خطب ومحاضرات
شرح اعتقاد أهل السنة [17]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمه الله: [هذا أصل الدين والمذهب].
جميع ما تقدم في هذه الرسالة جعله أصلاً، وأنت تعرف أن الأصل هو الأساس؛ لأنه الذي يُبنى عليه غيره كأساس الحائط والعمود، فإنه إذا تأصل وثبت تحمل ما يبنى عليه، وأما إذا كان على شفا جرف هار فإنه يسقط، كما قال تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ [التوبة:109]، والجرف: هو ما يحفر في السيل، فإذا كان الإنسان بنى جداره قريباً من مجرى السيل، وجاء له السيل فحفر تحته وحمل التراب الذي تحته يبقى الجدار متعلقاً فيسقط، فهذا معنى قوله تعالى: أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة:109]، وهو مثال.
فيقول: إن هذه القواعد وهذه العقائد هي أصل الدين -يعني: أساسه، ولاشك أن الأصل له فروع، فإذا ثبت الأصل واستقر فإن الأصول لها فروع تكون تابعة لها ومكملة، ولا شك أن من حافظ على الأصول حرص على الفروع، فمن عرف الله تعالى حق المعرفة، وآمن بقدرته وبعلمه وبسمعه وبصره وبعذابه وثوابه وبمنعه وعطائه، وتحقق بأنه قادر على أن يبطش بالعاصي وينزل به عقوبته، وبأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وآمن بالبعث بعد الموت وما يكون فيه لا شك أنه تنبعث جوارحه إلى الطاعات، فهذا معنى كونه على أصل وأساس تنبعث جوارحه، فيبادر إلى الصلوات ويكثر من نوافل العبادات، ويكثر من ذكر الله تعالى في كل الحالات، ويؤدي الصدقات والزكوات وما أشبهها، ويكثر من صيام التطوعات وما أشبهها، ويحج ويعتمر ويجاهد ويذكر الله ويدعوه ويتصدق، ويدعو إلى الله تعالى ويتعلم ما ينفعه ويتدبر كتاب الله، لأن هذا الإيمان والأصل الأصيل الذي امتلأ به قلبه دفعه إلى هذه الأعمال كلها.
وكذلك أيضاً لابد أنه يبتعد عن الآثام وأنواع الإجرام إذا علم وتحقق أن ربه شديد العقاب وأنه سريع الحساب وأنه عزيز ذو انتقام وأنه يغضب على من عصاه وينتقم منه حرص على أن يبتعد عن المعاصي.
إذاً فالأصل الأصيل هو العقيدة، وإذا ثبتت هذه العقيدة فالفروع التي تتفرع عنها تابعة لها مستلزمة لها.
وأما المراد بالمذهب فهو ما قال به إمام مجتهد ومات وهو عليه، فيسمى مذهباً له، ولكن معروف أن أئمة أهل السنة كلهم متفقون على العقيدة، وليس بينهم اختلاف في العقيدة، فمذهبهم في العقيدة واحد، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.
أهل الحديث متفقون على عقيدة واحدة
أي أن هذا الأصل وهذا المذهب هو معتقد أئمة الحديث، وخاصة أهل الحديث؛ لأنهم أولى بالاتباع، واشتغالهم بالحديث وتكرارهم له وروايتهم له وحفظه وكتابته ونسخه وسفرهم في طلبه وحرصهم على جمعه وتبويبه وترتيبه وتنسيقه وشرح غريبه وصحيحه من سقيمه ونحو ذلك هذا الاجتهاد الذي بذلوه في الحديث مكنهم من أن يعتقدوا الاعتقاد الصحيح، فغيرهم ليس مثلهم، فإذا نظرنا إلى أولئك المبتدعة الذين خالفوا في هذه العقيدة وجدنا سبب ذلك عدم اشتغالهم بالحديث، وإذا اشتغلوا به فإنما هو اشتغال أولي ومُجرد نظر وسماع دون أن يكون ذلك شغلهم الشاغل.
فأئمة الحديث كـالبخاري ومسلم والإمام أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام مالك، ومن قبلهم كـشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرزاق بن همام ومحمد بن رافع وأشباههم هؤلاء جعلوا الحديث شغلهم الشاغل، صاروا يشتغلون به ليلهم ونهارهم لا يفترون ولا يملون، ويسافرون لأجل أن يتلقوا الأحاديث، ويحرصون على أن يأخذوها عن كبار السن، ويكتبونها ويجمعونها ويؤلفونها.
