شرح عمدة الأحكام [77]


الحلقة مفرغة

[كتاب الأشربة:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد:

أيها الناس! إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.

ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا.

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام)، البتع: نبيذ العسل.

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر أن فلاناً باع خمراً، فقال: قاتل الله فلاناً، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) جملوها: أذابوها].

جناية الخمر على العقل

هذه الأحاديث تتعلق بالخمر، ذكر عمر رضي الله عنه أن الخمر ما خامر العقل، أي: غطاه وأغلقه، وأصل التخمير هو التغطية، ومنه قوله في الحديث: (خمروا الإناء وأوكوا السقاء)، خمروه: غطوه، ومنه تسمية الخمار، وهو غطاء المرأة التي تغطي به رأسها ووجهها، وهو مذكور في قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، فالخمر اسم لما يغطي العقل ويخالطه ويفسده.

حرم الله تعالى الخمر، وكانت -عندما حرمت- تصنع في المدينة من خمسة أشياء كما قال عمر ، يصنعها بعضهم من التمر، وبعضهم من العنب، وبعضهم من العسل، وبعضهم من الحنطة، وبعضهم من الشعير، يؤخذ من هذه الخمسة خمر، يعني: يطبخ حتى يتخمر ويشرب، ويكون له حلاوة، وتلك الحلاوة تخامر العقل فتغطيه، فيصل إلى حالة شبه غيبوبة بحيث لا يدري ما يقوله ولا ما يفعله.

حرم الله تعالى الخمر؛ لأنها تسلب العاقل عقله، وما ذاك إلا أن ميزة الإنسان عقله، الله تعالى كلف الإنسان لكونه ذا عقل يفهم ما يقول، ويعقل ما يتكلم به وما يسمعه، ويميز بين الأشياء، فيعرف النافع والضار، ويعرف المصالح والمفاسد، ويميز بين ما له وما عليه، فكان في ذلك ميزة له وفضيلة، ورفعة له وشرف، والناس يتفاوتون في هذه العقول، ولكن يجتمع البشر في أن لكل منهم عقلاً يناسبه، وإذا سلب هذا العقل فإن ذلك الذي سلب عقله تسقط عنه التكاليف، ويلحق بغير المكلفين، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم: المجنون حتى يفيق)، المجنون هو مسلوب العقل.

ولما كانت هذه هي منزلة العقل كانت الجناية عليه أعظم الجنايات، فلأجل ذلك لو ضرب إنسان فذهب عقله، فإن فيه الدية كاملة كدية القتل، وهذا دليل على أهمية هذا العقل، ولما كان كذلك حرمت هذه الخمر التي تجني على العقل فتذهبه؛ فحرمت حتى لا يتمادى الإنسان بما يجني به على نفسه، وذلك لأنه إذا سكر فإنه تقع منه المخالفات التي تنافي ما يفعله العقلاء، وللسكارى قديماً وحديثاً حكايات عجيبة في أفعالهم، حتى ذكروا أن بعضهم دخل وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنوراً، فألقاها في التنور حتى احترقت وهو ينظر، وذلك لأنه في تلك الحال ليس معه عقل يميز به، فانظر ماذا حصل منه!

وذكروا أن رجلاً استدعته امرأة ليفجر بها، وكان عفيفاً ولكنها أحضرت له كأس خمرٍ، فلما شربها وزال عقله وقع منه الزنا، ووقع منه أكثر من ذلك بسبب أنه فقد العقل الذي كان يميز به بين ما ينفعه وما يضره، فصارت الخمر مفتاحاً لهذه الشرور ولهذه المعاصي، فحرمت لأجل ذلك.

الآيات التي نزلت في تحريم الخمر

نزل في تحريم الخمر أولاً: قول الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية هي التي حرمت الخمر، وذلك لأن الله وصفها بالإثم، ومعلوم أن الإثم محرم، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ [الأعراف:33]، أخبر بأن الإثم محرم كما أن الفواحش محرمة، الفواحش منها الزنا ومنها اللواط ومنها فعل القبائح، فكذلك الإثم محرم، ولا شك أن الخمر والميسر فيهما إثم كبير.

