شرح اعتقاد أهل السنة [13]


الحلقة مفرغة

قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ويرون الصلاة -الجمعة وغيرها- خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً، فإن الله عز وجل فرض الجمعة وأمر بإتيانها فرضاً مطلقاً، مع علمه تعالى بأن القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق، فلم يستثن وقتاً دون وقت، ولا أمراً بالنداء للجمعة دون أمر.

ويرون جهاد الكافر معهم وإن كانوا جورة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل.

ولا يرون الخروج بالسيف عليهم ولا القتال في الفتنة.

ويرون قتال الفئة الباغية مع الإمام العدل إذا كان ووجد على شرطهم في ذلك.

ويرون الدار دار إسلام لا دار كفر كما رأتها المعتزلة، مادام النداء بالصلاة والإقامة ظاهرين وأهلها ممكنين منها آمنين.

ويرون أن أحداً لا تخلص له الجنة وإن عمل أي عمل إلا بفضل الله ورحمته التي يخص بهما من يشاء؛ فإن عمله للخير وتناوله الطاعات إنما كان عن فضل الله الذي لو لم يتفضل به عليه لم يكن لأحد عليه حجة ولا عتب، كما قال الله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21]، وقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83]، وقال تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105]].

يقول: [ويرون الصلاة -الجمعة وغيرها- خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً].

ورد حديث: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال: لا إله إلا الله)، وذلك لأن هذه الكلمة عنوان الإسلام، فمن قال هذه الشهادة اعتبر داخلاً في الإسلام، ومن أهل الإسلام، ولكنه بعد ذلك يطالب بتكملة الشهادتين.

وكان في أول الأمر الذين يتقدمون في الإمامة في صلاة الجمعة أو العيد أو الصلوات المكتوبة قد يكونون هم ولاة الأمر، كأمير البلدة أو نائبه أو نحوه، وهو أيضاً الذي يتولى الخطابة والإمامة، فيتحرج بعض المسلمين عن الصلاة خلفه إذا كان عاصياً.

والمعاصي التي كانت في ذلك الزمان معاص عادية أشهرها شرب الخمر، وكان كثير من الأمراء يشربون الخمر، كما أثر ذلك عن بعض خلفاء بني أمية، وكذلك نوابهم، وكذلك كثير من خلفاء بني العباس ونوابهم وأمراؤهم كانوا يتعاطون الخمر ويبيتون عليه، فهذه معصية.

وكذلك أيضاً من المعاصي المشتهرة الغناء، حيث كانوا يتخذون الإماء لأجل الغناء، ويشترون التي هي مغنية ويزيدون في ثمنها لأجل الغناء، ويحضرون لها الطبول والأعواد حتى يستمعوا إلى ضربها غنائها ويطربون لذلك، فهذا مشتهر أيضاً في أولئك الأمراء ونحوهم.

ومن المعاصي أيضاً تأخير الصلاة عن وقتها، وبالأخص صلاة الظهر والعصر، فيؤخرونها عن وقتها ومع ذلك فإنهم يؤدونها، ولم يكونوا يتكاسلون عنها ويتركونها، وإنما ينشغلون إما بشهواتهم وإما بنوم وراحة إلى أن يتأخر وقت الظهر فلا يصلونه إلى قرب العصر، ووقت العصر فلا يصلونه إلا نصف ما بعد العصر.

هذه هي أشهر المعاصي التي اشتهرت عن كثير من أولئك.

ومن المعاصي أيضاً الظلم، أنهم كانوا يظلمون كثيراً من الناس بالتهم الباطلة، وأكثر ذلك عن طريق أخذهم للأموال التي يجبونها إلى بيت المال وغالبها ضرائب، فيجعلون على الموالي -ولو كانوا مسلمين- ضرائب سنوية، ومن أسلم من أهل الكتاب لم يسقطوا عنه الجزية بل يأخذوا الجزية منه ولو بعد إسلامه، حتى أسقطها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكذلك كثير منهم يأخذون ضرائب على الأموال بغير حق، وربما يستولون على الأموال كالبساتين والمصانع والأراضي ونحوها ويستبدون بها ويأخذونها بغير رضا من أصحابها ويضيفونها إلى أموالهم، فهذا مما يعابون به.