فنقول: إنهم بذلك أهل لأن يكونوا أهل السنة والفرقة الناجية وعلى الطريقة المستقيمة، وعلى مثل ما عليه السلف والأئمة والصحابة والتابعون.
قال المصنف رحمه الله: [لم تشنهم بدعة ولم تلبسهم فتنة].
البدع غالباً في غير أهل الحديث؛ لأننا إذا نظرنا إلى أولئك المبتدعة وجدناهم بعيدين عن الحديث، فمثلاً: بدعة التكفير التي هي بدعة الخوارج الذين يكفرون لا يعترفون بالأحاديث إنما يعكفون على القرآن، ومعلوم أن القرآن فيه مجملات، وهذه المجملات تحتاج إلى البيان من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله كلفه بذلك بقوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلما اقتصروا على القرآن، وأخذوا بمجمله وبظواهره كفّروا بالذنوب، واستباحوا الخروج على المسلمين، وقتلوا الأبرياء، ولو كانوا من أهل الحديث لسمعوا حرمة قتل المسلم والتبديع في ذلك: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)، (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) .. (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) لم يسمعوا بهذه، وإذا سمعوا بهذا لا يقبلوه.
كذلك أيضاً بدعة القدرية الذين أنكروا علم الله تعالى، لم يسمعوا بالأحاديث التي فيها علم الله السابق، مثل حديث: (أول ما خلق الله القلم)، وما أشبهه من الأحاديث، ولم يؤمنوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم مقعدها من الجنة والنار)، وكذلك الإيمان بقدرة الله تعالى، ما قبلوا ذلك ولم يشتغلوا به.
وكذلك أيضاً بدعة المعتزلة الذين أنكروا صفات الله تعالى وسموا ذلك توحيداً، ولو أنهم تأملوا الأحاديث كأحاديث النزول والرؤية، وصفات الأفعال، وصفات العلو التي ذكر فيها أن الله تعالى في السماء وما أشبه ذلك، ولو كانوا يشتغلون بالأحاديث لتقبلوها.
كذلك أيضاً يقال في الرافضة: إنهم لم يشتغلوا بالأحاديث، وتسلطوا على الآيات التي فيها فضل الصحابة وانشغلوا بها عن الأحاديث، وأعرضوا عن السنة، وإلا فلو تأملوا الأحاديث التي في فضل الشيخين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم لو تأملوا ما فيها لما صدوا عنها، ولعرفوا أنها حق ويقين، وأنها تدل على فضلهم ومزيتهم، ولكن لما لم يشتغلوا بها بقوا على جهلهم واعتقدوا ما اعتقدوه، ولو أن متأخريهم اشتغلوا بها، ولكن بعدما وقرت تلك البدعة في قلوبهم.
ويقال كذلك في بقية البدع: إن من شانته البدعة ولبسته الفتنة فإنه ليس من أهل السنة، وليس من المتمسكين بما كانوا عليه، فالبدعة لا شك أنها تلبس أهلها والفتنة كذلك تلبسهم وتعمهم، ولا شك أنها أيضاً تحرفهم وتصرفهم وتصدهم عن الهدى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [واعتقاد أئمة أهل الحديث].
أي أن هذا الأصل وهذا المذهب هو معتقد أئمة الحديث، وخاصة أهل الحديث؛ لأنهم أولى بالاتباع، واشتغالهم بالحديث وتكرارهم له وروايتهم له وحفظه وكتابته ونسخه وسفرهم في طلبه وحرصهم على جمعه وتبويبه وترتيبه وتنسيقه وشرح غريبه وصحيحه من سقيمه ونحو ذلك هذا الاجتهاد الذي بذلوه في الحديث مكنهم من أن يعتقدوا الاعتقاد الصحيح، فغيرهم ليس مثلهم، فإذا نظرنا إلى أولئك المبتدعة الذين خالفوا في هذه العقيدة وجدنا سبب ذلك عدم اشتغالهم بالحديث، وإذا اشتغلوا به فإنما هو اشتغال أولي ومُجرد نظر وسماع دون أن يكون ذلك شغلهم الشاغل.
فأئمة الحديث كـالبخاري ومسلم والإمام أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام مالك، ومن قبلهم كـشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرزاق بن همام ومحمد بن رافع وأشباههم هؤلاء جعلوا الحديث شغلهم الشاغل، صاروا يشتغلون به ليلهم ونهارهم لا يفترون ولا يملون، ويسافرون لأجل أن يتلقوا الأحاديث، ويحرصون على أن يأخذوها عن كبار السن، ويكتبونها ويجمعونها ويؤلفونها.
