قال: لفظي بالقرآن مخلوق. ولكن بعد التحقيق تبين أن نسبة هذا القول للإمام البخاري رحمه الله من قبل شهادة الزور عليه، وأنه براء من هذه المقالة، ولقد صرح الإمام البخاري نفسه أن من قال: إني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فقد كذب عليَّ.

قال محمد بن نصر : سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: من زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله. فقلت له: يا أبا عبد الله! قد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه! فقال: ليس إلا ما أقول. وقال أبو عمرو الخفاف : أتيت البخاري فناظرته في الأحاديث حتى طابت نفسه، فقلت: يا أبا عبد الله ! هاهنا أحد يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة. فقال: يا أبا عمرو ! احفظ ما أقول لك: من زعم من أهل نيسابور وقومك والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة.

فالثابت عنه أنه قال: أفعالنا مخلوقة. فيدخل في هذا تلفظ القارئ بالقرآن، وكتابة الكاتب لألفاظ القرآن، وحفظ الحافظ للقرآن، وجهر القارئ بالقرآن، وحسن صوته وتغنيه بالقرآن، فهي أمور مخلوقة؛ لأنها من أفعال العباد، فهذا ما ذهب إليه رحمه الله، وهذا تفصيله في المسألة فتأمل.

ذكرنا أن صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية.

فصفة الوجه في قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27]، وقوله تعالى: إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:20] ونحوه صفة ذات؛ لأن الوجه بعض من الذات.

وصفة السمع والبصر في قوله: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:134]، وقوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ [المجادلة:1]، وقوله: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:218]هاتان صفتان ذاتيتان.

وصفة العلم والقدرة صفات ذاتية أيضاً ولا شك أنه دائماً متصف بالعلم وبالقدرة، وما ذاك إلا أنها صفات كمال، وإذا فقدت حل بدلها نقص، فلذلك نقول: إنها صفات ذاتية.

وكذلك صفة القوة والعزة صفات ذاتية أيضاً، وذلك لأنها ملازمة للموصوف، فهو تعالى قوي، ولا يكون في وقت من الأوقات مخالفاً للقوة، وكذلك عزيز لا تنتفي عنه العزة في وقت من الأوقات.

فلذلك يثبت أهل السنة هذه الصفات ويجعلونها صفات ذاتية، ويوافقهم الأشاعرة على إثبات السمع والبصر والقدرة والإرادة والحياة والعلم والكلام، وذلك لأنهم أثبتوها بالعقل، ولم يستندوا في إثباتها إلى النقل، فلما رأوا أن العقل يثبتها أثبتوها، ولكن ألزموا بالبقية كالقوة والعزة والحكمة، وبإثبات صفات الذات كالوجه واليد وما أشبه ذلك، فيلزمهم إثبات ذلك.

وقد ذكرنا أن الله تعالى وصف نفسه بأنه بصير، كما في قوله: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:134]، والبصر هو إدراك الأشياء.

ويقول العلماء: إن الله تعالى سمى نفسه بصيراً، فيلزم إثبات كمال البصر.

ويقولون أيضاً: إنه سبحانه كما أثبت الاسم-بصيراً- فقد أثبت الفعل، كما في قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، (أسمع وأرى) هذان فعلان، وكذلك في قوله: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ [الشعراء:218] (يراك) فعل مضارع، فيدل على إثبات أن الله تعالى يرى العباد، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية.

وكذلك أيضاً أثبت لنفسه صفة العين في قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، وأثبت الأعين: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود:37] والعين هي آلة البصر، فأثبت لنفسه هذه الصفات -البصر والعين والرؤية- أي أنه يرى، وكل ذلك أدلة واضحة في إثبات هذه الصفات، فيثبتها أهل السنة كما جاءت.

وقد ورد في آية طه: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، فهذا فيه إثبات العين مفرد، ولكن يراد بها الجنس، كما أثبت اليد في قوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]أي: جنس اليد. وورد في آية القمر: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] بلفظ الجمع، والجمع هاهنا مضاف إلى ضمير الجمع (أعيننا)، وقد ذكرنا أن هذا الجمع لأجل التعظيم، فالله تعالى يذكر نفسه بلفظ الجمع، كما في قوله: نَحْنُ قَسَمْنَا [الزخرف:32] والجمع يذكره من يعظم نفسه، قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا [الزخرف:32]، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] بِأَعْيُنِنَا [هود:37]، فقوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود:37]من باب ذكر الجمع لمناسبة ضمير الجمع. فهذا هو دليل إثبات هذه الصفات.

