شرح اعتقاد أهل السنة [7]


الحلقة مفرغة

قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة:

[ويقولون: إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عز وجل، وإن أكساب العباد كلها مخلوقة لله، وإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا حجة لمن أضله الله عز وجل ولا عذر، كما قال الله عز وجل: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، وقال: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:29-30] ، وقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179]، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، ومعنى (نبرأها): نخلقها. بلا خلاف في اللغة، وقال مخبراً عن أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] ، وقال: لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد:31] ، وقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119].

ويقولون: إن الخير والشر والحلو والمر بقضاء من الله عز وجل أمضاه وقدره، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، وإنهم فقراء إلى الله عز وجل لا غنى لهم عنه في كل وقت].

سبق الحديث عن أفعال العباد، وقد أورد في هذه الفقرة ما يتعلق بخلق أفعال العباد، وبكمال قدرة الله تعالى وبعلمه السابق، ففي هذه الفقرة الكلام على القدرة والإرادة والمشيئة والعلم السابق، وكل ذلك موضح في كتب العقائد.

فنعتقد أولاً أن الله تعالى بكل شيء عليم، وأنه علم الأشياء قبل أن توجد وتتحقق وقبل أن تظهر، علم ذلك بعلمه الأزلي القديم، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، هذه عقيدة أهل السنة.

وأنكروا بذلك على غلاة المعتزلة الذين يدعون أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وقد جاء في القرآن أن الله تعالى أنكر على المشركين ذلك، كما في القصة التي رواها عبد الله بن عمرو وغيره أن ثلاثة من المشركين بمكة كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم اجتمعوا، فقال أحدهم: هل ترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال أحدهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا. فقال الآخر: إذا كان يسمع ما جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك:13] هكذا ظنهم.

ثم إن الغلاة كـمعبد الجهني وغيلان القدري بالغوا وقالوا: إن الأمر أُنُف، وإن الله لا يعلم الأشياء حتى تحدث. فرد عليهم الأئمة رداً واضحاً، ولا شك أن القرآن فيه الرد الواضح عليهم، مثل قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] يعني: معرفة الأمور المستقبلة يسير على الله تعالى، فلا يصيب أحداً مصيبة إلا وهي مكتوبة قبل أن يخلق، بل قبل أن تخلق المخلوقات كلها كما قال في الحديث: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، وفي حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكتب في الذكر -يريد بـ(الذكر) اللوح المحفوظ- كل شيء كائن إلى يوم القيامة)، قال الله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، كل ما هو كائن فإنه في اللوح المحفوظ، لا يتغير ولا يتبدل عما هو عليه.

كذلك يقول الله تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] أي: مكتوب قبل أن توجد هذه المخلوقات كلها.

فيسمى هذا النوع: العلم السابق. أي: علم الله بالأشياء قبل حدوثها، وذكر أن غلاة القدرية هم الذين أنكروه، فقال الشافعي رحمه الله في حقهم: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. أي: سلوهم: هل الله بكل شيء عليم؟ فإذا اعترفوا بأن الله بكل شيء عليم كما جاء في القرآن فقل: ما الفرق بين الماضي وبين المستقبل؟ إذا كان عليماً بالأشياء التي حدثت. فإنه عليم بالأشياء التي لم تحدث، فكلها شيء، وكل شيء حادث فإنه لابد أنه معلوم لله، وكل ما يحدث مكتوب قبل أن يحدث.

ومع ذلك لا ينافي أنك مأمور بأن تعمل وبأن تبذل العمل، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب السابق وقال: (ما منكم من أحد إلا وقد عُلم مقعده من الجنة ومقعده من النار. فقال بعضهم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وقرأ قول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10])، فجعل التيسير له أسباب، وهو هذا العمل.

الإيمان بالقدر السابق وبعلم الله القدير واجب على كل مسلم، وقد ذكروا أن هذا النوع على أربعة أقسام: التقدير العام، والتقدير العمري، والتقدير السنوي، والتقدير اليومي، فالتقدير العام هو الذي كتبه الله في اللوح المحفوظ لكل ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.

وأما التقدير العمري فهو الذي يكتب والإنسان في رحم أمه، يبعث إليه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، يكتب ذلك وهو في الرحم مع أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، وهذا لكل إنسان، ولهذا قال في الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).

