خطب ومحاضرات
اعتناء الحنفاء بمعرفة الأصدقاء من الأعداء [3]
الحلقة مفرغة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
إخوتي الكرام! لقد استعرضنا فيما سبق أقسام الأصدقاء والأعداء، وقد تكلمنا عن الأصدقاء، وقلنا بأنهم قسمان: ظاهري وباطني، وقد فصلنا القول في كل قسم، وذكرنا أيضاً أن الأعداء على قسمين ظاهري وباطني، وشرحنا العدو الظاهري، وماذا يجب علينا نحوه، وبقي الكلام على العدو الباطني، وهو الذي قلت سأخص الحديث حوله، وأرى أن الكلام قد طال، فسأحاول أن أتكلم على معاقده الأساسية وهو محور موضوعنا؛ لأنه أخبث الأعداء، ومن انهزم أمامه فسينهزم أمام الأعداء الظاهرين، فالعدو الباطني هو الذي يقابل الملك، فإن الملك يأمر بالخير وهذا يأمر بالشر وهو الشيطان الرجيم، وهذا العدو الباطني لا أريد أن أتكلم عليه من ناحية أصله وفصله ومعدنه وما شاكل هذا، لا ثم لا، فلا أريد أن أتكلم أنه مخلوق من نار وأنه يفعل كذا، وأنهم يتناكحون، ويمكن أن يتناكح الإنسي مع الجني أو لا يمكن، والبحث في هذا، لا أريد أن أدخل في هذا، فمثالنا الآن مثال رجل دخلت تحت ثيابه حية، فإن كان عاقلاً فينبغي أن يقتلها قبل كل شيء، وإن كان مهوساً -كما هو حالنا الآن- فإنه يبحث في شكلها وفي طولها ومن أين جاءت، وما ثخنها، وما الأضرار المترتبة عليها؟
زواج الجن بالإنس وصحة ذلك
هل اطلعت عليهم يا عبد الله؟ أنت الآن تقول: لا ينبغي أن نبحث فيهم لأنهم غير معلومين لنا، فكيف إذاً أنت علمت أنهم ليسوا بذكور ولا إناث؟ من أين علمت؟ والله جل وعلا يقول في محكم كتابه: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:74]، ويقول: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، أي: كما أن لآدم ذرية فللشيطان ذرية عن طريق التناسل، ولذلك أدلة كثيرة لا أريد أن أخوض فيها، إنما أريد أن أقول: هذه الأيدي المنكرة -ليست الأقلام- ينبغي أن تقطع، والإسلام ليس بكلأ مباح لكل سائمة يأتي يتكلم فيه كما يريد، فإذا أردت أن تبحث الأمر فقرر ما تقول بكلام سلفنا إن كنت رشيداً، وأما أن تأتينا بهوسك، وتكتب أمام اسمك دالاً لتدجل على العباد فاتق الله في نفسك يا عبد الله!
الإسلام -إخوتي الكرام- لا يوجد من يغار عليه في هذا الزمان، ولذلك صار كلأً مباحاً لكل سائمة، يفتي باسم الإسلام بما يريد، سبحان الله العظيم! أي كتاب من كتب الفقه قرأت حتى أفتيت بما أفتيت، وكنت قد قررت على إخواني الطلاب في محاضرتين مسألة التزاوج بين الإنس والجن والأدلة التي تمنع أو تبيح، وما هو دليل كل، وكما قلت لا أريد أن أبحث في هذا، وإنما أريد أن أنبه على بلاء تتطاير به الصحف في هذه الأحيان من قبل مهوسين متفرنجين يريدون أن يضعوا أنفسهم حكماً في شريعة رب العالمين.