يتكرر إسناد المشيئة إلى الله تعالى في الآيات والأحاديث، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال في الدعاء: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن).

ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29]، وقوله: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر:56]، ولا شك أن الله تعالى قد أعطى العباد مشيئة تناسبهم، ولكن مشيئتهم مرتبطة بمشيئة الله، فلا يشاؤون إلا ما شاءه الله، فهو أولاً أثبت لهم المشيئة: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، ثم ربط مشيئتهم بمشيئته: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29]، ومن هنا نعرف أن مشيئة الله تعالى غالبة لمشيئة العبد، وأن العبد له مشيئة تناسبه. ذلك أن الله أعطاه قوة يزاول بها الأعمال وتنسب إليه، سواءٌ أكانت أعمالاً بدنية، أم قلبية، أم قولية، فإنها تنسب إليه، كما نسب الله تعالى بعض الأقوال إلى أصحابها، فنسب الله إلى فرعون قوله: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، ولو شاء الله تعالى لأخرس لسانه ولم ينطق بهذه الكلمة، وكذلك النمرود الذي قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] لو شاء الله لأعجمه وحال بينه وبين أن ينطق بهذه الكلمة الكفرية، ولكن الله تعالى مكنه منها، فالكلمة تنسب إليه، ويعاقب عليها ويحاسب، وهي داخلة تحت مشيئة الله تعالى، فهو الذي مكنه وأقدره على ذلك، وتنسب الأفعال إلى العباد لأنهم مصدرها.

وكذلك الأعمال الصالحة تنسب إليهم لأنهم الذين باشروها ولو كان وجودها متوقفاً على إرادة الله تعالى وقدرته ومشيئته، يقول الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس:99]،يعني: لو شاء مشيئة قدرية لآمنوا، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً واهتدوا كلهم، ولكن حكمته اقتضت أن يكون منهم بر وفاجر، ومؤمن وكافر، وذلك كله خاضع لإرادة الله تعالى، حيث خلق دارين الجنة والنار، وجعل لكل منهما أهلاً.

ولو أنه أعطى كل نفس هداها وهدى الناس كلهم لما كان هناك فرق بين المؤمن والكافر، ولما كان هناك جنة ونار، لكن جعل من حكمته أنه هذا ميله إلى الكفر، وهذا ميله إلى الإسلام، فمكن لهؤلاء ومكن لهؤلاء، قال تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء:4]، فإذا شاء الله تعالى خضعوا وأقبلوا كلهم وأنابوا إلى ربهم، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكونوا قسمين, وأن يكونوا في الآخرة فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، مع أن الحجة لله عليهم، فإذا قالوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47] فالجواب: إن الله أعطاكم قدرة ومشيئة تناسبكم تقدرون بها على أن تطعموا من تريدون إطعامه.

وإذا قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا [النحل:35] فالجواب أن نقول: مشيئة الله نافذة، ولكنه سبحانه قد مكنكم وأعطاكم هذه المشيئة التي تناسبكم وتستطيعون بها مزاولة الأعمال والبقاء عليها، فأنتم قد مكنكم الله، وأعطاكم السمع والبصر والأفئدة، وفتح لكم أبواب المعرفة، وأقام عليكم الحجة، وأزال عنكم الأعذار، وبين لكم طرق الخير وطرق الشر، وهدى من شاء فضلاً منه، وأضل من شاء عدلاً منه، وجعل هناك وسائل تجذب هؤلاء إلى الخير ووسائل تصد هؤلاء عن الشر، فسلط على الإنسان أعداءه من الشياطين، كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً [مريم:83] هي فتنة وابتلاء من الله، وخص الكفار بالشياطين، قال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ، يعني: الكفار. (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100]ولهذا يعترف الشيطان فيقول: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22].

الأدلة العقلية على وجود مشيئة للعبد

إن الله سبحانه قد أقام الحجج, وقطع الأعذار، وبين الخير والشر، وهدى من هدى فضلاً منه، وأعطى الجميع قدرة تناسبهم ومكنهم، وأعطاهم السمع والبصر والفؤاد والقوة والأيدي والأرجل يعملون ويتمكنون، وهكذا، فأمرهم بأن يعملوا، فمنهم من عمل ومنهم من لم يعمل.

