خطب ومحاضرات
شرح اعتقاد أهل السنة [5]
الحلقة مفرغة
ذكر المؤلف رحمه الله أن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم -وهذه العبارة يكررها أهل السنة في عقائدهم- ثم بعد ذلك يفصلون، فإنه هنا ذكر بعض الصفات الفعلية وبعض الصفات الذاتية، فذكر صفة اليد وهي من الصفات الذاتية، وصفة الاستواء وهي من الصفات الفعلية.
كذلك أيضاً ذكر بعض الصفات السلبية، مثل قوله: [ولا يعجزه شيء]، فهذه من الصفات السلبية، وقوله: [ولا يوصف بما فيه نقص أو عيب أو آفة] هذا من الصفات السلبية.
وقد ذكر العلماء أن الله تعالى بعث رسله بإثبات مفصَّل ونفي مجمل، وذلك لأن الإثبات مقصود لذاته، فلأجل ذلك فُصِّل في الإثبات، وقد أثبت الله تعالى لنفسه النفس في قوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] ، وأثبت صفة اليد في قوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] ، وصفة الوجه في قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] ، وأثبت العزة والحكمة والرحمة، وأثبت صفات الفعل (الفعلية) كالمجيء والإتيان، وأثبت العلم والقدرة والسمع والبصر، وأثبت الصفات الفعلية أيضاً كالمكر والكيد والعَجَب وما أشبهها، وكذلك أيضاً في الأحاديث.
ويسمى هذا تفصيلاً، أي أن الله تعالى فصَّل في الإثبات حيث ذكر الصفات المثبتة كلها على وجه التفصيل.
وأما صفات السلب فإنه ذكرها على وجه الإجمال، كقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وكقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ [فاطر:44]، وكقوله: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، وكقوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74] . فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22] .
وأشباه ذلك من الصفات السلبية التي نفى الله تعالى بها عن نفسه النقائص.
وقد ذكر أيضاً شيخ الإسلام أن الله تعالى لا يوصف بالصفات السلبية إلا إذا تضمنت إثباتاً، فإن الله نفى عن نفسه الكفؤ والند والمثل والسَّمي، فذلك دليل إثبات الأَحَدية والتفرد، يعني: إذا نفينا هذه الأشياء فقد أثبتنا أنه واحدٌ أحد وفردٌ صمد، وكذلك إذا نفينا العجز، كقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ [فاطر:44] ، كان ذلك دليلاً على إثبات كمال القدرة، وكذلك بقية الصفات السلبية.
ثم نقول بعد ذلك: إن المبتدعة عكسوا الأمر كالمعتزلة، فهم يفصِّلون في النفي ويجملون في الإثبات، كما هو مذكور في معتقداتهم، فيقولون: ننزِّه الله -في زعمهم أنهم ينزِّهون الله- عن أن يكون فوق أو تحت أو يمين أو يسار أو أمام أو خلف، وننزِّهه عن الحدود والأعراض والأبعاض والأجسام والحيِّز والجهة، وننزِّهه عن الجهل وعن كذا وكذا.
فيفصِّلون في النفي، ولا يثبتون إلا إثباتاً مجملاً مطلقاً وبشرط الإطلاق، فيثبتون الوجود مثلاً وبشرط الإطلاق، ولا شك أن هذا التفصيل لا دليل لهم عليه، وهو من جملة ما ابتدعه المبتدعه كما سيأتي.
قال الشيخ الحافظ أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله تعالى في بيان اعتقاد أهل السنة: [ولا يُعتقد فيه الأعضاء والجوارح، ولا الطول والعرض، والغِلَظ والدقة، ونحو هذا مما يكون مثله في الخلق، فإنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] تبارك وجه ربنا ذي الجلال والإكرام، ولا يقولون: إن أسماءَ الله غيرُ الله كما يقوله المعتزلة والخوارج وطوائف من أهل الأهواء، ويثبتون له وجهاً وسمعاً وبصراً وعلماً وقدرةً وقوةً وعزةً وكلاماً، لا على ما يقوله أهل الزيغ من المعتزلة وغيرهم، ولكن كما قال تبارك وتعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27]، وقال: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، وقال: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، وقال: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10]، وقال: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47]، وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15]، وقال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58].
