شرح اعتقاد أهل السنة [10]


الحلقة مفرغة

قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة في بحثه في مسائل الإيمان: [وقال كثير منهم: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى الآخر فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعاً. أو مفردين أريد بأحدهما معنىً لم يرد بالآخر، وإن ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم.

وكثير منهم قالوا: الإسلام والإيمان واحد، فقال الله عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، فلو أن الإيمان غيره لم يقبل، وقال: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36].

ومنهم من ذهب إلى أن الإسلام مختص بالاستسلام لله والخضوع له والانقياد لحكمه فيما هو مؤمن به، كما قال: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، وقال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [الحجرات:17]، وهذا أيضاً دليل لمن قال: هما واحد.

ويقولون: إن الله يخرج من النار قوماً من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين برحمته، وإن الشفاعة حق، وإن الحوض حق، والميزان حق. والحساب حق، ولا يقطعون على أحد من أهل الملة أنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار؛ لأن علم ذلك مغيب عنهم لا يدرون على ماذا يموت: أعلى الإسلام أم على الكفر؟

ولكن يقولون: إن من مات على الإسلام مجتنباً للكبائر والأهواء والآثام فهو من أهل الجنة؛ لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]، ولم يذكر عنهم ذنباً، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البينة:8].

ومن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بعينه بأنه من أهل الجنة وصح له ذلك عنه فإنهم يشهدون له بذلك اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقاً لقوله].

تكلم هنا على الفرق بين الإسلام والإيمان، وقد تقدم قول أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، وعلى هذا اتفق سلف الأمة، ولما ابتدأ البخاري كتابه بعد المقدمة بالإيمان قال: وهو قول وفعل. ويريد بالفعل فعل القلب وفعل الجوارح، جاء بهذه العبارة من نفسه، ونقل عنه أنه لما ذكر مشايخه الذين ذكرهم في صحيحه قال: إني خرجت هذه الأحاديث عن أكثر من ثلاثمائة شيخ كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل.

ولكن اختلفوا هل الإسلام والإيمان بمعنى واحد أو بينهما فرق. على أقوال.

فذهب كثير من العلماء إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وأن من أطلق عليه مسلم فإنه يصدق عليه أنه مؤمن وبالعكس، ويميل إلى هذا ابن رجب في شرح الأربعين النووية في شرح حديث جبريل الذي فيه تفسير الإسلام والإيمان، أن أحدهما يفسر بما يفسر به الآخر، سواء اجتمعا أو افترقا.

وذهب آخرون إلى أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، ومعنى ذلك أنهما إذا ذكرا جميعاً فلكل واحد منهما تفسير، وإذا ذكر أحدهما أغنى عن الآخر، فيفسر الإيمان بأنه الأعمال الباطنة والإسلام بأنه الأعمال الظاهرة، وذلك بناء على الأصل، فإن أصل الإيمان هو التصديق بالقلب الذي هو يقينه وتصديقه، وأصل الإسلام هو الإذعان والانقياد، يقال: استسلم فلان للأمير وبمعنى: انقاد له وأذعن ولم يعص ولم يتخلف ولم يتبرم. فلذلك يقال: المسلم هو الذي استسلم لأمر الله وانقاد له، وأذعن وخضع له وتواضع، وأطاعه طوعاً وكرهاً، أطاع الله تعالى مختاراً دون أن يتردد في أمر من أمور الدين، إذا أمر بأمر بادر إليه، وإذا نهي عن شيء في الإسلام تركه وابتعد عنه، يعتقد أن ما أمر الله به فإنه عين المصلحة، وما نهى عنه فإنه عين المفسدة، متى سمع بأن لله طاعة في كذا سارع إليها وأتى إليها محباً لها مندفعاً إليها اندفاعاً قوياً كأنه يقاد باختياره دون أن يكون مكرهاً، فمثل هذا يسمى مسلماً، ويقال مثلاً في الإبل: استسلم البعير لقائده. أي: أذعن وانقاد له.