إخوتي الكرام! أريد أن أشير إشارة فقط إلى موضوع زواج الإنس بالجن؛ لأن الصحف في هذا الوقت تتطاير هنا وهناك وتحمل بلاءً، وأنا على يقين تام بأن الصحف والمجلات ليست بمصدر للأحكام، إنما من باب التنبيه على ما ينشر ما بين الحين والحين أن التزاوج بين الإنس والجن مستحيل عقلاً وغير واقع شرعاً، وهذا كلام المهوسين، من لا عقول عندهم ولا يعرفون شرع رب العالمين، ومن البلاء أن الشريعة في هذا الوقت صارت كلأً مباحاً لكل سائمة، فالجن يتناكحون ويتناسلون -وكما قلت- لا أريد أن أقرر الأدلة من الكتاب والسنة على هذا البحث، ووقوع التزاوج بينهم وبين الإنس ممكن وواقع، والأخبار في ذلك متواترة، ولا يوجد كتاب من كتب الفقه إلا وبحث مسألة حكم التناكح بين الإنس والجن، فيأتي هذا المتكئ على أريكته وهو ينظر إلى شاشة التلفزيون ليقرر لنا أن هذا مستحيل، ولا يمكن أن يقع في الشرع ولا في العقل، ثم يزيد البلاء بلاءً فيقول: إن الشياطين والجن لا يوصفون بأنوثة ولا ذكورة.
هل اطلعت عليهم يا عبد الله؟ أنت الآن تقول: لا ينبغي أن نبحث فيهم لأنهم غير معلومين لنا، فكيف إذاً أنت علمت أنهم ليسوا بذكور ولا إناث؟ من أين علمت؟ والله جل وعلا يقول في محكم كتابه: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:74]، ويقول: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50]، أي: كما أن لآدم ذرية فللشيطان ذرية عن طريق التناسل، ولذلك أدلة كثيرة لا أريد أن أخوض فيها، إنما أريد أن أقول: هذه الأيدي المنكرة -ليست الأقلام- ينبغي أن تقطع، والإسلام ليس بكلأ مباح لكل سائمة يأتي يتكلم فيه كما يريد، فإذا أردت أن تبحث الأمر فقرر ما تقول بكلام سلفنا إن كنت رشيداً، وأما أن تأتينا بهوسك، وتكتب أمام اسمك دالاً لتدجل على العباد فاتق الله في نفسك يا عبد الله!
الإسلام -إخوتي الكرام- لا يوجد من يغار عليه في هذا الزمان، ولذلك صار كلأً مباحاً لكل سائمة، يفتي باسم الإسلام بما يريد، سبحان الله العظيم! أي كتاب من كتب الفقه قرأت حتى أفتيت بما أفتيت، وكنت قد قررت على إخواني الطلاب في محاضرتين مسألة التزاوج بين الإنس والجن والأدلة التي تمنع أو تبيح، وما هو دليل كل، وكما قلت لا أريد أن أبحث في هذا، وإنما أريد أن أنبه على بلاء تتطاير به الصحف في هذه الأحيان من قبل مهوسين متفرنجين يريدون أن يضعوا أنفسهم حكماً في شريعة رب العالمين.
إن العدو الباطني هو العدو الجني، هو الشيطان المريد، وسأتحدث في إثبات عداوته، وفي تلبيس عداوته بمظهر الصداقة، وفي التبري ممن يغويه ويطغيه، وفي طرق إضلاله للناس، وفي الطرق والأمور التي ينبغي أن نفعلها لنحترس منه ونقاومه، سيدور حديثنا حول هذه الأمور الخمسة، وأحاول أن أتكلم كما قلت على جزء من هذا، والأمور الخمسة كان في ظني أن أنهيها على أقل تقدير في هذا الوقت، فلنتكلم على ما يسر الله جل وعلا من هذه الأمور.
أولاً: كما أن الملك ولي لك وصديق فهذا عدو لك، يقول الله جل وعلا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، وهذا العدو هو أخبث الأعداء على الإطلاق، كيف لا وقد اتصف بأربعة أمور لا توجد في عدو من الأعداء:
الصفة الأولى: العداوة لأبينا آدم
وفي سورة الأعراف يقول الله جل وعلا: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]، كاد لأصلكم فسيكيد للفرع أيضاً.
وفي سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]، ولذلك كان رسل الله الأطهار عليهم صلوات الله وسلامه يحذرون من هذا العدو الغدار، والأخبار عنهم في ذلك كثيرة، ففي كتاب ربنا العزيز الغفار عندما قص نبي الله يوسف على والده يعقوب -على نبينا وعليهما الصلاة والسلام- رؤياه، وأنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له، قال الله: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5].
إذاً: هو عدو للأصل، وإذا عادى الأصل فسيعادي الفرع قطعاً.
