شرح اعتقاد أهل السنة [2]


الحلقة مفرغة

بدعة الخوارج منشؤها ومعتقداتها

بدعة الخوارج أول البدع التي وجدت، وقد وجدت في سنة ست وثلاثين للهجرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وأخبر بأن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وأمر بقتالهم وقال: (أينما رأيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم) ، وقال: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد وإرم)، وقاتلهم الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا مع علي رضي الله عنه. وعقيدتهم إنما هي في التكفير فقط، وقد بالغوا في أخذ آيات الوعيد وتمسكوا بها، فصاروا يطبقونها على كل من فعل ذنباً فيخرجونه من الإسلام، ولم يذكر عنهم خلاف في الأسماء والصفات، ولا في البعث والنشور، ولا في أسماء الإمام والدين . ومن جملة من كفروه علي وأصحابه الذين معه، وادعوا أنه بالتحكيم ارتد عن الإسلام، فهذه أول بدعة، ولا شك أنهم بعد ذلك تغيرت عقائدهم وأخذوا من عقائد المبتدعة الآخرين .

بدعة الجهمية منشؤها ومحنة الناس فيها

حدثت بعد ذلك بدعة القدرية الذين ينكرون العلم السابق، ثم حدثت بعدهم بدعة التعطيل أو الاعتزال، وهي بدعة إنكار الصفات، وكان حدوثها في أول القرن الثاني، ولما انتشرت هذه البدعة وانتشر أهلها الذين يعطلون الله تعالى عن صفات الكمال وينكرون أن يوصف بما وصف به نفسه ويبالغون في إنكار الصفات أنكر عليهم السلف إنكاراً بليغاً وبدعوهم، وشنعوا عليهم وحذروا منهم، وصار كلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في التحذير من هذه البدعة التي سموا أهلها جهميةً، وذلك لأن أول من انتشرت عنه الجهم بن صفوان فهو الذي نشر بدعة إنكار الصفات، ولا شك أن كتب السلف رحمهم الله تعالج هذه البدع كلها، فمنهم من كتب في ذلك ويذكر العقيدة مجردة ويقول: نعتقد كذا ونعتقد كذا وكذا كذا. ولا مناقشة، ولا يذكر أقوال المبتدعة، ومنهم من يذكر البدع ويذكر الرد عليها، سواءٌ أكانت تلك البدع شبهات أم نحلاً، فيناقشونها ويبالغون في الرد على أهلها، ومنهم من يقتصر على الأدلة والآثار المنقولة عن السلف والأحاديث المأثورة المرفوعة أو الموقوفة، فباقتصارهم عليها يظهر الحق ويستبين ويعرف الباطل، وبضدها تتبين الأشياء. ولا شك أن كلامهم رحمهم الله كله في نصر الحق وإظهاره، ومعلوم أن بدعة الجهمية تمكنت في أول القرن الثالث، حيث إن الجهمية انضموا إلى بعض الخلفاء، كالخليفة المأمون بن الرشيد، فإنه انضم إليه بعض المبتدعة وقربهم، وذلك لأنه أحسن الظن بهم، ورأى فيهم بلاغة وفصاحة وقوة أسلوب وحسن تعبير، فظن أنهم على الحق، ومن أشهر الذين قربهم: ابن أبي دؤاد المبتدع الضال الذي أفسد عقيدة المسلمين في زمانه، ومال إليه الخليفة المأمون. وفي خلافة المأمون بالغ في تعذيب أهل السنة وتهديدهم في مسألة أن القرآن مخلوق، وكذلك تبعه أخوه المعتصم، ومشهور بأنه امتحن العلماء وضربهم وحبس من حبس