فلأجل ذلك يقولون: كيف نصلي خلفهم وهم ظلمة يأخذون الأموال لأنفسهم، أو يؤخرون الصلاة، أو يفعلون هذه المعاصي؟ كيف نؤدي الصلاة خلفهم مع أن الصلاة مكتوبة علينا وفريضة الله تعالى؟

فجاء النص بالصلاة خلفهم، فكان الصحابة يصلون خلفهم، فذكروا أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان والياً على الكوفة، وكان متهماً بشرب الخمر، فتقدم مرة ليصلي بهم صلاة الفجر وهو سكران فصلى بهم أربعاً، فلما سلم قال: أزيدكم؟ فقال ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة. صلى خلفه ابن مسعود وهو عالم الصحابة الذي أرسله عمر إلى الكوفة ليفتي الناس ويعلمهم رضي الله عنهم، ثم لما ثبت ذلك عنه أمر عثمان رضي الله عنه بجلده، فجلده عبد الله بن جعفر بأمر علي رضي الله عنه أربعين جلدة.

وكذلك الحجاج بن يوسف والي العراق من قبل بني أمية اشتهر عنه نوع من المعاصي، وأكثرها الصلف والشدة والسجن للأبرياء، وكان سريع القتل فيقتل بالتهمة ويحبس، والسجن في مكان ضيق.

فالحاصل أنه اشتهر عنه هذا النوع من الظلم، ويمكن أنه كان يحبس أيضاً بغير ذلك، ولكن هذا الذي اشتهر عنه هو الظلم والحبس والضرب والشدة، ومع ذلك فإن الصحابة الذين في العراق كانوا يصلون خلفه، ولما حج بالناس في حياة ابن عمر كان ابن عمر يصلي خلفه حتى في عرفة، وكان هو الذي يتولى الخطبة والصلاة، فكان الصحابة ومنهم ابن عمر يصلون خلفه.

وذلك دليل على أنهم فهموا أن الصلاة خلفهم فيها جمع الكلمة، وأنها لا تعتبر باطلة، وقد ورد أيضاً أحاديث، منها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم)، وأخبر بأنه: (يأتي قوم يؤخرون الصلاة عن أوقاتها. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا -أو ما أقاموا فيكم الصلاة-)، والأحاديث كثيرة في الأمر بالصلاة خلف الأمراء ولو كانوا عصاة أو نحوهم.

فيرى أهل السنة وأهل الحديث الصلاة -جمعة كانت أو غيرها- خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً إذا كان الفجور لا يوصل إلى الكفر، فإن الله تعالى أمر بالجمعة وفرضها وأمر بإتيانها: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، والله تعالى عالم بأن القائمين عليها قد يكون منهم فاجر وفاسق، وعالم بأنه قد يتولاها غير تقي كما وقع ذلك، فلذلك فرض الإتيان إليها في قوله: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] [ولم يستثن وقتاً دون وقت]، ولم يقل: إلا إذا كان المقيمون لها عصاة أو فجاراً. بل أطلق ذلك.

[ولا أمراً بالنداء للجمعة دون أمر]، فالنداء للجمعة عام: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، ولو كان الذين يقيمونها عصاة أو فجاراً.

والحكمة في ذلك جمع الكلمة، وذلك لأننا إذا عصيناهم فلابد أن يحصل ظلم وعسف وجبروت، ونحو ذلك.

إعادة الصلاة خلف أئمة البدع المكفرة

إذا قدر مثلاً أن خطيب الجمعة متهم ببدعة فإن تلك البدعة لا تخول ترك الصلاة خلفه، فلو كان -مثلاً- متصوفاً، ولكن له سلطة وولاية، أو كان معتزلياً -وأهل السنة لا يكفرون المعتزلة مطلقاً-، وكذلك لو كان أشعرياً أو نحو ذلك فلا يكفر، ويصلى خلفه، ومن صلى خلفهم فإنا لا نأمره بإعادة الصلاة.