وهذا فيما يتعلق بالأعمال الصالحة وغيرها، وهذا أيضاً يطرد على الأعمال الدنيوية، وذلك لأن الله تعالى أعطى الإنسان القدرة على مزاولة الأعمال والتكسب وتحصيل الأرزاق، فليس قوت الإنسان ينزل عليه من السماء طعاماً ناضجاً، ولكن يؤمر بأن يتكسب ويتسبب ويحترف ويحرث ويستعمل ما أعطاه الله من القوة، فهو بهذا يستطيع مزاولة الأعمال الدنيوية، وهذه القدرة التي مكنه الله تعالى منها هي خاضعة لقدرة الله، ولو شاء لشل حركته كما يفعل بالمعوقين، أو لأقعده فلم يستطع القيام، ولشل يديه فلم يستطع العمل، ولأخرس لسانه فلا يستطيع النطق، ولأعمى بصره وأصم سمعه فلم يستطع السمع والبصر، كما فعل ذلك بمن شاء من خلقه، ولكن أعطاه هذه الأمور حتى يعمل لدنياه ولآخرته.

ومن طبع الإنسان أنه ينبعث لطلب المكاسب والرزق، كما أن من طبع الحيوان والبهائم أنها تنتشر في الأرض وتطلب الرزق، ولا تجلس في أوكارها ولا بيوتها، والطيور أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تتقلب: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، والبهائم إذا أطلقت فإنها تنتشر في الأرض وترعى بأفواهها، والإنسان كذلك ينتشر في الأرض ويطلب الرزق فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15] يمشي في مناكبها فيحرث إذا كان يستطيع، ويحفر إذا كان يحفر، ويتكسب بأنواع المكاسب، ويتعاطى حرفة وصناعة أو ما أشبه ذلك ليحصل منها على قوته الذي يقتات به، فكما أنه لا يجلس في منزله ويطلب الرزق أن ينزل عليه من السماء نقول له: فكذلك الآخرة اعمل لها كما تعمل للدنيا، ولا تعتمد على القضاء والقدر وتقول: ما هداني الله، ولو هداني الله لفعلت كذا وكذا. وقد عاب الله تعالى على الذين يقولون هذا، كما في قوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [الزمر:56-57] كأنهم يحتجون بالقدر، وأن الله ما هداهم، فإذا رأيت الذين يقولون هذا فقل: إن الله أعطاك ما تقدر به.

وكثيراً ما ننصح بعض الجهلة ونقول لهم: استقيموا على طاعة الله، وأقيموا عبادة الله، وأنقذوا أنفسكم من عذاب الله فيحتجون بالقدر، ويقول أحدهم: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]، وما علم أن الله تعالى قد أعطاه أسباب الهداية، كما في قول الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8].

والكلام على هذه المسألة -مسألة الاحتجاج بالقدر- طويل فكثيراً ما نلقى منهم عنتاً وتعنتاً وصعوبة رد، حيث إن هؤلاء العصاة يتمادون في معصيتهم ولا يرجعون إلى رشدهم ولا إلى الحق، فيقال لهم: أربعوا على أنفسكم، فأنتم الآن لا توافقون على الاعتداء عليكم، فكيف نجمع بين هذين النقيضين؟ ولعله يأتينا زيادة بحث في هذا.

إن الله سبحانه قد أقام الحجج, وقطع الأعذار، وبين الخير والشر، وهدى من هدى فضلاً منه، وأعطى الجميع قدرة تناسبهم ومكنهم، وأعطاهم السمع والبصر والفؤاد والقوة والأيدي والأرجل يعملون ويتمكنون، وهكذا، فأمرهم بأن يعملوا، فمنهم من عمل ومنهم من لم يعمل.

وهذا فيما يتعلق بالأعمال الصالحة وغيرها، وهذا أيضاً يطرد على الأعمال الدنيوية، وذلك لأن الله تعالى أعطى الإنسان القدرة على مزاولة الأعمال والتكسب وتحصيل الأرزاق، فليس قوت الإنسان ينزل عليه من السماء طعاماً ناضجاً، ولكن يؤمر بأن يتكسب ويتسبب ويحترف ويحرث ويستعمل ما أعطاه الله من القوة، فهو بهذا يستطيع مزاولة الأعمال الدنيوية، وهذه القدرة التي مكنه الله تعالى منها هي خاضعة لقدرة الله، ولو شاء لشل حركته كما يفعل بالمعوقين، أو لأقعده فلم يستطع القيام، ولشل يديه فلم يستطع العمل، ولأخرس لسانه فلا يستطيع النطق، ولأعمى بصره وأصم سمعه فلم يستطع السمع والبصر، كما فعل ذلك بمن شاء من خلقه، ولكن أعطاه هذه الأمور حتى يعمل لدنياه ولآخرته.

