عنوان الفتوى : معنى حديث: "الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار"
هل يجوز قول: "إني راض بقضاء الله؛ حتى لو كنت من أهل النار"؟ وهل معنى هذا الحديث: "الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار" أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يحمد الله على كل حال؛ حتى لو جعل الله حاله مثل حال أهل النار؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث فيه الجمع بين حمد الله على كل حال، وبين الاستعاذة من حال أهل النار، وفي ذلك إشارة إلى أمرين:
الأمر الأول: أن وجود النار وعذاب أهلها فيها، إذا نظرت فيه إلى فعل الله وحكمته في قضائه وقدره، كان مستوجبًا للحمد.
وإذا نظرت فيه لشدته وهلاك أهله، كان مستوجبًا للاستعاذة منه، قال ابن الوزير في «العواصم والقواصم» عن هذا الحديث: فيه تنبيه على أن الله تعالى يستحق الحمد على الإطلاق في الدارين، على العقوبة والمثوبة، وما حلا أو مر، أو نفع أو ضر، لكنه -صلى الله عليه وسلم- استعاذ مما لا يطاق الصبر عليه، كما سأل العافية، وأمر بسؤالها.
ومن ذلك قيل في محامده تعالى: الحمد لله الذي لا يحمد على المكاره سواه. ولذلك قال الله تعالى: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}، بعد قوله تعالى: {هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. يطوفون بينها وبين حميم آن} [الرحمن:43-44]، وبعد قوله: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} [الرحمن:41]. اهـ.
وقال في موضع آخر: هذه القاعدة توجب على أهل النار أن يحمدوا ربهم عليها؛ لما لهم فيها من العدل والحكمة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} [الزمر:75]، وإلى ذلك أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار". رواه ابن ماجه، وفيه إشارة إلى استحقاقه -عز وجل- الحمد لله على المعذبين بالنار. اهـ.
والأمر الثاني: أن كل الأحوال فيها نعمة ومنفعة للعبد من وجه ما، إلا ما كان من الأحوال موصلًا لعذاب النار، قال القاري في «مرقاة المفاتيح» في شرح هذا الحديث: فيه إشارة إلى أن سائر الحالات من المحن والبليات مما يجب الشكر عليها؛ لأنها إما رافعة للسيئات، وإما رافعة للدرجات، بخلاف أحوال أهل النار، فإنهم في حال المعصية في الدنيا، وفي حال العقوبة في العقبى، فليس هناك شكر، بل صبر على حكمه وأمره، ورضا بقضاء الله وقدره، وهو محمود بذاته على كل حال، وبصفاته في كل فعال. اهـ. وقال الصنعاني في شرح الجامع الصغير: الاستعاذة من حالهم، تضمن الطلب للتوفيق للأعمال الصالحة وللرحمة. اهـ.
وأما قول القائل: (إني راضٍ بقضاء الله؛ حتى لو كنت من أهل النار!) فقولٌ لا حقيقة له؛ لأن الرضا لا يكون إلا بعد القضاء، وأما قبل ذلك فإنما هو عزم على الرضا، والعزم قد لا يصدق، إذا حقّت الحقائق! وقد روى ابن أبي الدنيا في الرضا عن الله، وأبو نعيم في حلية الأولياء، عن أبي سليمان الداراني، قال: «أرجو أن أكون قد رزقت من الرضا طرفًا، لو أدخلني النار، لكنت بذلك راضيًا». وروى ذلك أيضًا القشيري في رسالته، وقال قبله مباشرة: سئل أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك الرضا بعد القضاء"، فقال: لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، والرضا بعد القضاء هو الرضا. اهـ.
وعلّق على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: هذا الذي قاله الشيخ أبو عثمان كلام حسن سديد ... فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا. وإنما هو عزم على الرضا، وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء، وإن كان هذا عزمًا، فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ، وما أكثر انفساخ العزائم، خصوصًا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزائم، ونقض الهمم. وقد قال -تعالى- لمن هو أفضل من هؤلاء المشايخ: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون}. اهـ.
ونقل القرطبي في «المفهم» كلام الداراني، ثم قال: هذا غلو، وفيه إشكال، والكلام فيه يخرج عن مقصود كتابنا. اهـ.
وقال القشيري في رسالته: اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بالقضاء الذي أمر بالرضا به؛ إذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز للعبد، أو يجب عليه الرضا به -كالمعاصي، وفنون محن المسلمين-. اهـ.
والله أعلم.