فمثلاً: إذا رأيت اثنان يقودان جملين، أحد الجملين مطاوع لمن يقوده، عندما يقوده يتبع قائده ولا يتردد ولا يستعصي ولا يعاند، بل هو مذعن منقاد لا يلتوي ولا يمتنع، فيسمى هذا مستسلماً، بينما الجمل الثاني دائماً ينفر ممن يقوده ويستعصي عليه ويجر رأسه إذا قاده بخطامه، وربما تفلت من الذي يقوده وشرد وهرب منه، فيقال: هذا الجمل غير مستسلم. وورد في ذلك حديث ولو كان ضعيفاً لكنه يستشهد به: (مثل المؤمن كمثل الجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ ولو على صخرة استناخ)، هكذا مثل المسلم بأنه كالجمل الأنف، أي: الجمل المذلل الذي يكون بيد من يقوده، إن قاده إلى مرتفع، وإن قاده إلى منخفض، وإن قاده إلى مكان مظلم، وإن قاده إلى مكان فيه حجارة أو نحو ذلك فإنه ينقاد مع من يقوده ويستسلم ولا يستعصي أبداً، هذا حقاً هو الذي يصير مثل المؤمن، إن قيد انقاد، وإن أنيخ ولو على صخرة ولو على رأس جبل استناخ، هذا تعريف الإسلام.

وفسره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بأنه الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.

فالاستسلام هو ما ذكرنا، يقول الله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران:83] يعني: له أسلموا واستسلموا، وأنابوا وأذعنوا، فجميع المخلوقات مستسلمة له تحت تصرفه وتقديره. فهذه حقيقة الإسلام، فعرفنا أن كلاً من الإسلام والإيمان له معنى في اللغة وله معنى في الشرع، ولكن يظهر أن الشرع يستعمل الإسلام فيما يستعمل فيه الإيمان، ففي حديث جبريل المشهور فرق بينهما، قال: (فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، ففسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وذلك دليل على أنه هو في الأصل اليقين أو عمل القلب، وفي تعريف الإسلام (وقال: أخبرني عن الإسلام. قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، فالشهادتان ولو كانتا قولاً لكنها ظاهرتان، فيظهر أثرهما بأن يعبد الله وحده ويطيعه، والصلاة أمر ظاهر مشاهد، والصوم كذلك أيضاً أمر ظاهر مشاهد، والزكاة إيتاؤها أيضاً أمر ظاهر، والحج أمر ظاهر، فهذه هي الأعمال الظاهرة، لكن جاء في حديث ابن عباس في وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم بأربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا الخمس من المغنم)، فجعل هذا هو الإيمان، فذكر فيه الشهادتين والصلاة والزكاة، فدل على أنه قد يفسر الإسلام بما يفسر به الإيمان، وبالعكس فإن كلاً منهما يدخل في الآخر، فإذا ذكرا جميعاً فالإسلام هو الأعمال الظاهرة والإيمان هو أعمال القلب، وإذا اقتصر على الإسلام فإنه يستلزم دخول أعمال القلب فيه، وإن اقتصر على الإيمان كذلك دخلت فيه الأعمال الظاهرة لأنها من تعريفه، وقد كتب فيه شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهو أوسع من كتب فيه، فكتب فيه كتاب الإيمان الكبير، وكتاب الإيمان الأوسط، وكتاب الإيمان الصغير، ولكن كتاب الإيمان الصغير يظهر أنه ليس من كتابته، وإنما هو من كتابة بعض أصحابه اختصره من كتبه، وإذا تأملنا كتاب الإيمان الكبير ظهر لنا أنه رحمه الله كأنه لا يوافق على أن الإسلام يدخل فيه الإيمان، بل يرى أن الإسلام يختص بالأعمال الظاهرة، وأن من وصف بأنه مسلم لا يوصف بالإيمان، فهذا هو الذي يميل إليه، وقد سبقه إلى الكتابة في الإيمان علماء كثر، فمنهم: ابن أبي شيبة صاحب المصنف له رسالة في الإيمان مطبوعة، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام، وإن كان من علماء اللغة لكنه أيضاً من علماء الشرع، له رسالة أيضاً مطبوعة في الإيمان، ومنهم الإمام ابن منده واسمه: محمد بن إسحاق، عالم مشهور، له كتاب مطبوع في ثلاثة أجزاء اسمه أيضاً (الإيمان)، مما يدل على أن السلف رحمهم الله اهتموا بهذه المسألة، فكتبوا فيها وتوسعوا، فالحاصل أن الإسلام يفسر عند الإطلاق بالأعمال الظاهرة، وهي الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وتدخل فيه بقية الأعمال الظاهرة، وتكون الأركان الخمسة بمنزلة الدعائم التي يقوم عليها ولا يتم إلا بها، كما إذا فرضنا مثلاً أن بيتاً قائماً على أربعة أركان فإننا نسمي كل ركن دعيمة، وجمعها دعائم، أي: أسس يقوم عليها ولا يتم إلا بها، فلو انهد جانب من جوانبه أصبح مفتوحاً تدخله السباع والدواب، ويدخله اللصوص، ولا يصلح أن يسكن، سواء انهد الجانب الأيمن أو الأيسر أو الأمامي أو الخلفي فلا يصلح للسكنى، فيقولون: كذلك الإسلام إذا ترك ركن من أركانه فإنه لا يتم ولا ينتفع به صاحبه، وجعلوا الركن الأساسي عمديته اللتين يعتمد عليهما، فقالوا: الشهادتان بمنزلة الأساس أو بمنزلة الأرض التي يعتمد عليها والسقف الذي يظله، فإذا عدمت الشهادتان أو إحداهما فإنه لا ينتفع به، ولا يمكن أن يكون، فالإنسان لا يبني بيتاً في الهواء، لابد أن يكون البيت على قرار، ثم لو بناه ولم يسقفه بل تركه مفتوح السقف لم ينتفع به، فلابد أن يكون له أساس وهو الأرض وسقف وهو أعلاه، فجعل الشهادتين بمنزلة الأساس والسقف، وجعلت الأركان الباقية بمنزلة الدعائم التي هي جوانب البيت.

