شرح عمدة الأحكام [31]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون علي الصوم في رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان) .

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) .

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) .

وفي رواية: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: أفرأيتِ لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم. قال: فصومي عن أمك)].

هذه الأحاديث تتعلق بقضاء الصوم، سواء الذي يصوم عن نفسه قضاءً أو الذي يصوم عن غيره، فالحديث الأول بتعلق بقضاء الإنسان ما أفطره من أيام رمضان، فالله تعالى أباح الفطر لعذر، قال تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فأخبر بأنه أباح لنا الفطر لمرض أو لسفر لأجل العسر الذي يكون في السفر، وأنه لا يريد العسر بعباده وإنما يريد اليسر، وهذه إرادة دينية شرعية.

ولكن لابد من القضاء، فمن أكل في رمضان ثم زال عذره فلابد أن يبادر بالقضاء.

الفور والتراخي في قضاء الصوم

وقد اختلف العلماء: هل قضاء رمضان على الفور أو على التراخي؟ والمعنى: هل يبادر حينما ينتهي عذره، فحينما يخرج رمضان ويزول عذره يبادر ويصوم، أو يجوز له التأخير ولو شهراً وشهرين وأشهراً حيث إن الوقت واسع؟

وعلى كل حال فالجمهور على أن له أن يؤخره إذا كان الوقت واسعاً مع تأكد المبادرة واستحباب الصيام بالسرعة، وذلك لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، ولأنه إذا تمادى وأفطر شهر شوال قرب عليه الصيام -مثلاً- في شهر ذي القعدة، ثم كذلك في شهر ذي الحجة، ثم يتهاون بالصيام وتتوالى عليه الأشهر حتى يصل إلى رمضان وهو مفرط، فربما لم يتمكن من إكمال ما صامه، فيأتيه رمضان الثاني وهو لم يصم، فيعد بذلك مفرطاً، وربما مات قبل أن يقضي ما عليه، فيكون -أيضاً- بذلك مفرطاً إذا مات وهو على هذا الإهمال.

فلا جرم أنه يبادر، فيصوم أيامه التي عليه، هكذا ذكر العلماء لأجل المحافظة على أداء العمل في وقته، أو حين يتمكن مخافة العوارض.

أما عائشة فلها عذر، حيث ذكرت أنها لا تتمكن من القضاء إلا في شعبان، تعني قرب رمضان، فيكون عليها القضاء فلا تتمكن منه إلا في شهر شعبان، وذكرت أن لها عذراً وهو الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكثرة سفرها معه، فقد كان يسافر كثيراً في غزواته وفي سراياه، وتسافر معه غالباً، والسفر مظنة المشقة.

وأيضاً قد تشتغل بحاجاتها الخاصة، وهذا الشغل يحول بينها وبين أن تصوم، وأيضاً قد تظن أن به حاجة إليها في نفسها كاستمتاع ونحوه، وذلك لا يمكنها من أن تصوم، فإذا ظنت أن به حاجة إليها أفطرت، وأيضاً قد تحتاج إلى استئذانه ولا تستطيع الاستئذان، فيكون لذلك لها عذر.

ثم نقول: هذا -أيضاً- لم يكن مستمراً، بل يمكن أنه وقع منها سنة أو سنتين، أي: وجد العذر في سنة. ولكن الغالب أنها تصومه مبادرة بذلك، فتصومه حينما ينقضي عذرها، هذا هو الغالب عليها وعلى بقية أمهات المؤمنين وعلى الصحابة رضي الله عنهم، فإذا كان عليهم أيام من رمضان صاموها مبادرة ولم يؤجلوها، هذا هو الأصل فيهم، وذلك لما عرف من حرصهم على أداء العبادة وعدم التفريط فيها مخافة أن يعرض ما يسبب أن بفرطوا، فلذلك يبادرون بالقضاء، فهذا هو المعتاد عندهم.

