شرح عمدة الأحكام [47]


الحلقة مفرغة

معنى السلم

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

[باب السلم.

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم).

هذا الحديث يتعلق بالسلم الذي هو تعجيل الثمن وتأخير السلع، فيكون الثمن حاضراً والسلعة المشتراة غائبة مؤجلة بأجل محدود، سواء أكان الأجل قريباً أم بعيداً، وجاءت الرخصة فيه من باب التوسعة؛ فكما أن الثمن يكون غائباً والسلعة حاضرة فكذلك العكس، فيكون الثمن حاضراً والسلعة غائبة، ولكن لابد وأن تكون السلعة موصوفة مضبوطة بالصفة؛ حتى لا يقع الاختلاف، وذلك لأن الغائب الذي يقع عليه البيع لا بد من معرفته، فالثمن الذي يدفع لا بد أن يكون معروفاً، والمثمن -الذي هو السلعة- لا بد أيضاً أن يكون معروفاً؛ حتى لا يقع فيهما شيء من الاشتباه.

شروط السلم

في هذا الحديث يقول: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، ومعنى كونهم يسلمون في الثمار أن يأتي الرجل إلى صاحب النخل فيقول: أشتري منك -مثلاً- مائة صاع من ثمر النخل لمدة سنة أو لمدة ثلاث سنين أعطيك ثمنها الآن، وإذا حلت تعطيني الثمرة التي اشتريتها منك في ذمتك، ويكون البيع رخيصاً؛ وذلك لأنه قدم الثمن وانتفع به، والحاجة داعية إليه.

فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا بد من تحديد المثمن الذي هو المبيع، إما بوزن إذا كان يوزن، وإما بكيل إذا كان يكال، ولا بد أيضاً من تحديد الزمن الذي يحل فيه، فيقول مثلاً - إذا كان مما يكال كالحبوب والبر والشعير والذرة ونحو ذلك -: اشتريت منك في ذمتك مائة صاع من الذرة التي لونها كذا وكذا، أو من البر، أو من الشعير، أو من الأرز تعطينيها بعد خمسة أشهر أو بعد سنة أو بعد سنتين، وكل صاع قيمته ريال أو درهم. فيحتاج البائع إلى الدراهم لينتفع بها، فيبيع التمر أو البر رخيصاً حتى تحصل له هذه الدراهم ليشتري بها حاجاته الضرورية، فإذا حل الأجل وصرم النخل مثلاً أو حصد الزرع فعند ذلك يدفع ما حصل عليه الاتفاق، فيحصل لكل منهما منفعة.

الحكمة من إباحة السلم

السلم من الارتفاقات التي يرتفق بها وينتفع بها؛ وذلك لأن صاحب النخل أو صاحب المزرعة قد يكون بحاجة إلى دراهم ليشتري بها حاجاته ككسوة أولاده مثلاً أو غذائهم، ولا يجد لهم غذاءً مثلاً، ولا يجد لهم كسوة، والثمر متأخر -ثمر النخل- يحتاج إلى ثمانية أشهر أو إلى عشرة أشهر أو إلى سنة، ولا يجد أحداً يقرضه ولا يهبه، فيضطر إلى أن يبيع من الثمر قبل أن يحمر،ويأتيه إنسان عنده دراهم ليس بحاجة لها، فيقول: أنا أشتري منك مائة صاع من التمر، أو ألفاً، أو مائة صاع من البر أو نحوه، كل صاع بريال بدل أن يكون الصاع -لو كان موجوداً- بخمسة أو بثلاثة أو نحو ذلك، ولكن لحاجتك أنت إلى الدراهم وأنت صاحب الزرع بعته رخيصاً، كل صاع بريال أو بريالين؛ حتى تنتفع بالدراهم الآن، وحتى تقضي بها حاجتك.

فإذا حصد الزرع جاء هو وأخذ مائة صاع قد حصل عليها رخيصة فباعها وربح فيها، فأنت - يا صاحب الزرع أو الثمر - انتفعت بحصول الدراهم لك وقضاء حوائجك ونفقة أولادك وبذرك وسقيك ونحو ذلك، وصاحب الدراهم انتفع حيث ربح فحصلت له هذه السلعة رخيصة، فربح فيها أكثر مما يربح غيره.

فهذا وجه كون السلم نافعاً للاثنين، نافعاً للبائع الذي باع رخيصاً وانتفع بالثمن مقدماً، ونافعاً للمشتري الذي اشترى رخيصاً وربح في بيعه.

