خطب ومحاضرات
اعتناء الحنفاء بمعرفة الأصدقاء من الأعداء [1]
الحلقة مفرغة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان:63-77].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، ورازقهم وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطاهرين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فمعشر الإخوة المسلمين! إن الموضوع الذي سنتدارسه في هذه المحاضرة المباركة يدور حول حرص الحنفاء على معرفة الأصدقاء والأعداء.
والذي دعاني للكلام على هذا الموضوع أمران أحب أن أشير إليهما في بدء هذه المحاضرة.
الأمر الأول: من المسلم عند البشر قاطبة أن الإنسان إذا أراد أن يعمل عملاً ما في هذه الحياة الدنيا يبحث عمن ينفعه وينصحه ويساعده في هذا العمل فيقترب منه، ويحذر ممن يضره ويفسد عليه هذا العمل فيبتعد عنه، هذه قضية مسلمة، إذا أراد الإنسان أن يعمل عملاً يبحث عن الناصحين له في هذا العمل ليأخذ بنصحهم ويقترب منهم، ويحذر بعد ذلك المفسدين المثبطين، وإذا كان هذا الأمر مسلماً في أمور الدنيا فهو كذلك في أمر الآخرة عند العقلاء، فينبغي للعاقل أن يبحث عن أصدقائه الذين يقربونه إلى ربه جل وعلا، وأن يحذر أعداءه الذين يبعدونه عن الله جل وعلا.
والأمر الثاني: أن هذه القضية المسلمة في أمر الدنيا كل بني آدم أخذوا بها، فمن ينفعهم في دنياهم اقتربوا منه، ومن يضرهم ابتعدوا عنه، لكن الحقيقة المرة التي تفري الأكباد أنهم لم يأخذوا بهذا الأمر في أمر الآخرة، فمن يضرهم اقتربوا منه، ومن ينفعهم ابتعدوا عنه، وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:79]، وصدق ربنا الكريم عندما يقول: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7].
روى الإمام ابن المنذر في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره أيضاً، وابن مردويه في التفسير أيضاً بالسند المتصل إلى الإمام الحسن البصري عليه رحمة الله أنه قال في تفسير هذه الآية: بلغ من حذقهم -أي: من فطنتهم ودقة نظرهم- في أمر الدنيا أن أحدهم يأخذ الدرهم فيضعه على ظفره فيعرف وزنه، وإذا سألته عن صلاته قال: لا أدري، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:6-7].
فمن عجيب أمر البشر في هذا الوقت أنهم والوا ما ينفعهم في الدنيا وعادوا ما يضرهم في أمور الدنيا لكنهم لم يسلكوا هذا المسلك فيما يتعلق بأمر الآخرة، فأكثرنا والى الشيطان إلا ما رحم الرحمن، ولذلك قال ربنا جل وعلا في سورة الأعراف: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:29-30]، وأصبح الناس في هذا الوقت -إلا ما رحم ربك- لا يحركهم ولا يسكنهم إلا أمور ثلاثة: إما شهوة، وإما لذة، وإما أرقام. هذه الأمور الثلاثة التي دارت عليها حياة الناس في هذا الوقت إلا ما رحم ربك، شهوة أو لذة أو أرقام وحسابات وريالات يضعها في جيبه، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30].
وإذا كان الأمر بهذه الدرجة من الخطورة فيجب البحث عن أصدقاء الآخرة وعن الأعداء الذين يقطعوننا عن الآخرة وعن ربنا جل وعلا، ليوالي العاقل منا الأصدقاء ويعادي الأعداء، ولذلك سيدور بحثنا حول معرفة أصدقاء الآخرة الذين ينصحوننا في الوصول إليها، وحول الأعداء الذين يقطعوننا عنها، وسأتكلم على أقسام الأصدقاء والأعداء على سبيل العموم والإجمال، ثم سأقص الكلام على نوع من هذه الأنواع بما يتناسب مع هذا الوقت إن يسر ربنا وأعان.
إخوتي الكرام! إن الأصدقاء والأعداء مهما كثروا لا يخرجون عن قسمين فيما يتعلق بأمر الآخرة: إما صديق ظاهري يرى بالعين الباصرة، وإما صديق باطني يرى بالعين القلبية.
إذاً الأصدقاء على قسمين: صديق ظاهري وصديق باطني مخفي مستور. وهكذا الأعداء على قسمين: عدو يرى بالعين، وعدو لا يرى إلا بالقلب.
فالصديق الظاهري يرى بالعين المبصرة، والباطني لا يرى إلا بالعين القلبية، وهكذا العدو على قسمين: عدو نراه بأعيننا وعدو ندركه بقلوبنا.
والقلب له أعين يبصر بها كبصر الأعين التي في الوجه بل أعظم، قال خالد بن معدان عليه رحمة ربنا الرحمن وهو من أصحاب الكتب الستة وكان من الشيوخ الصالحين كان شيخ حمص في زمنه كما قال الإمام الذهبي ، وقد أثنى عليه أئمتنا ووصفوه بالعدالة والثقة والإمامة والهداية، وكان عليه رحمة الله يسبح الله في كل يوم أربعين ألف تسبيحة، وفي رواية في تذكرة الحفاظ: يسبح سبعين ألف تسبيحة لله جل وعلا. وكان عليه رحمة الله يصلي التراويح بأهل حمص فكان يقرأ كل ليلة ثلث القرآن.