منهم، وأوذي من أوذي من أهل السنة، وأجاب كثير معهم إلى ما طلب منهم، وادعوا بعد ذلك أنهم مكرهون، وتمسك من تمسك منهم. وكان من الذين تمسكوا بعقيدة أهل السنة الإمام أحمد ، ولهذا يسمى (ناصر السنة)، ويسمى (إمام أهل السنة)، وقصته طويلة تجدوها في تاريخه، وذكر في ترجمته -عند ابن كثير في البداية والنهاية- قصة ضربه بين يدي المعتصم وصبره على ذلك، وكذلك ذكرها ابن الجوزي في ترجمته، وقد ألف ابن الجوزي كتاباً كله في ترجمة الإمام أحمد ، وهو كتاب كبير . ومن كتب التاريخ تاريخ الذهبي، وهو مطبوع أيضاً، ونقل ترجمته أحمد محمد جعكر في أول كتاب (تحقيق المسند) من تاريخ الذهبي وفيها قصة تعذيبه، وأشار إلى ذلك كثير من الذين ترجموا له، ومنهم صاحب المنظومة التي يمدحه ويقول فيها : ومذهب الإمام أحمد بن محمد أعني ابن حنبل الفتى الشيباني ثم يقول فيها : ويقول عند الضرب لست بتابع يا ويحكم لكم بلا برهان أترون أني خائف من ضربكم لا والإله الواحد المنان كن حنبلياً ما حييت فإنني أوصيك خير وصية الإخوان ولقد نصحتك فإن قبلت فأحمد زين الثقات وسيد الفتيان إلى أن قال : حمداً لربي أن هداني لدينه وعلى طريقة أحمد أنشاني واختار مذهب أحمد لي مذهباً ومن الهوى والغي قد أنجاني فالحاصل أنه من الذين صبروا على هذه الفتنة وصابروا فيها إلى أن أظهره الله تعالى، ففي عهد المعتصم لقي أذى وعذاباً وضرباً وحبساً وبقي في الحبس مدة طويلة، وكان يتورع أن يأكل شيئاً من طعامهم، ويبقى اليومين والثلاثة لا يطعم لهم طعاماً حتى يأتيه أحد أولاده بشيء من الخبز من بيته الذي عرف مدخله، وبعد موت المعتصم بثمان سنين وانتقال الخلافة إلى ابنه الواثق خفف الابتلاء، ولكن لم يزل أهل السنة يخافون من إظهارها ويستخفون في معتقدهم . ثم بعد موته تولى ولده المتوكل، ولما تولى نَصَر السنة وقرب الإمام أحمد ورخص له أن يصدع بمذهبه، وأفصح بما كان يعتقده أهل السنة من أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبقي الأمر كذلك إلى أن توفي الإمام أحمد رحمه الله في سنة إحدى وأربعين ومائتين والأمر هادئ، واستمرت بقية القرن والسنة فيها ظاهرة، ولكن لأهل البدع قوة وتمكن، وبالأخص المعتزلة، فقد كانوا من أقوى أهل البدع من ناحية الحجج العقلية، فكانوا يأتون بالشبهات العقلية ويشوهون بها على الناس ويشوشون بها، وغسلوا أدمغة كثير من المسلمين العوام، وملؤوا تلك الأدمغة بتلك البدع، وبالأخص بدعة إنكار الصفات الذاتية والصفات الفعلية. ثم انتشرت في آخر القرن الثالث والرابع وما بعده اصطلاحات يرددها المبتدعة في الصفات وفي إنكارها، كنفي التجسيم، ونفي الحيز والجهة والأبعاض والأجزاء والأعراض والتركيب والحوادث وحلولها وما أشبه ذلك، فصاروا يلقنون هذا تلامذتهم، ويذكرون أن نفيها إنما هو من باب التنزيه لله تعالى، فتمكنت هذه الكلمات في أهل ذلك الزمان واعتقدوا صحتها وسلامتها، وهي في الحقيقة أمور لم يرد فيها دليل، والمسلمون من أهل السنة لم يستعملوها