فهو تعالى ذو العلم والقوة والقدرة والسمع والبصر والكلام، كما قال تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود:37]، وقال: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وقال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]، وقال: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40].
ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، كما قال الله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] ، ويقولون: لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله، ولا أن يغلب فعلُه وإرادتُه مشيئةَ الله، ولا أن يبدل علم الله، فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو، والقادر لا يُغلب].
قال المعلِّق جزاه الله خيراً على قول المؤلف: [ولا يعتقد فيه الأعضاء والجوارح .. إلخ] قال: هذه عبارات لم ترد في الكتاب والسنة، ولم تؤثر عن السلف الصالح، بل هي من عبارات المتكلمين، فكان الأولى بالمصنف رحمه الله الاستغناء عنها.
وقال المعلِّق على النسخة الأخرى على قول المؤلف السابق: هذه الكلمات ليست من الألفاظ المعروفة عند أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة، بل هي من الكلمات المخترَعة المبتدَعة، والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية هو سبيل أهل السنة والجماعة، فلا ينبغي لطالب الحق الالتفات إلى مثل هذه الألفاظ ولا التعويل عليها، وما كان أغنى الإمام المصنف رحمه الله تعالى عن مثل هذه الكلمات المبتدَعة! فإن الله سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، منعوت بنعوت العظمة والجلال.
وعلى كل حال فالباطل مردود على قائله كائناً من كان، والقاعدة السلفية في مثل هذه الكلمات أنه لا يجوز نفيها ولا إثباتها إلا بعد التفصيل. وتبيُّن مراد قائلها.
وكان على المؤلف أن يجمل في النفي، غير أنه أراد بهذا النفي أن يسد الطريق على المعطلة لئلا يكون لهم مدخل في رمي أهل الحديث بالتشبيه، ولكنه بهذه العبارات فتح الباب لهم ليُذِمُّوا من أطلقها بموافقتهم على نفي بعض الصفات الذاتية كالوجه واليدين، فلو أمسك رحمه الله عن هذه العبارات لكان أجدى. انتهى.
قوله: [ولا يُعتقد فيه الأعضاء والجوارح، ولا الطول والعرض، والغِلَظ والدقة، ونحو هذا مما يكون مثله في الخلق، وأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] تبارك وجه ربنا ذي الجلال والإكرام].
إنه في القرن الرابع تمكنت مذاهب المعتزلة وأقوالهم، وكذلك من قاربهم كالكرَّامية والكُلَّابية والأشعرية ونحوهم، ولما كان لهم تمكُّن صار الذين يتتلمذون عليهم يولدون مثل هذه العبارات، فيرون أننا إذا أثبتنا الصفات استلزم من إثباتها هذه الأشياء، فلذلك قالوا: لا بد أن نصرح بنفيها، وأن نتبرأ ممن ينفيها حتى لا يرمينا النفاة أو المعتزلة ونحوهم بأننا مجسِّمة أو مشبِّهة أو نحو ذلك، فالتزموا بنفي هذه الأشياء، وإلا فهي عبارات لم يرد لها دليل ولم يستعملها السلف نفياً ولا إثباتاً.
فالسلف ما كانوا يدخلون في هذه الأمور، فلا يقولون: ننزِّه الله تعالى عن الحدود والأعراض والأبعاض والأجزاء والجهات والجسم والحيز. بل كانوا يقتصرون على الوارد في نصوص الكتاب والسنة، ويقولون: الصفات التي ورد دليلها نقول بها ونثبتها لفظاً ومعنىً، ونتوقف عن الكيفية التي هي عليها، وكذلك أيضاً نتوقف عن التعليل الذي تُعَلَّل به أفعال الله تعالى، ونقول: هكذا وردت فنثبتها ونثبت لفظها ومعناها، ونتوقف عن تكييفها وتعليلها، ولا نقول: لماذا وُصف بكذا دون كذا؟ ولا لماذا فعل كذا دون كذا؟ فالتعليلات مرجعها إلى الله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
وكذلك الصفات والكلمات المبتدعة التي لم يتكلم بها السلف نقول: إنها بدعة إثباتاً ونفياً.