لكن إذا كان مشركاً فإنه يؤمر بإعادة الصلاة، فإذا عرف أنه من أهل وحدة الوجود وممن بدعتهم مكفرة، أو أنه من القبوريين الذين يدعون الأموات ويهتفون بأسمائهم ويدعونهم من دون الله تعالى، فمثل هؤلاء ولو كانوا يتسمون بأنهم مسلمون فإن دعاءهم لغير الله تعالى يحبط أعمالهم، فيصيرون بذلك مشركين.

فإذا عرفت -مثلاً- أن هذا الخطيب أو أن هذا الإمام مشرك يعبد أهل البيت -علياً أو ذريته- كالرافضة، أو يعبد عبد القادر ، أو ابن علوان ، أو البدوي ، أو نحوهم من المعبودات، بمعنى أنه يطوف بالقبر، أو يدعو الميت نفسه فيقول: يا معروف! أو: يا جنيد! أو يا ابن علوان! أو: يا عبد القادر! أو: يا كذا وكذا! أنا في حسبك، أو: ما لي إلا الله وأنت. أو نحو ذلك فإن هذا يعتبر مشركاً فلا تصح الصلاة خلفه؛ لأن شركه أخرجه من الإسلام، فإذا اضطر الإنسان إلى أن يصلي خلفهم فإنَّا نأمره بالإعادة، ولكن متى يكون مضطراً؟

موجود في كثير من البلاد الإفريقية أن ولاة الأمر وأئمة وخطباء المساجد من هؤلاء المتصوفة، ومعهم كثير من البدع المكفرة، ومن أشهرها أنهم يدعون الأموات ويعتقدون فيهم، أو أنهم غلاة في التصوف، بمعنى أنهم ملاحدة أو اتحادية، فيقول بعض أهل الخير: إذا لم نصل خلفهم آذونا واتهمونا بأننا نخالفهم أو نكفرهم، فيؤذوننا ويسجنوننا ويقتلوننا ويشردوننا ويطردوننا، فماذا نفعل؟

فنقول: إن وصلت البدعة إلى التكفير فإنك تصلي معهم مداراة لهم وتعيد، وإن لم تصل البدعة إلى التكفير فصلِّ معهم، فصلاتك لك وصلاتهم لهم، وأجاز بعض العلماء أن تدخل معهم وأنت تنوي الانفراد، فتتابع الإمام ولكنك منفرد تصلي لنفسك، فتقرأ ولو كان يقرأ، وتسمع بقولك (سمع الله لمن حمده)، وتصلي صلاة كاملة بنية أنك منفرد إذا خشيت على نفسك من أن يتهموك بأنك ثوري أو إرهابي أو مخالف أو نحو ذلك فيضروك، فلك أن تتقي شرهم بذلك، وإن تمكنت من أن تصلي وحدك، أو وجدت مسجداً -ولو بعيداً- فيه إمام مستقيم فهو الأولى.

جهاد الكفار والحج مع أئمة الجور

يقول: [ويرون جهاد الكفار معهم، وإن كانوا جورة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل].

الجهاد: هو قتال الكفار. فمن عقيدة أهل السنة أنهم يرون الحج والجهاد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، وذلك لأنه في الزمان القديم لا يتيسر الحج إلا مع أمير يحفظ أولئك الحجاج، ويكون معه جيش قوي وأسلحة حتى لا يعترض للحجاج قطاع الطريق من الأعراب ونحوهم الذين يعترضونهم ويأخذون أمتعتهم، فيأمرون على الحج أميراً قوياً، وقد يكون ذلك الأمير متلبساً بشيء من المعاصي، إما بتأخير الصلاة، وإما بشرب المسكرات، وإما باستماع الأغاني ونحوها.

فيقولون: الحج معه خير من ترك الحج، والحج معه أولى من الحج منفرداً والتعرض لقطاع الطريق.

