شرح اعتقاد أهل السنة [12]


الحلقة مفرغة

سبب ذكر خلافة الخلفاء الراشدين في العقائد

سبب ذكر الخلافة الراشدة في العقيدة مع أنها واقع تاريخي أن الخلاف فيها وقع مع الرافضة الذين ينكرون خلافتهم، بل في الطعن فيهم، أي: في ثلاثة منهم. بل تعدى ذلك إلى تكفيرهم وشتمهم وعيبهم وسبهم من قبل هؤلاء الرافضة، وكان سبب ذلك أن علياً رضي الله عنه لما كان في العراق كان حسن السيرة محبوباً عند أهل البلد بحسن سيرته وبما له من الآثار، حتى حمل ذلك كثيراً منهم على الغلو فيه إلى أن ادعوا أنه إله، كما فعل الذين أحرقهم حينما سجدوا له.

ثم زادت محبتهم له لما كان في خلافة بني أمية بعض الأمراء الذين يسبونه ويتبرؤون منه، وذلك في إمارة الحجاج الذي تولى العراق نحو عشرين سنة أو أكثر، وكان مبتلى بالبغض لـعلي رضي الله عنه، فكان في المنبر يعلن سبه أمام الناس، ولا شك أن هذا مما يحزن أولئك المتشيعين له، فكلما سمعوه يشتمه أمام الناس على المنبر فلابد أن يحز في نفوسهم ويقلقهم ويفزعهم ذلك؛ لأنهم يحبونه، فلابد أنهم كانوا يجلسون مجالس خاصة ويتبادلون فيها سيرة علي ويتحدثون فيها عن فضائله، ولابد أنه يدخل بينهم من يريد الغلو فيه حتى يطمئنهم إلى محبته، ويبين لهم خطأ هذا الأمير الذي يسبه ويشتمه.

فكان ولابد من وقوع الكذب في فضائله، فكان أولئك المتشيعون له يكذبون ويبالغون في الكذب، ويصفونه بصفات أرفع من صفات الخلفاء كلهم، بل قد تصل إلى صفات الأنبياء، بل قد تصل إلى صفات الرب تعالى، يصفونه بأنه يفعل كذا ويعلم كذا ويتصرف في كذا، وأنه الذي له الولاية وله وله، فإذا سمع هذه الأكاذيب تلامذتهم وصغارهم فلابد أن يستنكروا أو يستغربوا أمرهم ويقولوا لهم: كيف حاز هذه الفضائل؟ وكيف وصل إلى هذه الرتبة؟ وكيف صار أهلاً لهذه الصفات والسمات العالية الرفيعة ومع ذلك تقدم عليه بالخلافة فلان وفلان، أليس هذا تنقصاً له؟ أليس هذا افتراء عليه؟ فلو كان -كما تقولون- بهذه الصفات وهذه الخلال الرفيعة لما كان أحد يتقدمه.

فكان هذا مما أحقدهم على الخلفاء الراشدين، فقالوا: لابد أن نسكت جهالنا، ونعتذر لهم فندعي بأن الخلفاء الثلاثة مغتصبون كذبة لا حق لهم في هذه الخلافة، وأنهم احتقروا علياً واغتصبوه حقه الذي هو الولاية الحقة، وأنه هو الوصي والولي والإمام والمقدم، ولكنهم احتقروه واستصغروه، فولوا عليه فلاناً ثم من بعده فلاناً. فلم يجدوا بداً من أن يصفوهم بأنهم مغتصبون، ثم لم يجدوا بداً لتسكيت سفهائهم من أن يطعنوا في أشخاص الخلفاء وخلافتهم وأهليتهم ويدعوا أنهم مرتدون ومغتصبون وكذبة، وأن الصحابة الذين ولوهم وصبروا على ولايتهم خونة وكذبة؛ حيث خانوا الوصية التي أوصاهم بها النبي صلى الله عليه وسلم بأن يولوا علياً .

إذاً فجميع الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثم عمر ثم عثمان عند الرافضة خونة، هذه هي فكرتهم.

فلما كان كذلك اهتم الأئمة رحمهم الله تعالى بذكر فضائل الخلفاء، وبذكر خلافتهم على أنها من جملة العقيدة، وإلا فالمبتدئ يستغرب أن يذكر أمر الخلافة مع العقيدة؛ لأن العقيدة إيمان بالغيب والخلافة أمر مشاهد ظاهر.