وهكذا أيضاً أخبر بأن الله تعالى كتب على الإنسان كل شيء، وبأنه لا يتغير: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وهذا علم الله تعالى السابق، استدل عليه بهذه الآية من سورة الحديد: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها.

أما القدر الذي أنكرته المعتزلة فهو قدرة الله تعالى على كل شيء، حيث إن المعتزلة يجعلون قدرة العبد أقوى من قدرة الرب، فيقولون: إن العباد مستقلون بأفعالهم، وليس لله قدرة على هداية أو إضلال، بل العباد هم الذين يهدون أنفسهم أو يضلون. ويقولون: لو أراد العبد أن يفعل شيئاً وأراد الله أن لا يفعله غلبت قدرة العبد قدرة الرب. فالعبد عندهم هو الذي يهدي نفسه أو يضلها، وأنكروا قول الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33]، وأنكروا قول الله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37]، فمن يضله الله فلا يهديه أحد.

وتكاثر في القرآن إسناد الإضلال والهداية إلى الله، كقوله تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل:93].

ويؤمن أهل السنة بأن قدرة الله تعالى عامة لكل شيء، لعموم قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]، ويدخل في ذلك أفعال العباد وحركاتهم، فهي لا تحصل إلا إذا شاءها الله تعالى وأرادها، قال تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء:4] ، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، وقال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] .

فمشيئة الله تعالى وقدرته داخل فيها كل أفعال العباد، لا يكون في الوجود إلا ما يريد.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقولون: إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله تعالى، وإن أكساب العباد كلها مخلوقة لله].

قوله: [أكسابهم] يعني: أعمالهم. فالأشاعرة يقولون: إن أفعال العباد خلق الله وكسب العباد. فيثبتون للعبد كسباً، وكأنهم يبالغون في إثبات خلق الله تعالى للفعل، ولا يثبتون للعبد إلا كسباً، ولكن ذلك الكسب قد لا يكون له حقيقة.

فمن الأشياء التي لا حقيقة لها الكسب عند الأشعري ، ولهذا يقول بعض الشعراء:

مما يقال ولا حقيقة تحته معلومة تدنوا من الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام

يعني أنها تقال وليس لها حقيقة.

ومع ذلك فكسب العبد نفسه وعمله مخلوقان لله تعالى، وهذه المسألة هي التي ألف فيها البخاري كتاب (خلق أفعال العباد)، وأورد الأدلة على أن أفعال العباد كلها خلق الله، فحركاتهم لا تكون إلا بإرادة الله تعالى وبمشيئته، وأن الله يهدي من يشاء فضلاً منه ويضل من يشاء عدلاً منه، وإذا كان هو الذي يهدي ويضل فإنه مع ذلك لا حجة لمن أضله الله عز وجل، ولا حجة له في ارتكاب المعاصي ولا عذر له، لقوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] أخبر بأن حجة الله أقوى من حجتهم، ورد على المشركين احتجاجهم بقدرة الله وبقولهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام:148]، ثم مع ذلك قال: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] ، وقال تعالى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:29-30]، فالذين مَنَّ الله عليهم بالهداية ووفقهم وأعانهم حتى صاروا مهتدين: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ، أما الذين حق عليهم الضلال فهم الأشقياء، وهم الكفرة، وهم المحرومون الذين حقت عليهم الضلالة، والله تعالى هو الذي أضلهم وصرف قلوبهم وحال بينهم وبين الهداية عدلاً منه وحكمة.

وكذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179] أخبر بأنه ذرأهم يعني خلقهم لها. وورد أيضاً في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وإن الله خلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)، وفي الحديث القدسي: (إن الله قبض قبضة فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي. وقبض قبضة أخرى وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي)، حكمة من الله تعالى أنه قسم خلقه إلى قسمين، فالحاصل أن هداية الله تعالى فضل منه، وإضلاله عدل منه، ولهذا حكى الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يقولون بعدما دخلوا الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] يعني: يعترفون بفضل الله تعالى عليهم، وبأنه هو الذي وفقهم وسددهم وأعانهم وأعطاهم ما يتميزون به عن أهل النار فضلاً منه الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].