إذاً: هذه الآية دالة على أن الخمر محرم لما فيها من إثم كبير.

ثم نزل فيها قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، ولما نزلت هذه الآية تركها كثير من الصحابة وقالوا: لا خير في شيء يحرمنا من الصلاة، وبعضهم كان يشربها في الأوقات الطويلة كبعد الفجر وبعد العشاء، بحيث يفيق قبل أن يأتي وقت الصلاة، وهذا دليل على أنهم عرفوا شناعتها وبشاعتها، ولما نزلت الآيات في سورة البقرة في الربا حرم النبي صلى الله عليه وسلم التجارة في الخمر، فكان ذلك مقدمة لتحريم الخمر تحريماً باتاً.

ثم نزل في سورة المائدة قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، ذكر بعض العلماء أنها دلت على تحريم الخمر من عشرة أوجه:

الأول: أن الله قرنها بالأصنام والأزلام وهي محرمة.

الثاني: أنه وصفها بأنها (رجس)، والرجس هو النجس، وكل شيء نجس فإنه محرم.

الثالث: أنه أضافها إلى الشيطان (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، وكل شيء من عمل الشيطان فلا شك أنه محرم؛ لأن الشيطان لا يأتي إلا بما يفسد الإنسان، وبما يبعده عن ربه.

الرابع: أن الله أمر بالاجتناب لها (فَاجْتَنِبُوهُ)، والاجتناب هو الابتعاد، يعني: ابتعدوا عنها بعداً شديداً، وهو أبلغ من قوله: (اتركوها) فإن الاجتناب أن تكون في جانب وهي في جانب بعيد.

الخامس: تعليق الفلاح على تركها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) دل على أن من لم يتركها فهو بعيد من الفلاح.

ثم ذكر السادس بقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:91]، فالشيء الذي يوقع العداوة بين المسلمين ويوقع البغضاء لا شك أنه حرام.

العداوة هي كون بعضهم يعادي بعضاً ويقاطعه، والبغضاء وقوع البغض، ولعل سبب ذلك أنه إذا سكر فإنه قد يهلك المال، وقد يضرب من عنده، كما فعل حمزة قبل تحريم الخمر، لما اعتدى على شارفين لـعلي فنحرهما، وجب أسنمتهما وهما حيان، فكان في ذلك إفساد لهذا المال.

فالخمر توقع العداوة بين الأخوين بهذه الأسباب التي يفعلها وهو سكران ثمل، وكذلك يوقع البغضاء، فهاتان مفسدتان هما الخصلة السادسة والسابعة.

ثم ذكر الثامنة والتاسعة في قوله: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ [المائدة:91] فهاتان خصلتان تدلان على أن الشيطان حريص على كل ما يصد عن ذكر الله عموماً، وعن الصلاة خصوصاً، وذلك لأن مجالس أهلها غالباً مجالس لهو، ومجالس فساد، ليس فيها علم ولا ذكر ولا دعاء ولا فائدة، وإنما هي قيل وقال، أو سباب وهجاء وفساد، وقمار ولعب، ونحو ذلك، ينشغلون بها عن ذكر الله تعالى.

كذلك انشغالهم عن الصلاة، لا شك أن انشغالهم عن الصلاة أعظم من انشغالهم عن غيرها؛ وذلك لأنهم إذا سكروا متى يأتون إلى الصلاة؟

إذا شربها في الظهر ضيع الصلاة الوسطى وهي العصر، وإذا شربها بعد المغرب ضيع صلاة العشاء، وإذا أتاها لم يأتها بقلب حاضر، بل يأتها وهو موسوس ثمل لا يدري ما يقول.

إذاً: لا شك أن هذا من الشيطان حيث أوقعهم فيها حتى صدهم عن الصلاة.

وختم الآية بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، وهذه هي الخصلة العاشرة، يقول بعض السلف: لما نزلت هذه الآية قال الصحابة: انتهينا انتهينا.