فمن قال: إن الله جسم. قلنا: أنت مبتدع.
ومن قال: إن الله ليس بجسم.
قلنا: أنت مبتدع. ومن قال: لله أعضاء وأجزاء. قلنا: هذا بدعة. ومن قال: ليس لله أجزاء ولا أعضاء ولا أبعاض. قلنا: هذه بدعة، فلا تقل هذا ولا تتكلم فيه؛ لأن هذا لم يرد، فما دليلك على النفي؟! وما دليلك على الإثبات؟! قف حيث وقف القوم، وتوقف عن التكلفات، فإن الله تعالى يقول لنبيه: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، فالتكلف هو أن يكلف الإنسان نفسه فيقول بما ليس له به علم، ويتخرص في الاعتقاد، ويتخرص في الأسماء والصفات، ويقول شيئاً من قبل نفسه.
سبب استخدام أهل السنة لبعض كلمات المتكلمين
فهم إذا قيل لهم: إن الله تعالى مستوٍ على عرشه قالوا: هذا يستلزم أن يكون جسماً؛ لأن الاستواء الذي هو الاستقرار على العرش لا بد أن يكون جسماً، فقد جسَّمتم وأثبتم لله تعالى جسماً.
فنقول: لا ترمونا بإثبات شيء لم نقله، نحن لا نقول: إن الله جسم أو غير جسم، بل الله تعالى وصف نفسه بهذه الصفات، ونتوقف عما زاد عليها.
كذلك إذا قدَّروا التقديرات وقالوا: إذا استوى على العرش فإما أن يكون مثل العرش أو دون العرش أو فوق العرش أو أكثر أو أوسع منه فإنا نقول: هذا هو التكلف، فلا تدخلوا في هذا، وأثبتوا ما أثبته الله ووكِّلوا الكيفية إليه سبحانه، كما قال السلف: الكيف مجهول.
وإذا قالوا -مثلاً-: إن مجيئه ونزوله من شأن المحدثات والمركبات، ويلزم من هذا أن يكون حادثاً مركباً من أعضاء وأجزاء وما أشبه ذلك. -تعالى الله عن ذلك- قلنا: هذا أيضاً من التكلف، ولا حاجة بنا إلى أن نخوض في مثل هذا.
إن الله تعالى ربنا نؤمن به وأنه خالق الخلق وهو مدبِّرهم، وأما الخوض في تكييف صفاته وتنزيهه عن أشياء قد سكت عنها وسكت عنها السلف وأئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن الدخول فيها تكلُّف.
فـشيخ الإسلام لما ناظرهم في دمشق في الصفات وأثبتها، عند ذلك كان يقول: لله تعالى وجه ولا يشبه خلقه، ولله يدان من غير تشبيه ليست كيد المخلوق، والله تعالى يضحك ويعجب لا كعجب المخلوق، والله تعالى يرحم لا كرحمة المخلوق. فعند ذلك قال بعض الحاضرين: إذاً سنقول: إن لله تعالى جسماً لا كأجسام المخلوقين! فقال شيخ الإسلام : كلا. لا نقول هذا؛ لأن هذا لم يرد، ونحن إنما نقول بما ورد، وأنتم توافقون على أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، فأين في الصفات إثبات الجسم أو نفيه؟! وأين في صفات الله أو الآيات والأحاديث إثبات العَرَض أونفيه؟! أو إثبات الأبعاض والأجزاء أو نفيها؟! أو إثبات التركيب وحلول الحوادث أو نفيها؟! أو إثبات المقدار -أو ما يقولونه من الغِلَظ والدقة- وما أشبه ذلك أو نفيه؟! ولَمَّا لَمْ ترد مثل هذه لم يَجُزِ استعمالها نفياً ولا إثباتاً، فهذا هو حقاً القول الصحيح الثابت، أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأن مثل هذه الأعراض والكلمات التي توسع فيها هؤلاء إنما هي مبتدَعة.