وكذلك عموم مشيئة الله: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119]، فلو شاء لجعلهم أمة واحدة كما في قول الله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الشورى:7-8]، فلو شاء لجعلهم أمة واحدة كلهم مهتدون، ولكن صرف قلوب هؤلاء عدلاً منه، وهدى قلوب هؤلاء فضلاً منه.

القضاء والقدر في عقيدة أهل السنة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقولون: إن الخير والشر والحلو والمر بقضاء من الله عز وجل أمضاه وقدره].

ورد ذلك أيضاً في الحديث: (أن تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره) أي: تؤمن بأن ما يحدث في الكون كله من الله مقدر، خيره وشره، حلوه ومره، ما يلائمك وما لا يلائمك، وتؤمن بأنه مكتوب عند الله تعالى، فإذا حصل لك رزق، ونعمة وصحة ورفاهية وراحة طيبة وسعة بال فاعلم أنه بقدر من الله وأن الله الذي قدره، وإذا أصبت بهم أو غم أو حزن أو فقر أو مرض أو مصيبة في مال أو بدن أو ولد أو أمر من الأمور التي تجلب لك السوء وتحزنك، فاعلم أنها مكتوبة وأنها مقدرة، وكذلك كل ما يحلو لك أو لا يحلو اعلم أنه من الله وأنه بقضاء من الله تعالى قدره وأمضاه.

قال رحمه الله تعالى: [لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله تعالى] أي: الخلق.

فالله تعالى هو الذي يعطي هؤلاء النفع وهؤلاء الضر، ويقدر عليهم ما قدره.

قال رحمه الله تعالى: [وإنهم فقراء إلى الله عز وجل، لا غنى لهم عنه في كل وقت].

قال الله تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، وفقر الإنسان فقر لازم ذاتي لا يمكن أن يتغير ولا أن يتحول، يقول شيخ الإسلام :

فالفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي

فالفقر للإنسان وصف ذاتي، والغنى للرب تعالى وصف ذاتي.

وهذا الكلام الذي ذكره المؤلف في هذه الفقرة يتعلق بالقضاء والقدر، وقد ذكر العلماء أن للقدر درجتين:

الدرجة الأولى: أن الله تعالى علم الأشياء قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ. والدرجة الثانية: أن الله تعالى أراد الأشياء الموجودة ثم خلقها.

فالدرجة الأولى تتضمن العلم والكتابة، والدرجة الثانية تتضمن الإرادة والخلق، ولهذا يقولون: لا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولا يمكن أن يحدث شيء في الوجود إلا بعد إرادة الله تعالى.

ثم إن هذه الدرجة انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قوم أنكروها وقالوا: ليس لله قدرة على أفعال العباد. وهؤلاء هم المعتزلة، ولهذا يسمون مجوس هذه الأمة، حيث جعلوا مع الله خالقاً، فقالوا: كل أحد يخلق أفعاله، وليس لله قدرة على أفعال العباد. فجعلوا قدرة العباد أقوى من قدرة الله.

القسم الثاني: طائفة غلت في هذه الدرجة وبالغت فيها، وهم الجبرية الذين جعلوا العبد كالأداة ليس له أي اختيار وليس له أي عمل، ولا تنسب إليه أية حركة، وجعلوا حركة العباد كحركة من ترتعش يده ولا يقدر على إمساكها، وجعلوا حركاته كحركات الشجر الذي تحركه الرياح بغير اختياره، ويسمون الجبرية؛ لأنهم يدعون أن العبد مجبور على أفعاله، وقد رد عليهم أهل السنة وقالوا: إن في هذا القول إبطالاً للشريعة وسلباً للحكمة، وذلك لأن الله تعالى يوجه الأوامر إلى الناس، ويأمر وينهى، ولولا أن للعباد قدرة على أفعالهم لما أمرهم بها، فكيف يقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، وهم مع ذلك لا يقدرون على شيء؟! وكيف يقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104] وهم لا يقدرون على شيء؟! وكيف يقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278] وهم لا يقدرون على شيء؟!

وأيضاً فإن في الغلو في هذه الدرجة مخالفة للعقل، فالذين يدعون أنهم مجبورون على هذه الأفعال مضطربون في ذلك ومخالفون لعقولهم، ثم هم أيضاً مخالفون لواقعهم.