ما يصح فيه السلم

يصح السلم في الثمار كالزبيب والتمر، ولو لم يكن المشتري صاحب نخل، فيقول: أنا بحاجة إلى دراهم لأقضي بها حاجتي، فأبيعك مائة صاع من التمر أو من الزبيب كل صاع بريال وأعطني النقود الآن، وإذا مضت سنة أعطيتك الزبيب أو التمر أو نحو ذلك، فيكون هذا قضاءً لحاجته، فإذا حل الأجل ذهب واشترى لك ما التزمه في ذمته، فإن كان له ثمر أعطاك منه، وإلا اشترى لك من الأسواق وقضاك.

ويصح أيضاً في الثياب أو ما يباع ذرعاً، فيصح أن تشتري منه مائة ثوب مؤجلة يعطيكها بعد سنة كل ثوب بخمسة، مع أن قيمتها الآن كل ثوب بعشرة، ولكن هو بحاجة إلى الدراهم لينتفع بها، وأنت لست بحاجة إلى هذه الدراهم، وتريد أن تربح فيها، فبعد سنة يعطيك مائة ثوب تبيعها مثلاً بألفين أو بألف، ولا شك أن هذا فيه مصلحة للاثنين.

كذلك أيضاً يصح السلم في اللحوم ويصح في الخبز، فيصح -مثلاً- أن تعطي الخباز مائة ريال أو مائتين على أن يبيعك كل ستة أرغفة بريال، إذا كان هو بحاجة إلى الدراهم، وأنت لست بحاجة إليها، فتتفقان على أن يبيعك كل ستة أرغفة بريال، ففي كل يوم يعطيك ستة إلى أن تنقضي مائة يوم.

فأنت ربحت حيث حصل لك ستة أرغفة بدل أربعة، وهو ربح حيث انتفع بهذه الدراهم واشترى بها دقيقاً، أو اشترى بها حوائج أو نحو ذلك.

وكذلك صاحب اللحم، فإذا كان اللحم يباع الكيلو منه -مثلاً- بعشرة، وكان صاحب اللحم بحاجة إلى دراهم فقلت له: أنا أشتري في ذمتك -مثلاً- خمسمائة كيلو من اللحم الذي صفته كذا وكذا، الكيلو بسبعة أو بستة، أسلمها لك الآن، وتعطيني كل يوم كيلوين أو ثلاثة من اللحم، وثمنها مقدم لك.

فتأخذها كل يوم إلى أن ينتهي مالك عنده من اللحم، ويصح ذلك، فأنت دفعت الدراهم نقداً وهو انتفع بها، وأنت حصلت على رخص السعر، فبدل أن الناس يشترون بعشرة اشتريت أنت بستة أو بسبعة أو نحو ذلك.

ويصح أيضاً في المواشي، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً -والبكر: هو ولد الناقة- فاشتراه في ذمته، فقال: بعتك بكراً بكذا فأعطاه الثمن، فلما حل الأجل جاءه ليطلبه،فلم يجد إلا خياراً رباعياً، وقال: (إن خيركم أحسنكم قضاءً)، فيجوز أن تدفع لصاحب الغنم -مثلاً- ألفاً على أن يعطيك خمساً من الغنم في وقت الأضحية، تكون كل واحدة بمائتين، مع أنها في ذلك اليوم قد تساوي أربعمائة أو خمسمائة، ولكنه بحاجة إلى ثمنها، لكن لا بد من وصفها؛ أي: وصف السن واللون وما أشبه ذلك.

وكذلك يصح حتى في الأشياء الجديدة، والتجار يتفقون الآن مع المصانع على أن يقدموا لهم الثمن، أعني: أصحاب المصانع الخارجية الذين يصنعون الأدوات كالقدور والصحون والأواني والسكاكين والملاعق، بل وحتى المكائن والسيارات، الأشياء الكبيرة والصغيرة، فالآن يقدمون ثمنها قبل خمسة أشهر أو قبل عشرة أشهر، ويتفقون على السعر، وإن كانوا أيضاً قد يفرقون الثمن بأن يدفعوا الدفعة الأولى في وقت التعاقد، والدفعة الثانية في وقت التحميل، والدفعة الثالثة في وقت الوصول، أو ما أشبه ذلك، وهذا أيضاً يسمى سلماً؛ وذلك لأنهم لو لم يحصل لهم هذا الثمن مقدماً لباعوه غالياً، ولما حصل لهم بعضه مقدماً باعوه رخيصاً؛ فيربحون هم بتحصيل الثمن، ويربح المشتري بوجودها رخيصة، فهذا معنى أن السلم من الارتفاقات التي أباحها الإسلام، والتي فيها مصلحة للبائع ومصلحة للمشتري، فالبائع ينتفع بالثمن في وقت حاجته وضرورته، والمشتري تحصل له السلعة رخيصة فيربح فيها أكثر مما يربح غيره.