الصفة الثانية: سبب العداوة بيننا وبينه هي الدين
فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يبعث إبليس سراياه ) أي: يرسل جنوده كل يوم، ليطغوا الناس ( فأعظمهم فتنة أعظمهم عنده منزلة )، قوله: (أعظمهم فتنة) أي: فالذي يغوي البشر ويطغيهم أكثر من غيره هذا هو المقرب عند هذا اللعين الماكر.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا خلق عباده حنفاء والشياطين اجتالتهم عن دينهم وغيرت لهم شرع ربهم، ففي صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار المجاشعي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم في يومي هذا، قال الله تعالى: كل مال نحلته عبداً فهو له حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ).
إذاً: العداوة بيننا وبين هذا العدو بسبب الدين، فهو يريد أن يغيرنا عن الفطرة التي فطرنا ربنا جل وعلا عليها، ويريد أن يحولنا عنها.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يقعد لابن آدم بكل طريق من طرق الخير بلا استثناء، ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي بسند صحيح عن سبرة بن أبي فاكه ، ويقال: ابن الفاكه رضي الله عنه وهو من الصحابة الأطهار رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها ) أي: بجميع الطرق، قال: ( فقعد له في طريق الإسلام فقال له: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فخالفه -أي: ابن آدم- وأسلم، ثم قعد له في طريق الهجرة فقال: أتهاجر وتترك أرضك وسماءك؟ ) أي: ما يطنطن به في هذا الوقت العملاء من أننا سنحافظ على أرض الوطن وسمائها، دعوة إبليسية شيطانية، تشابهت القلوب فتشابه الكلام والألسن.
قال عنه صلى الله عليه وسلم: ( ثم جاءه بطريق الجهاد فقال: أتريد أن تجاهد؟ فإذا جاهدت قتلت فتنكح المرأة ويقسم المال، فخالفه وجاهد )، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن فعل ذلك منهم -أي: من بني آدم- أسلم وهاجر وجاهد ولم يصغ للشيطان فمات دخل الجنة، وإن قتل دخل الجنة، وإن غرق دخل الجنة، وإن وقصته دابته -أي: رمته وألقته- فأماتته دخل الجنة )، والشاهد: ( قعد له بأطرق الخير كلها ).
وقد كان الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه يحذرون من عداوة هذا اللعين بسبب الدين، ويخبرون أنه عدو لله رب العالمين، ولن يهدأ إلا بإغوائهم وإطغائهم، ففي سورة مريم يقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:41-45].
فالعداوة بيننا وبينه بسبب الدين، ولذلك أخبرنا رب العالمين أن الشيطان يحرص على إيقاعنا في كل فعل أثيم: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91].
فإذاً: العداوة بيننا وبينه بسبب الدين، فلا يمكن أن تنقضي إلا إذا كفرنا فصرنا موالين له، وما دمنا مؤمنين والروح فينا فالحرب بيننا وبينه قائمة.
الصفة الثالثة: رؤية الشيطان للإنس وعدم رؤيتهم له
اللهم يا رب العالمين نسألك بلطفك ورحمتك يا أرحم الراحمين، كما سلطت هذا العدو علينا فهو يرانا ولا نراه، فإنا نسلطك عليه فأنت تراه وهو لا يراك، اللهم إنا نسألك برحمتك كما قنطته من رحمتك أن تقنطه منا إنك على كل شيء قدير.
الصفة الرابعة: مصاحبة الشيطان للإنس في كل حين
أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد جاء في الحديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أوقد جاءك شيطانك؟ قالت: يا رسول الله! أو معي شيطان؟ قال: نعم. قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم. قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: نعم. لكن الله أعانني عليه فأسلم). (فأسلم) ضبطت من حيث الحركة الظاهرية بوجهين: بالرفع، فأسلمُ، أي: فأسلم من شره، وهذا الذي اختاره ابن عيينة من أئمة الحديث الكبار ووافقه عليه الخطابي ، وقال: إن الشيطان لا يسلِم، وقد ادعى شارح الطحاوية عليه رحمة الله: أن هذا تحريف لفظي للحديث.
والكلام فيه خشونة؛ لأن الإمام سفيان بن عيينة من أئمة الحديث وقد ضبط هذا، فلعله صدر من النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، فنقول: ضبط بالرفع، وهذا ثابت عند رواة الحديث ولا داعي للقول بأن هذا تحريف لفظي.