وكان أول ما مر بي وأنا مبتدئ الأبيات التي قرأتها في عقيدة أبي الخطاب الكلوذاني لما ذكر عقيدته التي مبدأها قوله:

دع عنك تذكار الخليط المنجد والشوق نحو الراميات الآنسات الخرد

والنوح في أطلال سعدى إنما تذكار سعدى شغل من لم يسعد

ثم ذكر الخلافة في آخرها بقوله:

قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد

حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد ياله من مسعد

خير الصحابة والقرابة كلهم ذاك المؤيد قبل كل مؤيد

قالوا فمن صديق أحمد قلت من تصديقه بين الورى لم يجحد

قالوا: فمن تالي أبي بكر الرضا قلت الإمارة في الإمام الأزهد

فاروق أحمد والمهذب بعده نصر الشريعة باللسان وباليد

قالوا فثالثهم فقلت مسارعاً من بايع المختار عنه باليد

صهر النبي على ابنتيه ومن حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد

أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي في الناس ذا النورين صهر محمد

إلى آخرها، فاستغربت؛ لأن أمر العقيدة إيمان بالغيب والخلافة تاريخ وحكاية شيء واقع، ولكن لما قرأت بعد ذلك وجدت أن سبب ذكر هذه الخلافة هو طعن الرافضة في هؤلاء الخلفاء الثلاثة وإنكارهم لخلافتهم.

إثبات صحة خلافة أبي بكر رضي الله عنه

لا شك أن الذي يقرأ التاريخ الواقعي يعلم أولاً أهلية هؤلاء الخلفاء لكونهم خلفاء حقاً، وصحة خلافتهم، ورضى الأمة بهم، وكذلك أيضاً ما حصل بخلافتهم من النصر والتمكين، وإظهار الحق، والسيرة الحسنة، والاقتفاء لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، لاشك أن هذا أمر واقعي يشهد به التاريخ.

فمعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه له مزايا وفضائل، فهو أول من أسلم من الرجال، وبإسلامه ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقوله، وبه أيضاً فتح الله على قلوب كثير من الصحابة، فهو الذي دعى عثمان فأسلم، ودعى سعداً وطلحة وابن عوف فأسلموا، أي: أكثر الصحابة -سيما من العشرة- أسلموا بدعوته رضي الله عنه، وذلك لأنه كان شريفاً في قومه، وكان له مكانته، وكان أيضاً يكرم الضيف، ويكسب المعدوم، ويرفع الكل والثقل ويحمله، ويعين على نوائب الحق، فهو جواد ذو مكانة في قومه، فلما أسلم كان هذا مما دفع كثيراً من الصحابة إلى الإسلام.

ومعلوم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه خليلاً وصديقاً وفضله على غيره، وقال في آخر حياته: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، ثم معلوم أيضاً أنه لما مرض المرض الذي مات فيه استخلف أبا بكر يصلي بالناس، فصلى بهم تلك الأيام.

هذا هو الذي يشهد به الواقع الحقيقي، حتى إن بعض أمهات المؤمنين وهماعائشة وحفصة رضي الله عنهما قالت له: (لو أمرت عمر أن يصلي بالناس؟ فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف)، فأكد أن أبا بكر هو الذي يصلي بالناس، ولما مرض النبي صلى الله عليه وسلم دعا بكتاب يكتبه حتى لا يضل الناس بعده، ولما كثرت عنده الأصوات والكلام قال عند ذلك: (قوموا عني)، ثم قال في رواية: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر).

ولما توفي صلى الله عليه وسلم اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وخطبهم عمر ، وخطبهم أبو بكر واتفقوا على أن يبايعوا أبا بكر ، وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، إذا كان رضيه إماماً لنا يتقدم بنا في الصلاة فإن ذلك دليل على أفضليته، فنختاره أميراً لنا يتصرف فينا ويدبر شئون الأمة. فولوه ورضوا به، ونعم الخليفة كان، لقد ثبت ثبوت الجبال الراسية، ولما استخلف ارتد من حولهم من الأعراب وما بقي إلا أهل المدينة ومكة، أما الأعراب الذين حولهم فارتدوا، ولكن ماذا حصل؟

ثبت رضي الله عنه، ثم جهز جيش أسامة الذي كان عليه الصلاة والسلام قد عزم على بعثه، فقالوا له: كيف تجهزه والناس مرتدون؟ فقال: لو جرت السباع بأرجل أمهات المؤمنين لم أترك جيشاً أمر بإنفاذه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب ذلك الجيش يشق تلك الفيافي ويمر على أولئك الأعراب، وكلما مر على قوم قالوا: هذا دليل على عزتهم وقوتهم، لو كان فيهم ضعف ما أرسلوا هذا الجيش في هذا الوقت الحرج. فغزوا وأغاروا على بلاد الروم وما حولها، ثم رجعوا سالمين غانمين.