حكم تقديم صوم النفل على الفرض

يستدل بهذا الحديث بعض الناس على أنه يجوز أن يصوم الإنسان نفلاً وعليه فرض، ويقول: عائشة لا تقضي أيامها إلا في شعبان، ولابد أنها تصوم النوافل، وتصوم -مثلاً- الست من شوال، وتصوم تسع ذي الحجة أو يوم عرفة، وتصوم -مثلاً- يوم عاشوراء أو تاسوعاء، فلابد أنها تتنفل في هذا العام، ومع ذلك يبقى عليها الفرض!

والصحيح أنه لا يجوز أن يتنفل قبل أن يؤدي الفرض، فالذي عليه أيام من رمضان يقدمها، ويبدأ بها ولو كان حتى قبل الست من شوال، وحتى ولو فات شوال، فلو أن إنساناً أفطر رمضان كله ثم زال عذره في أول شوال نقول له: صم شهر شوال ما عدا يوم العيد، واجعله عن رمضان، وتسقط عنك الست من شوال، وإن صمتها بعد الانتهاء من أيامك التي عليك فلك الأجر، ولو من ذي القعدة، وذلك لأن هذا قدر ما تستطيعه.

ومثله المرأة، فلو نفست في رمضان كله ونفست في عشرة أيام من شوال ولم تطهر إلا في العاشر من شهر شوال نقول: تصوم بقية شهر شوال عشرين يوماً، وتصوم عشرة أيام من ذي القعدة، ولها أن تصوم ستاً من ذي القعدة أيضاً بعد أن تفصل بين الفرض والنفل بفاصل.

وأما كون الإنسان يكون عليه أيام من رمضان فيصوم الست قبلها، وهي باقية عليه، أو يصوم يوم عرفة وعليه قضاء، أو يصوم عاشوراء وعليه قضاء فهذا لا يصح، ولو صامها بدون أن ينوي أنها أيامه التي عليه فإن ذلك لا يجزيه، فلو أنه صام تسعة أيام من ذي الحجة وعليه تسعة أيام من رمضان، ونيته صيام هذه التسع لا القضاء فالصحيح أن أيامه باقية عليه وأن هذه بنيتها؛ لأنه نواها تطوعاً، فلا يسقط شيء من أيامها التي عليه.

ومن العلماء من يقول: تنقلب إلى أيامه التي أفطر من رمضان. هكذا قالوا، واستدلوا بالحج، وهو أن من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه انقلبت حجته عن نفسه؛ لقوله في الحديث: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) لذلك الذي كان يلبي عن شبرمة ، فالحج صحيح، إلا أنه لا يصح أن يحج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه، وذلك لأن العمل لغيره، فأما هذان العملان فهما له، فصيام النفل وصيام الفرض كلاهما عن نفسه، فالفرض آكد، والفرض لابد له من نية، والنفل يصح بنية من النهار.

فبذلك نعرف أنه لا يتنفل حتى يقضي أيام فرضه، وإذا تنفل بدون نية الفرض وقعت عن النفل ولم تقع عن الفرض، فهذا مدلول هذا الحديث.

قضاء الصوم عن الميت

ذكر المؤلف أحاديث في الصيام عن الميت، قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) .

وهذا الحديث متفق عليه، ولمَّا رواه أبو داود صرفه إلى أنه في النذر خاصة، ونقل ذلك عن الإمام أحمد ، وقال: إن الولي لا يقضي عن الميت صيام الفرض، وإنما يقضي عنه صيام النفل. والمسألة فيها خلاف في قضاء الصوم عن الميت، فهل يقضى عنه كل الصيام الفرض والنذر، أو لا يقضى عنه إلا النذر فقط؟

فذهب الإمام أحمد إلى أن القضاء خاص بالنذر؛ لرواية في بعض الأحاديث كما سيأتي، وذكر أن هناك حديثاً بلفظ: (لا يصلِ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد)، لكن هذا الحديث محمول على الأحياء، فلا يصوم أحد من الأحياء عن أحد، بمعنى أن تقول له: أفطر -يا أخي- وأنا أصوم عنك صيام الفرض -مثلاً- أو صيام القضاء أو: اترك الصلاة وأنا أصلي لك. أو: صلاتي لك.