ويقال مثلاً: الصلاة ركن، والزكاة ركن، والصوم ركن، والحج ركن.

أما بقية تعاليم الإسلام فإنها بمنزلة المكملات، فالإنسان لو بنى البيت مثلاً وكمله احتاج إلى زيادات، فالزيادات تكون كالمكملات، فيحتاج إلى طلاء، ويحتاج إلى بلاط، ثم بعد ذلك يحتاج إلى فرش، ويحتاج إلى تنوير وتهوية، فبقية تعاليم الإسلام مثل الجهاد وتحليل الحلال وتحريم الحرام، ومثل البر والصلة والإحسان إلى الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في الحديث، وإكرام المسلمين ومعاملتهم بالتي هي أحسن، وترك المحرمات وما أشبهها تعتبر كالمكملات.

فيقول الإسماعيلي: [وقال كثير منهم -يعني: قال بعضهم ومثل هنا بـالخطابي شارح أبي داود-: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى الآخر. فإذا ذكر المسلمون والمؤمنون جميعاً فالإسلام هو القول، وهو فعل ما فرض الله على الإنسان أن يفعله، والإيمان قول وعمل واعتقاد.

ولكن تعريفه للإيمان بأنه قول وعمل يدخل فيه تعريفه للإسلام، وذلك لأن الإسلام عمل، ففسر الإسلام بأنه فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله، نقول: الأعمال التي يعملها فرضها الله كالصلوات والصدقات والزكوات والكفارات، فهذه مأمور الإنسان أن يفعلها، فهي من الإيمان والإسلام، فإذا ذكر كل واحد منهن على حدته فالصحيح أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة والإيمان هو أعمال القلب، ومعلوم أن الإيمان عند إطلاقه قول وعمل واعتقاد، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، هكذا يفسره مشايخنا، فالقول باللسان يدخل فيه: الأذكار والقراءة، والدعاء، والأمر بالخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر والتحذير منه، والتعليم والتفهيم، وإرشاد الضال، وبذل السلام أو رده، وما أشبه ذلك.