فنقول: إنهم بذلك أهل لأن يكونوا أهل السنة والفرقة الناجية وعلى الطريقة المستقيمة، وعلى مثل ما عليه السلف والأئمة والصحابة والتابعون.
قال المصنف رحمه الله: [لم تشنهم بدعة ولم تلبسهم فتنة].
البدع غالباً في غير أهل الحديث؛ لأننا إذا نظرنا إلى أولئك المبتدعة وجدناهم بعيدين عن الحديث، فمثلاً: بدعة التكفير التي هي بدعة الخوارج الذين يكفرون لا يعترفون بالأحاديث إنما يعكفون على القرآن، ومعلوم أن القرآن فيه مجملات، وهذه المجملات تحتاج إلى البيان من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله كلفه بذلك بقوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلما اقتصروا على القرآن، وأخذوا بمجمله وبظواهره كفّروا بالذنوب، واستباحوا الخروج على المسلمين، وقتلوا الأبرياء، ولو كانوا من أهل الحديث لسمعوا حرمة قتل المسلم والتبديع في ذلك: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)، (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) .. (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) لم يسمعوا بهذه، وإذا سمعوا بهذا لا يقبلوه.
كذلك أيضاً بدعة القدرية الذين أنكروا علم الله تعالى، لم يسمعوا بالأحاديث التي فيها علم الله السابق، مثل حديث: (أول ما خلق الله القلم)، وما أشبهه من الأحاديث، ولم يؤمنوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم مقعدها من الجنة والنار)، وكذلك الإيمان بقدرة الله تعالى، ما قبلوا ذلك ولم يشتغلوا به.
وكذلك أيضاً بدعة المعتزلة الذين أنكروا صفات الله تعالى وسموا ذلك توحيداً، ولو أنهم تأملوا الأحاديث كأحاديث النزول والرؤية، وصفات الأفعال، وصفات العلو التي ذكر فيها أن الله تعالى في السماء وما أشبه ذلك، ولو كانوا يشتغلون بالأحاديث لتقبلوها.
كذلك أيضاً يقال في الرافضة: إنهم لم يشتغلوا بالأحاديث، وتسلطوا على الآيات التي فيها فضل الصحابة وانشغلوا بها عن الأحاديث، وأعرضوا عن السنة، وإلا فلو تأملوا الأحاديث التي في فضل الشيخين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم لو تأملوا ما فيها لما صدوا عنها، ولعرفوا أنها حق ويقين، وأنها تدل على فضلهم ومزيتهم، ولكن لما لم يشتغلوا بها بقوا على جهلهم واعتقدوا ما اعتقدوه، ولو أن متأخريهم اشتغلوا بها، ولكن بعدما وقرت تلك البدعة في قلوبهم.
ويقال كذلك في بقية البدع: إن من شانته البدعة ولبسته الفتنة فإنه ليس من أهل السنة، وليس من المتمسكين بما كانوا عليه، فالبدعة لا شك أنها تلبس أهلها والفتنة كذلك تلبسهم وتعمهم، ولا شك أنها أيضاً تحرفهم وتصرفهم وتصدهم عن الهدى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولم يخفوا إلى مكروه في دين].
يقال: خف فلان إلى الذنب. خف فلان إلى الغيبة. وخف فلان إلى النميمة. أي: أسرع إليها، كما يقال: خف إلى سماع الغناء واللهو والباطل وفعل الفواحش والنظر في المنكرات. فهؤلاء الذين وصفهم ما خفوا إلى المكروهات بل حجزوا أنفسهم، ولو كانت تلك المكروهات هي شيء من الدوافع النفسية، ولو كانت تشتهيها الأنفس وتتلذذ بها الأعين، ومعلوم أن الله تعالى حف النار بالشهوات، يقول في الحديث: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، فالذي يندفع مع تلك الشهوات يكون من أهل النار، مثل الزنا المحرم، والغناء الذي يلتذ به، والنظر إلى الأفلام والصور الفاتنة، والنظر إلى النساء المتبرجات، والكبر، والإعجاب، والبطش، وأكل الأموال بغير حق، والسلب والنهب، والقتل، والاستطالة على الناس، وما أشبه ذلك، إذا عرف أن هذه الشهوات تدفعه إلى مكروه وإلى ما لا يحبه الله تعالى فإنه لا يخف إليها، بل يحجز نفسه ويملكها ويمسك بزمامها ويصرفها إلى الحق والخير، ولو كان الخير ثقيلاً على النفس، فمعلوم أن الطاعات تكون ثقيلة على كثير من النفوس وإن كانت خفيفة على أهل الخير، فقد ذكر الله تعالى أن الصلاة ثقيلة في قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
قال المصنف رحمه الله تعالى: بعد ذلك يوصيكم فيقول: [فتمسكوا معتصمين بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا عنه].