ثم ذكر المعلِّق عذر المؤلف في ذكره مثل هذه الكلمات، يقول: غير أنه أراد بهذا النفي أن يسد الطريق على المعطلة لئلا يكون لهم مدخل في رمي أهل الحديث بالتشبيه.
هكذا استعمل هذه الكلمات حتى يسد الباب على المعطلة الذين هم المعتزلة، فإنهم إذا قلنا: إن لله وجهاً قالوا: الوجه موجود في المخلوقين فقد شبَّهتم. وإذا قلنا: إن لله يداً قالوا: قد شبَّهتم. وإذا أثبتنا هذه الصفات قالوا: قد جعلتم الله تعالى أعراضاً وجعلتم له أبعاضاً وأجزاءً وجعلتم وجعلتم.
فلأجل ذلك رأى بعض أهل السنة من المتأخرين في القرن الرابع وما بعده استخدامها، أمثال المؤلف والطحاوي في عقيدته أيضاً فإنه استعمل مثل هذه الكلمات وناقشه الشارح وبين أيضاً أنها مما لم يرد، وكان عذره أن يسد الباب على المعطلة والمعتزلة ونحوهم، لكن ذكر أنه فتح الباب لهم؛ إذ قد يلزم من أطلقها بموافقتهم على نفي بعض الصفات الذاتية، كأنهم يقولون: ما دام أنكم تنفونها وتقولون: ليس لله أعراضٌ وأجزاءٌ فعليكم أن تنفوا صفة الوجه والرجل واليدين وما أشبه ذلك مما ورد دليله. فيقول: إن استعمال هذه الكلمات فتح لهم الباب، وكان الأولى الإمساك عنها، والاقتصار على الوارد.
فنحن نعتقد وننفي النفي المجمل، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، فيكفينا فيها النفي، ويكون هذا عاماً في الذات والفعل، فإذا أثبتنا لله الصفات الذاتية كالسمع والبصر والكلام والوجه وما أشبهها قلنا: ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته.
وإذا أثبتنا له الأفعال أنه يشاء ويريد ويحكم ويرحم ويحب ويكره ويبغض قلنا: ليس كمثله شيء في هذه الأفعال. وهكذا طريقة أهل السنة في مثل ذلك.
اختلاف العلماء في الاسم والمسمى
وفي نسخة: [ولا يقولون: إن أسماءَ الله غيرُ الله].
ولعل الصواب: [ولا يقولون: إن أسماءَ الله غيرُ الله]، وذلك لأن المبتدعة زعموا أن أسماءَ الله غيرُه، ولا شك أن الاسم يدل على المسمى، ولأجل ذلك يأمر الله تعالى بذكره بأسمائه، فقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] المعنى: سبح ربك. فالاسم دليل على المسمى، وليس الاسم زائداً عليه، وإن كان يمكن أن يقال: إن الاسم كلمة تدل على المسمى. وذلك في حق المخلوق ممكن، فالإنسان قد يتسمى باسم ثم يتسمى باسم آخر.
ثم أيضاً اسمه قد لا يكون ظاهراً أثرُه في حق المخلوقين، فليس كل من سمِّي صالحاً يكون من أهل الصلاح، ولا من سمي صادقاً يكون من أهل الصدق دائماً، ولا من سمي طاهراً يكون مطهراً، ولا من سمي راشداً يكون من أهل الرشد. فدل ذلك على أن الاسم ليس هو عين المسمى.
والكلمة أو الجملة قد توسع فيها العلماء واختلفوا في ذلك:
فمنهم من يقول: الاسم عين المسمى.
ومنهم من يقول: الاسم غير المسمى. ومنهم من يتوقف فيقول: لا نقول الاسم عين المسمى ولا الاسم غير المسمى.