والعمل يدخل فيه عمل القلب والجوارح، فعمل القلب بالحب في الله، والبغض في الله، والرضا بقضائه، والصبر على بلوائه، والخوف منه ورجاؤه، والتوكل عليه، والتوبة إليه وما أشبه ذلك.

وعمل الجوارح مثل الركوع والسجود، والقيام والقعود، والطواف، والجهاد، والحج وما أشبه ذلك.

فالإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله، وقد ورد في الحديث تفسيره بالتروك، كما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فهاهنا فسره بالترك، ولاشك أنه تفسير مشتق من الاسم، ونقول: من آثار الإسلام أن المسلم حقاً يترك ضرر الناس ولا يؤذيهم ولا يعتدي عليهم، فيسلم المسلمون من لسانه ويده، يقول: إذا ذكر أحدهما مضموماً إلى الآخر فقيل: المسلمون المؤمنون، والمؤمنون المسلمون جميعاً مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد بالآخر، وإن ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم، هذا مقتضى كلام الإسماعيلي أنه إذا اقتصر على واحد منهما شمل معنى الآخر، فالإسلام يدخل فيه الإيمان بالبعث، ويدخل فيه الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، ويدخل فيه التصديق بأسماء الله وآياته ومخلوقاته، والإيمان تدخل فيه الأعمال الظاهرة، فإذا قيل: هذا مؤمن دخل فيه كونه يصلي ويزكي ويتصدق، ويكفر عن ذنوبه، ويتوب إلى ربه ويستغفره ويدعوه، ويتلو كتابه ويتدبر آياته، كل هذا يدخل في هذه الكلمة.

وآخرون قالوا: الإسلام والإيمان واحد. أي: إذا اقتصر على واحد منهما أو ذكرا جميعاً فإنهما مترادفان. وهذا قول آخر ذكر عن محمد بن نصر المروزي ، والثوري ، والبخاري ، والمزني ، وابن عبد البر ، وذكر أنه مروي عن الشافعي أن الإسلام والإيمان مترادفان، وأن كل واحد منهما بمعنى الآخر لا فرق بينهما، فإذا قيل: هذا مسلم أغنى عن قولك: مؤمن. كما إذا قيل: هذا مقر وهذا مصدق فمعناهما واحد، فمقر: معترف، وكذلك مصدق، فالمعنى واحد، فكذلك (مسلم مؤمن) معناهما واحد.

وقد استدل على ذلك بهذه الآية من سورة آل عمران: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، ولم يقل: ومن يبتغ غير الإسلام والإيمان فإذا كان الإيمان غير الإسلام فمعناه أنه لا يقبل إذا دان به أحد، فلذلك يقول: لو أن الإيمان غير الإسلام لم يقبل. فيستفاد منه أن الإسلام هو الإيمان وأن الإيمان هو الإسلام؛ لأن الله لا يقبل إلا الإسلام، ومعلوم أنه يقبل الإيمان، فيكون الإسلام والإيمان بمعنى واحد.

ثم استدل أيضاً بآية في سورة الذاريات، وهي قول الله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] والمراد بهم آل لوط، فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:35] يعني لوطاً وأهل بيته، وصفوا بأنهم مسلمون ومؤمنون، والصحيح أنهم جمعوا بينهما، فإنه نبي من أنبياء الله تعالى لابد أنه مسلم ومؤمن، وأهل بيته كذلك مسلمون مؤمنون، إلا ما كان من امرأته فإنها كانت من الغابرين، فبقية أهل بيته الذين أنجاهم الله تعالى جمعوا بين الوصفين الإسلام والإيمان، سواء قلنا: إنهما متغايران أو إنهما مترادفان.