كأنه يأخذ ذلك من الآية الكريمة في سورة آل عمران: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] إلى قوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]. والتمسك: هو الإمساك بالشيء القوي الذي يكون سبباً في النجاة، والحبل في الأصل: هو الخيط الذي يُدلى به الدلو، ويفتل بليف أو نحوه، ثم يدلى به الدلو في الآبار ويُغترف به الماء ونحوه، وقد يكون هذا الحبل سبباً في الخروج من الأزمات والمهاوي والحفر والدركات النازلة ونحو ذلك.
فشبه الله تعالى القرآن والسنة والدين بالحبل الذي دُلي من السماء، وروي في بعض الأحاديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إني رأيت حبلاً دُلي من السماء فصعدتَ فيه حتى علوت، ثم صعد به رجل بعدك حتى ارتفع عليه، ثم صعد به رجل ثالث فارتفع، ثم صعد به آخر فانقطع، ثم إنه عقد فصعد به حتى ارتفع)، فأَوّلَ ذلك بالخلفاء الثلاثة بعده، وأنه يأتي عثمان وقد قُطع عليه؛ حيث إنه عاقه هؤلاء الذين عابوه، فجعل هذا الحبل حبلاً واضحاً حسياً وهو في الحقيقة حبل معنوي، أي أنه وسيلة إلى الصعود، كأنه دلي حبل من السماء، وأن الذي يتمسك به يصعد إلى الدرجات العالية، فلذلك يقال: تمسكوا به: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فيأمرنا بالتمسك -أي: إمساكه باليدين بقوة-، والاجتماع على هذا الحبل وعدم التفرق.
قال المصنف رحمه الله: [واعلموا أن الله تعالى أوجب محبته ومغفرته لمتبعي رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه].
يعني: أوجب له محبته إذا اتبع رسوله كما ذُكر في الآية الآتية.
[وجعلهم الفرقة الناجية والجماعة المتبعة].
يعني: الذين اتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم هم الفرقة الناجية وهم الجماعة المتبعة، الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة التي جاء في وصفها: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) يعني بأصحابه أتباعه وصحابته، فمن كان على مثل ما هو عليه فإنه من الفرقة الناجية، وكذلك الجماعة المتبعة، قد ثبت في بعض الروايات أنه قال: (كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)، وفسروا الجماعة بأنهم المجتمعون على الحق والخير، هؤلاء حقاً هم جماعة الإسلام وجماعة المسلمين، وقد سبق أن أشرنا إلى الأدلة على ذلك.
علامة محبة الرسول اتباعه
هذا خطاب لمن ادعى أنه يُحب الله وليس بصادق، ذكروا أن هذه الآية نزلت رداً على اليهود والنصارى الذين يدعون أنهم أحباب الله، حكى الله تعالى ذلك في سورة المائدة، قال تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] أي: الذي نحبه ويحبنا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، فلما ادعوا هذه الدعوى كان لابد من تضليلهم أو امتحانهم، فامتحنوا بهذه الآية في سورة آل عمران، وهذه الآية تسمى آية المحنة، هذا هو الصحيح، وبعضهم يسميها آية المحبة، والصواب أنها آية المحنة، أي أن الله تعالى امتحن بها من يدعي أنه يحبه، فاختبره وجعل لمحبته علامة فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، إذا كنتم صادقين في أنكم تحبون الله فإن لمحبة الله تعالى علامة، وهي اتباع رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فحققوا الاتباع حتى تكونوا صادقين في هذا الادعاء.
أما مجرد دعوى أنكم تحبون الله ومع ذلك لا تتبعون الرسل، ولا تطيعونهم فإن هذه دعوى.