كذلك أيضاً الجهاد قتال الكفار، وهو الغزو، ولابد أن يكون لهم أمير، فليس شرطاً أن يكون ذلك الأمير مهذباً أو تقياً نقياً، بل يجاهد معه في نصر الإسلام، ويجتمع المجاهدون تحت رايته ويطيعونه، ويسيرون بتدبيره، ولا يجوز الغزو إلا بإذنه، ويلزمهم طاعته والصبر معه والسير بسيره، وعليه أن يرفق بهم ولا يكلفهم ولا يشق عليهم، وعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ولو كان منتقداً أو مرتكباً شيئاً من المعاصي، فإن ذلك لا يخول لهم أن يتركوا الجهاد، فالجهاد عبادة عظيمة وشعيرة من شعائر الإسلام بها أظهر الله تعالى الدين ونصره، وبها انتصر المسلمون وقضوا على كثير من الملل الكفرية، فما دام أن فيه مصلحة فإننا نجاهد كل كافر مع كل أمير ولو كان الأمير من الفجرة أو من الجورة.

الدعاء لهم وعدم الخروج عليهم بالسيف

موقفنا مع ولاة الأمور أن ندعوا لهم بالصلاح وبالإصلاح، وندعو لهم بالعطف إلى العدل وبأن يردهم الله تعالى إلى العدل، فإن الدعوة لهم فيها خير وفوائد.

أولاً: أننا نأمن في ولايتهم، نعرف أن في ولايتهم على البلاد خير كثير حيث تأمن البلاد وتسلم من قطاع الطريق وتسلم من الفتن نحوها.

ثانياً: جمع كلمة المسلمين، واتفاقهم على إمام واحد أو ولي واحد، فلذلك إذا رأينا منهم شيئاً من الجور أو ارتكاب شيء من المعاصي، أو نقصاً ننصحهم وندلهم على طرق الخير، ولا ننسى أن ندعوا الله لهم بالإصلاح وأن يردهم إلى العدل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الخروج عليهم بالسيف].

الخروج عليهم معناه: الخروج على الأئمة. فلا يجوز ولو كانوا عصاة، وما ذاك إلا أن في الخروج عليهم مفاسد كبيرة، وهو سبب للفتن وللقتل ولاستباحة الأموال والبلاد ولتفرق الكلمة، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى ينهون عن الخروج على الأئمة بالسيف ولو جاروا وظلموا وبطشوا، ويقولون: ليس في الخروج عليهم مصلحة، بل إن ذلك يؤدي إلى مفاسد كبيرة.

وفي عهد الإمام أحمد وجد كثير من الأئمة ممن عليهم مآخذ، من آخرهم الذي أدركه هو المعتصم، وكان قبله المأمون الذي فتن الناس ودعاهم إلى القول بخلق القرآن، ومع ذلك كان يدعو لهم رحمه الله بالصلاح والإصلاح، ويستأذنه بعض أصحابه في أن يثوروا ويخرجوا عليهم ويقاتلوهم فيقول: ماذا تحصلون عليه من قتالهم؟ لا تحصلون إلا على فشل وعلى ذل وهوان. ويضرب لهم أمثلة للذين خرجوا على أئمة الجور أنهم باؤوا بالفشل منذ العهد الأول.

فمثلاً: في عهد بني أمية كانت ثورات كثيرة وكلها باءت بالفشل، فمن أشهرها فتنة ابن الأشعث ، وذلك لأنه بعثه الحجاج لقتال بعض بلاد الأفغان لما بلغهم أن أمير كابول منع الجزية، فعند ذلك أرسله للغزو وشدد عليه، ولما شدد عليه خلع بيعة الحجاج وطاعته، ثم خلع بيعة عبد الملك وطاعته، ثم كان في النهاية أن بايعه الجيش، ثم أهل العراق، ثم حصل القتال بينه وبين الحجاج ، ثم كانت الهزيمة على ابن الأشعث وقتله بعد ذلك، وحصل بذلك أن قتل في هذه الفتنة أكثر من ثمانين ألفاً بسبب هذه الفتنة ولم يحصلوا على نتيجة.

ثم بعده: ابن المهلب أراد أن يخلع أيضاً بيعة خلفاء بني أمية لما رأى طاعة الجيش له وباء بالفشل.

ثم بعده: قتيبة بن مسلم الذي فتح كثيراً من بلاد الهند وما وراء النهر والسند ورأى طاعة الجيش له وخلع بيعة خليفة بني أمية ولم يحض إلا بالفشل.

فيضرب الإمام أحمد مثلاً بهؤلاء، وكذلك في خلافة المنصور لما تمت البيعة لبني العباس ثار عليه اثنان من أولاد الحسن بن علي أحدهما في المدينة والثاني في البصرة، ومع كثرة الجيوش التي بايعتهم ومع ذلك باءا بالفشل.