ومنهم من ذهب إلى أن الإسلام مختص بالاستسلام لله والخضوع له والانقياد لحكمه فيما هو مؤمن به، وقد ذكرنا أن الإسلام هو الاستسلام والانقياد والخضوع والخشوع، وأنه مشتق من ذلك؛ لأن صاحبه ينقاد لأمر الله، متى دعي إلى طاعة جاء إليها طائعاً مختاراً، فيكون هذا هو معنى الإسلام، والدليل عليه الآية التي في سورة الحجرات، فإن الله تعالى فرق فيها بين الإسلام والإيمان قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، فهذا إنكار عليهم أنهم لم يؤمنوا ولكنهم أسلموا، وهذه الآية لاشك أن فيها التفريق بين الإسلام والإيمان، فإن الله كذبهم بقولهم: (آمنا) فقال: لم تؤمنوا وإنما أسلمتم. فإسلامهم كأنه شيء ظاهر والإيمان لم يصل إلى قلوبهم: وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، الإيمان الذي هو اليقين والتصديق الجازم بالبعث بعد الموت وبالجزاء على الأعمال الصالحة، والتصديق بكل ما جاءت به الرسل وتقبله، والعمل به عن يقين، فمثل هؤلاء كأنهم دخلوا في الإسلام قريباً ومع ذلك ما وقر الإيمان الصحيح في قلوبهم، بل هم ما يزالون مترددين يدخلون في قول الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11]، فهؤلاء مجموعة من الأعراب لم يكن الإيمان قد وقر في قلوبهم.

فاستدل بهذه الآية على الفرق بين الإسلام والإيمان، وأن الإسلام هو الاستسلام الظاهر، بمعنى أنهم دخلوا في الإسلام دخولاً ظاهراً، ولكن قلوبهم ما امتلأت بالإيمان ولم تطمئن به، يقول تعالى في آخر الآية: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

فكلامهم هذا يمتنون به على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: لا تمنوا علي إسلامكم، المنة لله، هو الذي له المنة على عباده حيث إنه هداكم للإيمان إن كنتم صادقين أنكم مؤمنون، قال تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] على أنهما بمعنى واحد، لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ، ولكن آخر الآية يدل على أنهم لم يكونوا مؤمنين حقاً: إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] في قولكم آمنا. فهذه الآية فرقت بينهما، ومثلها ما ورد في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: (أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أناساً وترك رجلاً هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله! ما لك عن فلان؟! فوالله إني لأراه مؤمنا. فقال: أو مسلماً؟)، كرر ذلك ثلاث مرات، فما أقره على (مؤمن) فقال: (أو مسلماً؟)، كأنه يقول: لا تشهد له بالإيمان؛ فإن الإيمان شيء خفي، ولكن اشهد له بالإسلام الذي تراه منه، أنت لا ترى إلا كونه مع الإسلام والمسلمين وسيره معهم، فهذا الذي تشهد له به.

وعلى كل حال فيها كما ذكرنا ثلاثة أقوال:

الأول: أن الإسلام والإيمان مترادفان. بمعنى أنهما شيء واحد.

الثاني: أن بينهما فرقاً، وأنه لا يمكن أن أحدهما يفسر بما يفسر به الآخر.

والقول الثالث -وهو أقربها- أنهما إذا ذكرا جميعاً فالإيمان أعمال القلب والإسلام أعمال البدن الظاهرة وإن اقتصر على واحد منهما دخل فيه الآخر.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [إن الله يخرج من النار قوماً من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين، وإن الشفاعة حق، والحوض حق، والمعاد حق، -وفي نسخة: والميزان حق- والحساب حق].

هذه الفقرة تتعلق بالإيمان بما بعد الموت، تتعلق بالإيمان بالبعث وما يكون فيه، وفيها رد على المعتزلة والخوارج، فإنهم ينكرون شفاعة الشافعين، وقد ذكر العلماء أن طوائف المسلمين في الشفاعة على ثلاثة أقوال:

قوم أثبتوها مطلقاً، وقوم أثبتوها بشروط، وقوم نفوها.