الأحاديث الواردة في تحريم الخمر

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر لما فيها من مفاسد، وشدد في النهي عنها فقال: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشرب منها في الآخرة)، فالله تعالى ذكر أن في الجنة خمراً لذيذاً، وهذا الشراب اللذيذ نفى الله عنه ما يكون في خمر الدنيا، فقال تعالى: وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ:34-35] أي: ليس كخمر الدنيا الذي هو مملوء باللغو والكذب، وقال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة:17-18]، الكأس هنا هو الخمر وهو من معين، أي: صاف، سالم مما في خمر الدنيا.. لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19] الغول هو ما يغتال العقل، وكذلك ينزفه، فمن شربها في الدنيا حرم شرابها في الجنة.

كذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بأن من شربها وكرر شربها كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار، وهذا دليل على أنه لابد لمن كررها وأدمن عليها أن يدخل في النار والعياذ بالله، وأن يكون ذلك سبباً في حرمانه من الجنة.

ولما كان أمرها كذلك حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالغ في تحريمها، حتى لعنها ولعن فيها عشرة، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: (لعن الخمر وبائعها ومشتريها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها) يعني: أنه لعن كل من ساهم فيها.

وبكل حال فالأدلة كثيرة في أن هذه الأشربة المحرمة إنما حرمت لضررها الذي يحصل منها: ضرر على العقول، وضرر على المجتمعات، والحكايات عن أهل الخمر في هذه الأزمنة أشهر من أن تذكر، كم حصل من الحوادث بسبب أن بعض الذين يقودون السيارات سكران، فيقع منه حوادث يذهب في ضحيتها نفوس بريئة وأموال محترمة، وما ذاك إلا لأنه تعاطى هذا الشراب فأذهب عقله، فدخل في هذه الطرق وهو على هذه الحال، ولم يشعر بما أمامه لفقد عقله الذي يميز به، فحصل منه هذا الاصطدام وهذه الحوادث الشنيعة البشعة، ولا شك أن هذا دليل على بشاعتها وشناعتها.

كل مسكر فهو خمر

قال عمر رضي الله عنه: (الخمر كل ما خامر العقل) أي: كل ما غطاه وأزال الشعور فإنه يسمى خمراً، وليس خاصاً بما صنع من العنب، بل كل شيء يخامر العقل.

وقد: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يقال له: المزر؟ فسأل: هل هو مسكر؟ فقيل: نعم، فقال: كل مسكر حرام)، و(نهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة)، وقال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وقال: (ما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام)، فلو قدر أنه لا يسكر حتى يشرب فرقاً، والفرق ثلاثة آصع، وإن كان ذلك نادراً، فإنه لا يجوز أن يشرب من هذا ولو جرعة واحدة، ما دام أن كثيره يسكر فقليله حرام، أي: فهو خمر.

وكذلك تصريحه بقوله: (كل مسكر خمر) أي: سواء من العنب أو من التمر أو من الزبيب أو من العسل أو من الشعير أو من الحنطة، أو من الأشربة الجديدة التي تخمر إلى أن تبلغ حد الإسكار، أو نحو ذلك.

والنبيذ: أصله أن ينبذ تمر في ماء، فإذا طبخ حتى ينعقد أصبح خمراً، وكذلك الزبيب والعنب إذا طبخ حتى ينعقد أصبح خمراً، وهكذا كل ما يلحق بمثل هذا.

فإذا كانت الخمر محرمة فإن ثمنها حرام كما في أثر عمر أنه لما سمع أن رجلاً باع الخمر، فعاتبه وأخبره بأن الله حرمها وحرم ثمنها، حتى ولو باعها على يهود أو نصارى أو مشركين يستحلون شربها، فلا يحل له ثمنها، كما أنه لا يجوز ثمن الميتة وثمن الأصنام وثمن الأشياء المحرمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حرم الله شيئاً حرم ثمنه).


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2579 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2517 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2499 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2439 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2368 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2354 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2338 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2328 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2328 استماع