وبعد ذلك أغار على المدينة بعض الأعراب يريدون أن يستحلوا المدينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه حازماً، فجمع أهل المدينة وقابلوا أولئك الأعراب وهزموهم شر هزيمة وانقلبوا خاسئين، وبعد ذلك رجع من كان أسلم، ثم عند ذلك جهز سبعة عشر جيشاً لغزوا أولئك المرتدين، فلما أن جهز هذه الجيوش علم الناس أنه ذو قوة، فعاد الذين كانوا قد ارتدوا ودخلوا في الإسلام. وكل ذلك بفكرته رضي الله عنه. وبسيرته الحسنة.

ثم إنه لم تطل به المدة، إنما استقام في الخلافة سنتين وأشهراً، وحسده بعض الحسدة وسقوه سماً، وقالوا: إنه مات مسموماً. والله أعلم بذلك، وبكل حال فهو الخليفة الراشد رضي الله عنه، ولما علم بأنه سوف يموت رأى أن عمر رضي الله عنه أولى بالخلافة، وذلك لأنه رأى فيه الحزم والعزم والقوة والجد والنشاط في الأمر، فولاه الخلافة بعده.

إثبات صحة خلافة عمر رضي الله عنه

تولى عمر رضي الله عنه الخلافة، وكان قد سمي قديماً: الفاروق ، أي: الذي فرق الله بإسلامه بين الحق والباطل. فنعم ما صار، ولما تولى الخلافة بحزم عند ذلك ضبط الخلافة وضبط البلاد ووالى الجيوش التي يرسلها لغزو الكفار، وفتحت في عهده جميع بلاد الشام ومصر والعراق، وأكثر بلاد إيران، وكثير من بلاد أفريقيا، والكثير من بلاد الهند والسند أو ما حولها، كل ذلك بحزمه رضي الله عنه، وقتل في زمانه خليفة الفرس الذي يقال له: يزدجرد، كل ذلك في ظرف هذه المدة القصيرة التي هي مدة ثلاث عشرة سنة.

ثم تسلط عليه أبو لؤلؤة فقتله وهو في المحراب، فجعل رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة من الصحابة، ولم يجعل منهم سعيد بن زيد لكونه ابن عمه.

خلافة عثمان رضي الله عنه

اتفق الستة على أن يقدموا عثمان، وذلك لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونه قد تزوج اثنتين من بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونه أيضاً ذا حزم وعزم وقوة فاتفقوا على خلافته.

وتمت له الخلافة، ووالى أيضاً الجيوش، وفتحت في عهده كثير من بلاد الترك والروم وما وراء النهر وما أشبه ذلك، وتسلط عليه بعض الثوار والأعراب في آخر خلافته وقتل رضي الله عنه.

خلافة علي وولده الحسن رضي الله عنهما

بعدما قتل عثمان رأى الصحابة الذين في المدينة أنه ليس أحق بالخلافة من علي بن أبي طالب فبايعوه، ولكن تفرقت عليه الأمة، فثار بعض الصحابة متوجهين نحو العراق لقتال قتلة عثمان ، وحصلت الوقعة المشهورة في العراق المسماة بوقعة الجمل، ثم بعدما انفصلت الحرب وتمت الولاية لـعلي رضي الله عنه على العراق حصلت وقعة أخرى تسمى وقعة صفين بين أهل الشام وبين أهل العراق، وقتل فيها أيضاً خلق كثير، حيث إن أهل العراق جاؤوا مع علي لطلب جمع الكلمة ولطلب المبايعة لأمير المؤمنين، وأهل الشام جاؤوا مع معاوية مطالبين بدم عثمان ، وبأخذ الثأر ممن قتله، فـعلي يقول لهم: بايعوني حتى تتم وتجتمع الكلمة ثم بعد ذلك نقاتلهم، ومعاوية يقول: لا نبايعك حتى تسلم إلينا قتلة عثمان وبكل حال حصل ما حصل من الفتن، ثم لم تزل الخلافات في جيش علي إلى أن قتله الخوارج في سنة (40هـ).