والصحيح من حيث الواقع أن الاسم دليل على المسمى وليس هو عين المسمى، ولأجل ذلك قد يُسمى الإنسان باسم ثم يغيَّر اسمُه، وكثير من الصحابة مضى عليهم قبل أن يسلموا أربعون أو خمسون سنة ثم غيِّرت أسماؤهم بعدما أسلموا، فـعبد الرحمن بن عوف كان اسمه: عبد عمرو، ولما أسلم تسمى بـعبد الرحمن ، وأبو هريرة كان اسمه عبد شمس -على الصحيح-، ولما أسلم تسمى بـعبد الرحمن، وكذا كثير من الصحابة غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم، فذلك دليل على أن الاسم ليس هو عين المسمى.
ما يلزم منه إثبات أسماء الله
يقول العلماء: إن كل اسم من أسماء الله تعالى له ثلاث دلالات:
دلالة على الذات، ودلالة على الصفة المشتقة من ذلك الاسم، ودلالة على بقية الصفات.
فدلالته على الذات تسمى دلالة المطابقة.
ودلالته على الصفة المشتقة منه تسمى دلالة تضمُّن.
ودلالته على بقية الأسماء تسمى دلالة التزام.
فإذا ذُكر اسم الرحمن قلنا: هذا الاسم (الرحمن) ينطبق على الله تعالى، ولا يسمى به إلا الله على الإطلاق، فهو يدل كلَّ مَن سمعه على ذات الله تعالى. ثم نقول: هذا الاسم يدل على إثبات الرحمة، ويتضمن إثبات الرحمة لأنه مشتق منها، فهو دليل على إثبات الرحمة دلالة تضمُّن.
كذلك إذا أثبتنا الرحمن وأثبتنا الرحمة قلنا: إثبات الرحمة يستلزم بقية الصفات، فيستلزم إثبات المحبة، والغنى، والقوة والقدرة، والسمع، والبصر، والعلم، والإرادة، والغنى، وكمال التصرف، والقوة، والقدرة؛ لأن الرحمن واسع الرحمة، فلابد أن يكون غنياً سميعاً بصيراً مريداً ونحو ذلك، فنسمي دلالتَه على بقية الصفات دلالةَ استلزام أو التزام، أي: يلزم من إثبات هذه الصفة إثبات بقية صفات الكمال.
فالحاصل أن هناك من يقول: إن أسماء الله غير الله وهناك من يقول: إن أسماء الله مخلوقة. ولعل هؤلاء ما حملهم على ذلك إلا اعتقاد أن الأسماء إذا تعددت تعددت الموجودات -كما يعبرون بذلك-، وهذا قول خاطئ، فلا يلزم إثبات تعدد القدماء كما يقولون، فالصفة الخاصة عند المعتزلة هي صفة القِدَم، أي أن الله قديم لم يُسبَق بعَدَم، فهم يقولون: إن أسماء الله حادثة، وإذا كانت حادثة فإنها ليست قديمة ويقولون: لو أثبتنا أنه موصوف بها أزلاً لأثبتنا تعدُّد القدماء، فيلزم بذلك إثبات التعدُّد.
هكذا عللوا، وهو تعليل ضعيف، فإنا إذا قلنا: إن الله تعالى قديم بصفاته لم يلزم تعدد، وذلك لأن الصفات تابعة للذات، ولا يلزم من إثبات الصفات للذات أن يكون هناك عدد، كما في المخلوق، فإذا قلت -مثلاً-: جاءنا زيدٌ فلا حاجة إلى أن تقول: جاءنا زيدٌ وسمعُه وبصره وأذناه ويداه ورجلاه وبطنه وظهره ورأسه ولسانه وشفتاه. يكفي أن تقول: جاء زيد. فهو واحد.
فإثبات المسمى يتبعه إثبات الصفات وإثبات الذات.
فإذا قلنا: إن الله تعالى قديم. فلا حاجة إلى أن نقول: الله قديم وعلمُه وقدرته ويداه ووجهه وإرادته قديمة. بل الله قديم بصفاته، فلا يحتاج إلى تعدد القدماء كما يقولون.