واختلف العلماء في تأويل معنى النصب على قولين:
الأول: فأسلم، أي: فاستسلم الشيطان وانقاد لي، ولم يدخل في الإيمان حقيقة، وهذا الذي اختاره شارح الطحاوية.
والأمر الثاني: فأسلم، أي: دخل في الإسلام وصار مؤمناً.
قال شارح الطحاوية: وهذا تحريف معنوي كما أن ذاك تحريف لفظي.
وأنا أخالفه في الأمرين، فالضبط الأول بالرفع منقول عن أئمة الحديث، والتأويل الثاني وهو أن شيطان النبي صلى الله عليه وسلم أسلم حقيقة منقول عن جمهور أهل الحديث، قرره الإمام عياض عليه رحمة الله، وقرره ابن حبان في صحيحه، وانتصر له الإمام ابن الجوزي ونصره أتم نصر، ومال إليه الطحاوي صاحب المتن وقرره وقواه وارتضاه.
وقال الإمام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي المتوفى سنة تسع وستين وسبعمائة، وهو صاحب كتاب آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان، وكان من تلاميذ الشيخ ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، قال في هذا الكتاب: وقد ثبت صراحة إسلام قرين النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب دلائل النبوة لـأبي نعيم .
وإذا كان هذا المعنى هو المعتمد فأجمع بين الأمرين فأقول: فأسلمُ بالرفع أي: فأسلم من شره؛ لأن الشيطان أسلمَ أي: صار مؤمناً، وعلى هذا فالضبط بالرفع صحيح والنصب صحيح، والمعنى بينهما متآخٍ وليس بمفترق، أسلمُ من شره؛ لأنه صار مؤمناً مسلماً، وهذه خصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم، وكم حباه الله من خصائص وفضائل، فشيطانه صار مسلماً فلا يأمره إلا بخير، فإذا كان مستسلماً فقط ولم يؤمن إذاً لا يأمره بخير، وقد جاء في نص الحديث: ( فأسلم فلا يأمرني إلا بخير )، فأسلمُ أي: فأسلم منه لأنه صار مؤمناً فلا يأمرني إلا بخير.
الشاهد من هذا: أن الشيطان قد وكل بكل واحد من بني الإنسان: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم).
جريان الشيطان من ابن آدم مجرى الدم
إذاً: هذه الأمور الأربعة مجتمعة في هذا العدو اللعين، عادى أصلنا وسيعادي الفرع، عداوته لنا بسبب الدين، يرانا ولا نراه، يجري فينا مجرى الدم في ذرات جسمنا، فلا حيلة لنا من التخلص منه إلا بالالتجاء إلى ربنا جل وعلا، قال الله: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200] كما سيأتينا هذا في الطرق التي نحارب بها الشيطان ونحترس بها منه.
الأمر الأول من هذه الأمور التي اتصف بها: أنه عدو لأبينا آدم، فإذا عادى هذا اللعين الأصل سيعادي الفرع قطعاً؛ لأنه لعن بسبب هذا الأصل وطرد، وقد قرر ربنا جل وعلا هذا المعنى وأشار إليه في آيات كثيرة، يقول الله جل وعلا في سورة طه: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، عدو لأبينا آدم ولأمنا حواء، فمن عادى أصلنا سيعادي فرعنا بلا شك، وكما قال سلفنا: عدو جدك لا يودك، أي: لا يحبك، فلا يمكن لعدو الجد أن يحب الفرع ولا الحفيد أبداً، فانتبه لهذا.
وفي سورة الأعراف يقول الله جل وعلا: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]، كاد لأصلكم فسيكيد للفرع أيضاً.
وفي سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]، ولذلك كان رسل الله الأطهار عليهم صلوات الله وسلامه يحذرون من هذا العدو الغدار، والأخبار عنهم في ذلك كثيرة، ففي كتاب ربنا العزيز الغفار عندما قص نبي الله يوسف على والده يعقوب -على نبينا وعليهما الصلاة والسلام- رؤياه، وأنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له، قال الله: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5].
إذاً: هو عدو للأصل، وإذا عادى الأصل فسيعادي الفرع قطعاً.