فمن عقيدة أهل السنة عدم الخروج على الأئمة بالسيف، وخالف في ذلك طائفتان: الخوارج والمعتزلة.

فالخوارج ثاروا في عهد علي ، وقاتلهم علي وشردهم، وبقي منهم بقايا صاروا يثورون كلما تقووا في عهد بني أمية، ولكنهم لا ينتصرون غالباً، ولو حصل لهم شيء من الانتصارات في بعض الأحيان.

أما المعتزلة فإن من عقيدتهم جواز الخروج على أئمة الجور، هذا من معتقدهم ولكنهم لم ينفذوا ذلك؛ لأن الغالب عليهم التفرق، فلم يصلوا إلى وقت يثورون فيه ويقاتلون الأئمة ويخرجون عليهم.

فالحاصل أن أهل السنة يرون عدم الخروج على الأئمة بالسيف، ويرون عدم القتال في الفتن بين المسلمين، وأن ذلك ضعف للإسلام وللمسلمين، ثم إذا ثارت ثائرة على إمام المسلمين فإن على عموم المسلمين أن يقاتلوهم بأمر ذلك الإمام، وهؤلاء يسمون (البغاة)، وهم الذين يثورون على إمام المسلمين أو أمير المؤمنين بشبهة تعرض لهم، فإذا كانت لديهم شوكة وقوة فإن الإمام أولاً يزيل الشبهات التي عندهم، بأن يراسلهم وينظر ما هي الشبه التي يتشبثون بها ويتعلقون بها فيزيلها، ثم ثانياً يقاتلهم، ويلزم الجيش طاعته والصبر والقتال معه للفئة الباغية.

إذا قدر مثلاً أن خطيب الجمعة متهم ببدعة فإن تلك البدعة لا تخول ترك الصلاة خلفه، فلو كان -مثلاً- متصوفاً، ولكن له سلطة وولاية، أو كان معتزلياً -وأهل السنة لا يكفرون المعتزلة مطلقاً-، وكذلك لو كان أشعرياً أو نحو ذلك فلا يكفر، ويصلى خلفه، ومن صلى خلفهم فإنا لا نأمره بإعادة الصلاة.

لكن إذا كان مشركاً فإنه يؤمر بإعادة الصلاة، فإذا عرف أنه من أهل وحدة الوجود وممن بدعتهم مكفرة، أو أنه من القبوريين الذين يدعون الأموات ويهتفون بأسمائهم ويدعونهم من دون الله تعالى، فمثل هؤلاء ولو كانوا يتسمون بأنهم مسلمون فإن دعاءهم لغير الله تعالى يحبط أعمالهم، فيصيرون بذلك مشركين.

فإذا عرفت -مثلاً- أن هذا الخطيب أو أن هذا الإمام مشرك يعبد أهل البيت -علياً أو ذريته- كالرافضة، أو يعبد عبد القادر ، أو ابن علوان ، أو البدوي ، أو نحوهم من المعبودات، بمعنى أنه يطوف بالقبر، أو يدعو الميت نفسه فيقول: يا معروف! أو: يا جنيد! أو يا ابن علوان! أو: يا عبد القادر! أو: يا كذا وكذا! أنا في حسبك، أو: ما لي إلا الله وأنت. أو نحو ذلك فإن هذا يعتبر مشركاً فلا تصح الصلاة خلفه؛ لأن شركه أخرجه من الإسلام، فإذا اضطر الإنسان إلى أن يصلي خلفهم فإنَّا نأمره بالإعادة، ولكن متى يكون مضطراً؟

موجود في كثير من البلاد الإفريقية أن ولاة الأمر وأئمة وخطباء المساجد من هؤلاء المتصوفة، ومعهم كثير من البدع المكفرة، ومن أشهرها أنهم يدعون الأموات ويعتقدون فيهم، أو أنهم غلاة في التصوف، بمعنى أنهم ملاحدة أو اتحادية، فيقول بعض أهل الخير: إذا لم نصل خلفهم آذونا واتهمونا بأننا نخالفهم أو نكفرهم، فيؤذوننا ويسجنوننا ويقتلوننا ويشردوننا ويطردوننا، فماذا نفعل؟