إن بعضاً من أهل الحديث والعقيدة لما ظنوا أن إثبات هذه الأشياء يستلزم أن المعتزلة يعيبون مَن أثبت الصفات في كذا وكذا صرَّحوا بمثل هذا النفي، كأنهم يقولون: إذا أثبتم لله تعالى الاستواء والمجيء والنزول فإن هذا إثبات أجسام؛ لأنَّا لا نعرف من ينتقل من فوق إلى تحت، أو من يجيء أو من يستوي ويرتفع إلا الأجسام والأعراض، فقد أثبتم جسماً، أو عَرَضاً، أو أجزاءً وأبعاضاً أو نحو ذلك. هكذا يقولون.
فهم إذا قيل لهم: إن الله تعالى مستوٍ على عرشه قالوا: هذا يستلزم أن يكون جسماً؛ لأن الاستواء الذي هو الاستقرار على العرش لا بد أن يكون جسماً، فقد جسَّمتم وأثبتم لله تعالى جسماً.
فنقول: لا ترمونا بإثبات شيء لم نقله، نحن لا نقول: إن الله جسم أو غير جسم، بل الله تعالى وصف نفسه بهذه الصفات، ونتوقف عما زاد عليها.
كذلك إذا قدَّروا التقديرات وقالوا: إذا استوى على العرش فإما أن يكون مثل العرش أو دون العرش أو فوق العرش أو أكثر أو أوسع منه فإنا نقول: هذا هو التكلف، فلا تدخلوا في هذا، وأثبتوا ما أثبته الله ووكِّلوا الكيفية إليه سبحانه، كما قال السلف: الكيف مجهول.
وإذا قالوا -مثلاً-: إن مجيئه ونزوله من شأن المحدثات والمركبات، ويلزم من هذا أن يكون حادثاً مركباً من أعضاء وأجزاء وما أشبه ذلك. -تعالى الله عن ذلك- قلنا: هذا أيضاً من التكلف، ولا حاجة بنا إلى أن نخوض في مثل هذا.
إن الله تعالى ربنا نؤمن به وأنه خالق الخلق وهو مدبِّرهم، وأما الخوض في تكييف صفاته وتنزيهه عن أشياء قد سكت عنها وسكت عنها السلف وأئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن الدخول فيها تكلُّف.
فـشيخ الإسلام لما ناظرهم في دمشق في الصفات وأثبتها، عند ذلك كان يقول: لله تعالى وجه ولا يشبه خلقه، ولله يدان من غير تشبيه ليست كيد المخلوق، والله تعالى يضحك ويعجب لا كعجب المخلوق، والله تعالى يرحم لا كرحمة المخلوق. فعند ذلك قال بعض الحاضرين: إذاً سنقول: إن لله تعالى جسماً لا كأجسام المخلوقين! فقال شيخ الإسلام : كلا. لا نقول هذا؛ لأن هذا لم يرد، ونحن إنما نقول بما ورد، وأنتم توافقون على أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، فأين في الصفات إثبات الجسم أو نفيه؟! وأين في صفات الله أو الآيات والأحاديث إثبات العَرَض أونفيه؟! أو إثبات الأبعاض والأجزاء أو نفيها؟! أو إثبات التركيب وحلول الحوادث أو نفيها؟! أو إثبات المقدار -أو ما يقولونه من الغِلَظ والدقة- وما أشبه ذلك أو نفيه؟! ولَمَّا لَمْ ترد مثل هذه لم يَجُزِ استعمالها نفياً ولا إثباتاً، فهذا هو حقاً القول الصحيح الثابت، أن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأن مثل هذه الأعراض والكلمات التي توسع فيها هؤلاء إنما هي مبتدَعة.
ثم ذكر المعلِّق عذر المؤلف في ذكره مثل هذه الكلمات، يقول: غير أنه أراد بهذا النفي أن يسد الطريق على المعطلة لئلا يكون لهم مدخل في رمي أهل الحديث بالتشبيه.
هكذا استعمل هذه الكلمات حتى يسد الباب على المعطلة الذين هم المعتزلة، فإنهم إذا قلنا: إن لله وجهاً قالوا: الوجه موجود في المخلوقين فقد شبَّهتم. وإذا قلنا: إن لله يداً قالوا: قد شبَّهتم. وإذا أثبتنا هذه الصفات قالوا: قد جعلتم الله تعالى أعراضاً وجعلتم له أبعاضاً وأجزاءً وجعلتم وجعلتم.
