شرح عمدة الأحكام [43]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[باب المحرم يأكل من صيد الحلال.

عن أبي قتادة الأنصاري : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة وقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فلم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتاناً، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟! فحملنا ما بقي من لحممها فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك؟ فقال: منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمها)، وفي رواية: (فقال: هل معكم منه شيء؟ فقلت: نعم. فناولته العضد فأكلها).

وعن الصعب بن جثَّامة الليثي (أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه، فما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم)، وفي لفظ لـمسلم : (رجل حما)، وفي لفظ: (شق حمار)، وفي لفظ: (عجز حمار)، وجه هذا الحديث أنه ظن أنه صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله.].

هذان الحديثان في حكم الصيد للمحرم، ولا شك أنه قد حرم على المحرم الاصطياد مادام محرماً، وأحل له إذا انتهى من الإحرام، قال الله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] يعني: فيجوز أو فيحل لكم أن تصطادوا الصيد، وقال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:69] يعني المسافرين: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، حرم عليكم صيد البر مادمتم حرماً أي: مادمتم محرمين فصيد البر محرم عليكم، وكذلك قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] هذه الآية صريحة في أن الممنوع هو قتل الصيد، وأما الآية التي بعدها: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96] فيحتمل أن المراد: حرم عليكم الاصطياد: ويحتمل أن المراد: حرم عليكم الأكل أكل الصيد. ولما كان كذلك وقع الاشتباه عند الصحابة كما في القصة الأولى.

في القصة الأولى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً، ولفظة: (خرج حاجاً) موهمة أنه أحرم بالحج، ولكن المراد بالحج هنا الحج الأصغر وهو العمرة، أي: خرج معتمراً. وذلك سنة ست أو سنة سبع في عمرة الحديبية أو عمرة القضاء، خرج معتمراً، ولما خرج من المدينة أحرم هو وأصحابه من ميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، وصرف طائفة أخرى وأمرهم بأن يسيروا على ساحل البحر لحمايتهم ولحراستهم لئلا يأتيهم أعداء من تلك الجهات، فسار أولئك الذين على ساحل البحر وكان معهم راوي الحديث وهو أبو قتادة الأنصاري الحارث بن ربعي فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرفوا أحرموا كلهم لما حاذوا ذا الحليفة وأبو قتادة لم يحرم، وذلك لأنه سيمر بميقات أهل الشام ومصر وهو الجحفة، فأخر الإحرام إلى أن يصل إلى الجحفة، وبعدما أحرموا ونزلوا منزلاً وجلسوا فيه للراحة أو للأكل مرت بهم حمر وحش وهي من الصيد، وحمار الوحش نوع من الوعول إلا أنه أكبر منها، ولكنه ليس مثلها في سرعة السير ولا في الصعود على الجبال، وهو نوع من الصيد حلال كبير مأكول اللحم، فلما رآها أصحابه سكتوا، ولكن جعلوا ينظرون إليها، فلما رفع نظره رأى تلك الحمر فركب فرسه وقال: ناولوني رمحي. فأبوا أن يناولوه، ناولوني السهام. فأبوا أن يناولوه، وذلك لأنهم محرمون ويعرفون أن المحرم لا يجوز له أن يساعد في قتل الصيد، فنزل وأخذ سيفه وأخذ رمحه وأخذ سهامه وركب فرسه وسار خلف تلك الحمر ورماها بسهم فعقر منها حماراً أنثى وهي الأتان، ولما عقره نزل وذبحه وجاء به إلى أصحابه فجعلوا يأكلون منه، وذلك لأنهم تمسكوا بقوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، فقالوا: ما قتلناه ونحن حرم وإنما قتله من ليس بمحرم. فعند ذلك جعلوا يشوون منه أو يطبخونه ويأكلونه، ثم إنهم تذكروا الآية الثانية: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، فقالوا: نخاف أن هذه الآية فيها تحريم الأكل كما في الآية الأولى تحريم الاصطياد. فتوقفوا عن الأكل وحملوا بقية لحمه حتى أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم فسألوه فقال: (هل منكم أحد أعانه على قتله أو على اصطياده؟ قالوا: لا. هل منكم من أشار إليه أو دله عليه. فقالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي)، فأباح لهم أكل ما بقي، وفي رواية أنه قال: (هل بقي معكم شيء من لحمه؟ فقالوا: نعم. فناوله العضد أو غيره فأكله) ليطيب بذلك نفوسهم وأنهم ما أكلوا شيئاً ممنوعاً، فهذا دليل على أنه يجوز للمحرم أن يأكل مما صاده الحلال الذي ليس بمحرم، وأن المنع إنما هو من الاصطياد، فالمحرم لا يجوز له أن يصطاد الصيد حتى ولو لم يأكله، بل ذكر العلماء أنه إذا صاد صيداً فذلك الصيد غير مباح، بل جعلوه بمنزلة الميتة؛ لأنه منهي عنه، قال تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95]، أمر الله فيه بالجزاء، فدل على أنه لا يجوز الاصطياد ولا يحل للمحرم قتل أي شيء من الصيد.

الصيد الذي يحرم على المحرم صيده

والصيد اسم لكل ما يقتنص من الوحوش البرية المتوحشة بالطبع، التي طبعها التوحش وهي مأكولة، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، وسواء أكانت من الطيور أم من الدواب التي تدب على الأرض وهي صغيرة، حتى ولو كان يربوعاً، أو ضباً، أو أرنباً، أو وبراً، أو ضبياً، أو وعلاً، أو بقر وحش، أو حمر وحش، أو غنماً وحشية، أو ما أشبهها، كل الدواب البرية التي تصطاد وتؤكل ويحل أكلها تدخل في الآية.