وذلك لأن هذه العبادات تعبد الله بها الإنسان نفسه، فهو مأمور بأن يفعل العبادة بنفسه، ولا يصح أن يوكل غيره في العبادات، والعبادات البدنية مقصود بها إظهار العبودية، فالصيام مقصود به التعبد لله بترك هذه الشهوات، والصلاة مقصود بها تعبد هذا البدن وهذا الجسد بالذل والخضوع لله بهذه الصلاة، فلا يصح أن يتعبد عنه غيره.

لكن استثني من ذلك الميت لهذه الأحاديث، فهذا الحديث عام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، فالصحيح أنه عام يدخل فيه الفرض والنفل، فالفرض مثاله إذا أفطر لمرض أو لسفر ثم تمادى بعد أن انتهى رمضان فلم يصم، ثم أتاه الأجل فمات، فإنه -والحال هذه- يصوم عنه وليه.

وخص العلماء ذلك بما إذا كان متمكناً ولم يفعل، مثاله: إذا مرض في رمضان عشرة أيام، وبعدما خرج رمضان شفي وزال مرضه وصح جسمه وتمكن من الصيام واستطاع الصيام، ولكنه أفطر لا لعذر بل إهمالاً وتفريطاً، ثم بعد ذلك عاوده المرض ومات في ذلك المرض الثاني، فنقول: يصام عنه، وذلك لأنه فرط؛ حيث قدر على الصيام ولم يصم.

أما إذا لم يفرط فلا، وصورة ذلك: إذا مرض في رمضان وأفطر لهذا المرض، واستمر به مرضه بعد رمضان شهراً أو شهرين أو أشهراً وهو على فراشه لا يستطيع أن يصوم لمرضه الشديد الذي لا يتمكن معه من الصيام، فنقول: إذا مات وهو على هذه الحال فلا قضاء عليه ولا كفارة ولا إطعام، ولا قضاء على وليه، وذلك لأنه لم يجب عليه، إنما يجب عليه إذا تمكن، وهذا لم يتمكن، بل بقي على حالته حتى أتاه أجله، فلا يعد مفرطاً ولا مهملاً.

فعرفنا هنا الفرق بين من فرط ومن لم يفرط، فيقضى عن الذي فرط حيث تمكن ولم يفعل، ولا يقضى عن الذي لم يفرط بل استمر به المرض والعذر إلى أن مات، فهذا بالنسبة للقضاء.

وهذا إذا جعلنا القضاء عامّاً عن الفرض والنفل، بمعنى أنه يصوم عنه وليه أيامه التي من رمضان، ويصوم عنه أيامه التي نذرها.

أما النفل -الذي هو نفل مطلق- فالصحيح أنه يجوز أن يصوم يوماً أو أياماً ويهدي ثوابها لأبيه الميت، أو لأمه، أو لقريبه الميت، ويصل إليه الثواب إن شاء الله.

وقد ذهب الإمام أحمد -كما عرفنا- إلى أن القضاء خاص بصيام النذر، وصورة ذلك أن يقول -مثلاً-: إن ولد لي ولد في هذا الشهر فلله عليه أن أصوم شهراً، أو أصوم عشرة أيام أو أسبوعاً. أو يقول: إن شفيت من هذا المرض فلله علي أن أصوم شهراً. أو يقول: إن شفي مريضي. أو: إن قدم غائبي سالماً. أو: إن قدمت تجارتي سالمة. أو: إن ربحت في هذه التجارة كذا وكذا فلله عليه أن أصوم كذاوكذا يوماً. فحصل الشخص، أو ربحت تجارته أو قدمت، أو شفي مريضه، أو شفي هو، أو نجح في أمره، أو حصل الذي شرط ولكنه مات قبل أن يصوم ففي هذه الحال يصوم عنه وليه كما يقضي عنه بقية النذور، فإذا نذر صدقة، أو نذر حجاً، أو نذر اعتكافاً أو نحو ذلك فإنه يقضيه عنه وليه، فكذلك الصيام إذا نذر الصوم ولم يصم حتى مات فإن عليه أن يصوم وليه.