فلأجل ذلك رأى بعض أهل السنة من المتأخرين في القرن الرابع وما بعده استخدامها، أمثال المؤلف والطحاوي في عقيدته أيضاً فإنه استعمل مثل هذه الكلمات وناقشه الشارح وبين أيضاً أنها مما لم يرد، وكان عذره أن يسد الباب على المعطلة والمعتزلة ونحوهم، لكن ذكر أنه فتح الباب لهم؛ إذ قد يلزم من أطلقها بموافقتهم على نفي بعض الصفات الذاتية، كأنهم يقولون: ما دام أنكم تنفونها وتقولون: ليس لله أعراضٌ وأجزاءٌ فعليكم أن تنفوا صفة الوجه والرجل واليدين وما أشبه ذلك مما ورد دليله. فيقول: إن استعمال هذه الكلمات فتح لهم الباب، وكان الأولى الإمساك عنها، والاقتصار على الوارد.
فنحن نعتقد وننفي النفي المجمل، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، فيكفينا فيها النفي، ويكون هذا عاماً في الذات والفعل، فإذا أثبتنا لله الصفات الذاتية كالسمع والبصر والكلام والوجه وما أشبهها قلنا: ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته.
وإذا أثبتنا له الأفعال أنه يشاء ويريد ويحكم ويرحم ويحب ويكره ويبغض قلنا: ليس كمثله شيء في هذه الأفعال. وهكذا طريقة أهل السنة في مثل ذلك.
قال رحمه الله تعالى: [ولا يقولون: إن أسماء الله عزَّ وجلَّ -كما تقوله المعتزلة والخوارج وطوائفهم من أهل الأهواء- مخلوقةٌ].
وفي نسخة: [ولا يقولون: إن أسماءَ الله غيرُ الله].
ولعل الصواب: [ولا يقولون: إن أسماءَ الله غيرُ الله]، وذلك لأن المبتدعة زعموا أن أسماءَ الله غيرُه، ولا شك أن الاسم يدل على المسمى، ولأجل ذلك يأمر الله تعالى بذكره بأسمائه، فقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] المعنى: سبح ربك. فالاسم دليل على المسمى، وليس الاسم زائداً عليه، وإن كان يمكن أن يقال: إن الاسم كلمة تدل على المسمى. وذلك في حق المخلوق ممكن، فالإنسان قد يتسمى باسم ثم يتسمى باسم آخر.
ثم أيضاً اسمه قد لا يكون ظاهراً أثرُه في حق المخلوقين، فليس كل من سمِّي صالحاً يكون من أهل الصلاح، ولا من سمي صادقاً يكون من أهل الصدق دائماً، ولا من سمي طاهراً يكون مطهراً، ولا من سمي راشداً يكون من أهل الرشد. فدل ذلك على أن الاسم ليس هو عين المسمى.
والكلمة أو الجملة قد توسع فيها العلماء واختلفوا في ذلك:
فمنهم من يقول: الاسم عين المسمى.
ومنهم من يقول: الاسم غير المسمى. ومنهم من يتوقف فيقول: لا نقول الاسم عين المسمى ولا الاسم غير المسمى.
والصحيح من حيث الواقع أن الاسم دليل على المسمى وليس هو عين المسمى، ولأجل ذلك قد يُسمى الإنسان باسم ثم يغيَّر اسمُه، وكثير من الصحابة مضى عليهم قبل أن يسلموا أربعون أو خمسون سنة ثم غيِّرت أسماؤهم بعدما أسلموا، فـعبد الرحمن بن عوف كان اسمه: عبد عمرو، ولما أسلم تسمى بـعبد الرحمن ، وأبو هريرة كان اسمه عبد شمس -على الصحيح-، ولما أسلم تسمى بـعبد الرحمن، وكذا كثير من الصحابة غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم، فذلك دليل على أن الاسم ليس هو عين المسمى.