ومن طبع الإنسان أنه ينبعث لطلب المكاسب والرزق، كما أن من طبع الحيوان والبهائم أنها تنتشر في الأرض وتطلب الرزق، ولا تجلس في أوكارها ولا بيوتها، والطيور أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تتقلب: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، والبهائم إذا أطلقت فإنها تنتشر في الأرض وترعى بأفواهها، والإنسان كذلك ينتشر في الأرض ويطلب الرزق فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15] يمشي في مناكبها فيحرث إذا كان يستطيع، ويحفر إذا كان يحفر، ويتكسب بأنواع المكاسب، ويتعاطى حرفة وصناعة أو ما أشبه ذلك ليحصل منها على قوته الذي يقتات به، فكما أنه لا يجلس في منزله ويطلب الرزق أن ينزل عليه من السماء نقول له: فكذلك الآخرة اعمل لها كما تعمل للدنيا، ولا تعتمد على القضاء والقدر وتقول: ما هداني الله، ولو هداني الله لفعلت كذا وكذا. وقد عاب الله تعالى على الذين يقولون هذا، كما في قوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [الزمر:56-57] كأنهم يحتجون بالقدر، وأن الله ما هداهم، فإذا رأيت الذين يقولون هذا فقل: إن الله أعطاك ما تقدر به.

وكثيراً ما ننصح بعض الجهلة ونقول لهم: استقيموا على طاعة الله، وأقيموا عبادة الله، وأنقذوا أنفسكم من عذاب الله فيحتجون بالقدر، ويقول أحدهم: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]، وما علم أن الله تعالى قد أعطاه أسباب الهداية، كما في قول الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8].

والكلام على هذه المسألة -مسألة الاحتجاج بالقدر- طويل فكثيراً ما نلقى منهم عنتاً وتعنتاً وصعوبة رد، حيث إن هؤلاء العصاة يتمادون في معصيتهم ولا يرجعون إلى رشدهم ولا إلى الحق، فيقال لهم: أربعوا على أنفسكم، فأنتم الآن لا توافقون على الاعتداء عليكم، فكيف نجمع بين هذين النقيضين؟ ولعله يأتينا زيادة بحث في هذا.

قال المصنف رحمه الله: [ويقولون: لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله، ولا أن يغلب فعله وإرادته مشيئة الله، ولا أن يبدل علم الله، فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو، والقادر لا يغلب].

لا سبيل لأحد أن يخرج عن الملة، فالله تعالى عالم بنا وبأحوالنا، قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، فإذا كان يعلم وساوس النفس وخطرات القلب فإنه لا تخفى عليه أعمال العباد كلهم، يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر وما يخفى، ويعلم ما كان وما لم يكن وما سوف يكون، فلا يخرج عن علم الله تعالى شيء.

وكذلك أيضاً أفعال العباد وقدرتهم لا تخرج عن مشيئة الله، ولا قدرة لهم على أن يخالفوا مشيئة الله تعالى، فمشيئة الله غالبة، ولهذا قال: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر:56] وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] في موضعين، وكثيراً ما يذكر أن مشيئة الله تعالى غالبة على كل شيء، ولكن المشيئة والقدرة التي منحها العباد تناسبهم، إذا ليس لأحد أن يبدل علم الله تعالى.

فالله تعالى هو العالم، فمتى علم في هذا الإنسان شيئاً فلابد أن يحصل ما علمه الله فيه، سواءٌ أكان قريباً أم بعيداً، فإذا علم الله تعالى في هذا الإنسان أنه يموت سعيداً فلو حاول الناس كلهم أن يردوه عن السعاة لم يستطيعوا، ولو شقي وعصى في وقت من الأوقات لرد الله له رشده إلى أن يموت وهو على السعادة، وكذلك العكس، فإذا علم الله شقاوة عبد وحاول الناس كلهم أن يهدوه لم يستطيعوا، ولو اهتدى في زمان من الأزمنة فإن الله تعالى إذا قدر أنه يموت على الشقاوة لابد وأن يموت عليها مهما كانت الحال.