أما الفرض فعند الإمام أحمد أنه لا يقضيه، ولكن يتصدق عنه، فيخرج من تركته بقدر ما عليه من أيام رمضان عن كل يوم نصف صاع، فإذا كان عليه عشرة أيام تصدق من تركته بخمسة آصع من البر أو من الأرز عن كل يوم طعام مسكين، هكذا قال الإمام أحمد ، فيقول: يطعم عن الفرض كرمضان، ويقضى النذر.

وأما أكثر الأئمة فيقولون: لا فرق بينهما، بل يقضى الجميع، فالنذر والفرض كلاهما يقضى، يقضيه أحد أقاربه لهذا الحديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) .

كيفية الصيام عن الميت في كل ما يقضى عنه

الولي هنا يدخل فيه كل الورثة، فيجوز أن يقتسم الورثة هذا الصوم، فإذا كان له خمسة أبناء وخمس بنات والأيام التي عليه عشرة فقالوا: نصوم نحن العشرة يوماً واحداً. فصاموا كلهم يوماً واحداً يكون بمنزلة صيام عشرة أيام، فيقضي ذلك عنه.

ويجوز أن يختص به أحدهم، فإذا قالت -مثلاً- أمه: أتبرع بأن أصوم عنه أو قالت زوجته، أو أن أخته صامت عنه، وكذلك ابنه أو أبوه فيجوز أن يتولى ذلك واحد منهم.

ويستثنى من ذلك الكفارة، فالصحيح أنه يجب فيها التتابع، وحينئذ يتولاها واحد، فإذا كان الميت عليه كفارة ككفارة القتل صيام شهرين متتابعين، أو كفارة الوطء في نهار رمضان صيام شهرين متتابعين، أو كفارة الظهار صيام شهرين متتابعين ففي هذه الحالة يتولاها واحد يقوم بالصيام لشهرين متتابعين؛ لأنا لو قلنا: يصوم عشرة -مثلاً- ستة أيام لم يكن في ذلك مشقة عليهم، والآية جاءت بلفظ التتابع، فلابد أن تكون الأيام متتابعة يوماً بعد يوم بعد يوم إلى أن يتم العدد.

وهذا اختاره بعضهم، وهو الراجح، وإن كان هناك قول بالجواز.

حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين

وفي الأحاديث الأخرى حديث ابن عباس وحديث عائشة أن رجلاً وامرأة سألا النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل قال: إن أبي مات وعليه صوم. والمرأة قالت: إن أبي مات وعليه صوم. والرجل قال: صوم شهر. والمرأة قالت: صوم نذر. وكل منهما استأذن أن يقضي عن أبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفرأيتَ لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فالله أحق أن يقضى دينه، فهذا الصوم دين لله شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بدين الآدمي، وهذا فيه -أيضاً- دليل على المبادرة بقضاء دين الآدمي، فإذا مات قريب لك وأنت الذي ترثه وكان عليه دين ولم يخلف تركة فإنك مطالب بذلك، مطالب بأن توفي عنه؛ لما في هذا الحديث: (أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) .

ويقال كذلك في هذا الصوم، شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدين، لكن معروف أن الدين يكون في التركة، ويقدم على الإرث وعلى الوصايا وعلى الحقوق كلها؛ لأن الميت قد استوفى حقوق الناس في حياته، فيعطون دينهم ويوفون حقهم من تركته.