أسماء الله تعالى دالة عليه، ولا نقول: إن أسماءَ الله غيرُ الله. بل نقول: أسماءُ الله دالةٌ عليه، ثم أيضاً أسماؤه دالة على صفاته، فاسمه (الرحمن) دليل على الرحمة، واسمه (العزيز) دليل على العزة، وهكذا بقية الأسماء.
يقول العلماء: إن كل اسم من أسماء الله تعالى له ثلاث دلالات:
دلالة على الذات، ودلالة على الصفة المشتقة من ذلك الاسم، ودلالة على بقية الصفات.
فدلالته على الذات تسمى دلالة المطابقة.
ودلالته على الصفة المشتقة منه تسمى دلالة تضمُّن.
ودلالته على بقية الأسماء تسمى دلالة التزام.
فإذا ذُكر اسم الرحمن قلنا: هذا الاسم (الرحمن) ينطبق على الله تعالى، ولا يسمى به إلا الله على الإطلاق، فهو يدل كلَّ مَن سمعه على ذات الله تعالى. ثم نقول: هذا الاسم يدل على إثبات الرحمة، ويتضمن إثبات الرحمة لأنه مشتق منها، فهو دليل على إثبات الرحمة دلالة تضمُّن.
كذلك إذا أثبتنا الرحمن وأثبتنا الرحمة قلنا: إثبات الرحمة يستلزم بقية الصفات، فيستلزم إثبات المحبة، والغنى، والقوة والقدرة، والسمع، والبصر، والعلم، والإرادة، والغنى، وكمال التصرف، والقوة، والقدرة؛ لأن الرحمن واسع الرحمة، فلابد أن يكون غنياً سميعاً بصيراً مريداً ونحو ذلك، فنسمي دلالتَه على بقية الصفات دلالةَ استلزام أو التزام، أي: يلزم من إثبات هذه الصفة إثبات بقية صفات الكمال.
فالحاصل أن هناك من يقول: إن أسماء الله غير الله وهناك من يقول: إن أسماء الله مخلوقة. ولعل هؤلاء ما حملهم على ذلك إلا اعتقاد أن الأسماء إذا تعددت تعددت الموجودات -كما يعبرون بذلك-، وهذا قول خاطئ، فلا يلزم إثبات تعدد القدماء كما يقولون، فالصفة الخاصة عند المعتزلة هي صفة القِدَم، أي أن الله قديم لم يُسبَق بعَدَم، فهم يقولون: إن أسماء الله حادثة، وإذا كانت حادثة فإنها ليست قديمة ويقولون: لو أثبتنا أنه موصوف بها أزلاً لأثبتنا تعدُّد القدماء، فيلزم بذلك إثبات التعدُّد.
هكذا عللوا، وهو تعليل ضعيف، فإنا إذا قلنا: إن الله تعالى قديم بصفاته لم يلزم تعدد، وذلك لأن الصفات تابعة للذات، ولا يلزم من إثبات الصفات للذات أن يكون هناك عدد، كما في المخلوق، فإذا قلت -مثلاً-: جاءنا زيدٌ فلا حاجة إلى أن تقول: جاءنا زيدٌ وسمعُه وبصره وأذناه ويداه ورجلاه وبطنه وظهره ورأسه ولسانه وشفتاه. يكفي أن تقول: جاء زيد. فهو واحد.
فإثبات المسمى يتبعه إثبات الصفات وإثبات الذات.
فإذا قلنا: إن الله تعالى قديم. فلا حاجة إلى أن نقول: الله قديم وعلمُه وقدرته ويداه ووجهه وإرادته قديمة. بل الله قديم بصفاته، فلا يحتاج إلى تعدد القدماء كما يقولون.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح اعتقاد أهل السنة [8] | 2695 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [13] | 2328 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [7] | 2146 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [3] | 1851 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [12] | 1772 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [6] | 1719 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [17] | 1694 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [10] | 1675 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [4] | 1644 استماع |
شرح اعتقاد أهل السنة [2] | 1621 استماع |