والدعاوي إن لم يقيموا عليها بينات أربابها أدعياء
فلابد أن تقيموا عليها بينة، وهذه البينة جعلها الله تعالى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، والاتباع ليس هو مجرد القول؛ فإن كثيراً من الناس يقولون: نحن نحب الله ونحن نحب الرسول. ثم نقول لهم: لماذا لا تتبعونه؟ فيقولون: نحن متبعون له ونحن مطيعون له. فيقال: قد نقصتم في الاتباع وقصرتم فيه، وقد فاتكم كذا وكذا، وقد ارتكبتم كذا وكذا، فليس هذا هو حقاً الاتباع الواجب، الاتباع الواجب هو أن تتمسكوا بسنته، وأن تطيعوه في كل دقيق وجليل حتى تكونوا صادقين في أنكم من أتباعه حقاً. وقد رتب الله تعالى على اتباعه الهدى، قال تعالى: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، فإذا رأيت الذي يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعفوا اللحى) ومع ذلك يحلقها فقل له: أين الاتباع؟ لم تكن من المتبعين حقاً. وإذا رأيت الذي يطيل اللباس ويجر لباسه خيلاء فقل له: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)، فأين الاتباع؟ وأين الموافقة؟ وأين الطاعة؟ وهكذا إذا رأيت الذي يتكبر ويفتخر بأعماله أو بجاهه وبمنصبه فقل له: ألست تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فأين الطاعة؟ وأين الاتباع؟ إذاً لست حقاً من المتبعين له. والأمثلة على ذلك كثيرة.
ثم نقول كذلك في جميع الذين يعصون الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك في جميع الذين يتركون الطاعات وهم مع ذلك يقولون: نحن أتباع الرسول، ونحن من أمة محمد ومن أهل شريعته. فنقول: لم تحققوا هذا الانتساب والانتماء، ولم تحققوا ما ادعيتموه من أنكم تحبون الله ورسوله.
علامات صحة دعوى المحبة لله وللرسول
تعصي الإله وأنت تزعم حُبه هذا عجيب في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فالمحبة الصادقة تستلزم طاعة المحبوب وموافقته واتباع ما أتى عنه، هذه حقاً هي علامة من يحب الله تعالى ورسوله.
فائدة اتباع الرسول
فهاتان فائدتان عظيمتان لمحبة الله تعالى ولمحبة رسوله، وهاتان الفائدتان لا يقدر قدرهما إلا الله.
الأولى: (يحببكم الله)، والثانية: (يغفر لكم ذنوبكم)، فما أعظمها من فائدة! كل منا يود أن الله تعالى يحبه، ويود أن الله يغفر له، فما أسهل ذلك السبب الذي تحصل به على محبة الله تعالى ومحبة رسوله! إنه يسير، وهو في هذه الآية: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، ولا شك أن من أحبه الله تعالى فإنه يوفقه لكل خير، ويسدد خطاه، ويرشده ويثبته، فلا يميل إلى معصية ولا يفعل ذنباً، ولا يخل بطاعة .. بل تكون أفعاله كلها من الطاعات، وقد استدل على ذلك بالحديث القدسي الذي في صحيح البخاري، وهو قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي بتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، وفي بعض الروايات: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه).
فالشاهد أن الله في هذا الحديث جعل التقرب بالنوافل بعد الفرائض سبباً لمحبة الله تعالى للعبد، فما بينك وبين أن تكون من أحباب الله إلا أن تتقرب إليه بالنوافل بعد الفضائل، فالمحافظة أولاً على الفرائض، كالصلوات والصدقات والزكوات والصوم والحج وما أشبه ذلك، وكذلك التقرب إلى الله بترك المحرمات كلها والابتعاد عنها، هذا هو الأول.
وبعد ذلك تتقرب إلى الله تعالى بالنوافل بترك المكروهات وبفعل المستحبات التي رغّب الله تعالى فيها وأحبها، مثل نوافل الصلوات، وهي كثيرة، كصلاة الليل والضحى والرواتب وما أشبهها، ونوافل الأذكار التي تُفعل في خارج الصلاة من الذكر والدعاء والتسبيح والتكبير والتحميد، وما أشبه ذلك بواسطة قراءة القرآن، والقراءة منها واجب كما في الصلاة، ومنها ما هو مسنون وهو ما يكون خارج الصلاة، وكذلك نوافل الصدقات، والصيام، والجهاد، والحج، والقربات وما أشبه ذلك، كل هذه تسمى تطوعات. (وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)، وذكر أنه إذا تقرب إليه بهذه القربات فإن الله يحبه، ثم بعد أن يحبه تحصل له هذه الفائدة، وهو أن تكون حركاته كلها فيما يريده الله ويحبه، فلا يتكلم إلا بطاعة، ولا يستمع إلا إلى خير، ولا ينشط إلا إلى حسنات أو فعل طاعات، ولا يعمل بيديه إلا ما يرضي ربه سبحانه، ولا ينظر بعينه إلا إلى شيء يُفيده وينفعه، فيكون الله تعالى قد وفقه لما أحبه.