نفياً ولا إثباتاً. وبعد انقضاء القرن الثالث كادت السنة أن تضيع، وكاد المحدثون أن لا يبقوا على المعتقد، وتمكن مذهب النفاة والمعطلة، واضمحل مذهب الإمام أحمد أو كاد أن يضمحل، ولم يبق عليه إلا أفراد يتسترون لا يعرفون إلا أنهم من أتباعه، ويستخفون بما هم عليه، وبقوا كذلك طوال هذه القرون ولا يعرف من ينصر السنة إلا أفراد قلة . وممن كان على مذهب الإمام أحمد في العقيدة عالم في أول القرن الرابع، وهو الإمام البربهاري ، فقد أظهر عقيدة أهل السنة، وأظهر بأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وبأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، وأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، وقام يفصلها، فقامت عليه الدنيا ولم تقعد، وحاربوه، وبدعوه وضللوه وهددوه بالقتل وبالسجن، واستخفى منهم استخفاء كثيراً، وصار مهدداً، هذا وهو فرد واحد بين أهل زمانه الذين هم أمم كثيرون، ولكن نصره الله كما نصر إمامه أحمد بن حنبل، وله كتاب مطبوع في العقيدة اسمه: (شرح السنة)، إذا قرأته تعرف أنه متأثر بالسنة، وأنه على هذه العقيدة الراسخة وهي عقيدة أهل السنة، أما بقية أهل زمانه فمن كان منهم من أهل السنة فإنه متستر، وإلا فالبقية قد تركوا السنة الصحيحة.

بدعة الاعتزال والأشعرية

ظهر مذهب الاعتزال في القرن الرابع وتمكن، ثم ظهر عالم في القرن الثالث يقال له : عبد الله بن سعيد بن كلاب ، وكان شديد الجدل قوي الحجة، حتى شبهوه بالكلاب، وهي الحديدة التي يستعملها الحداد عندما يلقي الحديدة في النار حتى تحمر وتلين فيمسكها بحديدة لها أطراف يقال لها : الكلاب فسموه بذلك لقوة جدله . ثم إن أبا الحسن الأشعري وافقه على معتقده، وكان أبو الحسن الأشعري في أول أمره معتزلياً تتلمذ على أبي علي الجبائي وعلى ابنه وهما من المعتزلة، وأبي الهذيل العلاف وهو من علماء المعتزلة، والجاحظ وهو معتزلي، فلما تتلمذ عليهم انتحل نحلتهم وأخذ الاعتزال، وبقي على ذلك في أول عمره، ثم إنه اقترن بـ ابن كلاب فتتلمذ عليه وقرأ عليه، ثم سار على عقيدته وبقي عليها نحواً من أربعين سنة على ذلك، وألف كتباً كثيرة على عقيدة ابن كلاب ، ونسبت بعد ذلك للأشعري ، وصار أتباعه عليها يسمون الأشاعرة أو الأشعرية. ثم إن الأشعري في آخر حياته رجع لما قرأ كتب أهل السنة وكتب أهل الحديث، فاهتدى ورجع عن هذه العقيدة إلى عقيدة أهل الحديث وألف على ذلك رسالته المطبوعة باسم (الإبانة في أصول الديانة)، وألف كتابه الذي سماه (مقالات الإسلاميين) ذكر فيه مقالات المعتزلة والكلابية والوعيدية والجبرية والمرجئة ونحوهم، وبالغ في ذكر مقالات الجهمية والمعتزلة وما ينتقد عليهم، ثم بعدما انتهى من هذه المقالات ذكر مقال أهل السنة، وسرد عقيدتهم سرداً محكماً، وبينها بياناً وافياً كافياً، ولما انتهى منها قال: وبكل ما قالوه نقول، وبكل ما ذهبوا إليه نذهب. فعرف بذلك أن الأشعري أصبح من أهل السنة في آخر أمره، وتجد هذا الفصل