والحاصل أن مثل هؤلاء يحتجون بالقدر على المعاصي، ولكن عندما يعاقبون لا يحتجون به، وفي أبيات لـابن القيم في الميمية يقول فيها:

وعند مراد الله تفنى كَمَيِّت وعند مراد النفس تسدي وتلحم

وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم

فجعلهم إذا جاء للناس حظ اهتموا بالأمر وعملوا لأجل حظ النفس، وإذا جاء أمر الله يفنى أحدهم كأنه ميت، وإذا وقع في معصية احتج بالقضاء وبالقدر، ومشهور أن بعض أولئك الزنادقة دخل على شيخ الإسلام ابن تيمية فأنشده أبياتاً يحتج فيها بالقدر أولها:

أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة

وفيها قوله:

دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل. بينوا لي قضيتي

قضى بضلالي ثم قال أرض بالقضا فهل أنا راض بالذي فيه شقوتي

ولما قرأها شيخ الإسلام وهو جالس عنده بعض تلاميذه أخذ يكتب رداً عليه، فكانوا يحسبون أنه يرد عليه نثراً وإذا هو يرد عليه نظماً، فرد عليه بأبيات زادت على المائة، وأولها:

سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية

إلى أن قال:

وتدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طراً معشر القدرية

سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ما رأوا به في الشريعة.

ونحن نقول لهؤلاء الذين يحتجون بالقدر: نعاملكم بما تحتجون به. ولكنهم لا يقنعون.

ذكر أن رجلاً سرق فجيء به إلى عمر ، فقال: أتعاقبني على أمر مقدر ومكتوب علي؟ فقال عمر : أنت سرقت بقدر الله وأنا أقطع يدك بقدر الله.

ولما سافر إلى الشام وذكر له أن الوباء قد وقع في الشام فرجع بأصحابه إلى المدينة قال أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله؟! فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله. فالله تعالى قدر لنا أننا نذهب ونرجع، فهذا قدر الله.

وفي مثل هذا يقال لهم: نعاقبكم بذلك. وقد ذكروا أن بعض الخدم كان يقود رجلاً أعمى، فكان يتعثر به في الحفر، فلامه فقال: هذا قدر الله. فعند ذلك ضربه بعصاه حتى سقط، فقال: كيف تضربني؟ قال: هذا قدر الله. قدر الله تحتج به فنحن نحتج بالقدر. مع أنهم لا يحتجون به أيضاً في مصالح أهوائهم، كما ذكر ذلك ابن القيم:

وعند مراد الناس تسدي وتلحم.

والحاصل: أن هاتين الفرقتين متضادتان، فرقة المعتزلة الذين أنكروا قدرة الله وفرقة الجبرية الذين أنكروا قدرة العبد.

القسم الثالث: وهم أهل السنة الذين أثبتوا لله تعالى قدرة عامة، وأثبتوا للعبد قدرة تناسبه وهي القدرة الخاصة، وجعلوها مرتبطة بقدرة الله تعالى، ولا تحصل إلا بعد قدرة الله ومشيئته، واستدلوا عليها بالآيات، مثل قوله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:28-29]، وقوله: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:55-56]، وقوله: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:19] ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] وأشباه ذلك، حيث جعل لهم مشيئة، وجعلوا مشيئتهم مرتبطة بمشيئة الله تعالى، فلذلك نقول: إن مشيئة العباد يتمكنون بها من مزاولة أعمالهم الدينية والدنيوية، فالله تعالى أعطى الإنسان هذه القوة فيحمل الأثقال، ويحرث ويحفر ويغرس، ويتمكن من الأشياء التي تناسبه، فهذه القوة التي أعطاه الله هي التي كلفه لأجلها، ولو كانت قدرة الله محيطة به، فهو أعطاه وأمره أن يمتثل ما أمره به، ولم يأمره إلا وعنده استطاعة، ولهذا يذكر أنه مكلف بقدر الاستطاعة، كقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فأوامر الله تعالى ونواهيه لابد أن تكون مقدورة للعبد، وأن العبد يستطيع أن يفعلها وتنسب إليه لأنه الذي باشرها.