وبعد أن قتل تولى ولده الحسن نصف سنة، ثم تنازل عن الخلافة لـمعاوية في سنة إحدى وأربعين من الهجرة، واجتمعت الخلافة لـمعاوية، وسمي ذلك العام عام الجماعة، واستمرت الخلافة في بني أمية في معاوية وابنه، ثم في بني مروان إلى أن انتهت دولتهم في سنة اثنين وثلاثين وما تولى الخلافة بنو العباس، وكل ذلك مذكور في السير وفي كتب التاريخ.

قال المؤلف رحمه الله: [نعتقد خلافة الخلفاء الراشدين وأن خلافتهم حق، دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)].

هذا هو الحديث المشهور عن العرباض في السنن، وكذلك قوله في حديث رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً)، وهذه الخلافة التي أخبر بأنها ثلاثون هي مدة خلافة الخلفاء الراشدين الذين آخرهم الحسن بن علي رضي الله عنه، ثم بعد ذلك صارت ملكاً، ومعاوية أول الملوك وهو أحسن وأفضل الملوك الذين هم ملوك الإسلام، وله سيرة حسنة، فيقول الكلوذاني في آخر عقيدته:

ولابن هند في القلوب مودة ومحبة فليرغمن المعتدي

ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ وحي المنزل ذو التقى والسؤدد

سبب ذكر الخلافة الراشدة في العقيدة مع أنها واقع تاريخي أن الخلاف فيها وقع مع الرافضة الذين ينكرون خلافتهم، بل في الطعن فيهم، أي: في ثلاثة منهم. بل تعدى ذلك إلى تكفيرهم وشتمهم وعيبهم وسبهم من قبل هؤلاء الرافضة، وكان سبب ذلك أن علياً رضي الله عنه لما كان في العراق كان حسن السيرة محبوباً عند أهل البلد بحسن سيرته وبما له من الآثار، حتى حمل ذلك كثيراً منهم على الغلو فيه إلى أن ادعوا أنه إله، كما فعل الذين أحرقهم حينما سجدوا له.

ثم زادت محبتهم له لما كان في خلافة بني أمية بعض الأمراء الذين يسبونه ويتبرؤون منه، وذلك في إمارة الحجاج الذي تولى العراق نحو عشرين سنة أو أكثر، وكان مبتلى بالبغض لـعلي رضي الله عنه، فكان في المنبر يعلن سبه أمام الناس، ولا شك أن هذا مما يحزن أولئك المتشيعين له، فكلما سمعوه يشتمه أمام الناس على المنبر فلابد أن يحز في نفوسهم ويقلقهم ويفزعهم ذلك؛ لأنهم يحبونه، فلابد أنهم كانوا يجلسون مجالس خاصة ويتبادلون فيها سيرة علي ويتحدثون فيها عن فضائله، ولابد أنه يدخل بينهم من يريد الغلو فيه حتى يطمئنهم إلى محبته، ويبين لهم خطأ هذا الأمير الذي يسبه ويشتمه.

فكان ولابد من وقوع الكذب في فضائله، فكان أولئك المتشيعون له يكذبون ويبالغون في الكذب، ويصفونه بصفات أرفع من صفات الخلفاء كلهم، بل قد تصل إلى صفات الأنبياء، بل قد تصل إلى صفات الرب تعالى، يصفونه بأنه يفعل كذا ويعلم كذا ويتصرف في كذا، وأنه الذي له الولاية وله وله، فإذا سمع هذه الأكاذيب تلامذتهم وصغارهم فلابد أن يستنكروا أو يستغربوا أمرهم ويقولوا لهم: كيف حاز هذه الفضائل؟ وكيف وصل إلى هذه الرتبة؟ وكيف صار أهلاً لهذه الصفات والسمات العالية الرفيعة ومع ذلك تقدم عليه بالخلافة فلان وفلان، أليس هذا تنقصاً له؟ أليس هذا افتراء عليه؟ فلو كان -كما تقولون- بهذه الصفات وهذه الخلال الرفيعة لما كان أحد يتقدمه.