يقول المؤلف: [ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنه كيفما تصرف بقراءة القراء له وبلفظه فإنه كلام الله، وأنه محفوظ في الصدور، متلو بالألسن، مكتوب في المصاحف غير مخلوق، ومن قال بخلق اللفظ في القرآن يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن].

مسألة خلق القرآن من أقدم المسائل خلافاً بين أهل السنة وبين المعتزلة، وما ذاك إلا أن المعتزلة أنكروا صفة الكلام، وينكرون أن يكون الله تعالى متكلماً، ويرمون من أثبت الكلام بأنه مشبه وممثل، وذلك لأنهم يعتقدون أن الكلام لا يخرج إلا من بين الشفتين، ومن اللسان واللهوات والحنجرة التي تدفعه بالنفس وبالهواء، وأن هذه إنما هي في المخلوق، فإذا قلنا: إن الله متكلم فلابد أن يكون كلام الله مثلما نعقله، أي أنه يخرج من هذه المخارج التي يخرج منها كلام البشر، فيكون ذلك تشبيهاً، هذا هو الذي دفعهم إلى إنكار صفة الكلام، فأنكروا ما أخبر الله تعالى به من أنه كلم موسى عليه الصلاة والسلام.

الأدلة من القرآن الكريم

الآيات الواردة في إثبات صفة الكلام مثل قوله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وما أشبه ذلك، فكثيراً ما يذكر الله تعالى أنه كلم موسى، قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253] يعني: موسى، وقال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]، ولاشك أن هذا كلام صريح على أنه كلم موسى.

ذكروا أن بعض المعتزلة جاء إلى أبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة- وطلب منه أن يقرأ هذه الآية بنصب الاسم الشريف، فقال اقرأها: (وكلم الله موسى تكليماً) وقصده بذلك أن يكون موسى هو الذي كلم الله، وأن لا يكون الله مكلماً له، ولكن أبا عمرو بن العلاء كان ذا فطنة وفهم، فقال: هب أني قرأت هذه الآية كذلك، كيف تصنع بقول الله تعالى في سورة الأعراف: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟ فبهت ذلك المعتزلي، وعرف أن هذه الآية لا حيلة له في تحريفها.

ثم ذكر شيخ الإسلام أن المعتزلة حرفوا قوله: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] وقالوا: التكليم: هو التجريح، فـ(كلمه) أي: جرحه بأظافر الحكمة، ويريدون بذلك نفي أنه كلمه بكلام سمعه.

والتكليم الأصل أنه المخاطبة، والعرب إذا أرادوا التجريح فلابد أن يكون هناك قرينة تدل عليه، وليس في القرآن هذه اللفظة وإن كانت في اللغة، وفي الحديث: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون دم والريح ريح المسك)، ولكن بعيد أن يفسر التكليم بأنه التجريح، وذلك لأن المتبادر أنه الكلام.

ثم إن تفسيرهم للتكليم بأنه التجريح يرده التصريح بالكلام، قال الله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] فصرح بالكلام، ولم يقل: بتجريحي. فلا حيلة لهم في أن يردوا هذه اللفظة.

كذلك آيات النداء: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [الشعراء:10]، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات:16]، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ [مريم:52] ولاشك أن النداء لا يكون إلا بكلام مسموع، فهو يرد تأويلهم التكليم بأنه التجريح، والنداء صوت يسمع ويظهر.

كذلك أيضاً الكلام الذي حكاه الله تعالى عن نفسه لموسى وخاطبه به كلام صريح في قوله تعالى: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات:16](اذْهَبْ) هذا هو الكلام الذي ناداه به: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات:17]، كذلك أيضاً قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]هذا أيضاً كلام صريح، وهكذا قوله تعالى: إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ... [طه:10-13]إلى آخر الكلام، هذا هو الذي سمعه من ربه، أنه ناداه بهذا الكلام: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ، وكذلك قوله تعالى لما ذكر أنه نودي في الوداي المقدس من الشجرة أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ [القصص:30-31] لاشك أن هذا هو الكلام.