فنقول: هذا مصلٍ، وهذا صائم، وهذا تقي، وهذا نقي، وهذا قارئ، وهذا بر بأبويه، وهذا محسن إلى إخوته، وهذا صدوق اللسان، وهذا طاهر القلب، وهذا طاهر الجنان. وبضد ذلك نقول: هذا فاجر، وشقي، وبعيد عن الخير، ومعاند، وخارج عن طاعة الله تعالى، وكذاب، وفاجر. فننسب إليه أفعاله التي فعلها ولو كانت بمشيئة الله، فالله تعالى لو شاء لرده عن هواه، ولكن لما كان مزاجه وهواه وطبعه سيئاً خلَّى بينه وبين هواه وخلَّى بينه وبين شيطانه، ولو هداه لاهتدى، ولكن لله الحكمة في أن هدى قوماً وأضل آخرين، فالخلق الذين في المنزل الواحد نشاهد أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم مهتدون متمسكون غاية التمسك صالحون في كل أعمالهم، وقسم منحرفون فسقة فجرة ليس معهم من الخير شيء، وقسم متوسطون معهم خير ومعهم شر، فالله تعالى أعطى هذا وأعطى هذا، ومَنَّ على هذا، وخذل هذا.

إذاً فنؤمن بهذا كله، ونعلم أن هذا كله قضاء الله تعالى وقدره، لا رادَّ لما قضى ولا مغير لما أمر به.

مذاهب أهل القبلة في أفعال العباد

أهل القبلة في أفعال العباد ثلاثة مذاهب:

مذهب المعتزلة الذين ينكرون قدرة الله على أفعال العباد.

ومذهب الجبرية الذين ينكرون قدرة العبد على فعله ويسلبونه أية حركة.

ومذهب أهل السنة الذين يثبتون القوة والقدرة العامة لله تعالى، ويثبتون للعبد قدرة تناسبه مسبوقة بقدرة الله تعالى.

وقول المعتزلة يسمونه عدلاً، وذلك لأنهم توهموا أن الله إذا خلق المعصية في العبد ثم عاقبه عليها صار ظلماً، فلأجل ذلك قالوا: العبد هو الذي يهدي نفسه أو يضل نفسه، والله لا يقدر على أن يهدي ولا يضل. فكانوا بذلك مفضلين قوة العبد على قوة الرب، وعندهم أن العبد يعصي ربه قسراً عليه وقهراً، وأن الله يُعصى قسراً، هذا قول المعتزلة.

وأما الجبرية فهم الذين سلبوا العبد قدرته واستطاعته، ولم يثبتوا له أية قدرة.

وقول أهل السنة وسط بينهما، أن للعباد قدرة على أفعالهم، وأن لهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، وبهذه القدرة التي أعطاهم الله كلّفهم وأمرهم ونهاهم، وما كلفهم إلا وهم قادرون، وما أمرهم إلا وهم مستطيعون.

وفي المسألة بغير شك شيءٌ من الخفاء، ولأجل ذلك يقول الطحاوي في عقيدته: (القدر سر الله في خلقه)، بمعنى أن هذه القدرة التي مكّن الله بها العبد وكلّفه بها خفيَّة، فلأجل ذلك صار القدر سراً، أي: سر الله في خلقه.

وقد تكلّم العلماء على هذه المسألة، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسائل في هذا الباب مطبوعة في الجزء الثامن من مجموع فتاويه، ومنها رسالة بعنوان (أقوم ما قيل في القضاء والقدر والتعليل).

ولتلميذه ابن القيم كتاب كبير اسمه (شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل)، وهو أوسع من تكلم في هذه المسألة، وبيّن القول الفصل فيها، وجمع بين الأدلة، وذلك لأنه قد يتوهم في الأدلة شيءٌ من المخالفة؛ لأن المشركين يحتجون بالقدر على المعاصي، فيقولون لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا [النحل:35]، أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47]، فأنكر الله تعالى عليهم هذا الاحتجاج، ومع ذلك يقول: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، ويقول: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء:4]، ويقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، فكل ذلك دليل على أنهم لا يخرجون عن مشيئته ولا إرادته، ثم ذكر العلماء أن الإرادة في كتاب الله على نوعين: إرادة قدرية، وإرادة شرعية.