ما يجوز للمحرم قتله من السباع والطير ونحوها

ولا يدخل في الآية ما ليس بحلال، فلا يدخل فيها قتل السباع، بل يجوز قتل السبع المعتدي كالذئب والأسد والنمر وغيره من الدواب التي تعتدي وتفترس بطبعها، ولا يدخل في ذلك المحرم من الطيور كالنسر والعقاب والغراب والحدأة وما أشبهها، ويدخل في ذلك من الطيور ما هو حلال حتى ولو عصفوراً أو حمرة أو حمامة أو سمانا أو غيرها من الطيور المباحة، وأدخل فيه بعضهم الجراد، فإنه من جملة ما يصاد، فيدخل في الصيد إلا إذا انفرش على الأرض ولم يكن بد من أن تطأه الأقدام أو تطأه خفاف الإبل أو تطأه عجلات السيارة، فلا يضر، وذلك لأنه لا يمكن التحرز منه، ولا فدية فيه.

الفدية التي يجب إخراجها على من قتل صيداً وهو محرم

وقد بين العلماء الفدية التي يفديها من قتل شيئاً من الصيد تعمداً عملاً بقوله تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ [المائدة:95] أي: فعليه من النعم مثلما قتل من الصيد أي: ما يقاربه وما يكون مماثله. والنعم التي تكون منها الفدية الإبل والبقر والغنم، هذه هي التي تخرج منها فدية الجزاء الذي يسمى جزاء الصيد، فإذا قتل شيئاً من الصيد الذي حرم اصطياده بالإحرام قيل له: اخرج عنه فدية أو جزاء. وقد بين العلماء الجزاء الذي يكون فيها، فبينوا -مثلاً- أن الضبع من جملة الصيد، وأن فيه كبشاً، والكبش هو الذكر من الضأن، وأن الأرنب والوبر ونحوهما فيه جفرة من المعز، وأن الضبي فيه الأنثى من المعز، وذلك لأنها تشبهه، وأن النعامة من الصيد فيها ناقة أو بعير -بدنة-، وذلك لأنها تشبهها في طول العنق، حتى قالوا: إن الحمامة وما يشبهها من الفواخت والقطا ونحوها الفدية فيها شاة، وذلك لأنها تشبهها في العب والشرب، تعب عباً، فهذه أمثلة لما قضى به الصحابة في جزاء الصيد.

والحاصل أنه إذا صاده وهو محرم متعمداً فلابد من الجزاء، أن يخرج جزاءه من بهيمة الأنعام، وذلك الجزاء يذبح بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم، وأما العمد والخطأ فقال بعض العلماء: إنهما سواء، فإذا قتله ولو مخطئاً فإنه يخرج الجزاء، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم جاءهم من قتل شيئاً من الصيد ولم يسألوه: هل أنت متعمد أو أنت غير متعمد؟ والأصل أن أولئك الصحابة لا يمكن أن يتعمدوا القتل للصيد وهم قد عرفوا المنع، فالأقرب أنهم ليسوا متعمدين، ومع ذلك جعلوا فيه فدية، وذلك لأنه يعتبر إتلافاً، والإتلاف لابد فيه من الفدية حتى من الخاطئ، حتى لو قطع شجرة من شجر الحرم مخطئاً أمر بأن يخرج فدية بدلها، فكذلك إذا قتل حمامة من حمام الحرم ولو خاطئاً أمر بأن يخرج جزاءها شاة، وقد وقع أن عمر رضي الله عنه خلع رداءه مرة وأرد أن يلقيه على وتد في الحرم، وكان عليه حمامة لم يشعر بها، فطارت من موضعها فوقعت في جانب فجاءها قط فافترسها وهو ينظر، فقال: أنا الذي أطرتها من مكانها وهي آمنة وعرضتها لهذا الخطر حتى افترست، فلابد أن أخرج لها فدية فأخرج لها فدية وهي شاة، مع أنه ما تعمد قتلها وما رماها، ولكن لما كان له شيء من التسبب في إطارتها وإزالتها لم يرتح حتى أخرج فديتها، فدل على أنه تخرج الفدية حتى ولو كان مخطئاً، هذا هو الأصل في منع المحرم من الصيد، وكذلك غير المحرم بالنسبة إلى صيد مكة.

مكة لما كانت محرمة لا يحل قطع الشجر فيها ولا يحل قتل الصيد ولا تنفيره صار فيها جزاء، ففي شجرها جزاء، وفي صيدها جزاء، حتى ولو قتل فيها عصفوراً لأمر بأن يدفع له جزاء.

والصيد اسم لكل ما يقتنص من الوحوش البرية المتوحشة بالطبع، التي طبعها التوحش وهي مأكولة، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، وسواء أكانت من الطيور أم من الدواب التي تدب على الأرض وهي صغيرة، حتى ولو كان يربوعاً، أو ضباً، أو أرنباً، أو وبراً، أو ضبياً، أو وعلاً، أو بقر وحش، أو حمر وحش، أو غنماً وحشية، أو ما أشبهها، كل الدواب البرية التي تصطاد وتؤكل ويحل أكلها تدخل في الآية.