فالذين نفوا الشفاعة هم الخوارج والمعتزلة، وذلك لأنهم يكفرون الناس بالمعاصي، وعندهم أن من دخل النار من أصحاب الذنوب فإنه يخلد فيها، فالخوارج يكفرونه في الدنيا والآخرة، والمعتزلة يفسقونه في الدنيا ويحكمون بتخليده في الآخرة في النار، وينكرون على هذا شفاعة الشافعين، وينكرون أيضاً الأحاديث التي وردت في الشفاعة مع كثرتها، ويستدلون بمثل قول الله تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:123]، وقول الله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254]، فمثل هذه الآيات فيها نفي الشفاعة، فلذلك قالوا: ليس في الآخرة شفاعة، بل من دخل النار فهو مخلد فيها.

وقد يستدلون بقوله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22]، وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37] على أن من دخل النار فإنه لا يخرج منها، ولا دلالة في الآية، بل الآية فيها نفي الشفاعة التي هي بدون إذن الله، ولأجل ذلك أثبت الله تعالى الشفاعة بشرطين -وعليه قول أهل السنة-:

الشرط الأول: الإذن للشافع.

الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع. كما في سورة النجم: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26] يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع، وذكر الرضا في سورة طه وفي سورة الأنبياء، قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه:109]، فهذه الآية ذكر فيها الشرطين: أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه:109]، وذكر الإذن في آية الكرسي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ [البقرة:255]، وفي آية سورة سبأ: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23]، فكل هذه أدلة على أن هناك شفاعة، ولكنها لا تكون إلا بعد إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له، وعلى هذا فإن العبد لا يطلبها إلا من الله، فيقول: يا رب! اجعلني ممن تنفعه شفاعة الشافعين، أسألك أن تُشَفِّع فيِّ أنبياءك ورسلك وملائكتك، أسألك عملاً صالحاً أكون به أهلاً أن يشفع فيّ الشافعون. وما أشبه ذلك.

ولا تطلب الشفاعة من الإنسان، فلا يقال: يا رسول الله! اشفع لنا. لا تطلب الشفاعة إلا من الله تعالى؛ لأنه هو الذي يملكها، قال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44] أي: هو الذي يملكها. وأخبر بأنهم لا تنفعهم الشفاعة يوم القيامة، كما في قوله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:42-48].

فالحاصل أن قول أهل السنة: [أن الله يخرج من النار قوماً من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين، وإن الشفاعة حق] رد على المعتزلة الذين أنكروها.

كذلك الاعتراف بأن الحوض حق، وقد ورد فيه أكثر من أربعين حديثاً، منها ما جاء في وصفه أنه: (طوله مسيرة شهر، وعرضه مسيرة شهر، آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً) يرده المؤمنون، ويذاد عنه الكفار، والمعاد يراد به البعث بعد الموت، وسمي معاداً لأن الناس عادوا إليه، كأنهم كانوا في الدنيا ثم عادوا من الدنيا إلى الدار الأخرى.

والإيمان بالميزان أيضا حق، والميزان هو الذي ينصب وتوزن فيه أعمال العباد، قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا [الأنبياء:47]. وذكر الله تعالى أن الموازين تخف وترجح، فمن خفت موازينه فأولئك هم الخاسرون، ومن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:6-9].

وورد في الأحاديث أنه ميزان له كفتان، وله لسان، وأنه توضع فيه الأعمال، وأنه يرجح أو يخف بحسب ما يوزن فيه.

وكذلك الحساب حق، قال الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8] ، ويقول تعالى عن المؤمن: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20]، وكذلك الكافر يقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:25-26]، ويقول تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، ويخبر الله عن سرعة الحساب فيقول: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202]، فالحساب على الأعمال حق، ويقول في الحديث: (من نوقش الحساب عذب)، فكل ذلك دليل على إثبات هذه الأشياء.