الاعتبار الثاني: العداوة بيننا وبين هذا العدو الباطني الذي لا يرى هي بسبب الدين، فهو كافر ونحن مؤمنون، وتقدم معنا قول الله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا [النساء:89]، وقوله: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، ولذلك لن يستريح الشيطان اللعين ولن يهدأ حتى يوقع الإنسان في الكفر، فإذا لم يوقعه لا يهدأ باله ولا يقر قراره، فالعداوة بيننا وبينه بسبب الدين، ولذلك يحاول أن يطغينا وأن يخرجنا عن ديننا بأي شكل كان، وإذا قام أحد أتباعه بهذه المهمة فهو المقرب عنده.
فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يبعث إبليس سراياه ) أي: يرسل جنوده كل يوم، ليطغوا الناس ( فأعظمهم فتنة أعظمهم عنده منزلة )، قوله: (أعظمهم فتنة) أي: فالذي يغوي البشر ويطغيهم أكثر من غيره هذا هو المقرب عند هذا اللعين الماكر.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا خلق عباده حنفاء والشياطين اجتالتهم عن دينهم وغيرت لهم شرع ربهم، ففي صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار المجاشعي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم في يومي هذا، قال الله تعالى: كل مال نحلته عبداً فهو له حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ).
إذاً: العداوة بيننا وبين هذا العدو بسبب الدين، فهو يريد أن يغيرنا عن الفطرة التي فطرنا ربنا جل وعلا عليها، ويريد أن يحولنا عنها.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يقعد لابن آدم بكل طريق من طرق الخير بلا استثناء، ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي بسند صحيح عن سبرة بن أبي فاكه ، ويقال: ابن الفاكه رضي الله عنه وهو من الصحابة الأطهار رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها ) أي: بجميع الطرق، قال: ( فقعد له في طريق الإسلام فقال له: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فخالفه -أي: ابن آدم- وأسلم، ثم قعد له في طريق الهجرة فقال: أتهاجر وتترك أرضك وسماءك؟ ) أي: ما يطنطن به في هذا الوقت العملاء من أننا سنحافظ على أرض الوطن وسمائها، دعوة إبليسية شيطانية، تشابهت القلوب فتشابه الكلام والألسن.
قال عنه صلى الله عليه وسلم: ( ثم جاءه بطريق الجهاد فقال: أتريد أن تجاهد؟ فإذا جاهدت قتلت فتنكح المرأة ويقسم المال، فخالفه وجاهد )، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن فعل ذلك منهم -أي: من بني آدم- أسلم وهاجر وجاهد ولم يصغ للشيطان فمات دخل الجنة، وإن قتل دخل الجنة، وإن غرق دخل الجنة، وإن وقصته دابته -أي: رمته وألقته- فأماتته دخل الجنة )، والشاهد: ( قعد له بأطرق الخير كلها ).
وقد كان الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه يحذرون من عداوة هذا اللعين بسبب الدين، ويخبرون أنه عدو لله رب العالمين، ولن يهدأ إلا بإغوائهم وإطغائهم، ففي سورة مريم يقول الله جل وعلا: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:41-45].
فالعداوة بيننا وبينه بسبب الدين، ولذلك أخبرنا رب العالمين أن الشيطان يحرص على إيقاعنا في كل فعل أثيم: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91].
فإذاً: العداوة بيننا وبينه بسبب الدين، فلا يمكن أن تنقضي إلا إذا كفرنا فصرنا موالين له، وما دمنا مؤمنين والروح فينا فالحرب بيننا وبينه قائمة.
الأمر الثالث الذي في هذا العدو وليس في عدو آخر: أنه يرانا ولا نراه، فلا نستطيع أن نقاومه كحال العدو الماكر الغادر الظاهري الذي نراه، أما هذا فلا نراه، قال تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].
اللهم يا رب العالمين نسألك بلطفك ورحمتك يا أرحم الراحمين، كما سلطت هذا العدو علينا فهو يرانا ولا نراه، فإنا نسلطك عليه فأنت تراه وهو لا يراك، اللهم إنا نسألك برحمتك كما قنطته من رحمتك أن تقنطه منا إنك على كل شيء قدير.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اعتناء الحنفاء بمعرفة الأصدقاء من الأعداء [2] | 3848 استماع |
اعتناء الحنفاء بمعرفة الأصدقاء من الأعداء [1] | 1252 استماع |