فكان هذا مما أحقدهم على الخلفاء الراشدين، فقالوا: لابد أن نسكت جهالنا، ونعتذر لهم فندعي بأن الخلفاء الثلاثة مغتصبون كذبة لا حق لهم في هذه الخلافة، وأنهم احتقروا علياً واغتصبوه حقه الذي هو الولاية الحقة، وأنه هو الوصي والولي والإمام والمقدم، ولكنهم احتقروه واستصغروه، فولوا عليه فلاناً ثم من بعده فلاناً. فلم يجدوا بداً من أن يصفوهم بأنهم مغتصبون، ثم لم يجدوا بداً لتسكيت سفهائهم من أن يطعنوا في أشخاص الخلفاء وخلافتهم وأهليتهم ويدعوا أنهم مرتدون ومغتصبون وكذبة، وأن الصحابة الذين ولوهم وصبروا على ولايتهم خونة وكذبة؛ حيث خانوا الوصية التي أوصاهم بها النبي صلى الله عليه وسلم بأن يولوا علياً .

إذاً فجميع الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثم عمر ثم عثمان عند الرافضة خونة، هذه هي فكرتهم.

فلما كان كذلك اهتم الأئمة رحمهم الله تعالى بذكر فضائل الخلفاء، وبذكر خلافتهم على أنها من جملة العقيدة، وإلا فالمبتدئ يستغرب أن يذكر أمر الخلافة مع العقيدة؛ لأن العقيدة إيمان بالغيب والخلافة أمر مشاهد ظاهر.

وكان أول ما مر بي وأنا مبتدئ الأبيات التي قرأتها في عقيدة أبي الخطاب الكلوذاني لما ذكر عقيدته التي مبدأها قوله:

دع عنك تذكار الخليط المنجد والشوق نحو الراميات الآنسات الخرد

والنوح في أطلال سعدى إنما تذكار سعدى شغل من لم يسعد

ثم ذكر الخلافة في آخرها بقوله:

قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد

حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد ياله من مسعد

خير الصحابة والقرابة كلهم ذاك المؤيد قبل كل مؤيد

قالوا فمن صديق أحمد قلت من تصديقه بين الورى لم يجحد

قالوا: فمن تالي أبي بكر الرضا قلت الإمارة في الإمام الأزهد

فاروق أحمد والمهذب بعده نصر الشريعة باللسان وباليد

قالوا فثالثهم فقلت مسارعاً من بايع المختار عنه باليد

صهر النبي على ابنتيه ومن حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد

أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي في الناس ذا النورين صهر محمد

إلى آخرها، فاستغربت؛ لأن أمر العقيدة إيمان بالغيب والخلافة تاريخ وحكاية شيء واقع، ولكن لما قرأت بعد ذلك وجدت أن سبب ذكر هذه الخلافة هو طعن الرافضة في هؤلاء الخلفاء الثلاثة وإنكارهم لخلافتهم.

لا شك أن الذي يقرأ التاريخ الواقعي يعلم أولاً أهلية هؤلاء الخلفاء لكونهم خلفاء حقاً، وصحة خلافتهم، ورضى الأمة بهم، وكذلك أيضاً ما حصل بخلافتهم من النصر والتمكين، وإظهار الحق، والسيرة الحسنة، والاقتفاء لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، لاشك أن هذا أمر واقعي يشهد به التاريخ.

فمعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه له مزايا وفضائل، فهو أول من أسلم من الرجال، وبإسلامه ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقوله، وبه أيضاً فتح الله على قلوب كثير من الصحابة، فهو الذي دعى عثمان فأسلم، ودعى سعداً وطلحة وابن عوف فأسلموا، أي: أكثر الصحابة -سيما من العشرة- أسلموا بدعوته رضي الله عنه، وذلك لأنه كان شريفاً في قومه، وكان له مكانته، وكان أيضاً يكرم الضيف، ويكسب المعدوم، ويرفع الكل والثقل ويحمله، ويعين على نوائب الحق، فهو جواد ذو مكانة في قومه، فلما أسلم كان هذا مما دفع كثيراً من الصحابة إلى الإسلام.

ومعلوم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه خليلاً وصديقاً وفضله على غيره، وقال في آخر حياته: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، ثم معلوم أيضاً أنه لما مرض المرض الذي مات فيه استخلف أبا بكر يصلي بالناس، فصلى بهم تلك الأيام.

هذا هو الذي يشهد به الواقع الحقيقي، حتى إن بعض أمهات المؤمنين وهماعائشة وحفصة رضي الله عنهما قالت له: (لو أمرت عمر أن يصلي بالناس؟ فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف)، فأكد أن أبا بكر هو الذي يصلي بالناس، ولما مرض النبي صلى الله عليه وسلم دعا بكتاب يكتبه حتى لا يضل الناس بعده، ولما كثرت عنده الأصوات والكلام قال عند ذلك: (قوموا عني)، ثم قال في رواية: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر).