قال المصنف رحمه الله تعالى في بيان عقيدة أهل السنة: [ولا يقطعون لأحد من أهل الملة بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار]، فلا نشهد لمعين بأنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار، وذلك لأنا لا نعلم ما يموت عليه، هل يموت على الإسلام أو على الكفر؟

لا نعلم الخواتيم ولا ندري ما مات عليه، بل نعتقد أن من مات على الإسلام حقاً مجتنباً للكبائر والأهواء والآثام فهو من أهل الجنة، واستدل بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البينة:7-8]، ولكن هذا مجمل، وكذلك من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة سواء في الكتاب أو السنة فإننا نقر بأن ذلك حق ونشهد له، فلا نشهد لأحد بالجنة ولا بالنار إلا لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقف عند هذا، والله أعلم.

من يشهد له بالجنة أو بالنار

الشهادة بالجنة أو النار للمكلف مسألة من مسائل العقيدة، وعقيدة أهل السنة أنا لا نشهد بالجنة ولا بالنار إلا لمن ورد فيه نص صريح محدد أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، وإلا فإنا نتوقف ولا نجزم بالجنة ولا بالنار لمعين، وذكروا ذلك في كتب العقائد وقالوا: إنا لا ندري ما عاقبتهم، فهذا الإنسان الذي رأيناه مسلماً ومؤمناً وتقياً ونقياً لا ندري ما عاقبة أمره، ولا بماذا ختم له، فقد يختم له بعمل سيء، وكذلك هذا الكافر أو الفاسق أو المعاند الذي نراه سيء الديانة والمعتقد والأعمال ربما يتوب الله تعالى عليه قبل موته، فيختم له بخاتمة طيبة فيكون سعيداً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فقد نرى إنساناً تقياً نقياً ولكن يختم له بخاتمة سيئة تكون هي آخر حياته، فيكون شقياً وتحبط أعماله، فيحكم له بأنه من أهل النار، وبالعكس، فقد نرى إنساناً طوال حياته وهو سيء الأعمال والأخلاق والمعتقد، وبعيد عن الله، فيختم له عند آخر أجله بعمل أهل السعادة فيكون من أهل الجنة، هذا من حيث العموم.

أما من حيث الخصوص فيشهد لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يشهد لعموم المؤمنين بالجنة، واستدل المؤلف بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البينة:7-8]، والآيات كثيرة، وفيها أن أهل الأعمال الصالحة وأهل الإيمان من أهل الجنة، وأن أهل السيئات وأهل الكفر من أهل النار، مثل قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، وكذلك قوله: فِي نَارِ جَهَنَّمَ [البينة:6]، فمن حيث العموم نقول: أهل الإيمان والعمل الصالح عموماً نشهد لهم بالجنة إذا كانت أعمالهم صالحة وكان إيمانهم حقيقياً ولم يكونوا مشركين ولا مبتدعين، نشهد لهم بالإيمان عموماً، إلا أننا لا نخصص فلاناً وفلاناً. وكذلك أهل الكفر والبدع المكفرة نشهد لهم بالنار عموماً فنقول: من مات وهو على الكفر أو من مات وهو على البدع المكفرة فإنه من أهل النار، ولكن لا نخصص فلاناً وفلاناً.

من شهد لهم بالجنة في الكتاب والسنة

ورد النص بتعيين بعض الأشخاص فيقتصر عليهم، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن العشرة من أهل الجنة الخلفاء الأربعة والستة الباقون من العشرة، والستة هم سعيد بن زيد ، وسعد بن أبي وقاص ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح ، مع الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، فنشهد لمن شهد له، وكذلك قوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، وكذلك شهد لـبلال بأنه سمع خفق أو خشخشة نعليه في الجنة، وشهد لـثابت بن قيس، فلما نزلت الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات:3] خاف ثابت أنه من أهل النار؛ لأنه من الذين يرفعون أصواتهم عند رسول الله، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بالجنة.