فنقول: إن وصلت البدعة إلى التكفير فإنك تصلي معهم مداراة لهم وتعيد، وإن لم تصل البدعة إلى التكفير فصلِّ معهم، فصلاتك لك وصلاتهم لهم، وأجاز بعض العلماء أن تدخل معهم وأنت تنوي الانفراد، فتتابع الإمام ولكنك منفرد تصلي لنفسك، فتقرأ ولو كان يقرأ، وتسمع بقولك (سمع الله لمن حمده)، وتصلي صلاة كاملة بنية أنك منفرد إذا خشيت على نفسك من أن يتهموك بأنك ثوري أو إرهابي أو مخالف أو نحو ذلك فيضروك، فلك أن تتقي شرهم بذلك، وإن تمكنت من أن تصلي وحدك، أو وجدت مسجداً -ولو بعيداً- فيه إمام مستقيم فهو الأولى.

يقول: [ويرون جهاد الكفار معهم، وإن كانوا جورة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل].

الجهاد: هو قتال الكفار. فمن عقيدة أهل السنة أنهم يرون الحج والجهاد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، وذلك لأنه في الزمان القديم لا يتيسر الحج إلا مع أمير يحفظ أولئك الحجاج، ويكون معه جيش قوي وأسلحة حتى لا يعترض للحجاج قطاع الطريق من الأعراب ونحوهم الذين يعترضونهم ويأخذون أمتعتهم، فيأمرون على الحج أميراً قوياً، وقد يكون ذلك الأمير متلبساً بشيء من المعاصي، إما بتأخير الصلاة، وإما بشرب المسكرات، وإما باستماع الأغاني ونحوها.

فيقولون: الحج معه خير من ترك الحج، والحج معه أولى من الحج منفرداً والتعرض لقطاع الطريق.

كذلك أيضاً الجهاد قتال الكفار، وهو الغزو، ولابد أن يكون لهم أمير، فليس شرطاً أن يكون ذلك الأمير مهذباً أو تقياً نقياً، بل يجاهد معه في نصر الإسلام، ويجتمع المجاهدون تحت رايته ويطيعونه، ويسيرون بتدبيره، ولا يجوز الغزو إلا بإذنه، ويلزمهم طاعته والصبر معه والسير بسيره، وعليه أن يرفق بهم ولا يكلفهم ولا يشق عليهم، وعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ولو كان منتقداً أو مرتكباً شيئاً من المعاصي، فإن ذلك لا يخول لهم أن يتركوا الجهاد، فالجهاد عبادة عظيمة وشعيرة من شعائر الإسلام بها أظهر الله تعالى الدين ونصره، وبها انتصر المسلمون وقضوا على كثير من الملل الكفرية، فما دام أن فيه مصلحة فإننا نجاهد كل كافر مع كل أمير ولو كان الأمير من الفجرة أو من الجورة.

موقفنا مع ولاة الأمور أن ندعوا لهم بالصلاح وبالإصلاح، وندعو لهم بالعطف إلى العدل وبأن يردهم الله تعالى إلى العدل، فإن الدعوة لهم فيها خير وفوائد.

أولاً: أننا نأمن في ولايتهم، نعرف أن في ولايتهم على البلاد خير كثير حيث تأمن البلاد وتسلم من قطاع الطريق وتسلم من الفتن نحوها.

ثانياً: جمع كلمة المسلمين، واتفاقهم على إمام واحد أو ولي واحد، فلذلك إذا رأينا منهم شيئاً من الجور أو ارتكاب شيء من المعاصي، أو نقصاً ننصحهم وندلهم على طرق الخير، ولا ننسى أن ندعوا الله لهم بالإصلاح وأن يردهم إلى العدل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الخروج عليهم بالسيف].

الخروج عليهم معناه: الخروج على الأئمة. فلا يجوز ولو كانوا عصاة، وما ذاك إلا أن في الخروج عليهم مفاسد كبيرة، وهو سبب للفتن وللقتل ولاستباحة الأموال والبلاد ولتفرق الكلمة، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى ينهون عن الخروج على الأئمة بالسيف ولو جاروا وظلموا وبطشوا، ويقولون: ليس في الخروج عليهم مصلحة، بل إن ذلك يؤدي إلى مفاسد كبيرة.

