إلزم غَـرزه ! - حميد بن خيبش
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
لما أبدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه احتجاجه على صلح الحديبية،ورأى فيه دنية تُعطى لأهل الشرك أجابه أبو بكر رضي الله عنه بعبارة تلخص معنى الاتباع الحق:" الزم غرزه- أي أمره ونهيه-،فإني أشهد أنه رسول الله،وأن الحق ما أمر به،ولن يخالف أمر الله،ولن يضيعه الله". وما أحوج شبابنا اليوم في متاهة الشبهات والتلفيقات والتأويل الفاسد لنصوص مجتزأة من سياقها،إلى إدراك هذا المعطى الجليل،والوقوف على صور أخرى للاتباع غير التي يحفل بها اليوم خطاب ناعم انتقائي!
إن حركة الحياة حين تكون منسابة هادئة كجدول ماء،فإن النفس تجد في بعض كلام الحكماء وتصرفاتهم ما يغريها بالاقتداء يه وتمثله،ولو على نطاق ضيق.حتى أن الحديث عن القيم الإنسانية،أو السلوك الحسن ،أو التفاعل الإيجابي مع الغير لا يحقق الأثر المطلوب إلا إذا استحضر نموذجا تطبيقيا،تشعر النفس بالميل إلى محاكاته.لكن حين يجد الإنسان نفسه أمام مواقف حرجة،أو في خضم معارك أو أزمات أو حتى دوائر قلق متتالية،فإن كل النماذج تنهار أو تتوارى لتصبح الغرائز وحدها سيدة الموقف ! من هنا نفهم سر الجمع بين التوحيد والاتباع في الشهادتين كركن أول من أركان الإسلام، إذ لا يستقيم في عقل لبيب أن يُترك المنتسب للدين وحيدا في معترك الحياة،دون أن يسترشد بنموذج مضيء تستوعب سيرته حقائق ذاك الدين ومبادئه.لذا كان الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم دون تحقيق شرط الاتباع الحق انحرافا عن المسار، لا تزال الأمة حتى اليوم تعاين آثاره السلبية في كافة المجالات،بدءا بمنظومة القيم،ووصولا إلى السيادة وحرية صنع القرار.
لا يقف الاتباع الحق عند حدود محاكاة النبي صلى الله عليه وسلم في المأكل والملبس،أو المعاملة اليومية مع الزوجة والصاحب والجار،بل يمتد إلى المواقف الحرجة التي قد ينطفئ فيها سراج العقل،أو يهتز أمامها بنيان القيم.فلا يتحقق شرط الاتباع إلا حين تكون النفس خائفة مضطربة،أو هائجة تدير دفتها فورة الغضب.ولنلق ،إن شئتم، نظرة على مواقف من السيرة النبوية لتدعيم صواب هذا الطرح:
حين عزمت قريش على قتل زيد بن الدثنة رضي الله عنه في مأساة الرجيع الشهيرة، قال له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد،أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه،وأنك في أهلك؟ فقال:لا والله،ما يسرني أني في أهلي،وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه.فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا .
عديدة هي مرويات التضحية والفداء التي تكشف عن أنبل مشاعر الحب ،والرغبة في مكافأة الصنيع ببذل الروح،لكن مقالة زيد رضي الله عنه تحيل على معنى آخر للتضحية،لا تتطلع من خلاله النفس إلى تمجيد فعلها وتخليده في قائمة الأبطال،كما هو الشأن في الملاحم والأساطير القديمة،ولا تطمح إلى رد الجميل بأسلوب أبلغ في النبل،وإنما هو تجل صادق لقوة اليقين بأن رسالة السماء التي أحيت القلوب الميتة،وأنقذت الإنسانية من الشقاء،تستلزم صون حاملها ومبلغها صلى الله عليه وسلم من كل أذى يلحقه أو سوء يصيبه ،حتى لو تعلق الأمر بشوكة .إن الاتباع الحق ينشأ عن المحبة الصادقة،تلك هي القاعدة التربوية التي تغيب اليوم للأسف عن بعض دعاة إحياء السنة النبوية،وتلقين الأذكار وعمل اليوم والليلة !