الذي ذكره قد نقله ابن القيم في أول كتابه (حادي الأرواح) وفي آخر الكتاب نفسه أيضاً، وكأنه يقول : هذا الكتاب الذي كتبته في ذكر الجنة أهله الذين يستحقونه هم أهل هذه العقيدة الذين اعتقدوها. ونقل منها شيئاً كثيراً في كتابه الذي سماه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية)، ونقل منه أيضاً شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى في (الحموية)، ونقله تلميذه الإمام الذهبي في كتاب (العلو)، مما يدل على أنهم تيقنوا أن الأشعري رحمه الله كان على هذه العقيدة التي هي عقيدة السلف الصالح . ولكن مع الأسف فإن أهل زمانه وبعدهم إلى يومنا هذا تمسكوا بعقيدته التي في وسط حياته، والتي ألف عليها كتبه، والتي هي عقيدة ابن كلاب ، تمسكوا بها، وسموا أنفسهم أشعرية وأشاعرة، واشتهروا بهذه النسبة، ولم يزالوا على ذلك ينتحلون هذه العقيدة، فهم يقولون: نحن في الفروع شوافع وفي المعتقد أشاعرة. هكذا يقولون، ولم لا تتبعون الشافعية في الأمرين: العقيدة والمذهب؟ وكذلك يقول الحنفية: نحن حنفية في الفروع وأشعرية في الأصول. فمذهب الأشاعرة هو الذي انتشر انتشاراً كثيراً، وما يزال ينتحله كثيرون ويفضلونه على غيره، ويناضلون ويجادلون في نصره، وينصرونه بكل ما يستطيعون، وفيه ألفوا كتباً كثيرة، فمن كتب المتقدمين كتاب (الإرشاد) للإمام الجويني الذي هو إمام الحرمين فيما يتعلق بهذه العقيدة، ولكنه شحنه بأصول المتكلمين الذين يتكلمون في العقائد ويجعلون تلك البراهين أو القواعد التي يقعدونها أدلة على ما يذهبون إليه، فهذه عقيدتهم، وكتاب الإرشاد مطبوع، ومنهم الرازي المشهور الذي يسمى الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير، أبو عبد الله بن عمر الرازي ، ألف كتاباً سماه (تأسيس التقديس)، وجعله في عقيدة الأشاعرة، وأهداه إلى سلطان ذلك الزمان، وانتشر هذا الكتاب وهو ما يزال مطبوعاً منتشراً .

بدعة الخوارج أول البدع التي وجدت، وقد وجدت في سنة ست وثلاثين للهجرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وأخبر بأن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم، وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وأمر بقتالهم وقال: (أينما رأيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم) ، وقال: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد وإرم)، وقاتلهم الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا مع علي رضي الله عنه. وعقيدتهم إنما هي في التكفير فقط، وقد بالغوا في أخذ آيات الوعيد وتمسكوا بها، فصاروا يطبقونها على كل من فعل ذنباً فيخرجونه من الإسلام، ولم يذكر عنهم خلاف في الأسماء والصفات، ولا في البعث والنشور، ولا في أسماء الإمام والدين . ومن جملة من كفروه علي وأصحابه الذين معه، وادعوا أنه بالتحكيم ارتد عن الإسلام، فهذه أول بدعة، ولا شك أنهم بعد ذلك تغيرت عقائدهم وأخذوا من عقائد المبتدعة الآخرين .