فهل يقال: إن هذا تجريح؟ لاشك أن المعتزلة في تأولهم وفي تكلفهم قد وقعوا في تحريفهم للكلم عن مواضعه، وأشبهوا في ذلك اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.

وأول من أظهر ذلك القول هو الجهم بن صفوان ، وكان قد أخذه عن شيمته الجعد بن درهم الذي لما قرأ في القرآن أن الله كلم موسى أنكر ذلك وقال: ما كلم الله موسى، وما اتخذ الله اتخذ إبراهيم خليلاً -والخليل هو الحبيب- أنكر ذلك وقال: لم يكن الله ليحب أحداً، ولا ليتخذ أحداً خليلاً. فاشتهرت هذه المقالة عنه فقتل في القصة المشهورة التي ذكرها البخاري بسنده في خلق أفعال العباد، وهي أنه أوثقه أمير الكوفة- خالد القسري، ثم خطب الناس في يوم العيد، ولما انتهى من خطبته قال لهم: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم ؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولا كلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فقتله، فجعله بمنزلة الأضحية التي تذبح في يوم العيد، وكان أضحيته، أي: تقرب بها إلى الله تعالى.

وذكر ذلك ابن القيم في أول النونية في قوله:

ولأجل ذا ضحـى بـجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان

إذا قال إبراهيم ليس خليـلـه كلا ولا موسى الكليم الداني

شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان

فذكر السبب أنه قال: ليس إبراهيم خليل الرحمن، وليس موسى كليم الرحمن، ولم يكلم الله أحداً من خلقه.

الأدلة من السنة النبوية

الأدلة من السنة واضحة أيضاً، منها قوله صلى الله عليه وسلم : (إذا كان يوم القيامة نادى الله تعالى آدم، فينادي بصوت: يا آدم! إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان) يكلمه ربه بدون مترجم، يسمع كلام الله ويكلمه، ولاشك أن هذه أدلة واضحة.

كذلك أيضاً من القرآن يذكر الله تعالى كلماته، كما في قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ [هود:119]، وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115] (تمت) أي: أنها وصفت بالتمام وبالكمال، وكذلك قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف:109]، وكذلك قوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27] تكلم العلماء على مثل هذه الآيات وقالوا: كيف ينفد كلام الله؟ ليس لكلماته نهاية وليس لها بداية، والمخلوق له بداية ونهاية، وذلك لأن الله تعالى أخبر بأنه لو أن بحار الدنيا صارت مداداً -يعني: حبراً- وأن أشجار الدنيا من أولها إلى آخرها صارت أقلاماً، فكتب بتلك الأقلام وكتب بذلك المداد، وجعل مع البحار مثلها سبع مرات لنفد البحر وكتب به حتى ينفد. مع غزارة البحر، ولتكسرت الأقلام دون أن ينفد كلام الله.

فهذه أدلة واضحة في إثبات صفة الكلام لله تعالى.

الآيات الواردة في إثبات صفة الكلام مثل قوله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وما أشبه ذلك، فكثيراً ما يذكر الله تعالى أنه كلم موسى، قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253] يعني: موسى، وقال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]، ولاشك أن هذا كلام صريح على أنه كلم موسى.

ذكروا أن بعض المعتزلة جاء إلى أبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة- وطلب منه أن يقرأ هذه الآية بنصب الاسم الشريف، فقال اقرأها: (وكلم الله موسى تكليماً) وقصده بذلك أن يكون موسى هو الذي كلم الله، وأن لا يكون الله مكلماً له، ولكن أبا عمرو بن العلاء كان ذا فطنة وفهم، فقال: هب أني قرأت هذه الآية كذلك، كيف تصنع بقول الله تعالى في سورة الأعراف: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟ فبهت ذلك المعتزلي، وعرف أن هذه الآية لا حيلة له في تحريفها.

ثم ذكر شيخ الإسلام أن المعتزلة حرفوا قوله: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] وقالوا: التكليم: هو التجريح، فـ(كلمه) أي: جرحه بأظافر الحكمة، ويريدون بذلك نفي أنه كلمه بكلام سمعه.

والتكليم الأصل أنه المخاطبة، والعرب إذا أرادوا التجريح فلابد أن يكون هناك قرينة تدل عليه، وليس في القرآن هذه اللفظة وإن كانت في اللغة، وفي الحديث: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون دم والريح ريح المسك)، ولكن بعيد أن يفسر التكليم بأنه التجريح، وذلك لأن المتبادر أنه الكلام.