ولما توفي صلى الله عليه وسلم اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وخطبهم عمر ، وخطبهم أبو بكر واتفقوا على أن يبايعوا أبا بكر ، وقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، إذا كان رضيه إماماً لنا يتقدم بنا في الصلاة فإن ذلك دليل على أفضليته، فنختاره أميراً لنا يتصرف فينا ويدبر شئون الأمة. فولوه ورضوا به، ونعم الخليفة كان، لقد ثبت ثبوت الجبال الراسية، ولما استخلف ارتد من حولهم من الأعراب وما بقي إلا أهل المدينة ومكة، أما الأعراب الذين حولهم فارتدوا، ولكن ماذا حصل؟

ثبت رضي الله عنه، ثم جهز جيش أسامة الذي كان عليه الصلاة والسلام قد عزم على بعثه، فقالوا له: كيف تجهزه والناس مرتدون؟ فقال: لو جرت السباع بأرجل أمهات المؤمنين لم أترك جيشاً أمر بإنفاذه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب ذلك الجيش يشق تلك الفيافي ويمر على أولئك الأعراب، وكلما مر على قوم قالوا: هذا دليل على عزتهم وقوتهم، لو كان فيهم ضعف ما أرسلوا هذا الجيش في هذا الوقت الحرج. فغزوا وأغاروا على بلاد الروم وما حولها، ثم رجعوا سالمين غانمين.

وبعد ذلك أغار على المدينة بعض الأعراب يريدون أن يستحلوا المدينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه حازماً، فجمع أهل المدينة وقابلوا أولئك الأعراب وهزموهم شر هزيمة وانقلبوا خاسئين، وبعد ذلك رجع من كان أسلم، ثم عند ذلك جهز سبعة عشر جيشاً لغزوا أولئك المرتدين، فلما أن جهز هذه الجيوش علم الناس أنه ذو قوة، فعاد الذين كانوا قد ارتدوا ودخلوا في الإسلام. وكل ذلك بفكرته رضي الله عنه. وبسيرته الحسنة.

ثم إنه لم تطل به المدة، إنما استقام في الخلافة سنتين وأشهراً، وحسده بعض الحسدة وسقوه سماً، وقالوا: إنه مات مسموماً. والله أعلم بذلك، وبكل حال فهو الخليفة الراشد رضي الله عنه، ولما علم بأنه سوف يموت رأى أن عمر رضي الله عنه أولى بالخلافة، وذلك لأنه رأى فيه الحزم والعزم والقوة والجد والنشاط في الأمر، فولاه الخلافة بعده.

تولى عمر رضي الله عنه الخلافة، وكان قد سمي قديماً: الفاروق ، أي: الذي فرق الله بإسلامه بين الحق والباطل. فنعم ما صار، ولما تولى الخلافة بحزم عند ذلك ضبط الخلافة وضبط البلاد ووالى الجيوش التي يرسلها لغزو الكفار، وفتحت في عهده جميع بلاد الشام ومصر والعراق، وأكثر بلاد إيران، وكثير من بلاد أفريقيا، والكثير من بلاد الهند والسند أو ما حولها، كل ذلك بحزمه رضي الله عنه، وقتل في زمانه خليفة الفرس الذي يقال له: يزدجرد، كل ذلك في ظرف هذه المدة القصيرة التي هي مدة ثلاث عشرة سنة.

ثم تسلط عليه أبو لؤلؤة فقتله وهو في المحراب، فجعل رضي الله عنه الخلافة شورى بين ستة من الصحابة، ولم يجعل منهم سعيد بن زيد لكونه ابن عمه.

اتفق الستة على أن يقدموا عثمان، وذلك لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونه قد تزوج اثنتين من بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونه أيضاً ذا حزم وعزم وقوة فاتفقوا على خلافته.

وتمت له الخلافة، ووالى أيضاً الجيوش، وفتحت في عهده كثير من بلاد الترك والروم وما وراء النهر وما أشبه ذلك، وتسلط عليه بعض الثوار والأعراب في آخر خلافته وقتل رضي الله عنه.




استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح اعتقاد أهل السنة [8] 2694 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [5] 2355 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [13] 2325 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [7] 2146 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [3] 1852 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [6] 1719 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [17] 1692 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [10] 1674 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [4] 1643 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [2] 1620 استماع