و الاتباع الحق يقتضي كذلك تغليب السنة على ما ينافيها من عادات اجتماعية،و تمثلات سائدة موروثة.إلا أن مجتمعاتنا لا تخلو اليوم من انتقائية ملحوظة في التعامل مع السنن والآداب النبوية،إذ يكفي أن يستعرض المرء التمثل السائد حول العلاقة الزوجية ليقيس حجم التباين المؤلم بين العادة المستحكمة،والهدي النبوي المعطل !
روى البخاري في صحيحه عن إبراهيم عن الأسود قال: «سألت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله،قالت: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة» [5692] .وفي رواية لأحمد: «سئلت عائشة رضي الله عنها :ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته،فقالت: كان بشرا من البشر،يفلي ثوبه،ويحلب شاته،ويخدم نفسه» .
[26194]
فهل ترى اليوم شيئا من هذا في سلوك حتى بعض من يتحرون سننه صلى الله عليه وسلم؟ لقد تربت أجيال بكاملها على تمثل خاطئ لمفهوم الرجولة والقوامة ،وتوزيع غير عادل للمهام داخل الأسرة المسلمة.نعم،نشأ بيننا من يرى في التدبير المنزلي،وشؤون الطبخ والكنس و الغسل انتقاصا من رجولته،وقدرا محتوما لا يفارق الزوجة والأم والبنت حتى اللحد.فلا يخجل المسلم اليوم من إظهار عجزه عن سلق بيضة أو كي قميص،لأن الرجولة تحتم عليه أن يقضي سحابة يومه في ارتياد المقاهي والأماكن العامة،وأما حظه من الأعباء البيت فلا يعدو ملء البطن وشتم العيال!
من البديهي إذن أن يصادف التحريض الإعلامي هوى في نفس المرأة ،فتقرر بدورها إلقاء العبء على الخادمة أو مؤسسات الرعاية البديلة لتنعم بحظها من الحياة.
و المسلم ملزم،بمقتضى الإتباع الحق دائما،أن يستحضر الهدي النبوي في الزواج وشروطه وآدابه ومتطلباته،فلا يُقحم في هذه الرابطة السامية ما يفسدها من الأهواء والتقاليد والعادات الجافة والمنكرة.لهذا نجد الحرص النبوي الشديد على تمتين آصرة الزواج ماثلا في عدد من الأحاديث،بدءا من تصحيح المعايير ووصولا إلى التنبيه لأدق التفاصيل اليومية التي إن أهملت ستؤثر سلبا على عش الزوجية.
في الحديث الذي رواه البخاري عن سهل قال : «مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما تقولون في هذا ؟" قالوا : حري إن خطب أن يُنكح،وإن شفع أن يُشفع،وإن قال أن يُستمع.ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال:"ما تقولون في هذا ؟" قالوا: حري إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع أن لا يُشفع،وإن قال ألا يُستمع .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» [5091] .
إن هذا التوجيه لا يروم الإشادة بالفقر على حساب الغنى،بقدر ما ينبه إلى البون الشاسع بين الرؤية المنغلقة للعلاقات الإنسانية داخل المجتمع،والرؤية المنفتحة التي يطمح إلى بلوغها الإسلام من خلال تمجيد الكفاءة الدينية والخلقية،وهو الأمر الذي نص عليه صراحة في حديث آخر : « إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه،إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» [الترمذي.1084] .
وما نعاينه اليوم من تفش للعنوسة،وعزوف الشباب عن الزواج بسبب الظرفية الاقتصادية والاجتماعية،والخطاب الإعلامي المناهض لثقافتنا وقيمنا،ليس سوى تجل مؤلم لمعايير المجتمع التي رفعت سقف توقعات كل طرف تجاه الآخر فيما يتعلق تحديدا بالحقوق الزوجية والمسؤولية داخل الأسرة.
إن الاتباع الحق للسنة النبوية باعتبارها مصدرا ثانيا للتشريع لا يعني إلغاء دور العقل المسلم في الاجتهاد،وإبداع الحلول المناسبة لمشكلات الحياة المتجددة والمتغيرة.بل هو حث على تثوير الفهم،وإنجاز قراءة متجددة تمنح المسلم المعاصر نافذة مفتوحة على الرسول صلى الله عليه وسلم،يسترشد من خلالها بنوره،ويصوب مساره،ويحيا بمقتضى تعاليم تضمن له السعادة واليمن والبركة .
إنك لن تجد في قائمة العظماء من سجد بين يدي الخلق سبحانه مرددا :" أمتي..أمتي " غير المبعوث رحمة للعالمين..
فالزم غرزه !