أما إذا لم يكن له تركة فإن وفاء الدين على ورثته الذين لو كان فقيراً للزمتهم نفقته، فكذلك يوفون دينه، وذلك لأنهم أقرب له، فأولاده -مثلاً- يقومون بنفقته إذا احتاج، فيوفون دينه إذا كان عليه دين وهم ذو سعة وذو مقدرة، وكذلك أبواه، فإذا كان لا مال له كلف الأب أو الأم بالوفاء عنه كما يكلفان بالنفقة عليه في حياته، وهكذا -أيضاً- الإخوة والأخوات والأعمام ونحوهم، يكلفون بأن يقضوا الدين كما أنهم يكلفون بالنفقة، وكما أنه لو خلف مالاً لورثوه فكذلك يوفون ما عليه من الحقوق.

فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الدين في ذمة الميت، وجعل هذا الصيام من جملة الدين أو شبيهاً بالدين، فكما يوفى الدين فكذلك توفى هذه الحقوق التي هي لله، وقال: (فدين الله أحق أن يقضى).

وقد اختلف العلماء: هل قضاء رمضان على الفور أو على التراخي؟ والمعنى: هل يبادر حينما ينتهي عذره، فحينما يخرج رمضان ويزول عذره يبادر ويصوم، أو يجوز له التأخير ولو شهراً وشهرين وأشهراً حيث إن الوقت واسع؟

وعلى كل حال فالجمهور على أن له أن يؤخره إذا كان الوقت واسعاً مع تأكد المبادرة واستحباب الصيام بالسرعة، وذلك لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، ولأنه إذا تمادى وأفطر شهر شوال قرب عليه الصيام -مثلاً- في شهر ذي القعدة، ثم كذلك في شهر ذي الحجة، ثم يتهاون بالصيام وتتوالى عليه الأشهر حتى يصل إلى رمضان وهو مفرط، فربما لم يتمكن من إكمال ما صامه، فيأتيه رمضان الثاني وهو لم يصم، فيعد بذلك مفرطاً، وربما مات قبل أن يقضي ما عليه، فيكون -أيضاً- بذلك مفرطاً إذا مات وهو على هذا الإهمال.

فلا جرم أنه يبادر، فيصوم أيامه التي عليه، هكذا ذكر العلماء لأجل المحافظة على أداء العمل في وقته، أو حين يتمكن مخافة العوارض.

أما عائشة فلها عذر، حيث ذكرت أنها لا تتمكن من القضاء إلا في شعبان، تعني قرب رمضان، فيكون عليها القضاء فلا تتمكن منه إلا في شهر شعبان، وذكرت أن لها عذراً وهو الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكثرة سفرها معه، فقد كان يسافر كثيراً في غزواته وفي سراياه، وتسافر معه غالباً، والسفر مظنة المشقة.

وأيضاً قد تشتغل بحاجاتها الخاصة، وهذا الشغل يحول بينها وبين أن تصوم، وأيضاً قد تظن أن به حاجة إليها في نفسها كاستمتاع ونحوه، وذلك لا يمكنها من أن تصوم، فإذا ظنت أن به حاجة إليها أفطرت، وأيضاً قد تحتاج إلى استئذانه ولا تستطيع الاستئذان، فيكون لذلك لها عذر.

ثم نقول: هذا -أيضاً- لم يكن مستمراً، بل يمكن أنه وقع منها سنة أو سنتين، أي: وجد العذر في سنة. ولكن الغالب أنها تصومه مبادرة بذلك، فتصومه حينما ينقضي عذرها، هذا هو الغالب عليها وعلى بقية أمهات المؤمنين وعلى الصحابة رضي الله عنهم، فإذا كان عليهم أيام من رمضان صاموها مبادرة ولم يؤجلوها، هذا هو الأصل فيهم، وذلك لما عرف من حرصهم على أداء العبادة وعدم التفريط فيها مخافة أن يعرض ما يسبب أن بفرطوا، فلذلك يبادرون بالقضاء، فهذا هو المعتاد عندهم.