حدثت بعد ذلك بدعة القدرية الذين ينكرون العلم السابق، ثم حدثت بعدهم بدعة التعطيل أو الاعتزال، وهي بدعة إنكار الصفات، وكان حدوثها في أول القرن الثاني، ولما انتشرت هذه البدعة وانتشر أهلها الذين يعطلون الله تعالى عن صفات الكمال وينكرون أن يوصف بما وصف به نفسه ويبالغون في إنكار الصفات أنكر عليهم السلف إنكاراً بليغاً وبدعوهم، وشنعوا عليهم وحذروا منهم، وصار كلام الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في التحذير من هذه البدعة التي سموا أهلها جهميةً، وذلك لأن أول من انتشرت عنه الجهم بن صفوان فهو الذي نشر بدعة إنكار الصفات، ولا شك أن كتب السلف رحمهم الله تعالج هذه البدع كلها، فمنهم من كتب في ذلك ويذكر العقيدة مجردة ويقول: نعتقد كذا ونعتقد كذا وكذا كذا. ولا مناقشة، ولا يذكر أقوال المبتدعة، ومنهم من يذكر البدع ويذكر الرد عليها، سواءٌ أكانت تلك البدع شبهات أم نحلاً، فيناقشونها ويبالغون في الرد على أهلها، ومنهم من يقتصر على الأدلة والآثار المنقولة عن السلف والأحاديث المأثورة المرفوعة أو الموقوفة، فباقتصارهم عليها يظهر الحق ويستبين ويعرف الباطل، وبضدها تتبين الأشياء. ولا شك أن كلامهم رحمهم الله كله في نصر الحق وإظهاره، ومعلوم أن بدعة الجهمية تمكنت في أول القرن الثالث، حيث إن الجهمية انضموا إلى بعض الخلفاء، كالخليفة المأمون بن الرشيد، فإنه انضم إليه بعض المبتدعة وقربهم، وذلك لأنه أحسن الظن بهم، ورأى فيهم بلاغة وفصاحة وقوة أسلوب وحسن تعبير، فظن أنهم على الحق، ومن أشهر الذين قربهم: ابن أبي دؤاد المبتدع الضال الذي أفسد عقيدة المسلمين في زمانه، ومال إليه الخليفة المأمون. وفي خلافة المأمون بالغ في تعذيب أهل السنة وتهديدهم في مسألة أن القرآن مخلوق، وكذلك تبعه أخوه المعتصم، ومشهور بأنه امتحن العلماء وضربهم وحبس من حبس منهم، وأوذي من أوذي من أهل السنة، وأجاب كثير معهم إلى ما طلب منهم، وادعوا بعد ذلك أنهم مكرهون، وتمسك من تمسك منهم. وكان من الذين تمسكوا بعقيدة أهل السنة الإمام أحمد ، ولهذا يسمى (ناصر السنة)، ويسمى (إمام أهل السنة)، وقصته طويلة تجدوها في تاريخه، وذكر في ترجمته -عند ابن كثير في البداية والنهاية- قصة ضربه بين يدي المعتصم وصبره على ذلك، وكذلك ذكرها ابن الجوزي في ترجمته، وقد ألف ابن الجوزي كتاباً كله في ترجمة الإمام أحمد ، وهو كتاب كبير . ومن كتب التاريخ تاريخ الذهبي، وهو مطبوع أيضاً، ونقل ترجمته أحمد محمد جعكر في أول كتاب (تحقيق المسند) من تاريخ الذهبي وفيها قصة تعذيبه، وأشار إلى ذلك كثير من الذين ترجموا له، ومنهم صاحب المنظومة التي يمدحه ويقول فيها : ومذهب الإمام أحمد بن محمد أعني ابن حنبل الفتى الشيباني ثم يقول فيها : ويقول عند الضرب لست بتابع يا ويحكم لكم بلا برهان أترون أني خائف من ضربكم لا والإله الواحد المنان كن حنبلياً ما حييت فإنني أوصيك خير وصية الإخوان ولقد نصحتك فإن قبلت فأحمد زين الثقات وسيد الفتيان إلى أن قال : حمداً لربي أن هداني لدينه وعلى طريقة أحمد أنشاني واختار مذهب أحمد لي مذهباً ومن الهوى والغي قد أنجاني فالحاصل أنه من الذين صبروا على هذه الفتنة وصابروا فيها إلى أن أظهره الله تعالى، ففي عهد المعتصم لقي أذى وعذاباً وضرباً وحبساً وبقي في الحبس مدة طويلة، وكان يتورع أن يأكل شيئاً من طعامهم، ويبقى اليومين والثلاثة لا يطعم لهم طعاماً حتى يأتيه أحد أولاده بشيء من الخبز من