ثم إن تفسيرهم للتكليم بأنه التجريح يرده التصريح بالكلام، قال الله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] فصرح بالكلام، ولم يقل: بتجريحي. فلا حيلة لهم في أن يردوا هذه اللفظة.

كذلك آيات النداء: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [الشعراء:10]، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات:16]، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ [مريم:52] ولاشك أن النداء لا يكون إلا بكلام مسموع، فهو يرد تأويلهم التكليم بأنه التجريح، والنداء صوت يسمع ويظهر.

كذلك أيضاً الكلام الذي حكاه الله تعالى عن نفسه لموسى وخاطبه به كلام صريح في قوله تعالى: إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات:16](اذْهَبْ) هذا هو الكلام الذي ناداه به: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات:17]، كذلك أيضاً قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]هذا أيضاً كلام صريح، وهكذا قوله تعالى: إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ... [طه:10-13]إلى آخر الكلام، هذا هو الذي سمعه من ربه، أنه ناداه بهذا الكلام: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ، وكذلك قوله تعالى لما ذكر أنه نودي في الوداي المقدس من الشجرة أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ [القصص:30-31] لاشك أن هذا هو الكلام.

فهل يقال: إن هذا تجريح؟ لاشك أن المعتزلة في تأولهم وفي تكلفهم قد وقعوا في تحريفهم للكلم عن مواضعه، وأشبهوا في ذلك اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.

وأول من أظهر ذلك القول هو الجهم بن صفوان ، وكان قد أخذه عن شيمته الجعد بن درهم الذي لما قرأ في القرآن أن الله كلم موسى أنكر ذلك وقال: ما كلم الله موسى، وما اتخذ الله اتخذ إبراهيم خليلاً -والخليل هو الحبيب- أنكر ذلك وقال: لم يكن الله ليحب أحداً، ولا ليتخذ أحداً خليلاً. فاشتهرت هذه المقالة عنه فقتل في القصة المشهورة التي ذكرها البخاري بسنده في خلق أفعال العباد، وهي أنه أوثقه أمير الكوفة- خالد القسري، ثم خطب الناس في يوم العيد، ولما انتهى من خطبته قال لهم: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم ؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولا كلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فقتله، فجعله بمنزلة الأضحية التي تذبح في يوم العيد، وكان أضحيته، أي: تقرب بها إلى الله تعالى.

وذكر ذلك ابن القيم في أول النونية في قوله:

ولأجل ذا ضحـى بـجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان

إذا قال إبراهيم ليس خليـلـه كلا ولا موسى الكليم الداني

شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان

فذكر السبب أنه قال: ليس إبراهيم خليل الرحمن، وليس موسى كليم الرحمن، ولم يكلم الله أحداً من خلقه.

الأدلة من السنة واضحة أيضاً، منها قوله صلى الله عليه وسلم : (إذا كان يوم القيامة نادى الله تعالى آدم، فينادي بصوت: يا آدم! إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان) يكلمه ربه بدون مترجم، يسمع كلام الله ويكلمه، ولاشك أن هذه أدلة واضحة.

كذلك أيضاً من القرآن يذكر الله تعالى كلماته، كما في قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ [هود:119]، وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115] (تمت) أي: أنها وصفت بالتمام وبالكمال، وكذلك قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف:109]، وكذلك قوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27] تكلم العلماء على مثل هذه الآيات وقالوا: كيف ينفد كلام الله؟ ليس لكلماته نهاية وليس لها بداية، والمخلوق له بداية ونهاية، وذلك لأن الله تعالى أخبر بأنه لو أن بحار الدنيا صارت مداداً -يعني: حبراً- وأن أشجار الدنيا من أولها إلى آخرها صارت أقلاماً، فكتب بتلك الأقلام وكتب بذلك المداد، وجعل مع البحار مثلها سبع مرات لنفد البحر وكتب به حتى ينفد. مع غزارة البحر، ولتكسرت الأقلام دون أن ينفد كلام الله.

فهذه أدلة واضحة في إثبات صفة الكلام لله تعالى.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح اعتقاد أهل السنة [8] 2695 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [5] 2358 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [13] 2328 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [7] 2147 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [3] 1851 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [12] 1773 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [17] 1694 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [10] 1675 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [4] 1645 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [2] 1622 استماع