وفي عهد الإمام أحمد وجد كثير من الأئمة ممن عليهم مآخذ، من آخرهم الذي أدركه هو المعتصم، وكان قبله المأمون الذي فتن الناس ودعاهم إلى القول بخلق القرآن، ومع ذلك كان يدعو لهم رحمه الله بالصلاح والإصلاح، ويستأذنه بعض أصحابه في أن يثوروا ويخرجوا عليهم ويقاتلوهم فيقول: ماذا تحصلون عليه من قتالهم؟ لا تحصلون إلا على فشل وعلى ذل وهوان. ويضرب لهم أمثلة للذين خرجوا على أئمة الجور أنهم باؤوا بالفشل منذ العهد الأول.

فمثلاً: في عهد بني أمية كانت ثورات كثيرة وكلها باءت بالفشل، فمن أشهرها فتنة ابن الأشعث ، وذلك لأنه بعثه الحجاج لقتال بعض بلاد الأفغان لما بلغهم أن أمير كابول منع الجزية، فعند ذلك أرسله للغزو وشدد عليه، ولما شدد عليه خلع بيعة الحجاج وطاعته، ثم خلع بيعة عبد الملك وطاعته، ثم كان في النهاية أن بايعه الجيش، ثم أهل العراق، ثم حصل القتال بينه وبين الحجاج ، ثم كانت الهزيمة على ابن الأشعث وقتله بعد ذلك، وحصل بذلك أن قتل في هذه الفتنة أكثر من ثمانين ألفاً بسبب هذه الفتنة ولم يحصلوا على نتيجة.

ثم بعده: ابن المهلب أراد أن يخلع أيضاً بيعة خلفاء بني أمية لما رأى طاعة الجيش له وباء بالفشل.

ثم بعده: قتيبة بن مسلم الذي فتح كثيراً من بلاد الهند وما وراء النهر والسند ورأى طاعة الجيش له وخلع بيعة خليفة بني أمية ولم يحض إلا بالفشل.

فيضرب الإمام أحمد مثلاً بهؤلاء، وكذلك في خلافة المنصور لما تمت البيعة لبني العباس ثار عليه اثنان من أولاد الحسن بن علي أحدهما في المدينة والثاني في البصرة، ومع كثرة الجيوش التي بايعتهم ومع ذلك باءا بالفشل.

فمن عقيدة أهل السنة عدم الخروج على الأئمة بالسيف، وخالف في ذلك طائفتان: الخوارج والمعتزلة.

فالخوارج ثاروا في عهد علي ، وقاتلهم علي وشردهم، وبقي منهم بقايا صاروا يثورون كلما تقووا في عهد بني أمية، ولكنهم لا ينتصرون غالباً، ولو حصل لهم شيء من الانتصارات في بعض الأحيان.

أما المعتزلة فإن من عقيدتهم جواز الخروج على أئمة الجور، هذا من معتقدهم ولكنهم لم ينفذوا ذلك؛ لأن الغالب عليهم التفرق، فلم يصلوا إلى وقت يثورون فيه ويقاتلون الأئمة ويخرجون عليهم.

فالحاصل أن أهل السنة يرون عدم الخروج على الأئمة بالسيف، ويرون عدم القتال في الفتن بين المسلمين، وأن ذلك ضعف للإسلام وللمسلمين، ثم إذا ثارت ثائرة على إمام المسلمين فإن على عموم المسلمين أن يقاتلوهم بأمر ذلك الإمام، وهؤلاء يسمون (البغاة)، وهم الذين يثورون على إمام المسلمين أو أمير المؤمنين بشبهة تعرض لهم، فإذا كانت لديهم شوكة وقوة فإن الإمام أولاً يزيل الشبهات التي عندهم، بأن يراسلهم وينظر ما هي الشبه التي يتشبثون بها ويتعلقون بها فيزيلها، ثم ثانياً يقاتلهم، ويلزم الجيش طاعته والصبر والقتال معه للفئة الباغية.