وأن الإرادة القدرية هي التي يلزم وقوع المراد بها، ولكن قد يكون المراد بها محبوباً وقد يكون غير محبوب، فنقول: كل ما يحصل في الوجود فإنه مراد لله كوناً وقدراً، الطاعة والمعاصي، والخلق والرزق، والتدبيرات والحوادث التي تحدث في الدنيا كلها قد أرادها الله كوناً وقدراً، ولو شاء لم تحصل، ولهذا قال عن عمل السحرة: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102] يعني: بإذن الله الكوني القدري، ليس الديني الشرعي. لأن الله تعالى حرّم عمل السحر وتوعّد عليه، ومع ذلك السحرة لا يفعلون شيئاً من قبل أنفسهم ولو أضروا من أضروا وحصل من الإضرار ما يحصل به، فإن ذلك مراد لله لا يخرج عن إرادته، فنقول: لا يحصل قتل في الدنيا إلا بإرادة الله الكونية، ولا تحصل معصية من زنا أو سرقة أو أكل مال حرام أو كسب حرام لا يحصل شيءٌ من ذلك إلا وقد أراد الله وجوده إرادة كونية قدرية، ولكن لا يلزم أن يكون محبوباً لله تعالى، وكذلك كل ما يحصل في الوجود، ومن تعبيراتهم أن يقولوا: لا يكون في الوجود إلا ما يريد. أي: إرادة كونية قدرية، أن قدر الله أنه سيحصل كذا وكذا، وكل ما قدره كوناً فإنه -ولا بد- حاصل، وهو مراد لله كوناً وقدراً.

أما الإرادة الدينية الشرعية فهي التي تستلزم محبة المراد، ولكن لا تستلزم وقوعه، فنقول: الله أراد من الخلق كلهم أن يسلموا، فهل أسلموا كلهم؟ أسلم من هداه الله وسدده، ولم يسلم من خذله وحرمه، والله أراد من الجميع أن يدخلوا في الإسلام، هذه إرادة دينية شرعية، لكن المراد ديناً وشرعاً محبوب إلى الله، فنقول: الله يريد منا الإسلام ويحبه، يريد منا الصلاة ويحبها، ويريد منا أن نذكره ويحب ذلك، ويريد منا أن نتلو كتابه ويحب ذلك، ويريد منا أن نطيعه ونطيع رسله ونتبعهم، ويريد منا أن نؤمن به ونؤمن برسله، ويريد منا أن نذكره ونسبحه وندعوه ونخلص له الدين وحده، ويريد منا أن نتصدق ونزكي ونصوم ونجاهد ونصبر ونصدق ونحو ذلك، يريد ذلك منا إرادة دينية شرعية، يريدها من الجميع، ولكن قد تحصل من هذا ولا تحصل من هذا، مع أنه أراد من الجميع أن يكونوا صادقين وصابرين وقانتين مخبتين منيبين تائبين عابدين، يريد منهم ذلك كلهم، ولكن منهم من تتحقق منه هذه الإرادة فتجتمع فيه الإرادتان الدينية الشرعية والكونية القدرية، فنقول: إيمانك -أيها العبد الصالح- وصلواتك وعباداتك التي حصلت اجتمعت فيها الإرادتان: الإرادة الدينية والإرادة الكونية.

وكفر هذا الكافر ومعصيته انفردت فيه الإرادة الكونية، وإيمان الكافر وطاعته انفردت فيه الإرادة الدينية ولم تحصل له الإرادة الكونية، فلو أراد الله إيمان الكافر كوناً وقدراً حصل، لكنه أراده ديناً وشرعاً ولم يرده كوناً وقدراً، فنتفطن للفرق بين الإرادتين، فهذا المراد بأفعال العباد.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقولون: إن الخير والشر والحلو والمر بقضاء من الله عز وجل أمضاه وقدره].

ورد ذلك أيضاً في الحديث: (أن تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره) أي: تؤمن بأن ما يحدث في الكون كله من الله مقدر، خيره وشره، حلوه ومره، ما يلائمك وما لا يلائمك، وتؤمن بأنه مكتوب عند الله تعالى، فإذا حصل لك رزق، ونعمة وصحة ورفاهية وراحة طيبة وسعة بال فاعلم أنه بقدر من الله وأن الله الذي قدره، وإذا أصبت بهم أو غم أو حزن أو فقر أو مرض أو مصيبة في مال أو بدن أو ولد أو أمر من الأمور التي تجلب لك السوء وتحزنك، فاعلم أنها مكتوبة وأنها مقدرة، وكذلك كل ما يحلو لك أو لا يحلو اعلم أنه من الله وأنه بقضاء من الله تعالى قدره وأمضاه.

قال رحمه الله تعالى: [لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله تعالى] أي: الخلق.