مكملات محبة الله ورسوله
يعني: إذا أحببتم شيئاً من هذه الأصناف الثمانية وقدمتموها على محبة الله ومحبة رسوله ومحبة الجهاد في سبيله فتربصوا وانتظروا ما يحل بكم؛ فقد قدمتم ما ليس بمقدم، وفضلتم ما ليس بفاضل، وأحببتم عرض الدنيا وقدمتموه على محبة الله تعالى ومحبة رسوله ومحبة ما يحبه الله تعالى.
فعُرف بذلك أن هذه الخصلة التي هي قوله تعالى: إن كنتم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] أن فيها أجراً كبيراً، وأن الذي تحصل له محبة الله يحصل له الخير الكثير.
وقد ذكروا في الحديث الذي في قصة خيبر عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يده) فقالوا: فيه حث لكل منهم على أن يكون هو الذي يأخذ هذه الراية، وكلهم يقول: نحن نحب الله ورسوله، ولكن نريد الخصلة الثانية، وهي أن الله يُحبنا وأن رسوله يُحبنا، فمن حصلت له هذه فقد حصلت له الرتبة العالية، ولذلك بات الناس يخوضون أيهم يُعطاها، حتى قال عمر : (ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ)، أراد بذلك أن يكون من الذين يحبهم الله ورسوله، فعرفنا بذلك أن من أحبه الله تعالى ورسوله فقد أراد به خيراً.
وأما الخصلة الثانية وهي المغفرة في قوله تعالى: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] فهي أيضاً خصلة عظيمة نافعة، فما ذاك إلا أن الذي يحصل على مغفرة الله تعالى لذنبه يفوز بالدرجات العلى وبالأجر العظيم.
وإذا قال قائل: أنا لست مذنباً فكيف تُغفر ذنوبي؟ نقول: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، فليس أحد منا إلا وعليه ذنب أو ذنوب، وليس أحد يأتي يوم القيامة إلا وعليه ذنوب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعد من الذنوب الغفلة عن ذكر الله تعالى، فيبادر بعد ذلك بالاستغفار، يقول ابن عمر رضي الله عنه: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة) يقول: (رب اغفر لي)، والله تعالى قد غفر له، فقال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، ولكن يعد الغفلة ذنباً، فيقول في بعض الأحاديث: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)، ومعنى قوله: (يغان على قلبي) يعني: يعتري قلبه شيء من الغفلة عن ذكر الله تعالى. فجعل هذه الغفلة ذنباً فبادر بعدها إلى الاستغفار، فنحن أولى بالاستغفار وأولى بطلب المغفرة وبالإتيان بأسبابها، فما أكثر غفلتنا! وما أكثر سهونا ولهونا! وما أكثر الخطايا التي نتحلمها! يتحمل الإنسان خطاياه بلسانه، وبعينه، وبسمعه وببصره وبيديه وبرجليه وبفرجه وبمأكله وبمشربه وبأعماله وغيرها، فهذه الخطايا وهذه الذنوب تحتاج منه إلى طلب المغفرة، إلى أن يطلب الله تعالى وهو صادق في أن يغفر له، وإلى أن يأتي بالأسباب التي تجعله من أهل المغفرة، ومن جملتها: الاتباع فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
والغفر أصله الستر والمحو، أي: ستر الذنوب وإزالة آثارها، ومنه سمي المغفر الذي يُلبس على الرأس في الحرب؛ لأنه يستر الرأس، ولأنه يكون سبباً في ستر الرأس من السلاح ونحوه، فالحاصل أنا إذا قرأنا هذه الآية عرفنا أهميتها، وعرفنا أن الإنسان عليه أن يحقق الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون من أهلها.
فهذا آخر ما يتعلق بهذه الرسالة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح اعتقاد أهل السنة [8] | 2696 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [5] | 2358 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [13] | 2328 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [7] | 2147 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [3] | 1852 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [12] | 1773 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [6] | 1720 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [10] | 1675 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [4] | 1645 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [2] | 1622 استماع |