وكذلك بشر عكاشة بن محصن بالجنة، وغيرهم كثير، وقد ذكر كثير من العلماء عدداً منهم، مثل ما ذكره الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان في (الكواشف الجلية شرح العقيدة الواسطية) وغيره، فهؤلاء الذين ورد النص بأنهم من أهل الجنة، فنشهد لهم بها، وأما الباقون فإننا نرجو لهم كما سيأتينا في الصحابة، وكذلك بقية المؤمنين.

من شهد لهم بالنار في الكتاب والسنة

أما الشهادة بالنار فمثل أبي لهب، قال الله عنه: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، فهذا متحقق أنه من أهل النار، ومثل أبي طالب أخبر النبي عليه السلام أنه جعل في ضحضاح من نار، ومثل أبي جهل الذي قال فيه: (إنه فرعون هذه الأمة)، وقتل على كفره، وكذلك من الأمم السابقة الأمم الذين أهلكهم الله تعالى كفرعون وجنوده، وقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، ونحوهم ممن كذبوا رسلهم وأتاهم العذاب وهم على كفرهم، فهؤلاء يشهد لهم بالنار من حيث العموم كقوم نوح، ومن حيث الخصوص كـفرعون وهامان وقارون ونحوهم.

وعلى كل حال: فالشهادة تحتاج إلى أدلة، وحيث إن الدليل إنما هو دليل العموم فإننا نقره على عمومه.

الشهادة بالجنة أو النار للمكلف مسألة من مسائل العقيدة، وعقيدة أهل السنة أنا لا نشهد بالجنة ولا بالنار إلا لمن ورد فيه نص صريح محدد أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، وإلا فإنا نتوقف ولا نجزم بالجنة ولا بالنار لمعين، وذكروا ذلك في كتب العقائد وقالوا: إنا لا ندري ما عاقبتهم، فهذا الإنسان الذي رأيناه مسلماً ومؤمناً وتقياً ونقياً لا ندري ما عاقبة أمره، ولا بماذا ختم له، فقد يختم له بعمل سيء، وكذلك هذا الكافر أو الفاسق أو المعاند الذي نراه سيء الديانة والمعتقد والأعمال ربما يتوب الله تعالى عليه قبل موته، فيختم له بخاتمة طيبة فيكون سعيداً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فقد نرى إنساناً تقياً نقياً ولكن يختم له بخاتمة سيئة تكون هي آخر حياته، فيكون شقياً وتحبط أعماله، فيحكم له بأنه من أهل النار، وبالعكس، فقد نرى إنساناً طوال حياته وهو سيء الأعمال والأخلاق والمعتقد، وبعيد عن الله، فيختم له عند آخر أجله بعمل أهل السعادة فيكون من أهل الجنة، هذا من حيث العموم.

أما من حيث الخصوص فيشهد لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يشهد لعموم المؤمنين بالجنة، واستدل المؤلف بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البينة:7-8]، والآيات كثيرة، وفيها أن أهل الأعمال الصالحة وأهل الإيمان من أهل الجنة، وأن أهل السيئات وأهل الكفر من أهل النار، مثل قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، وكذلك قوله: فِي نَارِ جَهَنَّمَ [البينة:6]، فمن حيث العموم نقول: أهل الإيمان والعمل الصالح عموماً نشهد لهم بالجنة إذا كانت أعمالهم صالحة وكان إيمانهم حقيقياً ولم يكونوا مشركين ولا مبتدعين، نشهد لهم بالإيمان عموماً، إلا أننا لا نخصص فلاناً وفلاناً. وكذلك أهل الكفر والبدع المكفرة نشهد لهم بالنار عموماً فنقول: من مات وهو على الكفر أو من مات وهو على البدع المكفرة فإنه من أهل النار، ولكن لا نخصص فلاناً وفلاناً.