يقول هذا الرجل الصالح في بيان الأعين الظاهرة والأعين الباطنة: ما من عبد إلا وله أربع أعين: عينان ظاهرتان يدرك بهما الأمور الظاهرة في هذه الحياة الدنيا، وعينان باطنتان في قلبه، فإذا أراد الله جل وعلا بالعبد خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه فأبصر ما وعده الله جل وعلا بالغيب، وهما غيب، أي: عينا القلب، فآمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله جل وعلا خذلان العبد تركه وشأنه ثم قرأ: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، والأمر كما قال الله جل وعلا: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، فبصر العين من أمر الدنيا، وبصر القلب من أمر الآخرة، والعمى الحقيقي هو عمى القلب، وهو عمى البصيرة، ولذلك إذا أصيب الإنسان بعمى البصر الظاهري فليس له جزاء عند الله جل وعلا إلا الجنة، وإذا أصيب بعمى البصيرة وبعمى القلب فليس له عند الله جزاء إلا النار.
إذاً هناك عينان ظاهرتان يدرك بهما الإنسان أصدقاءه الظاهرين وأعداءه الظاهرين، وعينان باطنتان يدرك بهما أصدقاءه الباطنين المخفيين المستورين وأعداءه الباطنين المخفيين المستورين، فللإنسان عدوان: ظاهري وباطني، وللإنسان صديقان: ظاهري وباطني، وللإنسان عينان ظاهرتان وعينان باطنتان، وللإنسان حياتان: حياة ظاهرة وحياة قلبية باطنة هي الحياة الحقيقية، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، ولذلك قال أئمتنا الكرام: الرجل هو الذي يخاف من موت قلبه لا من موت بدنه.
إخوتي الكرام! وهؤلاء الأصناف الأربعة من أصدقاء وأعداء سأوجز الكلام عليهم وعلى كل صنف منهم، ثم -كما قلت- سأقص واحداً من هذه الأصناف بكلام موسع مركز إن يسر الله تعالى.
أما الصديق الأول وهو الصديق الظاهري الذي تراه بعينك الباصرة التي في وجهك فهو كل من توحد فكره مع فكرك، وتوحدت مشاعره مع مشاعرك فهذا صديق ظاهري، والمؤمن ليس له على الأرض أحد تتحد أفكاره مع أفكاره ومشاعره مع مشاعره إلا المؤمنين، فهم أولياؤه، وما عداهم فهم أعداء، وقد قرر رب الأرض والسماء هذا في محكم كتابه فقال جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال جل وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71].
ذكر منة الله على المؤمنين بالأخوة وما يترتب على هذه الأخوة
وإذا كان المؤمن يصادق المؤمنين فمن حق المؤمنين على هذا المؤمن أن يدعو لهم في كل حين سواء سبقوه أو سيأتون بعده، كما قال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10]، أي: بعد المهاجرين والأنصار، يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، فهؤلاء أصدقاء لهم حق الصداقة علينا فندعو لهم وهم في قبورهم، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
وأخبرنا الله جل وعلا عن خليله إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- أنه قال في السورة التي سماها الله باسمه: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]، ودعاء إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- لأبيه كان قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].
وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أحاديث متواترة في ذلك في حديث الشفاعة: أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض في عرصات الموقف ويشفع الله بعضهم لبعض، وعند ذلك يقول الكافرون: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101].
التحذير من الاعتداء على الصداقة والأخوة
وقوله: ( إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة )، الذي يلوح لي في كون هذا الجزاء بهذا المقدار أن غاية ما يعيشه الإنسان في هذه الحياة الدنيا مائة سنة، وأعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك، فإذا جاوز الإنسان هذا المقدار فلم يقطع المائة إلا في أحوال نادرة، فمن قذف مؤمناً فقد شوه سمعته طول حياته، فالله جل وعلا -ما دام هذا المقذوف حياً وبالمدة التي يمكن أن يعيشها- لا يقبل من القاذف عملاً، والجزاء من جنس العمل هتكت ستر هذا العبد الذي يمكن أن يعيش سنة وسينكس رأسه بين الناس في هذه الحياة سينكس الله رأسك بعد الممات وسيحبط لك أجر مائة سنة، ( إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة ).
وباختصار: فهذه الأخوة وهذه الصداقة جليلة المقدار، فينبغي إعطاؤها حقها، ثبت في الصحيحين عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ).
هذا الصديق الأول صديق ظاهري نراه بأعيننا وهو من اتحد فكره مع فكرنا، وشعوره مع شعورنا، فأفكارنا ومشاعرنا واحدة، فنحن كالجسد الواحد وإن تعددت ذواتنا وأشخاصنا.
وقد أخبر الله جل وعلا عن عظيم منته على المؤمنين بهذه الأخوة فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].
وإذا كان المؤمن يصادق المؤمنين فمن حق المؤمنين على هذا المؤمن أن يدعو لهم في كل حين سواء سبقوه أو سيأتون بعده، كما قال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر:10]، أي: بعد المهاجرين والأنصار، يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، فهؤلاء أصدقاء لهم حق الصداقة علينا فندعو لهم وهم في قبورهم، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
وأخبرنا الله جل وعلا عن خليله إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- أنه قال في السورة التي سماها الله باسمه: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]، ودعاء إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- لأبيه كان قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].
وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أحاديث متواترة في ذلك في حديث الشفاعة: أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض في عرصات الموقف ويشفع الله بعضهم لبعض، وعند ذلك يقول الكافرون: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101].
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اعتناء الحنفاء بمعرفة الأصدقاء من الأعداء [2] | 3849 استماع |
اعتناء الحنفاء بمعرفة الأصدقاء من الأعداء [3] | 1403 استماع |