فالله تعالى هو الذي يعطي هؤلاء النفع وهؤلاء الضر، ويقدر عليهم ما قدره.

قال رحمه الله تعالى: [وإنهم فقراء إلى الله عز وجل، لا غنى لهم عنه في كل وقت].

قال الله تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، وفقر الإنسان فقر لازم ذاتي لا يمكن أن يتغير ولا أن يتحول، يقول شيخ الإسلام :

فالفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي

فالفقر للإنسان وصف ذاتي، والغنى للرب تعالى وصف ذاتي.

وهذا الكلام الذي ذكره المؤلف في هذه الفقرة يتعلق بالقضاء والقدر، وقد ذكر العلماء أن للقدر درجتين:

الدرجة الأولى: أن الله تعالى علم الأشياء قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ. والدرجة الثانية: أن الله تعالى أراد الأشياء الموجودة ثم خلقها.

فالدرجة الأولى تتضمن العلم والكتابة، والدرجة الثانية تتضمن الإرادة والخلق، ولهذا يقولون: لا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولا يمكن أن يحدث شيء في الوجود إلا بعد إرادة الله تعالى.

ثم إن هذه الدرجة انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قوم أنكروها وقالوا: ليس لله قدرة على أفعال العباد. وهؤلاء هم المعتزلة، ولهذا يسمون مجوس هذه الأمة، حيث جعلوا مع الله خالقاً، فقالوا: كل أحد يخلق أفعاله، وليس لله قدرة على أفعال العباد. فجعلوا قدرة العباد أقوى من قدرة الله.

القسم الثاني: طائفة غلت في هذه الدرجة وبالغت فيها، وهم الجبرية الذين جعلوا العبد كالأداة ليس له أي اختيار وليس له أي عمل، ولا تنسب إليه أية حركة، وجعلوا حركة العباد كحركة من ترتعش يده ولا يقدر على إمساكها، وجعلوا حركاته كحركات الشجر الذي تحركه الرياح بغير اختياره، ويسمون الجبرية؛ لأنهم يدعون أن العبد مجبور على أفعاله، وقد رد عليهم أهل السنة وقالوا: إن في هذا القول إبطالاً للشريعة وسلباً للحكمة، وذلك لأن الله تعالى يوجه الأوامر إلى الناس، ويأمر وينهى، ولولا أن للعباد قدرة على أفعالهم لما أمرهم بها، فكيف يقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، وهم مع ذلك لا يقدرون على شيء؟! وكيف يقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا [البقرة:104] وهم لا يقدرون على شيء؟! وكيف يقول لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278] وهم لا يقدرون على شيء؟!

وأيضاً فإن في الغلو في هذه الدرجة مخالفة للعقل، فالذين يدعون أنهم مجبورون على هذه الأفعال مضطربون في ذلك ومخالفون لعقولهم، ثم هم أيضاً مخالفون لواقعهم.

والحاصل أن مثل هؤلاء يحتجون بالقدر على المعاصي، ولكن عندما يعاقبون لا يحتجون به، وفي أبيات لـابن القيم في الميمية يقول فيها:

وعند مراد الله تفنى كَمَيِّت وعند مراد النفس تسدي وتلحم

وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم

فجعلهم إذا جاء للناس حظ اهتموا بالأمر وعملوا لأجل حظ النفس، وإذا جاء أمر الله يفنى أحدهم كأنه ميت، وإذا وقع في معصية احتج بالقضاء وبالقدر، ومشهور أن بعض أولئك الزنادقة دخل على شيخ الإسلام ابن تيمية فأنشده أبياتاً يحتج فيها بالقدر أولها:

أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة

وفيها قوله:

دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل. بينوا لي قضيتي

قضى بضلالي ثم قال أرض بالقضا فهل أنا راض بالذي فيه شقوتي

ولما قرأها شيخ الإسلام وهو جالس عنده بعض تلاميذه أخذ يكتب رداً عليه، فكانوا يحسبون أنه يرد عليه نثراً وإذا هو يرد عليه نظماً، فرد عليه بأبيات زادت على المائة، وأولها:

سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية

إلى أن قال:

وتدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طراً معشر القدرية

سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ما رأوا به في الشريعة.

ونحن نقول لهؤلاء الذين يحتجون بالقدر: نعاملكم بما تحتجون به. ولكنهم لا يقنعون.