بيته الذي عرف مدخله، وبعد موت المعتصم بثمان سنين وانتقال الخلافة إلى ابنه الواثق خفف الابتلاء، ولكن لم يزل أهل السنة يخافون من إظهارها ويستخفون في معتقدهم . ثم بعد موته تولى ولده المتوكل، ولما تولى نَصَر السنة وقرب الإمام أحمد ورخص له أن يصدع بمذهبه، وأفصح بما كان يعتقده أهل السنة من أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبقي الأمر كذلك إلى أن توفي الإمام أحمد رحمه الله في سنة إحدى وأربعين ومائتين والأمر هادئ، واستمرت بقية القرن والسنة فيها ظاهرة، ولكن لأهل البدع قوة وتمكن، وبالأخص المعتزلة، فقد كانوا من أقوى أهل البدع من ناحية الحجج العقلية، فكانوا يأتون بالشبهات العقلية ويشوهون بها على الناس ويشوشون بها، وغسلوا أدمغة كثير من المسلمين العوام، وملؤوا تلك الأدمغة بتلك البدع، وبالأخص بدعة إنكار الصفات الذاتية والصفات الفعلية. ثم انتشرت في آخر القرن الثالث والرابع وما بعده اصطلاحات يرددها المبتدعة في الصفات وفي إنكارها، كنفي التجسيم، ونفي الحيز والجهة والأبعاض والأجزاء والأعراض والتركيب والحوادث وحلولها وما أشبه ذلك، فصاروا يلقنون هذا تلامذتهم، ويذكرون أن نفيها إنما هو من باب التنزيه لله تعالى، فتمكنت هذه الكلمات في أهل ذلك الزمان واعتقدوا صحتها وسلامتها، وهي في الحقيقة أمور لم يرد فيها دليل، والمسلمون من أهل السنة لم يستعملوها نفياً ولا إثباتاً. وبعد انقضاء القرن الثالث كادت السنة أن تضيع، وكاد المحدثون أن لا يبقوا على المعتقد، وتمكن مذهب النفاة والمعطلة، واضمحل مذهب الإمام أحمد أو كاد أن يضمحل، ولم يبق عليه إلا أفراد يتسترون لا يعرفون إلا أنهم من أتباعه، ويستخفون بما هم عليه، وبقوا كذلك طوال هذه القرون ولا يعرف من ينصر السنة إلا أفراد قلة . وممن كان على مذهب الإمام أحمد في العقيدة عالم في أول القرن الرابع، وهو الإمام البربهاري ، فقد أظهر عقيدة أهل السنة، وأظهر بأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وبأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، وأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، وقام يفصلها، فقامت عليه الدنيا ولم تقعد، وحاربوه، وبدعوه وضللوه وهددوه بالقتل وبالسجن، واستخفى منهم استخفاء كثيراً، وصار مهدداً، هذا وهو فرد واحد بين أهل زمانه الذين هم أمم كثيرون، ولكن نصره الله كما نصر إمامه أحمد بن حنبل، وله كتاب مطبوع في العقيدة اسمه: (شرح السنة)، إذا قرأته تعرف أنه متأثر بالسنة، وأنه على هذه العقيدة الراسخة وهي عقيدة أهل السنة، أما بقية أهل زمانه فمن كان منهم من أهل السنة فإنه متستر، وإلا فالبقية قد تركوا السنة الصحيحة.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح اعتقاد أهل السنة [8] 2693 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [5] 2356 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [13] 2326 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [7] 2145 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [3] 1850 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [12] 1770 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [6] 1718 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [17] 1692 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [10] 1673 استماع
شرح اعتقاد أهل السنة [4] 1642 استماع