ذكر أن رجلاً سرق فجيء به إلى عمر ، فقال: أتعاقبني على أمر مقدر ومكتوب علي؟ فقال عمر : أنت سرقت بقدر الله وأنا أقطع يدك بقدر الله.

ولما سافر إلى الشام وذكر له أن الوباء قد وقع في الشام فرجع بأصحابه إلى المدينة قال أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله؟! فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله. فالله تعالى قدر لنا أننا نذهب ونرجع، فهذا قدر الله.

وفي مثل هذا يقال لهم: نعاقبكم بذلك. وقد ذكروا أن بعض الخدم كان يقود رجلاً أعمى، فكان يتعثر به في الحفر، فلامه فقال: هذا قدر الله. فعند ذلك ضربه بعصاه حتى سقط، فقال: كيف تضربني؟ قال: هذا قدر الله. قدر الله تحتج به فنحن نحتج بالقدر. مع أنهم لا يحتجون به أيضاً في مصالح أهوائهم، كما ذكر ذلك ابن القيم:

وعند مراد الناس تسدي وتلحم.

والحاصل: أن هاتين الفرقتين متضادتان، فرقة المعتزلة الذين أنكروا قدرة الله وفرقة الجبرية الذين أنكروا قدرة العبد.

القسم الثالث: وهم أهل السنة الذين أثبتوا لله تعالى قدرة عامة، وأثبتوا للعبد قدرة تناسبه وهي القدرة الخاصة، وجعلوها مرتبطة بقدرة الله تعالى، ولا تحصل إلا بعد قدرة الله ومشيئته، واستدلوا عليها بالآيات، مثل قوله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:28-29]، وقوله: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:55-56]، وقوله: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:19] ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] وأشباه ذلك، حيث جعل لهم مشيئة، وجعلوا مشيئتهم مرتبطة بمشيئة الله تعالى، فلذلك نقول: إن مشيئة العباد يتمكنون بها من مزاولة أعمالهم الدينية والدنيوية، فالله تعالى أعطى الإنسان هذه القوة فيحمل الأثقال، ويحرث ويحفر ويغرس، ويتمكن من الأشياء التي تناسبه، فهذه القوة التي أعطاه الله هي التي كلفه لأجلها، ولو كانت قدرة الله محيطة به، فهو أعطاه وأمره أن يمتثل ما أمره به، ولم يأمره إلا وعنده استطاعة، ولهذا يذكر أنه مكلف بقدر الاستطاعة، كقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فأوامر الله تعالى ونواهيه لابد أن تكون مقدورة للعبد، وأن العبد يستطيع أن يفعلها وتنسب إليه لأنه الذي باشرها.

فنقول: هذا مصلٍ، وهذا صائم، وهذا تقي، وهذا نقي، وهذا قارئ، وهذا بر بأبويه، وهذا محسن إلى إخوته، وهذا صدوق اللسان، وهذا طاهر القلب، وهذا طاهر الجنان. وبضد ذلك نقول: هذا فاجر، وشقي، وبعيد عن الخير، ومعاند، وخارج عن طاعة الله تعالى، وكذاب، وفاجر. فننسب إليه أفعاله التي فعلها ولو كانت بمشيئة الله، فالله تعالى لو شاء لرده عن هواه، ولكن لما كان مزاجه وهواه وطبعه سيئاً خلَّى بينه وبين هواه وخلَّى بينه وبين شيطانه، ولو هداه لاهتدى، ولكن لله الحكمة في أن هدى قوماً وأضل آخرين، فالخلق الذين في المنزل الواحد نشاهد أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم مهتدون متمسكون غاية التمسك صالحون في كل أعمالهم، وقسم منحرفون فسقة فجرة ليس معهم من الخير شيء، وقسم متوسطون معهم خير ومعهم شر، فالله تعالى أعطى هذا وأعطى هذا، ومَنَّ على هذا، وخذل هذا.

إذاً فنؤمن بهذا كله، ونعلم أن هذا كله قضاء الله تعالى وقدره، لا رادَّ لما قضى ولا مغير لما أمر به.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح اعتقاد أهل السنة [8] 2695 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [5] 2358 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [13] 2328 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [3] 1851 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [12] 1773 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [6] 1719 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [17] 1694 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [10] 1675 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [4] 1645 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [2] 1622 استماع